Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

الثورة والتقدم في فكر إلياس مرقص

 

لطالما حذّر الراحل إلياس مرقص من الوقوع في شرك سحر الكلمات، فالكلمات هي رموز فقط، الرموز غير المفاهيم وغير الحقائق، يجب الذهاب من الكلمات – الرموز إلى المفاهيم، ومن اللغة إلى الفكر، الفكر الناظر الذي يستحق اسمه يبدأ من المفاهيم بوصفها كليات مجردة، ويصر على عملية المعرفة – المفهومية والواقعية، في مواجهة الرمزية والشيئية، وفي مواجهة سحر الكلمات وأصنام اللغة. ومن أبرز الكلمات، التي مارست سحرا،ً حجب الواقع والمنطق والفكر والتاريخ، كلمة “ثورة”، التي سلطنت في المنطقة العربية خلال العقود السبعة الماضية، من “ثورة ” 23 تموز في مصر وما أثارته من سجالات، هل هي ثورة؟ أم انقلاب؟ إلى “ثورتي” البعث في كل من سورية والعراق، إلى “الثورة” الجزائرية، وكذلك “ثورة القذافي”، وثورات اليمن القومية والشيوعية، والثورة الفلسطينية المسلحة، وصولاً إلى” ثورات الربيع العربي”، التي لم يشهدها الراحل إلياس مرقص.

لم تكن تلك ” الثورات “، في نظر إلياس مرقص، سوى حالات “ثوران”. وهناك فرق جذري ما بين الثورة و”الثوران”، ومعيار هذا التمييز الحاسم (ومحك مفهوميته وفكريته) هو مفهوم التقدم.( وتجلياته الواقعية، في المجتمع المعني وحياة أفراده).

“يجب الانتقال من ثوران السرمدية وسرمدية الثوران إلى فكرة التقدم. في الواقع الذهني، الروحي والفكري، فكرة الثورة قتلت فكرة التقدم. تريد أن تعيش بدونها بدلاً من أن تقوم على أساسها، تريد أن تنوب عنها. في الحاصل، إن ما يراد هو تحويل الأرض إلى سماء والدنيا إلى جنة … وهذه الإرادة تسمى “ثورة”. هذه القفزة الشاقولية إلى السماء تحمل معها السقوط حتماً. هذا الموقف الذهني انتكاس كبير عما كنّا عليه قبل ربع قرن، حيث جاءت الثورة امتداداً لنهضة وتأسيساً لنهضة أعمق وأشمل.”[1]

الثورة في نظر إلياس مرقص هي ثورات، أو تراكب ثورات أبعد كثيراً وأكثر عمقاً واتساعاً من “الثورات” السياسية والعسكرية التي عرفناها، ومن الانتفاضات والانفجارات الكبرى المسلحة وغير المسلحة. كذلك ليست قفزة نوعية في الهواء أو غير الهواء، فتلك القفزة يمكن أن تكون قفزة للوراء، نحو مدارك الانحطاط العام، ولنا في ثورات النازيين والفاشيين والشيوعيين والبعثيين والإسلاميين “أسوة فاقعة” في ذلك.

لذا، فإن قضية إطلاق الأحكام على الثورات وعلى مدى الفاعلية والإنجاز فيها، ينطلق أساساً من مدى مطابقتها لخط التقدم ولمفهوم التقدم، وكل ثورة لا تنسجم مع هذا الخط، تمثل نكوصاً وتراجعاً وانحطاطاً في الواقع والتاريخ.

اًولاً، ما هي محددات إلياس مرقص لمفهوم التقدم؟

1 – التقدم مفهوم عام مجرد، فكرة مفهومية تتصل بالفكر والمنطق والواقع بهدف مسألة القضايا وإدراكها، من طريق مقارنة الحالات والأحوال بين الأمم والشعوب والمجتمعات المختلفة، وكذلك بين المراحل التاريخية. ” الذين يقولون: التقدم نسبي، إنما يلغون مفهومية التقدم يحوّلونه إلى شيء – صنم. في اللسان العربي المخشوشب، أصبحت النسبية رفضاً للمطلق، هروباً من المفهوم، عجزاً عن الفكرية، امتناعاً أولياً ونهائياً عن العمل الواعي بالمفاهيم أي امتناعاً عن المبدأ: الفكر. عندئذ يصير الفكر لملمة ومعارف محدودة، فقيرة، مكرورة، ملتبسة، ميتة. صفة المفهوم أنه المفهوم، أنه من مملكة الكلي والمطلق لا من مملكة النسبي”.[2]

“يجب الخروج من هذه الحالة … يجب على الفكر أن يعود إلى الفكر .. يجب إعادة الكلمات إلى حقيقتها. إلى وظيفتها: فكر، مفاهيم”[3]

2 – مفهوم التقدم يتعارض مع أوهام القفز وحرق المراحل، ومع الإرادات الحالمة والرؤوس الذاتوية الحامية، وكذلك مع الأيديولوجيات الخلاصية. التقدم يقتضي ويتضمن المستقبلية، الجديد الواقعي، ويتضمن ويقتضي: التدرجية، التوالي، البنائية، التراكم، النمو…الخ. لذا فإن الثورات الناجحة هي التي تنسجم مع هذه الصفات التقدمية: “إذن ضد الذين يعتبرون الثورة والتغيير اشتعال عود ثقاب، ويستغنون بالثورة عن فكرة التقدم ومفهوم التاريخ. أنا أقول أولاً بأول: كلا، يا إخوة ويا رفاق ليست الثورة وليس التاريخ والنمو والمنطق اشتعال عود ثقاب، بل إن اشتعال عود الثقاب هو نفسه منطق ونمو وتاريخ. وبعد ذلك أتابع. أي: حين تتكامل وتكتمل شروط الشيء، حينئذ فقط يأتي الشيء إلى الوجود”[4]

هذه التدرجية المتضمنة في فكرة التقدم، تفترض الذهاب إلى الأمام، أي إلى مستوى أرقى تاريخياً، والتقدم عكسه التراجع والتقهقر، وهو يختلف عن مفاهيم الصيرورة، والتطور والتحول، “ليس كل تغير تقدماً. وليس كل تحول تقدماً، … كلمة ” تحول” تعني من حال إلى حال. كلمة “تطور” تعني من طور إلى طور، بدون تضمين إضافي مفاده إن الحال الجديد أو الطور الجديد أرقى أو أفضل من القديم … فيما فكرة “التقدم” توحي بالذهاب في اتجاه. بالسير إلى هدف وغاية. كلمة progres تتضمن البادئة pro الواردة في اسم برميثيوس (promethee)، الذي تمرد على كبير الآلهة، زيوس، وسرق النار من السماء وأسس الصناعة والحضارة. وعوقب بتسميره على جبل القوقاس. حسب الأسطورة اليونانية. و pro واردة في prophet = نبي…. فكرة التقدم ذهاب إلى أمام[5]

كما لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم التطور يتصل أكثر بالحياة الطبيعية، بتطور ظواهر الطبيعة الجيولوجية والنباتية والحيوانية، الدارونية تتصل أكثر بمفهوم التطور، فيما مفهوم التقدم يتصل بنتاجات البشر بعد انفصال الإنسان عن الطبيعة، وتحوله ليكون ابن التاريخ، فالتقدم مفهوم يرتبط بالتاريخ أساساً، رغم أن تطور الإنسان الطبيعي لم يكتمل بعد، فالكثير من الدراسات العلمية الجادة، تشير إلى أن إنسان المستقبل سيكون أكثر قدرة على تحمل الصخب والضوضاء من الإنسان الحالي.

3 – يبرز إلياس مرقص المرتكزات اللاهوتية لفكرة التقدم، تلك المرتكزات التي تجاوزت التصورات الشرقية (الصينية، الهندية، الفارسية) عن التاريخ الدائري. وأيضاً لم تقف عند الفتوحات اليونانية حول فكرة الحد والشكل والمفهوم. فكرة التقدم، التي أضافتها أوربا، كانت جذورها تتصل بالدين التوحيدي، عقيدة الخلق، فرز الإنسان: “إن فكرة “التقدّم والتاريخ” الأوروبية الحديثة، لها عدا عن مرتكزها الفلسفي اليوناني بوجه خاص (الشكل، المفهوم، التشكل إلخ)، مرتكز روحي فكري في مسيحية أوغسطين وفلسفته في الخلاصية مع عقيدة الخطيئة الأصلية، في اقتناص أوغسطين لأفلاطون المثل، الأشكال، المفاهيم (إيدوس eidos)، في إقامته لزمنية خطّية أي تأكيده على وجود “قبل” و”بعد”، واختلاف البعد عن القبل، تأكيده على فكرة “مستقبل”[6]* الخروج من التصور الدائري والدوراني للتاريخ، الذي هو التصور الشرقي (الصيني، الهندي، إلخ) واليوناني، على حد سواء جعل الدنيا “وادي الآلام”، الدنيا الواطئة والمدانة و”المرفوضة”، قاعدة ممكنة لتاريخ حقيقي”[7]

ومع إبراز المرتكزات اللاهوتية لمفهوم التقدم، تسيّدت فكرة الإنسان المستخلف في الأرض، الذي سيتابع عملية الخلق، والمكرس سيداً على الطبيعة، وملكاً على المخلوقات، الظلوم الجهول، المركوب بالخطيئة، أو بنفسه الأمارة بالسوء، فعلى الجزء الأول من تلك الثنائية اللاهوتية أي الاستخلاف في الأرض ومتابعة الخلق في خط صاعد، سيبنى التقدم بوصفه نمواً وتشكلاً، وعلى الجزء الثاني من تلك الثنائية: الظلوم الجهول المركوب بالخطيئة وبالنفس الأمارة بالسوء. على الجزء الأول من تلك الثنائية اللاهوتية، سيقوم الوجه القبيح للتقدم، أو الوجه المأساوي للتاريخ، الذي يجب تقليصه بنمو المعرفة والمنطق والأخلاق والعلاقات الإنسانية.

4 – التقدم يرتبط أولاً، وقبل كل شيء بنمو الإنتاجية على المستويين المادي والروحي، من طريق المعرفة – العمل، التقدم هو تقدم الإنتاجية ( productivite)، مردود الشغل، بدءاً بإنتاج أدوات الشغل والغذاء والخيرات المادية وصولاً إلى إنتاج الدولة والمجتمع، وخصوصاً المجتمع المدني، والثقافة والمعرفة والقانون والأخلاق والأمن والزراعة والصناعة، وما بين هذين الحدين قائمة لا حصر لها من النتوج، التي لا تني ولا تتوقف ما دام النوع البشري سيداً في هذا الكوكب.

“التقدم تقدم الإنتاجية: هذا خط عريض في جملة تتخطاه. تكلمت عن “توابع”. ” التوابع” كثيرة، كبيرة: دولة، نظام، مؤسسات، عقل، فكر، “تكنولوجيا”، أمن، تراكم، الخ. التاريخ ليس تاريخ بشر وأدوات إنتاج. لكنه لا يفهم بدون ذلك. التقدم هو تقدم إنتاج المجتمع، حيث المضاف إليه ليس في مقام الفاعل فقط بل في مقام المفعول به أيضاً: المجتمع يُنتج المجتمع. هذا الأمر يمكن أن يتقدم ويمكن أن يبقى على حاله. ويمكن أن ينتكس وأن ينهار … فكرة التاريخ ترتبط بفكرة المجتمع. الإنسان هو الكائن الاجتماعي، هو مجموع العلاقات الاجتماعية وليس تجريد الفرد المعزول (ماركس). إنتاج المجتمع غير إنجاب الأفراد … المجتمع ليس مقولة بديهية. التاريخ أو التقدم والتقهقر والركود تابع لواقع ومنطق واقع.”[8]

كذلك، من منظور إلياس مرقص، التقدم هو تقدم الوجود على حساب العدم، فعندما يتقدم الوجود يتراجع العدم، والعكس صحيح. في حقب الانحدار والسقوط يتقدم العدم على حساب الوجود: عدم الأخلاق وعدم الأمن وعدم القانون وعدم المساواة وعدم الحرية … الخ. فيما التقدم يعني تقدم الوجود: وجود الأخلاق والأمن والقانون والمساواة والحرية والشعب والمجتمع والأمة والدولة .. إلخ.

ويستحضر حالات لا حصر لها من تاريخ البشرية، ومن تاريخ المنطقة العربية للتدليل على اشتغال ثنائية الوجود والعدم. في دمشق منتصف القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، يستحضر مذكرات الشيخ “البديري الحلاق”، وهي عبارة عن مذكرات يومية للحياة الدمشقية، كان يكتبها ذلك الحلاق الدمشقي، ومن خلال تلك اليوميات ظهر تقدم العدم في حياة الدمشقيين بأبشع صوره وأشكاله، فدمشق في تلك الحقبة كانت مقبرة، حارات مغلقة ومعزولة بعضها عن بعضها الآخر، وثكنات للجنود الإنكشاريين، وحياة الدمشقيين حينها تمحورت حول حدثين فقط: أخبار قافلة الحج، وأخبار غزوات البدو للحضر، وكانت عاصمة الأمويين وقتها على حافة الانقراض نتيجة الفقر وانتشار الأمراض والجائحات وارتفاع نسب الوفيات، وخاصة أن آثار مذبحة 1516، التي ذبح فيها الوالي العثماني ما يقرب من ثلث سكان المدينة، ما زالت ماثلة إلى حدود كبيرة.

لقد كان حال دمشق في القرن الثامن عشر تماماً كحال بقية أنحاء بلاد الشام، تقدم العدم على حساب الوجود وانحطاط في شروط الحياة البشرية، انعدام الإنتاج، ببعديه المادي والروحي، انتشار الغزوات الداخلية، وحروب انكشارية السلطنة على البشر وفرضهم الأتاوات والمكوس ومختلف أنواع الضرائب، ونهب الداخل، وانعدام الأمن وتردي الزراعة، وانهيار الصناعة الحرفية، بعد ما أخذت السلطنة العثمانية أصحاب الحرف اليدوية إلى الآستانة، فأصبح تعداد بلاد الشام وقتها أقل من مليون نسمة وهذا أدنى رقم بلغته منذ مئات السنيين، وهذا الانهيار الديموغرافي، يتصل بانهيار الجملة الموضوعية التي تقوم عليها الحياة الآدمية.

الدولة السلطانية تقوم على ثلاث وزرات ( حسب ماركس)، وزارة الحرب الخارجية ووزارة الحرب الداخلية، ووزارة الأشغال العامة. لقد توقفت وزارة الحرب الخارجية في تاريخ السلطنة العثمانية، منذ أن وصل توسعها العسكري في الغرب والشرق إلى أقصى مدياته. ووزارة الأشغال العامة في تلك السلطنة الممتدة كانت خارج الخدمة، فلم يبق إلا وزارة الحرب الداخلية بما تعنيه من قمع وقهر وإذلال وتجهيل وإفقار لرعيا تلك الإمبراطورية، الذين يشكّل الرعايا غير المسلمين أكثر من نصفهم، والباقي عرب وكرد وفرس وشركس والخ. وجميع هؤلاء الرعايا المختلفين في المذاهب والأديان والأعراق محشورون حشراً في هرم إمبراطوري سلطاني استبدادي، خال من أي قواسم وتطلعات مشتركة، سوى وحدة قهرهم وهزيمتهم المطلقة أمام وزارة الحرب الداخلية. وأن تكون تلك الوزارة هي الوحيدة التي تعمل، فهذا رمز كبير، لتعطل الإنتاج وانهيار الإنتاجية، إنتاج الزراعة وإنتاج شروط الحياة الفيزيائية وإنتاج الأمن وصولاً إلى إنتاج الأخلاق والاجتماع والدولة. ورمز كبير لنمو العدم أيضاً.

لذا، عندما أطلق الغرب على السلطنة العثمانية صفة “الرجل المريض”، كان مهذباً إلى أبعد حدود التهذيب في هذا الوصف، فواقع السلطنة آنذاك كان أبعد من المرض. أنه يتعلق بعطالة الإنتاج وملحقاته وملاحقه، وبالتالي دخول السلطنة تاريخ التعفّن والتراجع والانحدار، وهو عكس التقدم المتصل بنمو الإنتاج والإنتاجية، هذا الذي أراد إلياس مرقص قوله من خلال استحضاره لمذكرات البديري الحلاق الدمشقي.

على عكس هذا المسار الانحداري، عندما دخل الفرنسيون إلى سورية ولبنان بعد انهيار السلطنة، أول عمل قاموا به وقف انحدار السكان، وذلك من طريق إدخال الدواء وتحسين شروط الصحة العامة، والقضاء على أسباب الأمراض، وبعد ذلك بفترة وجيزة بدأ النمو السكاني يتقدم، وهذا التقدم مثّل أولى بشائر النهوض الوطني بداية القرن العشرين، الذي عرفناه بتأثير “صدمة الحداثة”، من نمو السكان إلى نمو التعليم ونمو الصحة ونمو العمران ونمو الإدارات ونمو السياسة وانعتاق المدن من طابعها “الحاراتي” المغلق إلى تشكل جنين حياة مدنية، وبالتالي تشكّل “جنين دولة”، وتقدم الزراعة ونشوء نواة صناعية وتقدم الأمن .. الخ. كل ذلك يدعونا للقول: أن الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان كان ثورة حقيقية، هي امتداد لثورة غدت عالمية، بل لعلها الثورة الحقيقية الوحيدة التي عرفتها البلاد الشامية، منذ ألف عام على الأقل حتى وقتنا الراهن.

وإن هذين، الواقع والتاريخ، يقيمان الحد على هلوسات و”شيزوفرينيا” الأيديولوجتين الإسلامية والقومية، حيث تعتبر كل منهما أن الاستعمار الأوربي هو الذي جزأ “الأمتين” العربية والإسلامية حسب المتكلم، وأن أحوالنا قبل الاجتياح الغربي كانت بخير وعلى ما يرام، لكن المداخلة الاستعمارية “اللعينة” هي التي “أنتجت كل هذا الخراب”. سيرورة التقدم والثورة، نظرياً وعملياً، تضع حداً عقلياً ومنطقياً لهذا الهراء، الذي أصبح الخلاص منه شرطاً أولياً ولازماً لحياة إنسانية لم نعشها منذ قرون.

إذن كل ثورة حقيقية تؤسس لتقدم فعلي، ولحالة نمو عامة وعارمة، إضافة إلى ذلك، تنطوي، حسب إلياس مرقص، على عودة إلى بداية ما، إلى مبدأ أعلى أو مبادئ عليا في هذه البداية، بحيث لا تؤسطرها، إنما تعيد إنتاج هذه البدايات برؤية جديدة، وتوجهات مختلفة: “والثورة في هذه الحال تكون درجة أساسية على سلم التاريخ الذاهب إلى أمام. الثورة الواعية هي التي تعي موقعها في مسار التاريخ كتقدم … كل ثورة إنما تتضمن فكرة عودة أو رجوع. لكن كيف وبأي معنى؟ عودة إلى ماذا؟ الثورة الشيوعية عودة من فوق طبقية المجتمع والتاريخ الطبقيين إلى المجتمع اللاطبقي. لكن في مستوى جديد وعلى أساس إدماج كل الانجاز الحضاري والثقافي والاجتماعي الايجابي للتاريخ الطبقي … الإصلاح اللوثري عودة إلى المسيحية الأولى وإلى الكتاب من فوق الكنيسة الموجودة … القرن السادس عشر- النهضة، الإصلاح – عودة، وعودة تؤسس للتقدم والبناء. وكل “عودة” مهددة بأن تؤسطر هذا الذي تعود إليه، لكن الوعي الحقيقي جهاد ضد هذا النزوع”.[9]

بهذا المعنى ” الثورات”/ “الانقلابات”، التي حدثت في البلدان العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي وصولاً إلى ” ثورات الربيع العربي” بداية القرن الحالي، لم تتضمن أي ملمح للعودة إلى “العصر الليبرالي” في المرحلتين الكولونيالية والاستقلالية، لا بل شكلت قطيعة مع روح التشكّل والتكّون والنمو، التي حاولت أن ترسي شيئاً مختلفاً عن التراث المملوكي- العثماني، وأن تضع مداميك لتقدم ما ونهوض ما. لكن الذي حدث مع جميع “الثورات” اللاحقة “للعهد الليبرالي”، القومية والإسلامية واليسارية، أنها قامت بتصفية آثار ذلك العهد، وأعادت الاعتبار لنموذج “مجتمعات” العطالة التاريخية غير المنتجة وغير المبدعة، والتي بعثت من جديد التاريخ المملوكي- العثماني بكل عفنه وقبحه، ورفعت لواء “البعث” لماض إمبراطوري في مواجهة أفكار التشكّل والتكون والتقدم.

ثانياً، أهم الثورات الكبرى في التاريخ التي أسهمت في التقدم البشري:

الثورات التي أسهمت في تقدم البشرية هي ثورات عالمية الطابع، اتصلت جوهرياً بفكرة الإنسان، ولم تكن سياسية بالمعنى السائد والمتعارف عليه، من حيث ارتكازها على المصلحة القومية أو الفئوية، وكانت بعيدة كلياً عن الغرق في أوحال العرق والمعتقد والخصوصيات المحلية الطاردة للعمومية، والثورة / الثورات القادمة التي تنتظرها البشرية، لمواصلة التقدم وتقليص وجهه القبيح، ومواجهة معضلة اغتراب الإنسان واستلابه، والحفاظ على الشروط الطبيعية لوجوده وأمنه وأمانه، بالضرورة، يجب أن تكون عالمية وكونية، تأخذ بنظر الاعتبار فكرة الإنسان غير المستنفد في أي تحديد ذاتي وافد من خارج ماهيته الإنسانية. وإن معيار تقدمية وفعالية الثورات والانتفاضات والإصلاحات والتيارات والحركات المحلية، تتحدد بمدى انسجامها مع هذا الاتجاه الكوني الذاهب نحو مواجهة استلاب البشر واغترابهم، وإن لم تكن كذلك فهي فاقدة لمبدأ العمومية، وقاتلة لفكرة التقدم، وبالتالي فهي ثورات وانتفاضات لا معنى ولا موقع لها على سلم التاريخ، وهي خطر على وجود الشعوب المعنية فيها وعلى مستقبلها، فضلاً عن خطرها على مستقبل البشرية. “لأن كل ثورة لا تؤسس لتقدم هي ثورة تأخر وانحلال”. (الثورة الخمينية مثالاً).

إن أهم تلك الثورات الكبرى وفق رؤية إلياس مرقص:

1 – ظهور الإنسان- النوع، التاريخ كتقدم يبدأ باستقلال الإنسان عن الطبيعة، ولعل الانتقال من مرحلة ما قبل التاريخ إلى بدايته، يبدأ فعلياً مع لحظة نشوء “الإنسان العاقل”. “بداية التمايز عن الطبيعة. بداية “البشريات” هي ” الأوسترالوبيتيك”، أي ” قرد الجنوب” الذي عاش قبل مليونين من السنين. ذلك النوع البشري الأول كان أقرب في شكله إلى “القرد” .. لكنه يتميز بالشغل. الإنتاج (الإنتاج بالمعنى الواسع). ” صنع أدوات وله “ثقافة”. “حضارة” بدون أن تكون له لغة … أترك الأنواع البشرية التالية: “البيتيكانتروب المنتصب”..، “إنسان نياندرتال”، ” الإنسان العاقل المستحاثي”. أصل إلى “الإنسان العاقل” إلى التاريخ البادئ من ما قبل التاريخ. هذا التاريخ أقصر بكثير من تاريخ البشريات الطبيعي أو نصف الطبيعي. وهو جوهرياً، نمو (تقدم) وسائل الشغل (أدوات الإنتاج)، تطور وتعاقب وتقدم أنظمة علاقات الإنتاج (الملكية، الطبقات)، الثقافة، المؤسسات، الدولة، الأيديولوجيات الخ”.[10]

لقد كانت أدوات الشغل، أي (الإنتاج) بحدوده الدنيا، قبل اللغة، عاملاً حاسماً، في ظهور “الإنسان الصانع”، وصولاً إلى لحظة “الإنسان العاقل”، وتمايزه وانفصاله عن إمارة الرئيسيات التي تجمع مع “البشريات” أنواعاً أخرى من الفقاريات والثديات.

نعم، تاريخ البشرية اللاحق تأسس كله على هذه الثورة الأولى، ظهور الإنسان- العاقل.

2 – الثورة الثانية الكبرى في تاريخ البشرية هي نشوء نظام العبودية:

مثّل نشوء نظام العبودية، الذي نهاجمه ونحتقره، من دون أن نفهمه، في أيامنا هذه، نقلة نوعية كبرى في تاريخ البشرية، فقد انتقل من خلالها البشر من قتل بعضهم البعض، وأكل لحوم بعضهم البعض، إلى استغلال المغلوبين واستعبادهم. أي من الذبح والقتل إلى الاستعباد تلك ثورة كبرى: “إن الانتقال من قتل الإنسان والتهامه إلى أسره واستعباده، من استهلاك لحمه إلى استهلاك قوة شغله، كان على امتداد آلاف السنين تقدماً كبيراً في كل مكان. إنه انطلاق التاريخ: الإنسان يخرج من الحالة الغابية أو البرية .. قصة إبراهيم رمز ديني كبير، الأضاحي البشرية بقية تذكر بالهمجية الأولى، ولعلها لازمت جميع الحضارات الكبرى في مختلف القارات. قصة إبراهيم تعلن انتهاء هذه البقية”[11]

لم يكن نشوء العبودية يمثل ذلك الانتقال الكبير من القتل إلى الاستعباد فقط، بل وضع قضية الحرية، حرية الإنسان، على مسار التاريخ، فالحرية في أحد أهم مضامينها هي عبارة عن تقليص التاريخ العبدي للإنسان الذي لا يزال قائماً بصور وأشكال مختلفة حتى أيامنا الحالية، أي إن النظام العبدي ليس مقتصراً على لحظة النشوء تلك، بل يتمثل في أيامنا في ظواهر متعددة، “كالعمل الأجير”، أو ما يسمى (العبودية المقنّعة)، وانتشار البطالة على مستوى العالم، وتمركز الثروة في أيادي قلة من سكان العالم على حساب إفقار مليارات البشر، وسيطرة الحاجات الزائفة، وعدم تفريق البشر بين الحاجات الزائفة والحاجات الحقيقية، إضافة للعبودية الناتجة من التبعية للأيديولوجيات المتطرفة وأنبيائها وسدنتها، بحيث تصير تلك الأفكار أفكاراً متعالية على البشر الذين أنتجوها، وكذلك انتشار الحروب الدينية والقومية بما يمثله من نكوص إلى الهمجية والغابية، والأكثر مأساوية من ذلك كله، هو تدمير الإنسان لشروط وجوده الطبيعية، والقائمة تطول .. هذا كله يمكن أن نضعه تحت عنوان عريض: العبودية المعاصرة. بوصفها تعبيراً ممكناً عن واقعة اغتراب الإنسان المعاصر، وهذا الذي يضع قضية الحرية والتصدي لظواهر الاغتراب في مركز العمل الثوري التاريخي للبشرية.

يختتم إلياس مرقص مقدمة ترجمة كتاب العبودية لموريس لانجلية بهذا المقطع المعبر:

” رجوعاً إلى العبودية، بل ودفاعاً عن العبودية ضد الطيران والتحليق أقول:

الإنسان عبد

وأضيف:

الإنسان عبد = الإنسان أعلى من الحيوان، ظهور السياسة تراجع الحرب.

الإنسان عبد = التاريخ نمو الحرية.

الطائرون يريدون الشطر الثاني الحرية، “يفكرونها”، بدون الشطر الأول، إذن بدون النمو وبدون التاريخ. إنهم ينسون أن الحيوان مصيره إلى المسلخ، وإن البشر أيضاً ينحطون إلى حيوانات.

المحلقون يمكن أن يدافعوا عن حرية الصحافة وينسون حياة الإنسان.

الإنسان عبد: أعلى أشكال العبودية هو “العمل المأجور”، “العبودية الأجيرة”. هذا المصطلح الأخير، مقولة ماركس، ليست معنى مجازياً، وأعلى الأشكال ذلكم هو الرهان، وهو الراهن.”[12]

الثورة الثالثة الكبرى على خط التقدم البشري كانت الثورة النيوليتية:

النيوليتية تعني العصر الحجري الجديد أو الحديث، لكن “الثورة النيوليتية”، بمضامينها تشير إلى تقدم تاريخي كبير على سلم التاريخ، حدث منذ الألف العاشر قبل الميلاد وصولاً إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وهو الثورة الزراعية في بلاد الشام تحديداً، أو “القرى الأولى في بلاد الشام”، حسب عالم الآثار الفرنسي جاك كوفان، الذي وضع كتاباً تحت هذا العنوان، ترجمة وتقديم إلياس مرقص. وكان موطن تلك الثورة، سورية الحالية وفلسطين ووادي الأردن وصولاً إلى جبال زاغروس شمالاً. وحدثت قبل الحضارات النهرية الكبرى، حضارة وادي النيل وبلاد ما بين النهرين، كذلك قبل حضارات ماري وإيبلا وأغاريت في بلاد الشام.

شكلت القرى الأولى في بلاد الشام عتبة كبرى في مسار التاريخ لجملة من الأسباب، أبرزها:

1 – نقلت البشر من مستوى القطف والصيد والالتقاط إلى مستوى الرعي وتدجين الحيوان والزراعة واستثمار الأرض.

2 – نقلت البشر من العيش في الكهوف إلى العيش في بيوت بنيت من الطين، وبالتالي هيأت الظروف التاريخية للانتقال من حالة الترحال إلى حالة الاستقرار.

3 – مع وضعية الاستقرار ونشوء علاقات شغل جديدة مرتبطة بتربية الماشية والزراعة والسكن الجماعي، نشأت الحاجة إلى تهيئة الظروف لنشوء ثورة أخرى لاحقاً هي “ثورة الاجتماع البشري”. ( لا نعرف إذا كان هناك تعاقب خطي أو تساوق وتداخل وتأثير وتأثر).

4 – فتحت الطريق أمام قضية التملك وأنسنة المكان، أو “تذويته”، ونقل خصائص الإنسان إلى محيطه الطبيعي والبيئي.

5 – افتتحت باكورة نشوء الشغل كعلاقة تبادلية مع الطبيعة، وبنفس الوقت عززت مسار انفصال الإنسان عن الطبيعة، ورسخت انتماءه وتطوره اللاحقين للتاريخ، وتأكيد ظاهرة أن الإنسان هو ابن التاريخ.

6 – مثّلت مبدأ انطلاق مسار “بروميثيوسية” الإنسان العاقل، التي لا تزال تتصاعد وتتضاعف بقوة حتى أيامنا الحاضرة.

وقد أشار كوفان إلى نقطتين مهمتين في ذلك الانقلاب التاريخي، “القرى الأولى في بلاد الشام”: “الأولى تقول: إن الأهمية الخاصة التي تريدها عملية التحضر والقرى الأولى، تنبع من حقيقة أنها تعرض بداية ذلك التحويل للطبيعة على يد الإنسان، الذي يكف عن كونه نوعاً قانصاً بين أنواع أخرى، ويستولي آنذاك على دوره كبستاني للعالم، صائراً بذلك، كما يقول ديكارت، “سيده ومالكه”.

الثانية: في العالم الحاضر. حيث شرعت إيديولوجيات فائقة الحرص على الاضطلاع بالحاجات الأكثر عيانية لمجتمعاتنا، تتساءل عن الطبيعة الحقيقية لهذه الحاجات، وحيث جاءت اتجاهات أخرى أكثر جذرية أيضاً لتنادي ب ثقافة – مضادة رداً على تناقضات اقتصاد غاز مكتسح، قد لا تكون هذه التأملات القليلة، المستوحاة من ماض بعيد، بعيدة عن الراهن”[13]

4 -، الثورة البورجوازية الغربية في العصور الحديثة، بما تنطوي عليه من ثورات فكرية وفلسفية وسياسية وعلمية وكسمولوجية وصناعية وتكنولوجية:

من “الثورة الزراعية” في الألف العاشر قبل الميلاد، إلى “الثورة البورجوازية الغربية ” في العصور الحديثة، تاريخ لا يحصى من الانجازات ومن النمو والتراكم والزيادة في إنتاجية البشر اقتصادياً واجتماعياً ومعرفياً وعلمياً وتقنياً وأدبياً وفنياً .. الخ. وكذلك زيادة في إنتاجية البشرية التدميرية، وانفلات بروميثيوسية الإنسان إلى حدود لم تخطر على بال ديكارت حين بشر بها.

على هذا المسار التاريخي الطويل، افتتح كوبرنيك الثورة الكسمولوجية التي غيرت زاوية رؤية البشر إلى الكون والطبيعة والإنسان، وتبعتها الثورة العلمية التي حررت العلم من اللاهوت وسيطرة رجال الكنيسة، بالتظافر مع ثورة الاصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر، وبذلك تم وضع الأسس اللازمة لانبثاق الثورة الصناعية، والثورة التكنولوجية لاحقاً، التي ما زالت تتناسل جيلاً تكنولوجياُ بعد جيل، نشأت وتطورت ثورتان كبيرتان: الأولى، “ثورة الاجتماع البشري الحديث”، والثانية “ظهور المجتمع المدني” و”المجتمع السياسي”، اللذان تبلورا بصيغة المجتمع البورجوازي المعاصر والدولة الوطنية المعاصرة. وهاتان الثورتان من نتاج تطور أشكال الإنتاج وتطور المعرفة – العمل والعمل- المعرفة، مع كل ما يلزم هذا التطور من علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية، ومؤسسات وقوانين وتشريعات وصولاً إلى مؤسسة الدولة. مع الثورة البورجوازية ومنطوياتها ومضامينها الحديثة، تبلورت بوضوح سيرورة “إنتاج المجتمع للمجتمع”، خاصة في الدول البورجوزية الغربية، التي كانت مركز هذه الثورات، وشهدت تلك الدول ظهور ذروتين تاريخيتين هما عصر النهضة وعصر التنوير، وهاتان الذروتان شكلتا السياق التاريخي اللازم ثقافياً ومعرفياً لانطلاق الثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية.

” فكرة التقدم فكرة أوربية حديثة. جوهرياً. لها حتماً عناصر آتية من بعيد في الزمان والمكان. لكنها كتصور أساسي للتاريخ البشري فكرة أوربية وحديثة في الحاصل .. في أوربا الغربية، سلطنت فكرة التقدم في عصر الصعود والجهاد، وصارت الكليات الكبرى – بما فيها مفهوم الطبيعة الفلسفي وتنويعاته “الحق الطبيعي”، بل و”حالة الطبيعة”. والاشتراكية الطوباوية – صارت أساساً لفكرة التاريخ – التقدم أو التصور التقدمي لتاريخ الإنسان. يمكن القول أن فكرة التاريخ وعلم التاريخ تأسسا (ق 18 – ق 19) على هذا المفهوم نفسه وعلى كليات الإنسان، العمل والشغل، الأمن، الملكية، الخ. والكلام عن مصائر البشر وطبائع البشرية واختلاف الحضارات الخ. ووعي التاريخ كدراما وكمأساة ( حروب. جرائم. الخ) لم يستخدما ضد فكرة التقدم. كممكن. كواجب. وكواقع. هكذا يمثل الفكر الأوربي في زمنه الأعظم، عصر الثورة الفرنسية وهيغل، العصر الذي يضم فوليتر وروسو ومنتسكيو. آدم سميث وريكاردو، كنط وفيشته والأخوين فون همبولدت وكلاوسيفيتس، وموزار وبيتهوفن وغوته وهلدرلين والرومانطيقية”[14]

لم يشهد الراحل إلياس مرقص معظم الثورات اللاحقة للثورة الصناعية كالثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات والثورة الرقمية والثورة الجينية، وهذه الثورات اللاحقة تختلف كثيراً عن سابقاتها من حيث الزمن القصير الذي تتحقق فيه، ومن حيث تغيير طبيعة العمل – المعرفة، وطغيان العمل الذهني والمعرفي على العمل العضلي، وتغيير طبيعة العلاقات على المستوى الكوني، بين البشر وبين الشعوب والدول والقوميات المختلفة. وكذلك تغيير طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمعات المحلية جذرياً، وسيلان العلاقات المحلية والعالمية، بحيث يصبح المحلي عالمياً، والعالمي يغدو محلياً، وتزداد وحدة مصائر البشر، فصارت المعادلة الكونية تقترب من حدود: إما أن تنجو البشرية كلها، أو أن تغرق كلها جراء تدمير الإنسان لشروط وجوده الطبيعية.

ثالثاً، نماذج عن ثورات وانتفاضات خارج خط التقدم، عبثية، فاقدة للمعنى التاريخي، هدرت مستقبل “شعوب” بأكملها، ولم تقدم أي إضافة للبشرية، وأعادت إنتاج التقهقر والتراجع، فضلاً عن إنتاج الخراب والحروب:

1 – يتطرق إلياس مرقص إلى الانتفاضات الفلاحية الصينية، التي استمرت أكثر من ثلاثة آلاف عام، بدون أي جدوى تذكر، كان الفلاحون ينتفضون ويقتلون الإقطاعيين، ويعلقون رؤوسهم على أسوار المزارع، لكن بعد ذلك، تعود أسر إقطاعية أخرى للحكم بنفس المناهج والأدوات، وتعود ذات العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية، للظهور والتبلور مرة تلو المرة طيلة 3000 عام، بدون أي نمو وأي تقدم. وقد تكلم الزعيم الصيني ماوتسي تونغ عن هذا الواقع التاريخي في كتابه: “الثورة الصينية والحزب الشيوعي الصيني”.

إنها ثورات فلاحية جماهيرية، كبيرة وصغيرة، ولا حصر لعددها … لكن المجتمع الصيني بقي على حاله مدة ثلاثة آلاف سنة: علاقات الإنتاج لم تتغير. نمط الإنتاج لم يتغير، الطابع السياسي (الدولة الامبراطورية) لم يتغير. تلك “الانتفاضات الفلاحية والحروب الفلاحية التي شهدها تاريخ الصين كانت ذات نطاق واسع لا مثيل له في تاريخ العالم. رغم ذلك وعلى الرغم من حصول المجتمع على كثير أو قليل من التقدم في أعقاب كل نضال ثوري واسع النطاق يخوضه الفلاحون، فإن العلاقات الاقتصادية الإقطاعية والنظام السياسي الإقطاعي بقيت على حالها بالأساس والجوهر”[15]

لم تتغير أوضاع “الدوران – الدائري” تلك في التاريخ الصيني إلا مع المداخلة الإمبريالية، لم يكن ممكناً للصين أن تنتقل إلى شيء مختلف في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية إلا مع الفعل الاستعماري الخارجي، الذي قوض البنية التقليدية للمجتمعات الصينية، وخلق مسارات جديدة مختلفة.

2 – نموذج الانقلاب القومي العربي، في الخمسينات والستينات، والذي انضوت تحته حركات عسكرية وانتفاضات شعبية وتيارات سياسية واسعة:

الانقلاب القومي العربي الذي بدأ مع ” ثورة” 23 تموز في مصر عام 1953، وتتالى مع الانقلابات العسكرية في سورية والعراق والجزائر واليمن والسودان وليبيا، وترافق مع تحركات شعبية واسعة وشعارات “جذرية” معادية للغرب ودعوات سياسية – أيديولوجية ” لفك الارتباط” بالغرب الاستعماري، وشهد حروباً عدة مع إسرائيل، في إطار الصراع العربي – الإسرائيلي، وقيام فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، و”الثورة الفلسطينية”، ويمكن أن نضيف: الحروب الداخلية في البلدان العربية على ضفاف “القضية الفلسطينية” وملاحقها، التي كانت تعتبر “قضية العرب المركزية”.

مثّل الانقلاب القومي العربي على مدى العقود السبعة الماضية، بكل ما انطوى عليه الانقلاب من “ثورات” وحركات وتيارات مسلحة وغير مسلحة، وانتفاضات شعبية، وحروب مع إسرائيل، وحروب داخلية، وشهداء ومناضلين ومجاهدين، نموذجاً مثالياً للعبث بحياة “الشعوب” ومصائرها و خراب “الأوطان”، ومثّل نموذجاً مثالياً “للثورات” القاتلة للتقدم، التي دفَّعت المجتمعات أثماناً باهضة مقابل لا شيء، وكان نموذجاً صارخاً لهدر الإنسان وهدر المستقبل، وقتل كل ما هو عمومي وإنساني وأخلاقي في البشر القاطنين هذه المنطقة، وإخراجهم من الانتماء للعالم والمعاصرة.

لماذا كان الانقلاب القومي العربي خارج خط التقدم؟

1 – لأنه كان انقلاباً على الفكرة الوطنية، وعلى مسارات تشكل “جنين الدولة الوطنية” و”جنين المجتمع المدني”، وبالتالي كان انقلاباً على فكرة الدستور والقانون والعقد الاجتماعي ودولة الحق والقانون، وعلى فكرة المواطنة وإمكان الوطن.

2 – لأنه وضع فكرة “البعث” في مواجهة فكرة التشكل، بعث “الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، بحيث أصبح التوجه نحو بعث الماضي هو القاعدة، وليس إنتاج الحاضر والمستقبل من طريق التشكل والنمو والاندماج في المسارات المعاصرة، بل أصبحت الماضوية هي “الطريق إلى المستقبل”!

3 – لأنه تصالح مع التقليد، وقام بتصفية الآثار المتواضعة “لصدمة الحداثة” في المجتمعات العربية، وأعاد بعث التاريخ المملوكي – العثماني، ما قبل الكولونيالي، وإنتاج ثنائية “دولة سلطانية محدثة / “مجتمع رعوي”، ليس بعيداً عن السياسة فقط، بل بعيد عن المدنية والتحضر، وينطوي ، دوماً، عل إمكانيات الانتكاس إلى الحرب والهمجية وهذا الذي ظهر لاحقاً.

4 – لأنه وضع البلدان العربية التي حكمها القوميون في مواجهة النظام الدولي، وأصبحت جميعها بلدان مارقة ومنبوذة ومعزولة عن العالم، استناداً إلى فكرة “فك الارتباط” بالنظام الرأسمالي العالمي البائسة، والتي أفضت، فعلياً وواقعياً، إلى فك ارتباط هذه البلدان بالعالم المتمدن والمدنية، والحداثة وثوراتها المختلفة، من الثورة الديمقراطية مروراً بالثورة الصناعية وصولاً إلى الثورات التكنولوجية والمعلوماتية والرقمية.

5 – لأن التيارات القومية كانت تيارات هوويّة وعقيدية، عززت الانقسامات المجتمعية التاريخية، وفاقمت ظاهرة “نقص الاندماج الوطني”، وراكبت عصبيتها القومية مع العصبيات المذهبية والطائفية والإثنية، فتحولت بذلك إلى مولدات للحروب الداخلية والإقليمية المستمرة، تلك الحروب التي أعادتنا إلى ماضي البشرية الهمجي.

6 – لأن الأنظمة القومية التي حكمت، لم تعن إلا بالمؤسستين العسكرية والإمنية، وبالمؤسسة الإعلامية، وأهملت قطاعات التعليم والصحة والتنمية البشرية والاقتصادية، وكل ما يتعلق بتحسين شروط حياة البشر وتمدينها، بل على العكس من ذلك قامت بترييف الحياة وإفقارها، ولم تول أي اهتمام يذكر لظواهر الانفجار الديموغرافي، الذي كان انفجاراً للجهل والأمية والفقر.

7 – بعد إجراءات التأميم ومصادرة الملكية، التي نفذتها العديد من الحكومات القومية / الاشتراكية، في الخمسينات والستينات، تعطل الإنتاج الاقتصادي، وتعطل معه الإنتاج الثقافي والمعرفي وإنتاج الحياة الاجتماعية، (إنتاج المجتمع)، أي تعطلت آلية الشغل البشري، الذي يقبع في خلفية التقدم. فارتدت تلك “المجتمعات” إلى عصبياتها الأولية والنسلية وأعادت إنتاجها، على حساب العلاقات المدنية وتشكيل مجتمعات مدنية.

8 – ساهمت التيارات القومية العربية، بتصالحها مع التقليد، وتبنيها لأيديولوجيات ماضوية، ونفيها لممكنات نشوء حياة مدنية، في تعزيز وتدعيم ظاهرة “الصحوة الإسلامية” الشيعية والسنية، بما تمثله هذه الصحوة من ارتداد بشع نحو أشباح الماضي المرفوعة إلى مرتبة هويّات عصبية لا وظيفة لها سوى إنتاج الحروب الداخلية وتكريس التأخر والعزلة عن البشرية المعاصرة.

لهذا يمكن القول: إن الانقلاب القومي العربي بكل “ثوراته” و”ثوراناته” و”نضالاته”، وأحزابه وحركاته و”جماهيره” و”انتفاضاته” وحروبه ضد إسرائيل و”الإمبريالية ” كان خارج خط التقدم نظرياً وعملياً.

3 – النموذج الثالث هو “الثورة الخمينية ” في إيران:

في عام 1979 زحف ملايين الإيرانيين إلى مطار طهران لاستقبال الخميني العائد من باريس، بعد مظاهرات حاشدة في طهران وغيرها من المدن الإيرانية، ضمت الملايين أيضاً، في مواجهة قوات الشاه، التي استخدمت الأسلحة الحية في قمعها، حيث بدأت المظاهرات ضد الشاه في أكتوبر عام 1977، وتطورت إلى عصيان مدني شامل في كانون الثاني عام 1978 وشاركت في هذه “الثورة” قوى يسارية وقومية وليبرالية إيرانية مختلفة، لكن اتجاهها الإسلامي هو الذي تحكم وانتصر في النهاية، بعد تضحيات كبيرة وجسيمة قدمها الإيرانيون، على مدى سنوات طويلة، في سبيل إسقاط النظام الملكي.

“الثورة الخمينية” نموذج صارخ لمعاداة خط التقدم، لا في إيران فحسب بل في المنطقة العربية قاطبة، ونموذج فاقع لمعاداة حرية الإنسان وحقوقه وتطلعاته في إيران والمنطقة. هذا فضلاً عن طابعها العنصري الإمبريالي المبني على تعشّق الإثنية الفارسية مع المذهبية الشيعية، لذا كانت هذه “الثورة” عاملاً حاسماً في اندلاع حروب المشرق العربي، وفي تفتيت أنسجته الوطنية، كذلك مثّلت عاملاً وازناً في ظاهرة “الصحوة الإسلامية”، هذه الصحوة التي تابعت مسار التراجع والانحدار الذي بدأه التيار القومي العربي. وما يدعو للغرابة والاستهجان، أيضاً، إن كثرة من يساريين وقوميين عرب، هللوا ورحبوا بهذه الثورة، بمجرد رفعها شعارات العداء لإسرائيل.

لقد بات واضحاً، أن نهوض المنطقة العربية وإيران هو مسار مترابط، ومرهون بعوامل كثيرة لا حصر لها، لكن أهمها وفي مقدمتها، تصفية آثار عدوان الصحوتين “القومية والإسلامية” على”الاجتماعات الوطنية” وعلى الاقتصاد والإنتاج وعلى الثقافة والمعرفة، والأهم تصفية تلك الآثار على الإنسان وعلى مجرد الحياة وعلى مستقبل الأجيال القادمة.

رابعاً، الثورة الأهم التي تنتظرها البشرية تتضمن السيطرة على الوجه القبيح للتقدم وتقليصيه:

للتقدم وجه قبيح، كما للتاريخ جانب مأساوي، الأرض ليست جنة، ولا يمكن أن تقوم جنة عليها، البشر ليسوا ملائكة، لكن الإنسان كائن قابل للتحسن والارتقاء، وعلى هذه القابلية للتحسن والارتقاء، يمكن الرهان على تقليص القبح والشر والسيطرة على الجوانب المأساوية للتاريخ الواقعي.

إن تقدم الإنتاجية ترافق، ويترافق دوماً، مع تقدم القدرة التدميرية للبشرية، بواسطة إنتاج الأسلحة الفتاكة النووية والجرثومية والكيميائية وجميع صنوف الأسلحة الأخرى، التي تكفي لتدمير الكوكب الأرضي مرات ومرات. إضافة إلى الانفجار السكاني على سطح الكوكب واحتكار الثروة والقوة والسلاح والتكنولوجيا والمعرفة من قبل أوليغارشيات عالمية، متحكمة بالمصير العالمي، وتصاعد التطرف القومي والديني والأيديولوجي والتمييز العنصري، والحروب المرافقة لأنواع التطرف هذه على حساب العلاقات الإنسانية والسلم العالمي والقانون الدولي، واستنزاف ثروات الأرض والاحتباس الحراري والتصحر وانتشار التلوث والأمراض والفقر، كل هذا يؤدي إلى تدمير الشروط الطبيعية للوجود الإنساني، وإلى اغتراب الإنسان عن ذاته وعن الطبيعة، وإلى عدم قدرة البشر على السيطرة على نتائج أعمالهم، وهذا الذي وضعته الماركسية تحت عنوان الاستلاب أو الاغتراب، والبشرية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت آخر للتصدي الجذري لهذا الوضع الكوني، الذي يهدد مصير الكوكب: ” لقد وصلت البشرية الآن، في هذه اللحظة المنطقية والتاريخية، إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. وصلت إلى نهاية. إما أن تكون نهاية تقدم وثورة تأسيس لتقدم آخر وإما أن تكون نهاية النوع. هذه القضية تخصنا بالتمام!”[16]

الإنسان مدعو اليوم إلى التصالح مع نفسه ومع الطبيعة (ماركس وإنجلز). وأكثر من ذلك بكثير البشرية في هذا المفترق الحاسم مدعوة إلى انجاز ثورة أكبر من كل ثورات الماضي، لا يعادلها إلا ثورة ظهور النوع البشري، هذه الثورة هي الانتقال من “المجتمع المدني” إلى “المجتمع المؤنسن” أو تحقيق ” المجتمع المدني” وتجاوزه إلى المجتمع “المؤنسن”، وهذا الذي أكدت عليه الماركسية، “أما القفز من فوقه. أو التحول عنه نحو أشباح الماضي المرفوعة إلى هوية وذات وأصالة الخ. فحكاية واقعية قبيحة وقاتلة.”[17]

خامساً، خلاصات واستنتاجات بمثابة الخاتمة:

1 – الثورات التي ساهمت في تقدم البشر هي ثورات ذات طابع إنساني وكوني، صحيح أنه كان لها موطن نشوء وتكون محلي، لكن عموميتها الإنسانية سمحت بتعميمها على كل بقاع الأرض، هكذا كانت الثورة الزراعية والثورة الصناعية والحداثة على وجه الخصوص، أصبحت جميعها ثورات عالمية الطابع، يجري فيها الروح الإنساني أساساً، وليس روح العرق أوالدين أو الجغرافيا المحلية.

2 – كل “ثورات” التاريخ التي انتصرت لروحها المحلية على حساب الروح الإنسانية، انتهت إلى نتائج مأساوية، انعكست على شعوبها ومجتمعاتها أولاً، وعلى البشرية ثانياً.

3 – إن مقولة “فك الارتباط” بالنظام الرأسمالي العالمي، التي صفق لها القوميون والإسلاميون واليساريون العرب، أفضت واقعياً إلى فك الارتباط بالعالم المتقدم وبالحداثة والمدنية، وأعادت إنتاج أسوأ ما في تاريخنا.

4 – إن الثورات الكبرى في تاريخ البشرية، لم تكن تدافع عن عقائد أو أيديولوجيات، ولم تخض معارك من أجل هيمنة عقيدة ما أو أيديولوجية ما، بل كانت تصبو إلى تغيير حياة البشر ومستوى بحبوحتهم وأساليب عيشهم نحو الأرقى والأفضل. أي إنها كانت تركز على تقدم أدوات العمل البشري من أجل زيادة الإنتاجية، وما يرتبط بذلك من معرفة، وبالتالي فهي ركزت أيضاً على نتائج نمو الإنتاج من مؤسسات ونظم وقوانين وعلاقات مجتمعية وسياسية ذات الطبيعة الإنسانية العامة.

5 – إن مسار تقدم البشر في التاريخ، كان محركه ثورات طويلة الأمد نشأت بفعل تطور الاجتماع البشري نوعياً، وفي ظروف تاريخية اتسمت بالسلم والاستقرار والتعاون والعمران في المناطق التي تبلورت فيها، وكذلك التي امتدت إليها، وترافق ذلك مع تراجع الحروب والصراعات بين البشر، وتراجع نظريات الصراع وعوامله المجتمعية وغيرها، وهذا يدفعنا لمساءلة أفكار مثل: “الحرب هي قاطرة التاريخ العمياء”، و”الصراع الطبقي محرك التاريخ” و”الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”. هذه المقولات التي أصبحت جزءاً من منظومة تفكير النخب الحاكمة والمعارضة في مختلف دول العالم. فالحروب والصراعات عبر التاريخ بمختلف أشكالها، لم تقدم للبشر إلا الويلات والكوارث والانحدار، بما فيها حروب “التحرير والانتصار”، لأن كل “منتصر” يقف مقابله مهزوم ما، وعلى سلم التاريخ حروب “المنتصرين” والمهزومين نتيجتها واحدة، تدمير العمران والاجتماع وتعميم الفقر والهمجية.

والثورة الكبرى التي تنتظرها البشرية، والتي يقع في مركزها، الانتقال من “المجتمع المدني” إلى “المجتمع المؤنسن”. أو تحقيق “المجتمع المدني” والانتقال منه إلى المجتمع “المؤنسن”، تضع الحاجة التاريخية لنفي عوامل الحروب، المؤسسة على المصالح القومية والدينية والطبقية وعلى أي مصلحة خاصة أخرى، وتدعو إلى تسوية الصراعات والتناقضات القائمة في “المجتمع المدني” سلمياً وديمقراطياً وقانونياً، وتقليص التفاوت وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والانتصار لقيم العدالة والحرية والإنسية.

وبالتالي يمكن القول: أن أهم معيار من معايير الثورات التي تستحق أسمها، وتقع على خط التقدم الإنساني، هو الانسجام مع هذا الاتجاه التاريخي الصاعد من “المجتمع المدني” إلى “المجتمع المؤنسن”.

6 – ظهور الملكية الخاصة ونموها وحمايتها من الاعتداءات والانتهاكات ومن المصادرة والتأميم، كان من الروافع الهامة للتقدم وثوراته تاريخياً.

كان ظهور الملكية الخاصة في التاريخ عامل تقدم كبير على حالة اللاملكية، “الحالة الطبيعية”، التي ميزت مرحلة القطف والصيد، لذا كان ظهور نظام الرق تقدما كبيرا، لأنه نقل البشرية من مرحلة قتل المهزوم في الحروب إلى مرحلة امتلاكه (ملكية خاصة)، والاستفادة من فائض قوة عمله، فيما الثورة الزراعية قامت أساساً على امتلاك الأرض وحمايتها وتطويرها، والثورة الصناعية استندت إلى ملكية وسائل الإنتاج وحمايتها وتطويرها. إذن حماية الملكية بمواجهة المصادرة قبع في خلفية التقدم. بينما سادت المصادرة في مراحل الانحدار والانحطاط في أكثر من مكان من العالم، وأكثر من زمان على حساب تراجع أمن “الملكية”.

في العصر العثماني، على سبيل المثال، كان الذين يعيشون على السلب والنهب أكثر من الذين يعيشون على الإنتاج، غزوات البدو للحضر في بلاد الشام والعراق، كانت إرثاً راسخاً.

وأيضاً، يمكن ملاحظة الآثار التخريبية لمراسيم التأميم في مصر وسورية والعراق، في خمسينات وستينات القرن الماضي، التي طالت المعامل الكبرى والأراضي الزراعية، ودور هذه المصادرة الجائرة التدميري في الإنتاج والعلاقات الاجتماعية والسياسية، و في نشوء ظاهرتي “الدولة السلطانية المحدثة”، و “المجتمعات” التي ليس لها سيماء طبقية.

إن نمو الإنتاج والإنتاجية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمو الملكية الخاصة وحمايتها، والملكية الخاصة هي المعبر إلى شكل أعلى وأرقى من الملكية، إلا وهي تملك العالم، وشعور البشر أن هذا العالم هو ملكهم وهو عالمهم، وهذا عنصر مهم في الثورة / الثورات القادمة التي تنتظرها البشرية، حيث يذهب هذا النوع من التملك، في مواجهة الاغتراب.

7 – إن التقدم الثوري في تاريخ البشر الذي أحدثه نمو الشغل ونمو المعرفة، وبالتالي نمو الإنتاجية، وانعكاس ذلك على تحسين شروط الحياة بمختلف مناحيها، يدعو إلى التفكير الجدي في الأيديولوجيات الكليانية “الثورية” وتجاربها المخيبة للآمال، التي راهنت على الانتفاضات الجماهيرية، وعلى التحشيد الشعبوي، وعلى النضال والجهاد، وعلى المناضلين والمجاهدين، ويضع حداً لأوهام التقدم بفعل “العنف الثوري” و “الصراع الطبقي”، وبفعل عمل الطلائع “الثورية” وأحزابها وحركاتها ذات المضامين الذاتوية، التي أرادت “اختصار مراحل التطور التاريخي”، وتجاوز متطلبات الحداثة.

وبالتالي، فإن جميع التجارب “الثورية”، التي حدثت في العالم في القرن المنصرم، واستندت إلى تلك المصفوفة “النضالية” وملاحقها النظرية والعملية، من التجربة اللينينية – الستالينية، في الاتحاد السوفياتي السابق، مروراً بالتجارب الاشتراكية في دول أوربا الشرقية، وصولاً إلى تجارب الاشتراكيات المتأخرة في العالم العربي، كانت كلها خارج خط التقدم، وألحقت أضراراً كبيرة بمستويات المعرفة والعمل والثقافة والاجتماع والاقتصاد والتواصل العالمي والإنساني، وما الطغم “المافوية” التي خرجت من أرحام هذه التجارب، وما زالت تتحكم بأكثر من بلد في العالم، وتشكل تهديداً لمستقبل الإنسانية، إلا خير الأدلة على مساراتها الانحدارية.

لذا، من المرجح، إن الثورة / الثورات القادمة، التي تنتظرها البشرية وتقع على خط الانتقال التاريخي الصعب من مرحلة “المجتمع المدني”، أو تحقيقه وتجاوزه، حسب الحالات، إلى “المجتمع المؤنسن”، لن تكون بقيادة “المناضلين والجهاديين والطلائع الثورية “، ولن تصنعها الجماهير بواسطة التمردات والانتفاضات و”الثورات الشعبية”. الأكثر احتمالاً هو: أنها سترتكز على الثورات العلمية والمعرفية والتكنولوجية والفكرية والقانونية والأخلاقية، التي حصلت في التاريخ. هذا راهن وضروري،لأن البشرية، كما قال الراحل إلياس مرقص: وصلت إلى أكبر مفترق في تاريخها فإما نهاية النوع وإما التأسيس لتقدم جديد.

  1. – إلياس مرقص – أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة. مجلة الوحدة العدد 6- 1985 . صادرة عن المجلس القومي للثقافة العربية ص 4-5
  2. – العبودية .. التقدم وبعض قضايا الفكر العربي المعاصر- مقدمات إلياس مرقص- نسخة الكترونية- ص 47- جمع وتحرير وتقديم جاد الكريم الجباعي.
  3. – إلياس مرقص- بحث التاريخ والتقدم- مجلة الوحدة العدد 22/23 – 986ا – إصدار المجلس القومي للثقافة الغربية – ص 9.
  4. – مقدمات إلياس مرقص- نسخة الكترونية- ص 46- جمع وتحرير وتقديم جاد الكريم الجباعي.
  5. – إلياس مرقص- بحث التاريخ والتقدم- مجلة الوحدة- إصدار المجلس القومي للثقافة العربية – العدد 22/ 23- 986ا – ص2 من البحث.
  6. .
  7. – مقدمات إلياس مرقص- نسخة الكترونية- جمع وتحرير وتقديم جاد الكريم الجباعي- ص 26.
  8. – إلياس مرقص – بحث التاريخ والتقدم- مجلة الوحدة- العدد 22/23 –إصدار المجلس القومي للثقافة العربية – ص6ا- 7ا من البحث.
  9. – إلياس مرقص- بحث التاريخ والتقدم- مجلة الوحدة – العدد 22/23 – 986ا- ص 0ا من البحث.
  10. – إلياس مرقص – بحث التاريخ والتقدم– مجلة الوحدة العدد 22/23- 986ا –ص 8ا- 9ا من البحث.
  11. – مقدمات إلياس مرقص- النسخة الالكترونية- جمع وتحرير وتقديم جاد الكريم الجباعي ص 9.
  12. – مقدمات إلياس مرقص- النسخة الالكترونية- جمع وتحرير وتقديم جاد الكريم الجباعي ص 84.
  13. – مقدمات إلياس مرقص- جمع وتحرير وتقديم جاد الكريم الجباعي- ص 29ا .
  14. – إلياس مرقص- بحث التاريخ والتقدم – مجلة الوحدة العدد22/23 – ص 3ا من البحث.
  15. – إلياس مرقص – بحث التاريخ والتقدم- مجلة الوحدة العدد 22/23- ص 4 من البحث.
  16. – إلياس مرقص – في إشكالية المنهج تحديث أم تأسيس؟ مجلة الوحدة العدد ا – 984ا –ص7 من المقال.
  17. – إلياس مرقص- بحث التاريخ والتقدم – مجلة الوحدة – العدد 22/23 ص 23 من البحث.

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية