تتناول هذه المقاربة مفهوم الحوار، وتحاول تعيين حدوده، وترصد علاقته بالرأي والتفرد به، ولا سيما الرأي المسبق، وعلاقة الأخير بالمصحلة الفردية والفئوية، من خلال عدة مداخل، تعيِّن العقبات المعرفية والثقافية والأيديولوجية والاجتماعية والسياسية، التي تحول دون التواصل الاجتماعي والإنساني الخلاق، وتحول، من ثم، دون الاندماج الاجتماعي، الوطني، والتشارك الحر والمبدع في الحياة العامة وحياة الدولة، وتحول دون الانتقال من الرعوية إلى المواطنة.
أول هذه العقبات هو الاغتراب الذاتي، بصفته علَّةَ التديُّن والهيمنة الذكورية، ولا سيما الاغتراب الديني، والمؤسسات الناتجة منه والسلطات التي تحرسه. فما كان للإنسان أن يتجنب تجلي ماهيته في الآخر المختلف والأخرى المختلفة، ويتنكر لإنسانيته/ـا، فيخاصمه/ـا أو يعاديه/ـا لولا اغترابه، بدايةً، عن خصائصه الانسانية، التي تحولت، على مرّ التاريخ، إلى سلطات خشنة وناعمة، وهويات عرقية وإثنية وقومية، ملتبسة بعقائد دينية، تمتح منها هذه السلطات ثقافتها ومقومات شرعيتها، مع أن جميع الشروط التي أنتجتها والرؤية الكونية (الكوسمولوجية)، التي كانت تسندها، وتشدها، قد تغيرت تغيراً جذرياً في عالم اليوم، إلا في المجتمعات، التي لا تزال ملقاة على هامش العصر الحديث موضوعاً للقوى الكبرى، وأداة من أدواتها، وسماداً لتاريخها، إن لم تكن خارج التاريخ.
والعقبة الثانية هي ما سماه إريك فروم “الخوف من الحرية”، كما سيأتي تفصيله. لأن الحوار، في مغزاه الأعمق، هو تداول للحرية المدنية، وشكل من أشكال ممارستها في المجتمع والدولة، أو تكون الحرية مجرد شعار أو يوتوبيا، ولا يكون الحوار سوى تخاطب، أو تلاسن، أو تراشق بالخطابات وتنابز وتكاذب.
ولما كانت الحرية تتعيَّن في الاختلاف، فإن الحرية المدنية فقط، حرية كل فرد، التي تقابلها، وتحدُّها حرية كل فرد آخر / أخرى، هي ما تجعل الحوار بين المختلفات والمختلفين ضرورياً، لتأسيس الحياة الاجتماعية والسياسية على مبادئ وقيم مشتركة؛ والمساواة وتكافؤ المعاني والقيم وحدهما مما يجعل الحوار ممكناً ومثمراً. المساواة أمام القانون، في الحريات والحقوق والالتزامات حسنة ولا شك؛ لكنها لا تترسخ في الممارسة الاجتماعية والسياسية إلا بتكافؤ المعاني والقيم، على اختلافها. نعني تكافؤ العقائد الدينية والمرجعيات الثقافية واللغوية والاتجاهات الفكرية والسياسية، بلا اسثناء ولا تمييز، في القيمة المعنوية أو الروحية.
غير أن الحرية فردية في المقام الأول؛ بل هي المغزى الأعمق للفردية، التي تغني النوع والجنس بممكناتها الأخلاقية والإبداعية، وتغتني به كل مرة. ومن ثم، إن الحوار لا يكون مجدياً ومنتجاً أو خلاقاً إلا بين أفراد حرائر مستقلات وأحرار مستقلين عن روابطهم الأولية وعصبياتهم وهوياتهم، ومتساويات ومتساوين في الكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية، وفي الأهلية والجدارة، والحقوق المدنية: الاجتماعية والثقافية والسياسية، يختارون الحرية ويخترنها اختياراً، بصفتها قوام إنسانيتهم/ـن، ويختارون ذواتهم، ويخترن ذواتهن. فالحوار لا يهدف إلى إزالة الاختلاف، بل يهدف إلى حل الخلافات، والتوافق على مبادئ وقيم عامة ومعايير مشتركة، يقبلها الجميع، في الظروف المعطاة، والشروط المعطاة، لأن المبادئ والقيم والمعايير المشتركة هي التي ترقى بالحيوات الشخصية إلى مستوى الحياة الاجتماعية والإنسانية، النوعية أو العامة، ويهدف من ثم، إلى ابتكار حلول للمسائل المختَلف عليها، يربح منها الجميع، وإن بنسب متفاوتة. فالسلام، الذي يقعب الحرب، على سبيل المثال، هو في مصلحة جميع الأطراف بالتساوي، بغض النظر عن الشروط، التي قد يفرضها الغالبون على المغلوبين.
والعقبة الثالثة هي القواعد التي تتأسس عليها السلطة والمبادئ والقيم التي تحكمها، إذ تقترن السلطة دوماً بالتملك والتدين، وهما سَدى التاريخ البشري ولحمته، وسَدى الحياة الاجتماعية ولحمتها (هذا من فضل ربي)، كما تقترن بالتوسع واختراق سائر مجالات الحياة الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية. ما يشير إلى أثر العصبيات الإثنية والقومية والدينية والمذهبية، والأيديولوجيات التي تبررها في الحيلولة دون ما سماه كارل ماركس “الانعتاق السياسي”، بصفته مقدمة لازمة للانعتاق الإنساني والشرط الضروري للمواطنة بثلاثة أركانها: المساواة والحرية والمشاركة الإيجابية في الشؤون العامة وفي حياة الدولة وفي تحديد ملامح المستقبل وتدبير المصير.
ذلك، لأن الاغتراب في الدين، أو الاغتراب الديني، والخوف من الحرية، والسلطات الشخصية المستبدة الناتجة من علاقات الاستبداد وثقافته، علاوة على المصالح الخاصة العمياء، كلها تعوق الإمكانية الجذرية للحوار والتواصل الاجتماعي والإنساني، إن لم تحل دونهما، فتعزز التفاصل، وتولد الكراهية والعنف المادي والرمزي. فلا يكون عنف إلا حينما تنعدم إمكانية الحوار. وعلينا أن نختار: إما إقامة المتاريس وإما بناء الجسور، ولا بأس بالقنوات.
وإذ تنطلق هذه المقاربة من مصادرة، قوامها وجود الحوار والنقاش في حياة البشر، بالقوة وبالفعل، بأشكال مختلفة، كالتخاطب والجدال والحجاج والسجال والتلاسن والتراسل والتشاور والتفاوض وغيرها، انطلاقاً من كون البشر كائنات تواصلية وتبادلية، عاقلة وأخلاقية، ومن كون الجماعات والمجتمعات تواصلية / تفاصلية بالضرورة، إنما تهتم ببلورة مفهوم الحوار الخلًّاق وأساليبه وشروط إمكانه والمبادئ والقيم التي تؤسسه، وتعيِّن أخلاقياته، التي هي المحور الرئيس للبحث، وفقاً لجدلية الوحدة والاستقلال، التي هي وجه من وجوه جدل (ديالكتيك) الضرورة والحرية ، أو جدل الحرية والقانون، كما تعين نصاب الحقيقة وآليات إنتاجها.
ولذلك تفرّق هذه المقاربة بين الأخلاق المثالية، أو ميتافيزيقا الأخلاق، والنظريات الأخلاقية، كأخلاق الواجب عند كنت، أو أخلاق المنفعة عند بنتام، وبين الإيتيقا، أو الأخلاق المحايثة للعلاقات البينية كافة، على اعتبار الأولى منظومة قيم إنسانية عليا ومبادئ عامة، وأوامر قطعية، غير مشروطة، يفترض أنها تحكم الفكر والسلوك، كقيم الخير والحق والجمال، والحكمة والفضيلة .. وقيم المواطنة والعدالة أو المعاملة بالمثل، بطابعها المثالي أو الميتافيزيقي، واعتبار الثانية، أي الإيتيقا، جملة المبادئ والقيم الأخلاقية والجمالية أو الذوقية، المحايثة لسلوك الأفراد اليومي وعلاقاتهم المتبادلة، في واقع معيش وشروط معطاة، وهي مبادئ وقيم متغيرة ومتجددة، وفقاً لتطور الحياة الاجتماعية والإنسانية، وتختلف من مجتمع إلى آخر، وفقاً لاختلاف الثقافات، وتشمل آداب السلوك وأخلاقيات المهنة وتفضيلات الأفراد والجماعات وانحيازاتهم، ومناقبهم وقيمهم الدينية .. إلخ. ويفترض أن تنسجم مع المثل الإنسانية العليا.
ولعل أهم ما في الأمر أن الحوار، في مغزاه الأعمق، لا يكون إلا بين طرفين مختلفين، أو أطراف مختلفة، فهو بذلك يتأسس على واقعية الاختلاف ومعقولية العالم، وينطلق منهما. لذلك تفترض الورقة أن الاختلاف هو شكل تعيُّن الحرية، بوجه عام، والحرية المدنية بوجه خاص، وشكل ممارستها في المجتمع والدولة. فإن إمكانية الحوار والمناقشة والنقد هي إمكانية الحرية المدنية المقترنة بالمسؤولية واحترام القانون. وشروط تحقق الحوار هي شروط تحقق الحرية، وشروط تداولها، وإلا فإن الحرية تظل مقولة فلسفية وقيمة عليا وجوهراً ميتافيزيقياً، لا تندرج في الممارسة العملية.
تفرق الورقة، من ثم، بين الحوار العقيم[1]، الذي قد يقوم بين محمولات الأفراد والجماعات المطموسة ذاتيتُهم وذاتيتُها، والمهدورة إنسانيتُهم وإنسانيتُها، والذين تشكَّلت أجسادهم أو أشخاصهم الاجتماعية وانضبطت وفقاً لهذه المحمولات، فغدت مجرد أوعية لها، وأدوات لحفظها والدفاع عنها، بحيث تغدو الحياة البيولوجية لهذه الأجساد والأشخاص غطاء لمحمولاتها الميتة أو كفناً لها، وبين الحوار المنتج الذي يقوم بين ذوات حرة ومستقلة، تدرك نسبية محمولاتها (أفكارها وقيمها وتصوراتها ومعتقداتها..) وتاريخيتها وقابليتها للنقد والتجاوز. وترى الورقة أن هذا التفريق الضروري يفرضه طابع العلاقات الاجتماعية والإنسانية السائدة في المجتمع المعني، والعلاقات الممكنة، والقيم التي تؤسسها.
فالعلاقات الشاقولية، التي تنتج سلطات شخصية، لا تقبل المراجعة والنقد والمساءلة، وأخلاق الأمر والطاعة، لا تسمح إلا بنوع من “حوار الطرشان”، أو بنوع من “التفاوض”، الذي تحكمه علاقات القوة ونسبة القوى المتغيرة باستمرار، والتي يؤدي تغيرها، في كل مرة، إلى اضطراب الجسم الاجتماعي وتخلخله. وذلك، بقدر ما يكون الأفراد ظلالاً للوجود الإنساني أو وجوداً منسياً، وكمّاً مهملاً، يغدو معه “عدد السكان” معطى إحصائياً، وقوى معبأة واحتياطية لسلطات غاشمة، أو مجرد أدوت لهذه السلطة أو تلك. التفاوض شيء والحوار شيء آخر.
النقيض التاريخي للعلاقات الشاقولية والسلطات الشخصية هي العلاقات الأفقية والشبكية التي تقوم على الندية والتكافؤ بين ذوات حرة ومستقله، وعلى الاعتراف المتبادل بالكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية والجدارة والاستحقاق، والتي تسمح بالتناصت والتعارف والتفاهم، وبأشكال من التوافق والتعاهد والتواثق، والتعاقد، والتي تنتج منها سلطة عامة، غير شخصية، هي سلطة القانون. فلا بديل من “التفاوض”، وفقاً لنسبة القوى، و”المصالحة” بالإكراه والإرغام، (الجوع أو الركوع)[2]، مما قد تؤول إليه الأوضاع السورية، سوى الحوار بصفته نشاطاً تواصلياً خلاقاً، محفزاً لإنتاج حقائق جديدة وقيم مشتركة، ورأس مال اجتماعي وثقافي ورمزي ومادي، مشترك، يفضي إلى الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية.
ستحاول الورقة، قدر المستطاع، أن تعيِّن مبادئ الحوار والقيم التي يفترض أن تحكمه، فتناقش إيتيقا الحوار وشروط إمكانه والغاية التي يرمي إليها، هنا – الآن، على اعتبار الإيتيقا أخلاقاً محايثة للفعل والتواصل الإنسانيين، وبطانةً للقول والعمل وأحكام العقل والضمير. وتخلص إلى بعض النتائج والاقتراحات، التي من شأنها أن تفتح إمكانات التواصل والحوار المنتج بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية والقوى السياسية، حول مختلف المسائل، فتسهم في تعزيز العلاقات الأفقية والشبكية وقيم المواطنة والعدالة والثقة والتعاون وإقامة شبكات العمل التواصلي وشبكات الأمان والحماية الاجتماعية والقانونية. فالحوار الخلاق لا يكون إلا حول مسائل يمكن حلها، وخلاقات تمكن تسويتها، واختلافات وتفاوتات يمكن رفعها كلياً أو جزئياً، ومشكلات وإشكاليات، يمكن تداولها والتوصل إلى رؤى مشتركة في شأنها.
أهمية البحث
تتأتى أهمية البحث في تداول الحرية ومبادئ الحوار وأخلاقياته، من أهمية الحوار نفسه، بصفته حاجة إنسانية، اجتماعية وسياسية وأخلاقية، وضرورة مدنية، وأهمية المآلات التي يمكن أن يفضي إليها، وفي مقدَّمها الاندماج الاجتماعي والتشارك الحر في الشؤون العامة وفي حياة الدولة، وإنتاج رأس مال اجتماعي مشترك، قوامه المساواة والحرية، وتكافؤ المعاني والقيم.
وهو ميدان بكر، أو يكاد أن يكون بكراً، قلما اقتحمه الباحثون العرب، إلا ترجمة ومحاكاة، لأن ثقافتنا السائدة اليوم لا تعرف من الحوار سوى “الوعد والوعيد”، (كذا وإلا..)، والدعوة والتبشير، اللذين يهدفان إلى الإقناع و”الهداية” أو إلى التعبئة والتجييش، وذلك لأننا لا نزال، في سوريا وبلدان كثيرة غيرها، “هويات بلا ذوات“، ( فتحي المسكيني، 2011)[3] هويات عرقية وإثنية وقومية، دينية ومذهبية .. يتوهم الأفراد والجماعات أنها قوام وجودهم وعماده، في الوقت الذي تمحق فيه الهويات ذواتِهم وتهدر إنسانيَّتَهم، (مصطفى حجازي، 2005)[4].
وعلى الرغم من الكارثة الإنسانية، التي تعيشها سوريا وبلدان كثيرة غيرها، فإن أهمية الحوار تتعدى الأوضاع القائمة إلى المجتمع التواصلي الممكن والدولة الوطنية الديمقراطية الممكنة والعدالة الاجتماعية الممكنة، وعالم متصالح مع نفسه ومع الطبيعة، بيت الإنسان وبيئته ومصدر حياته.
الإشكالية وأسئلتها
منذ مطلع هذه الألفية الثالثة، علا في سوريا ضجيج حول ضرورة الحوار و”الاعتراف بالرأي الآخر”، كان ميدانه منتديات ثقافية وسياسية ودعوية ومنظمات حقوقية، شكلت ما سمي “ربيع دمشق” (2001 – 2003، حتى 2005). وبدا للوهلة الأولى أن القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية، التي كانت متخارجة ومتفاصلة، كالزيت والماء، سواء في إطار “المنظمات الشعبية” والجبهة الوطنية التقدمية، الموالية للسلطة، أو في إطار التجمع الوطني الديمقراطي المعارض وبعض المستقلين، مقبلةٌ على حوار مفتوح، تشارك فيه جميع القوى، يضع البلاد على سكة الإصلاح. لكن ذلك الضجيج لم يتمخص إلا عن مزيد من التخارج والتنابذ والتفكك، على نحو ما كشفت الأزمة، التي انفجرت ربيع العام 2011، سوى استثناءات ضئيلة كان تأثيرها هامشياً ولا يزال كذلك.
ومن ثم، إن الإشكالية، هنا – الآن، هي إشكالية الانتقال من الضجيج إلى الكلام والفعل، على اعتبار الكلام إنتاجاً للمعنى، واعتبار الفعل إنتاجاً للقيمة. والانتقال من الحنين (نوستالجيا) إلى الشوق أو التوق أو التطلع، أي من السلفية والماضوية إلى الانشغال بالحاضر والاشتغال فيه، والتطلع إلى المستقبل، ومن الرؤية المرآتية للذات النرجسية، إلى رؤية الذات في الأخرى المختلفة والآخر المختلف، أي في تجلي ماهيتها الإنسانية. وبقول موجز الإشكالية هي إشكالية الانتقال من التفاصل إلى التواصل، ومن التفكك إلى الاندماج، ومن الولاء والبراء إلى المواطنة والانتماء الجذري إلى النوع الإنساني، والحوار، بلغته وأخلاقياته، هو النشاط التواصلي بامتياز.
فقد عجزت جميع القوى الاجتماعية والسياسية، حتى اليوم، عن التوافق على رؤية وطنية مشتركة، والتشارك في تحديد ملامح المستقبل وتدبير المصير، لإخراج البلاد من الهاوية التي انزلقت إليها، وتردت إلى قاعها، ولا تزال تتخبط فيها. فما العوامل التي حالت، ولا تزال تحول، دون حوار العقل مع نفسه نقدياً ومع الآخر المختلف عملياً؟ وهل من حوار ممكن من دون الاعتراف بواقعية الاختلاف ومعقولية العالم؟ وما الذي يعنيه الاختلاف في الطبيعة وفي عالم الإنسان؟ وإلامَ تؤدي محاولة السيطرة عليه، ومعاندة الطبيعة بوجه عام والطبيعة الإنسانية بوجه خاص، وما أثر مثل هذه المحاولة المهلكة في تحوير مفهوم المساواة؟ بقول آخر: هل المساواة تعني القضاء على الاختلاف، أي على الحرية؟
أمّا على الصعيد العملي، فإن السؤال الرئيس هو: كيف يكون الاندماج الاجتماعي ممكناً؟ أو كيف يمكن التوصل إلى “عقلانية تواصلية”، تقوم على علاقات تذاوتية، أو علاقات بينذاتية سليمة، بتعبير هابرماس، فتسعى إلى ضبط علاقة الفرد بالأخريات والآخرين، وبناء العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، داخل المجتمع الكلي، على أخلاقيات النقاش والحوار، باعتبار الحوار مدخلاً لكل تعاقد؟
مقدمة
كشفت الأزمة، التي تعيشها سوريا، وغيرها من البلدان، منذ عام 2011، عن حقيقة أن التعصب والتطرف والتحاجز والتفاصل وهدر الإنسانية وما ينجر عنها من هدر الطاقات والموارد والإمكانات وهدر المؤسسات وهدر الوطن والمواطنة من السمات البارزة للحياة الاجتماعية والسياسية. كما كشفت عن انحطاط أخلاقي مريع ومظاهر نكوص إلى التوحش والهمجية، كالقتل على الهوية، والمجازر الجماعية، والتمثيل بجثث القتلى والرقص على أشلائها، وتدمير المدن والحواضر والأوابد التاريخية والبنى التحتية والمؤسسات، علاوة على الخطف والاغتصاب والاعتقال وتعذيب المعتلقين حتى الموت، ومحاصرة المدنيين، وسياسة “الجوع أو الركوع، .. مما يكشف عن الروابط السببية العميقة بين التعصب والتطرف والإرهاب من جهة وبين الانحطاط الأخلاقي وكلبية السلطة الشخصية، على اختلاف مستوياتها، من الجهة المقابلة. ويسمح بافتراض أن الانحطاط الأخلاقي وكلبية السلطة الشخصية، اللذين يغذي كل منها الآخر، عاملان أساسيان من عوامل إنتاج العنف المادي والرمزي وتحوله إلى إرهاب. والتعصب، كما سيأتي تعريفه، (ومنه العصبية)، هو ما يحول دون الإمكانية الجذرية للحوار، وهو الحد الفارق بين النشاط الاجتماعي التفاصلي وبين النشاط الاجتماعي التواصلي.
لقد أقمنا تقابلاً، على التضاد، بين الضجيج، ضجيج السرديات والادعاءات والشعارات و”الأهداف النبيلة”، وعبث اللامعنى، وبين الحوار؛ هذا التقابل هو، في واقع الأمر، تقابل بين التعصب، بوصفه أساس التفاصل الاجتماعي – السياسي والإنساني، وبين الحوار، بوصفه فعلاً تواصلياً أو نشاطاً تواصلياً، اجتماعياً وإنسانياً، أي إنه تقابل بين قول بلا فعل، أو “قول على قول” هو مجرد ضجيج، تتحول معه اللغة إلى فخفخة لفظية وبلاغة جوفاء، يتخللها فحيح ذكوري وعنتريات أيديولوجية، وبين فعل تواصلي خلاق أو منتج للمعنى والقيمة، لا تنفصل لغته وأساليبه عن أخلاقياته الإنسانية.
ولما كان الحوار تداولاً للحرية، كما سيأتي بيانه، فإنه، في الوقت نفسه، تداول للمعرفة، وتشارك في إنتاج المعنى والقيمة، وسعي مشترك إلى إنتاج حقيقة تواصلية، تقيم الحد على الوثوقية واليقينية المطلقتين، المطمئنتين إلى أن المعرفة (من الفعل عرف) تساوي الحقيقة، وإلى أن الرأي المدعَّم بهاتين الوثوقية واليقينية (الدوغماتية) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فالرأي المستند إلى مقولات دينية ونصوص تأسيسية وفتاوى شرعية، مثل الرأي المستند إلى مقولات “علمية”، يُرفعان كلاهما إلى مصاف الحقيقة الكلية الناجزة والمطلقة والنهائية، والخطاب الذي يتأسس عليهما صالح لكل زمان ومكان. فثمة وثوقية يقينية “عِلمانية” (بكسر العين) وعلموية، وأخرى دينية / مذهبية، تتعاوران الخطاب الثقافي والسياسي، وتنتج كل منهما أيديولوجية مغلقة صماء مكتفية بذاتها، وما أكثر ما تتبادلان المواقع. فإن من شأن الوثوقية واليقينية المطلقتين أن تحوّلا التوق أو التطلع إلى توهم، وأن تحوّلا الأخير إلى تعصب، إذ التوهم والتعصب صنوان، وركنان من أركان الاستبداد.
الوثوقية (القبول المطلق / الرفض المطلق) واليقينية تثويان في أساس التعصب والتطرف، وتعيدان إنتاجهما، في جميع تفاصيل الحياة. لذلك نفترض أن ثمة ارتباطاً وثيقاً وعلاقة لا تنفصم بين وثوقية الخطاب ويقينيته من جهة وبين حصرية المصالح من الجهة المقابلة؛ فما يسميه الفرد أو الحزب أو الحُكم رأيه هو في الحقيقة القناع الأيديولوجي لمصلحته المباشرة، وهي مصلحة مشروعة على كل حال، ما لم تكن حصرية، تنفي ما يقابلها ويعارضها، ولا ترى فيه سوى عقبة تجب إزالتها، وشر يجب استئصاله. ومن ثم، فإن الرأي ملازم للمصلحة الشخصية والخاصة لا ينفك عنهما، مادام التعارض الذي يخترق المجتمع ويلازمه في جميع أطوار نموه هو التعارض بين الفرد الذي يسعى من أجل تلبية مصالحه وإشباع حاجاته المتطورة باستمرار وبين المواطن الذي يتطلع إلى الحرية والانعتاق والعدالة والمساواة، بين ما هو فردي تضرب جذوره عميقاً في حياة الفرد الطبيعية وما هو نزوع إلى الكلية الاجتماعية والإنسانية في الفرد ذاته أو ذاتها، فليس هناك شيء في المجتمع والدولة ليس موجوداً في الفرد بالقوة أو بالفعل. هذه التعارضات هي تعارضات بين الروح الذاتية منظوراً إليها في فرديتها وجوانيتها والروح الموضوعية وقد خرجت من جوانيتها وغدت علاقات وبنى ومؤسسات اجتماعية وسياسية وتمثيلات ثقافية وأخلاقية، بين الوجود الطبيعي للفرد والوجود الأخلاقي، الرمزي والمجرد للمواطِنة والمواطِن.
المواطن والمواطنة، استطراداً، هو وهي الفرد الطبيعي، فلان أو فلانة، وقد تجرَّد من جميع خصائصه الفردية، سوى ما يُثبَت في بطاقته الشخصية أو جواز سفره، فتحوَّل إلى شخص سياسي، قانوني وأخلاقي، بالتلازم الضروري بين القانون والأخلاق (سياسي = قانوني – أخلاقي). المواطن أو المواطنة شخص معنوي، من طبيعة الدولة، بصفتها شخصاً معنوياً، سياسياً، قانونياً وأخلاقياً، في مجتمع الدول. فالحياة السياسية هي الحياة القانونية والأخلاقية، ليس غير، وهي بذلك شكل من أشكال الحياة الإنسانية أو النوعية. على هذا المعنى الأعمق للسياسة ينبغي أن تتأسس كل سلطة. هنا بالضبط تتجلى ضرورة الحوار وأهميته، وإيتيقا الحوار والاكتمال بالأخرى المختلفة والآخر المختلف، على اعتبار كل فرد إنساني هو أنا وآخر و / أو أنا وأخرى، في الوقت نفسه. بل يحسن بنا القول إن كل فرد هو (أنا) و(أنا) ثانية[5] مقابلة، كل منهما تؤسس الأخرى أو يؤسس الآخر.
على هذا اللحن المتموج تنبني سمفونية التذوات. السياسة ليست مجرد غايات وأهداف ووسائل وأساليب لتحقيق هذه الغاية أو تلك، بل هي حياة قانونية أخلاقية، وإلا فهي “كلبية” صريحة أو ضمنية، كما هي الحال عندنا. وعليه، فإن غاية الحوار هي التواصل والتوصل إلى حياة سياسية، قانونية – أخلاقية تليق بالإنسان. ولا تتحقق هذه الغاية إلا بإدراك المنخرطات والمنخرطين في الحوار أو المناقشة العمومية سموَّ الرابطة الاجتماعية، وسموَّ الرابطة الإنسانية، وسموَّ القانون على سائر الروابط الأخرى. في هذه الحال فقط، تمارس الرابطة الاجتماعية – الإنسانية تأثيرها في المتحاورين الذين يحوز كل منهم سلطة معرفية، بصيغة المتكلم، أو “حرية تواصلية” [6] يمكن أن تتجه نحو البحث عن توافق عقلاني يترجم إلى اتفاق.
يتعلق الأمر هنا بـ “الفعل التواصلي”، الذي يرسي معقولية سلوكية مفادها أن شخصاً معيناً، مهما يكن محيطه الاجتماعي ولغته وشكل حياته الثقافية، ليس بمقدوره عدم الانخراط في ممارسة تواصلية ما، وليس بمقدوره، من ثم، ألا يبدي اهتماماً ببعض الافتراضات التداولية ذات المنحى العام (كارتفاع الأسعار على الأقل)، … هذه الافتراضات هي، التي يجد الأفراد أنفسهم منخرطين فيها، من دون أن يدركوا أنهم يشاركون في ممارسات ثقافية حقيقية (هابرماس، 2010، ص 30). الأفعال التواصلية المشار إليها، هنا، تشكل مجموعات رأي ومجموعات عمل، تتمحور كل منها على قضية معينة أو أكثر، كقضية ارتفاع الأسعار، أو قضية حقوق الإنسان، على سبيل المثال، هذه المجموعات هي نفسها أطر اجتماعية للحوار الداخلي بين أفرادها، وقوى فعالة في حوار عام تتولى نقلَه وتعميمَه وسائلُ الإعلام ومواقعُ التواصل الاجتماعي. هذه المجموعات، التي تتشكل تلقائياً وعفوياً تتقاطع مع النقابات والمنظمات الاجتماعية والأحزاب السياسية، بصفتها أطرافاً فاعلة في الحوار والنقاش العام.
ولما كان الحوار المجدي والمثمر يقتضي زحزحة الذات عن مركزها ومركزيتها، فإن هذا لا يتم إلا بشرطين: أولهما قدرة الفرد على أن يضع نفسه في موقع الآخر المختلف والأخرى المختلفة، لتفهم وجهة نظره/ـا، والوقوف على حاجاته/ـا وتوقعاته/ـا. والثاني إدراج رؤية الآخر المختلف والأخرى المختلفة في الافتراضات التداولية للمناقشة، على أساس المقبولية العقلية ومعاييرها الاجتماعية، لا على أنها الحقيقة. ومن ثم فإن الهدف الأبعد للحوار هو التأليف بين المساواة والحرية، وبين الوحدة والتعدد، بين التشابه والاختلاف، في تركيب يشبه التركيب الكيمياوي، وذلك بنزع طابع الإطلاقية عن كل حد من هذه الحدود. فإن صلاحية المعايير الاجتماعية، أي المعترف بها بين الذوات، لا تتأسس إلا انطلاقاً من تذاوت وتفاهم بين أفراد الجماعة المعنية والمجتمع المعني. فالقناعات المتفق عليها بطريقة تذاوتية تشكل التزاماً متبادلاً بين المشاركين والمشاركات في التفاعل. واعتباراً لهذه القاعدة فإن “القناعات المونولوجية، أي ما يعتبره كل واحد في داخله صحيحاً أو خاطئاً لا يمكن أن تؤثر إلا في المواقف الفردية”[7].
الإشارة إلى القناعة المونولوجية مناسبة سانحة لتأكيد حقيقة التلازم بين الحوار مع آخر / أخرى، أو بين مختلفات ومختلفين (ديالوغ) وبين الحوار مع الذات الفردية (مونولوغ). نحن نفترص، خلافاً لأفاية، أن القناعات المونولوجية، تتحاور، على نحو غير مرئي وغير مسموع، ولعلها تبطن لغة الحوار الجهير (ديالوغ)؛ لأن نتائج الحوار تتوقف على زحزحة القناعات المونولوجية المسبقة، لدى جميع المشاركين والمشاركات في الحوار.
فالحوار لا يهدف إلى إلغاء ذاتية الأفراد المنخرطين أو المنخرطات فيه، ولا يصادر خياراتهم وتفضيلاتهم الشخصية، ولا يحجر على حرياتهم الشخصية، بل يهدف إلى التوافق على “الحل الأمثل” (الذي يراوح بين الحد الأدنى والحد الأقصى)، في الشروط المعطاة، لمسائل معينة، تهمهم جميعاً. أي إنه يُظهر، أو يظهِّر، البعد النوعي، الاجتماعي – الإنساني، الملازم للبعد الشخصي لهؤلاء الأفراد، وذلك هو قوام الاجتماع المدني، والحياة الاجتماعية – السياسية، بما هي “الحياة النوعية للإنسان”، بتعبير كارل ماركس، أو الحياة الأخلاقية، ولا فرق.
الحوار نشاط تواصلي على خلفية العالم المعيش هنا – الآن، أياً ما يكون موضوعه؛ فالمشاركون في التواصل، أو المنخرطون في الحوار أو النقاش العام، من أجل التفاهم على وضعية ما، يرتبط كل منهم بتراث ثقافي يستمد منه بعض العناصر، ويعمل على تجديدها. لذلك فإن النشاط التواصلي، من الزاوية الوظيفية للتفاهم، يعمل على تداول المعرفة الثقافية وتجديدها؛ ومن زاوية تنسيق الفعل يقوم بوظائف الاندماج الاجتماعي وخلق التضامن؛ ومن زاوية التنشئة، يسهم في تشكيل الهويات الفردية (وإعادة تشكيلها باطِّراد). أي إن النشاط التواصلي يعيد إنتاج البنيات الرمزية للعالم المعيش، من خلال الاحتفاظ بما هو صالح منها وتجديده، ويعمل من جهة أخرى على استقرار أشكال التضامن بين أعضاء الجماعة، ويسهم من جهة ثالثة في تكوين فاعلين مسؤولين (أفايه، ص 189)، وفاعلات مسؤولات بالطبع. وهذا يقتضي الاعتراف المتبادل بتكافؤ المرجعيات الرمزية للأفراد المختلفين والجماعات المختلفة؛ فلا تكون أي منها مرجعية معيارية وحيدة، ولو كانت مرجعية الأكثرية العددية. وهذا ما نسميه تكافؤ المعاني والقيم، ونعدُّه شرطاً لا زما للحوار الخلاق وشرطاً لازماً للعقد الاجتماعي والمواطنة المتساوية.
“وهكذا، إن الحقل الدلالي للمضامين الثقافية، والمجال الاجتماعي، والزمن التاريخي، تشكل معاً الأبعاد التي تتطور فيها الأنشطة التواصلية. فالتفاعلات التي تنسج شبكة الممارسة التواصلية اليومية، بين الأفراد والجماعات والمنظمات والمؤسسات، تكوِّن الوسط الذي تجري فيه عملية إعادة إنتاج الثقافة وإعادة إنتاج المجتمع وإعادة إنتاج الشخص” (أفاية، ص 190، بتصرف). والشخص هنا هو الفرد القادرة أو القادر على الكلام والفعل، على اعتبار الكلام إنتاجاً للمعنى، والفعل إنتاجاً للقيمة، كما تقدم، فلا معنى قبل الكلام ومن دونه، ولا قيمة قبل الفعل ومن دونه. هذا يعني أن إمكان الفعل التواصلي مشروط بحرية الفرد واستقلاله الكياني.
المعاني والقيم الموروثة أنتجها أشخاص غيرنا، في زمن آخر وشروط أخرى، تبنيها الأعمى وتكرارها لا يجعلان منا أشخاصاً أحراراً وحرائر، ولا يرقيان بالتذكر إلى معرفة. المعرفة ليست تذكراً، كما افترض أفلاطون، بل ترجمة بيوسوسيولوجية، وبسيكوسوسيولوجية للذات وترميز للعالم وأشكال الوجود.
يذهب فتحي المسكيني إلى أن “الحوار بين الهويات غير ممكن”، لأن الأفق الوحيد للحوار هو الحوار بين ذوات حرة. ويرى أن الفرق بين حوار الهويات وحوار الذوات لا يتضح إلا بقدر ما يتضح الفاصل بين الهويات والذوات، وفيما يخصنا: بين تدبيرنا المحموم لهموم الهوية وبين عجزنا حتى الآن عن تطوير تجربة ذاتية ومدنية خاصة بأفقنا الروحي”. ويضيف: “نحن نعاني من فائض هوية لم يجد بعد الأفق الملائم لتجربة الذات التي تؤسسه. ويبدو أن العائق الأكبر أمام التحول من نموذج الهوية إلى نموذج الذات هو غياب الإمكانية الجذرية للحوار” [8].
لعل الهوية لا تنفصل عن سيرورة تشكل الذات، فردية كانت الذات أم جمعية؛ فهي، أي الهوية، تتشكل أيضاً، في كل لحظة من لحظات سيرورة تشكل الذات ونموها المادي والروحي، على قاعدة مشاركتها في النوع. ومن ثم، الهوية ليست معطى ثابتاً ونهائياً، بل هي معطى ديناميكي، على اعتبارها من محمولات الذات، لا أكثر ولا أقل؛ والذات الإنسانية بنية ديناميكية حية؛ بل هي نظيمة إيكولوجية، ذاتية التشكل وذاتية النمو وذاتية الانتظام وذاتية الاشتغال وذاتية الترميم والتعديل. وحين يحول حائل، أيُّ حائل، دون مشاركة الفرد أو الجماعة في النوع، الذي يتجلى في آخرين مختلفين وأخريات مختلفات، يتعطل التواصل، وينتفي إمكان التذاوت، فتنتفي إمكانية الحوار. بهذا المعنى، فقط، يمكن أن نفهم امتناع الحوار بين الهويات المغلقة والثابتة. الهويات المغلقة والثابتة هويات ميِّتة ومميته، ولا تواصل ولا حوار ولا تذاوت بين الأموات، أو بين مجرد متعضيات. لذلك نعتقد أن ما يسمى “حوار الإديان” هو “حوار” عقيم، من نوع حوار الطرشان، لأن الأديان والمذاهب والأرثوذكسيات كافة والإثنيات كافة تحول دون المشاركة في النوع. الإنسانية، أو المشاركة في النوع، هي جوهر الهوية الحية، الديناميكية، وقوامها وعمادها ونصابها، وأفقها أيضاً، وهي، هي فقط، التي تحمل إمكان التواصل والحوار والتذوات.
الفرق بين الهوية والذات، الذي افترضه المسكيني، ليس حدِّياً، كما يتصوره المسكيني، وفي ذهنه صورة نمطية عن الهوية، أو عما سماه أمين معلوف الهويات القاتلة. ولا نحبذ قوله: “إن حوار الهويات غير ممكن”، لما فيه من إطلاق ونفي للممكن. لذلك نقترح صيغة مختلفة وفرضية مختلفة قوامها: إن الحوار بين محمولات بلا ذوات غير مجدٍ. المجدي هو الحوار بين ذوات حرة ومستقلة، تعي نسبية محمولاتها وتاريخيتها وقابليتها للنقد والدحض أيضاً. تتسق فرضيتنا مع قسمة العلاقات الاجتماعية قسمين علاقات شاقولية بين محمولات بلا ذوات، أو هويات بلا ذوات، هي عصبيات مغلقة ومتطرفة، لا تستمر إلا بقدر ما تلغي شخصيات أفرادها وتصادر حرياتهم، وتهدر إنساينتهم، حسب مصطفى حجازي. وعلاقات أفقية وندية بين ذوات حرة ومستقلة، وهذه ليست ممكنة فحسب، بل قائمة، هنا – الآن، وإن تكن لا تزال جنينية وهامشية. ولا نميل إلى افتراض أي نموذج نقي كلياً، سواء للعلاقات الشاقولية أم للعلاقات الأفقية والشبكية، لأن الواقع المعيش يعرض لنا صوراً متداخلة ومعقدة بين هذه وتلك.
وإلى ذلك، نتفق مع قول المسكيني: “ليس الحوار فسحة أخلاقية معطاة، بل معركة روحية ووجودية ومدنية، (غير مضمونة النتائج). لأن الإنسان لا يمكن أن يتحرر على مستوى مدني من دون أن يتحرر على مستوى وجودي”، مع تحفظنا على صيغة “لا يمكن”. لأننا نذهب، في هذه المسألة مذهب كارل ماركس، في اعتبار “الانعتاق السياسي” أي التحرر المدني، مقدمة لازمة لــ “الانعتاق الإنساني”، أي للتحرر الوجودي. وأضفنا عبارة “غير مضمونة النتائج”، لأن سيرورة التحرر المدني قابلة للانعكاس، والانتكاس، كما تبين التجربة السورية وتجارب أخرى كثيرة.
ويرى طه عبد الرحمن أن “الحوار مجال لممارسة القوة الاستدلالية للإنسان، فعن طريقه تستطيع أن تظهر قوتك العقلية وقدرتك الاستدلالية” [9] (عبد الرحمن ص 28). ولما كان الفرد الإنساني أنا وآخر في الوقت نفسه، ولا قوام لفرديته خارج نطاق الجماعة والمجتمع، فإن الحوار الذي يدخل فيه مع الآخرين، والذي يعطيه فرصة لتقوية القدرة على الاستدلال، هو في جوهره ممارسة لمعرفة الذات نفسها؛ “فحواري مع الآخرين هو حوار لمعرفة الذات“. ولا تكون معرفة الذات ممكنة إلا بمعرفة الآخر المختلف الذي يؤسسها والأخرى المختلفة، التي تؤسسها، بصفته وصفتها تجلي ماهيتها الإنسانية. ويرى، إلى ذلك، أن “الحوار واجب إنساني، ينبغي أن يعم جميع الفئات، أيا كانت، وجميع الموضوعات، كيفما كانت، على شرط التزام قواعده. لأن في تحقيق الحوار وتوسيعه مع جميع الأطراف وفي جميع المجالات زيادة في معرفة الذات، فضلاً عن معرفة الآخر، وزيادة في تحقيق إنسانية الإنسان” (عبد الرحمن، ص 29 -30). فإذ ننحني احتراماً لفكرة عبد الرحمن، نستدرك أن ممارسة القوة الاستدلالية ليست غاية في ذاتها، وإلا تحول الحوار إلى سجال. والسجال في اعتقادنا نقيض الحوار، الذي ينتج حقيقة / حقائق مشتركة بين المتحاورين (بالتثنية والجمع)، وأنه، أي السجال، عقبة تحول دون التواصل والتذاوت. وقد بينا، في غير مكان، العلاقة الوثيقة بين السجال وبين الوعي الأيديولوجي. (السجال نوع من حرب باردة، والحرب سجال)
ولعل مما يوجب الحوار اجتماعياً وإنسانياً تعدد الحقيقة في ذاتها، وتعددها في أحكام الناس فيها، على اعتبار الحقيقة هي الظاهرة المُدرَكة والحادثة المعيَّنة، في الواقع المعيش، لذلك تجدنا إزاء جملة من الحقائق أو جملة من أشكال الحقيقة الواقعية، وجملة من تأويلاتها وأحكام الناس فيها. وليس بوسع الفرد وحده، مهما أوتي من قدرة عقلية وعملية، أن يحيط بجميع وجوه الواقعة، ويدرك جميع أبعادها، ويقف على جميع أسبابها، ويتبين جميع علاقاتها بغيرها، ويقدِّر جميع آثارها .. ولنا في تعدد الوقائع (الحقائق) السورية واختلاف أحكام السوريات والسوريين فيها دليل يصعب دحضه. ومن ثم فإن إحدى غايات الحوار هي التوصل إلى “حقيقة تواصلية” وإدراك نسبيتها وشروط انبثاقها وتشكلها وعوامل تغيرها، وما تنطوي عليه من ممكنات، تتأسس عليها البدائل الممكنة والمرغوب فيها.
فلا يكون حوار إلا حيثما وحينما وبقدر ما يكون اختلاف، لا في الآراء والأحكام والمواقف فقط، بل في طرائق التفكير وكيفيات الإدراك والتمثل والتقدير والعمل، أي في ما يؤسس الآراء والأحكام والمواقف ويعيِّن أنماط السلوك. “ليس هنالك طريق ملكية إلى الحقيقة“، بل ثمة طرق مختلفة اختلافَ الأفراد واختلاف شروط حياتهم، إذ لا ينفصل التفكير عن مبادئه المعرفية وشروطه النفسية والاجتماعية والإنسانية. وما دامت هذه الطرائق والكيفيات مجذَّرة في الأفراد الأصحاء جميعاً، إناثاً وذكوراً، فالحوار ماثل فيها بالقوة، ويمكن أن يتحقق بالفعل. “للحقيقة مدخل مزدوج: يتصل بالمعطيات الواقعية، أي غير الوهمية وغير المدركة إدراكاً سيئاً، أو غير المتلقاة بصورة مغلوطة، ويتصل الثاني بالنظرية، أو المعتقد، بصفتها أو صفته بناء ذهنياً، لا انعكاساً للأشياء [10].
هنا، تغدو المسألةُ مسألةَ شروط إمكان الحوار، لا مجرد إمكانه. الحوار ممكن دوماً، بحكم الطبيعة التواصلية والتبادلية للكائن الإنساني، ولكن شروط تحققه لا تكون متاحة دوماً، ولا سيما في أوقات النزاعات والحروب، مع أن الحاجة إلى الحوار تصبح أشد وأكثر راهنية. لكن الميل الطبيعي إلى التغلُّب يكفُّ الحاجة إلى الحوار أو يعلِّقها. ولا يمكن استبعاد هذا الميل من الحوار ذاته، فما أكثر ما يتحول الحوار إلى مساجلة ومبارزة كلامية وجدال عقيم، خاصة حينما تتماهى الذات ومحمولاتها، فيغدو الدفاع عن الرأي أو العقيدة دفاعاً وهمياً عن الذات، لأن الذات نفسها تكون أسيرة أوهامها عن نفسها وعن العالم. لذلك يعد “انقطاع التنافس بين الأفكار كارثة عقلية، وحذف التنافس بين الأفكار جريمة سياسية“[11]. الكارثة العقلية والجريمة السياسية، هنا، هما وجهان متلازمان للكارثة الأخلاقية، الماثلة بتمامها في الحالة السورية والحالات المشابهة لها، وفي الحالة الإيرانية والحالات المشابهة لها. فنحن في حاجة إلى آراء من نختلف معهم كلياً، من الهامشيين والمستبعدين، أكثر مما نحن في حاجة إلى أفكار من نتفق معهم أو نختلف معهم إلى هذا الحد أو ذاك.
إن ما هو أساسي في نموذج التفاهم هو الاتجاه الأدائي، الذي يتبناه هؤلاء الذين يشتركون في تعامل، الذين ينسقون مشاريعهم بالاتفاق فيما بينهم على أمر ما موجود في العالم. الأنا (المتكلم) والآخر الذي يتخذ موقفاً إزاء هذا العمل الكلامي (المخاطَب)، يعقدان الواحد مع الآخر علاقة بين شخصين تستجيب هذه العلاقة لبنية تتعرف من خلال النظام الذي تشكله، في تلاقيهما المتبادل منظوراتُ المتحدثين والمستمعين والأشخاص الحاضرين الذين لم يشتركوا بعد في عملية التبادل: يقابل هذا النظام النظام القائم على قواعد ضمير الفاعل. إن أي شخص يستعمل هذا النظام يعرف كيف يتبنى منظورات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب وكيف يحول الواحد منها إلى الأخر في اتجاه أدائي[12]. استعمال الضمائر (المنفصلة والمتصلة) في حالاتها الوجودية الثلاث (المتكلم/ــة والمخاطب/ــة والغائب/ــة) وحالاتها الإعرابية الثلاث (الرفع والنصب والجر) وإحالاتها العددية الثلاث (المفرد والمثنى والجمع) ودلالاتها الجنسية (التذكير والتأنيث) هي التي تقود المناقشة والحوار، ولعبة الحضور والغياب والصواب والخطأ والتذكر والنسيان والتوق والحنين والحقيقة والوهم .. وتعيِّن الحدود بين الذوات ومحمولاتها، بتعاشقها مع الأفعال ومفعولاتها، فيغدو الكلام فعلاً تواصليا أو تفاصلياً. فإن نظام الكلام، أو “نظام الخطاب” هو الذي يكشف الميول التواصلية العميقة أو الميول التفاصلية العميقة، على اختلاف درجات التواصل والتفاصل. هنا يجب تجريد التواصل والتفاصل من أي حمولة قيمية.
حدود المفهوم ودلالاته المعرفية والعملية
الحوار مع الآخر المختلف والأخرى المختلفة ( Dialog) هو تبادل صريح وضمني، مباشر وغير مباشر، للمعاني والقيم، يفضي إلى تداول. التداول يتأسس على تبادل المعاني والقيم بين الأفراد والجماعات، وبين الأمم والشعوب، وبهذا المعنى يكون الحوار تداولاً للمعرفة والحرية، على التلازم. فالحوار بوصفه فعلاً تواصلياً، كما تقدم، هو، في مغزاه الأعمق، فعل تبادل. والتبادل، هنا، هو تبادل مُنتجات ذهنية – نفسية، منتجات فكرية أو أيديولوجية، أو خطابية، مختلفة ومتباينة. التبادل هو الكيمياء، التي تُظهر القيمة، قيمةَ أي مُنتَج، مادياً كان المُنتَج أم روحياً. ومن ثم إن الحوار بصفتيه التواصلية والتبادلية هو الذي يُظهر ما هو حق وعدل في الأفكار المتنافسة والخطابات المتنافسة، والآراء المتنافسة. وهذه، أي الأفكار والخطابات والآراء، ثلاثة حقول مختلفة، تبطنها القيم الخاصة بكل منها. والحوار، بهاتين الصفتين أيضاً، هو المدخل الوحيد للتذوات، أي لعمليات التأسيس والتشكيل المتبادل للذوات. وهو، من ثم، الأداة الأخلاقية لحل الخلافات والنزاعات حلاً عادلاً، والشرط اللازم لجميع أشكال التعاقد، بما في ذلك العقد الاجتماعي المؤسس للدولة.
ولما كانت اللغة هي فضاء التواصل والحوار، فإن الحوار لا ينفك عن الطبيعة التبادلية والتداولية للأفراد والجماعات والمجتمعات، فهو بهذه الصفات تبادل وتداول للحرية المدنية، التي تستمد مدنيتها من العلاقات الاجتماعية والإنسانية والانتظامات والمؤسسات الحرة والمستقلة، وسبيل، لا سبيل غيره، لمعرفة حقيقيَّة الذات بدلالة الآخر المختلف والأخرى المختلفة، في مقابل حقيقتها الوهمية و / أو الميتافيزيقية، وسبيل إلى التعارف والتثاقف والتواثق والتعاقد والتعاون. فهو، لذلك، شقيق الديالكتيك Dialectic، ينتج حقائق جديدة للمتحاورَيْن معاً، والمتحاورين جميعاً، لأن الحقيقة قسمة مشتركة بينهم جميعاً، مثلما العقل أعدل الأشياء قسمةً بينهم جميعاً. فلا أحد يرغب في / أو يعمد إلى أن يكون على خطأ أو على ضلال، باستثناء المعاندين، وذوي الأفكار والتصورات المعنَّدة من الدعاة والمبشرين والمجاهدين، أو “المناضلين”، ذوي “الروح الرسالية” أو الرسولية، الذين يعتقدون أنهم مختارون لتغيير العالم، وأن هذه المهمة الجليلة تقع على عواتقهم وحدهم دون سواهم، وأنهم مفوضون، لذلك، بإخضاع الآخر المختلف واستتباعه أو استعباده، وقتله، إذا لزم الأمر، من أجل “إنقاذ الإنسانية”، أو من أجل “إنقاذ الوطن” والحفاظ على “الوحدة الوطنية” النقية من أي شائبة اختلاف أو شبهة معارضة، أو “لكي يكون الأمر (الحكم) لله وحده” ووزرائه المفوضين. وكذلك المجرمون عن سابق قصد وتصميم ممن تسيِّرهم غرائزهم وأهواؤهم.
ولكن الحوار مع الآخر (ديالوغ) يظل ناقصاً، ولا يحقق النتائج المرجوة منه، ما لم يتعاشق مع المونولوغ (monolog) الداخلي، أو الحوار مع الذات مناجاةً واعترافاً أو نقداً ومساءلة. إذ لا يخلو أن يلجأ المنخرطون في الحوار إلى تعليق قناعاتهم، ريثما يراجعون أنفسهم فيها، ويراجعونها على الحقائق الواقعية، التي عرضت على مسامعهم. ولذلك هو معركة روحية ووجودية ومدنية، ونشاط تواصلي يتغيَّا حياة اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية سليمة، قوامها الحرية والمساواة والعدالة. ولا تقل المكاسب المعرفية والثقافية للحوار عن المكاسب العملية، التي يمكن أن يجنيها المجتمع منه. فهو تداول للمعاني والقيم، يؤدي إلى تجديدها باطِّراد، وإعادة إنتاج للثقافة والمجتمع والشخص.
في إيتيقا الحوار
لقد عاش البشر ردحاً طويلاً من الزمن يدفعون حريتهم ثمناً للبقاء، بمن في ذلك “السادة” والملوك والأباطرة، الذين هم أكثر عبودية من عبيدهم، لأن العبودية هي شرط سيادتهم وبقائهم. ثم راحوا يدفعون حياتهم ثمناً للحرية والانعتاق. ولم يعد يليق بهم اليوم أن يفعلوا هذا ولا أن يفعلوا ذاك، إذا كانت البشرية قد دخلت حقاً في طور التمدن. فالحياة الفعلية باتت تقتضي الحرية اقتضاء الهواء والماء والغذاء، وغدت جدلية السيد والعبد أو جدلية الظلم والقهر أكثر شفافية، بحكم تقدم الوعي ونمو الروح الإنساني، وبات من الواجب والضروري أن يحل الحوار محل النزاع. فالحوار والتوافق وسيلتان من وسائل التمدن ومظهران من مظاهره، يرقيان بالتعارضات الملازمة لوجود الأفراد، في أي مجتمع، إلى مستوى الكلية الاجتماعية – الإنسانية، ويرقيان بالحياة الاجتماعية من الغزو والحرب إلى السياسة. فإيتيقا الحوار أو أخلاقياته هي ذاتها إيتيقا التمدن، وأيتيقا السياسة المدنية.
الحرب ليست امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، كما وصفها كلوزفيتز، بل نكوص إلى الهمجية والتوحش الثاويين في خافية الأفراد والجماعات، نكوص إلى البدائية والغريزية، والسياسة ليست امتداداً للحرب، بوسائل أخرى، كما اجتهد ميشيل فوكو، إلا في المجتمعات الهمجية، ما قبل المدنية، مجتمعات اليقين والحنين، التي لا تزال تعيش في الماضي. لقد بات من الضروري إعادة بناء مفهوم السياسة على مبدأ “الكلية العينية”، الاجتماعية – الإنسانية، التي قوامها أفراد حرائر وأحرار، أي على مبدأ الإنسان ومفهوم التاريخ وفكرة التقدم أو التحسُّن الذاتي المستمر.
فإن الرهان، اليوم، هو تحرير العقل، بل تحرير الوجدان الفردي والجمععي، من اليقين والحنين (نوستالجيا)، باعتبارهما معاً نفياً للزمن، وتأويلاً مبتذلاً لــ “التاريخ”، وشكلاً مقلوباً من الخضوع، على نحو ما يتجلى في الأصولية. الرهان اليوم هو إعادة العقل إلى نقاشه الحر المحسوس واليومي والعمومي والإيكولوجي، مع نفسه نقداً، ومع غير/ه أو آخر/ه حواراً، وانتشاله من الأداتية والنفعية المبتذلة، وإعادة بناء علاقته بالأخلاق. وهذا لا يمكن إلا بإنجاز عملية / عمليات الانتقال من اللاعقل إلى العقل، بتعبير كانط، أي من “الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية”، حسب فلاسفة العقد الاجتماعي. ما يعني الانتقال الجذري من ثقافة الأصالة، بما هي ثقافة أصولية وسلفية وماضوية، تحمل جراثيم التعصب والتطرف والعنف، إلى ثقافة الحرية.
ولكن السلطة / السلطات عامة والسلطة السياسية خاصة، تزداد توحشاً، بمقدار ما تتعمق عمليات تشييئ الإنسان، هنا وهناك، وتدفع المجتمع، من ثم، إلى التوحش، فتمتلئ الهوة السحيقة الفاصلة بين التوحش الفعلي والتمدن الوهمي بالكلام و”الإعلام”. وتغدو للكلام كثافة الأشياء والوقائع، ودهاء الحاجات والمصالح، فيستعيد أو يكاد يستعيد طابعه السحري، ويكف عن كونه إنتاجاً للمعنى والقيمة، ويقتصر أو يكاد يقتصر على كونه “استظهاراً” وتكراراً، أو محاكاة ببغاوية بائسة في أحسن الأحوال، فتفقد اللغة طابعها التواصلي الأصيل، وتنحبس في حقول تداولية ضيقة، مسوَّرة بالتوجس والخوف والكراهية، وتتسع الهوة بين دالَّاتها وما تدل عليه، بقدر انقطاعها عن الواقع المعيش، وعن الحاضر، الذي يملأ الوجود. نتحدث هنا عن حاضر بلا مستقبل، (الماضي فقط هو الحاضر الذي لا مستقبل له) وعن حياة بلا أفق، عن إنسان يتضاءل إلى مجرد كائن بيولوجي، “عاقل” وحيسوب، ولكنه غير أخلاقي، معادله التقني هو الروبوت. ونتحدث عن “موت معلن” ورعب ممسرح، لا يُحتمل، ولا يمكن التعايش معه إلا بنوع من اللامبالاة، التي تدع المجال حراً ومفتوحاً لمزيد من الرعب ليشكلا دارة قاتلة، يغذي فيها كل منهما الآخر. (رعب – لامبالاة – رعب)
فما السبيل إلى الخروج من زمن التطرف والاستبداد، زمن اغتيال المعنى وانطفاء الروح؟ ما السبيل إلى إنتاج حقل ثقافي – سياسي مشترك بين السلطة والمعارضة، على اعتبار كل سلطة تولد معارضة، وبين مختلف الجماعات والأحزاب والقوى والتيارات، حقل تتخذ فيه التعارضات الاجتماعية صيغة ثقافية – سياسية مدنية وسلمية، ويحتكم فيه الناس إلى حَكَم يرتضونه جميعاً، لأنه لهم جميعاً، وقائم فيهم جميعاً على قدم المساواة؟
لا نعتقد أن ثمة من سبيل آخر غير سبيل العقل الذي يطلب المعرفة ويصبو إلى الحقيقة، ويتخطى منجزاته باستمرار. وسبيل العقل الأخلاقي (مقابل العقل الأداتي) والعقلانية الروحية (مقابل العقلانية النفعية، الكلبية) هو سبيل الحوار. فعلام تتأسس مشروعية الحقيقة ومشروعية الحوار؟
قبل مقاربة السؤال لإنتاج الأسئلة ووضع المسائل وضعاً جديداً لا بد من المقدمات الضرورية الآتية:
1- الاعتراف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بالفرد الإنساني أنثى وذكراً، بصفته أساساً المجتمع المدني، وبأن كل فرد أنثى كان أم ذكراً هو النموذج الكامل للإنسان (لا للإنسان الكامل). هذا الاعتراف، الذي ينتج منه اعتراف متبادل بالكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية والأهلية والجدارة والاستحقاق، هو اعتراف مبدئي ونهائي بمعقولية العالم، أي بأفرادية الواقع واختلاف أفراده وعناصره وتعارضها، واعتراف بالمصالح والحاجات الجذرية للأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية المختلفة، تلك المصالح والحاجات الثاوية في قاع الأفكار والتصورات والأيديولوجيات المختلفة والمتخالفة. فمن شأن ذلك أن يسهم في إعادة بناء تصوراتنا عما هي الكلية الاجتماعية أو عما هو النزوع إلى الكلية الاجتماعية والعقالة الكونية. فإن “كون العقل هو عقل الكون” بتعبير الياس مرقص، أي تعقُّل العالم الكائن، هنا – الآن، بصفته ناتجاً وصائراً، وشكلاً من أشكال الوجود، بدلاً من تعقيله، أي تسويغه وتبريره باسم “العقل” أو باسم الله أو باسم الوطن … والتعقل فعل فردي بامتياز، ولكنه فعل نوعي بامتياز أيضاً، باعتبار الكائن الإنساني هو وحدة الفرد والنوع الجدلية، وحدة غير مباشرة، لا تكون إلا بتوسط الآخر / الأخرى وتوسط المجتمع ومؤسساته والدولة ومؤسساتها، أي بتوسط الحياة النوعية، أو الحياة الأخلاقية، الاجتماعية والسياسية.
الاجتماع والاقتصاد والثقافة والسياسة ليست أشكال الوجود الإنساني فقط، بل هي أشكال التوسط بين البعد الفردي والبعد النوعي للكائن الإنساني ذاته أو ذاتها. ذلكم هو المعنى الجدلي، والأنطولوجي، أو الوجودي، لوحدة الكائن الإنساني، ووحدة الكون الإنساني، التي هي أساس استقلال الكائن/ــة وحريته/ ــا. هذه التوسطات هي نتيجة التواصل الاجتماعي والإنساني ومجالاته التداولية. والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية هي “الافتراضات التدوالية” للنشاط التواصلي، المؤثَّل في الطبيعة الإنسانية. وهي افتراضات، لأنها متعددة في ذاتها، ومتعددة في تأويلاتها، وفقاً لمواقع الأفراد ومنظوراتهم.
ولما كانت اللغة المحكية والمكتوبة هي القوام الرئيس للتواصل والحوار، لا مجرد أداة. فإن لغة الحوار يفترض أن تتسق مع الغاية المنشودة منه، وقد بينا أن غاية الحوار ليست الإقناع أو الإخضاع أو الغلبة أو إفحام الخصم، بل التعارف والتثاقف والتفاهم وبناء جسور الثقة والتعاون وتحقيق التشارك الحر في وصف المشكلات وحلها، بما يحقق قبولاً مشتركاً ومصلحة مشتركة، يصبحان قيداً على القول الذاتي الخالص والمصلحة الفردية أو الفئوية الخالصة، بحكم “قوانين القول” وأخلاقياته وآدابه.
فالحوار بوصفه نشاطاً تواصلياً رفيقاً للمعرفة وتداولاً للحرية وتنمية للقدرة على الاستدلال، يقتضي الانضباط العقلي والانضباط الأخلاقي وليونة القول ووضوح القصد والدقة في إيراد الحجج والبراهين، علاوة على حسن الإصغاء واحترام المخاطب/ــة أو المخاطبين والمخاطبات والابتعاد عن غليظ القول وعن الاستشهاد بالنصوص المقدسة وأقوال المشاهير، واستعمال لغة الحياة اليومية، إلا في الحوارات الثقافية والعلمية وما في حكمهما. والأهم من هذا كله تقييد سلطة المعرفة بسلطة الأخلاق، بحيث تكون لغة الحوار تركيباً منهما معاً، أشبه بالتركيب الكيمياوي.
الاعتراف بجدارة الفرد واستحقاقه هو اعتراف بالكائن الإنساني الواقعي، فلان وفلانة؛ فالماهية الإنسانية الجوهرية تتعيَّن في الفرد الإنساني بصفاته البدنية والذهنية والنفسية أولاً، وفي الفرد الاجتماعي بصفته عضواً في المجتمع المدني ثانياً، وفي المواطن بصفته عضواً في الدولة ثالثاً. ومن ثم فإن حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن مقدمتان ضروريتان لحياة اجتماعية وسياسية سليمة تلبي مطالب العقل. ومن شأن ذلك أن يكشف لنا، أيضاً، أن القانون بصفته العامة المجردة هو تسوية بين مصالح متعارضة أملتها وتمليها ضرورة الاجتماع، وأن القانون وجد من أجل الإنسان ولم يوجد الإنسان من أجل القانون.
قال ديسويفسكي على لسان أحد أبطاله في رواية “الأخوة كرامازوف”: “إذا كان الله غير موجود فكل شيء مُباح”. وهذا يعني أنه إذا كان القانون غير موجود فكل شيء مباح. حضور الله أو حضور المطلق، في حياة البشر مبدأ كليا،ً هو مبدأ الحياة الأخلاقية ومبدأ الخلق والإبداع والحب والتجدد، ومبدأ الخير والحق والجمال، ومبدأ الانتظام الذاتي وحرية الإرادة .. حضور الله في حياة البشر مبدأ أخلاقياً يؤسس فكرة القانون ويؤسس سموَّ القانون على الحاكم والمحكوم. فحين آثر سقراط أن يتجرع السم على أن يخالف قوانين بلاده، كان مقتنعاً بأن القانون فوق أثينا المدينة، وفوق أثينة إلهة المدينة وحاميتها أيضاً.
يتأتى سمو القانون من سمو الحرية، التي تضع القانون، أو تقتضيه اقتضاء الضرورة، مثلما تقتضي المسؤولية. وإن أسمى درجات المسؤولية هي مسؤولية الإنسان عن إنسانيته، وتنبثق منها مسؤولية الإنسان عن أسرته ومجتمعه ووطنه، وإلا فإن الأخيرة يمكن أن تكون مغشوشة وملغَّمة. لا حرية بلا قانون، ولا حرية بلا مسؤولية، تلكم هي الحرية المدنية؛ القانون، هنا، هو قانون الانتظام الذاتي والنشاط التواصلي، لا التنظيم القسري أو الهندسة الاجتماعية؛ والمسؤولية هي رعاية هذا الانتظام والعناية به، وتحسين شروطه باطِّراد. لأن المجتمع من إنتاج نفسه، ولا تطابق أوضاعه اليوم ما كانت عليه بالأمس، أو ما يمكن أن تكون عليه غداً، وكذلك الفرد.
2 – الاعتراف بأن علم الإنسان ناقص دوماً، وأن معارفه تنمو وتتقدم باطراد، وكل ما لا يتقدم يتراجع ويتقهقر. ينتج من هذا بالضرورة، الاعتراف باحتمال خطأ الذات؛ وذلكم هو أساس جهاد الفكر وجهاد المعرفة، بتعبير الياس مرقص. كما أن الاعتراف بأن “النفس أمارة بالسوء” هو أساس “الجهاد الأكبر”، جهاد النفس، ونقد نزواتها وأهوائها وضلالاتها وأباطيلها وأوهامها وأفكارها وتصوراتها، ولا سيما تصورها عن ذاتها. فالأيديولوجية، بأسوأ معانيها، هي الأحكام التي نطلقها على أنفسنا، والصفات التي نسبغها عليها، والأحكام المقابلة، التي نطلقها على الآخر المختلف والآخرى المختلفة، والصفات التي نسبغها عليه/ـا، من دون أن نعي أننا الآخر في نظره/ـا. إن وعي حقيقة أن كل فرد هو أنا وآخر في الوقت ذاته، وكذلك كل حزب وكل جماعة وكل طبقة وكل شعب وكل أمة .. يجعل كل واحد يعمل من أجل حرية الآخر وحقوقه وأمنه وسعادته. فحرية الآخر هي ضمانة حريتي الفعلية، وحقوقه ضمانة حقوقي، التي لا ينازعني فيها أحد. من لا يراعي حرية الآخر وحقوقه يعرِّض حريته وحقوقه هو ذاته للخطر. وكل سلطة لا تراعي الحريات الخاصة والعامة والحقوق الخاصة والعامة تعرِّض نفسها للخطر.
إن لكل فرد في المجتمع وظيفة ضرورية للآخرين، يؤديها لهم بمعزل عن آرائه الشخصية ومعتقداته، مثلما يؤدونها له. فنحن لا نسأل الزراَّع والبنَّاء والنجَّار والحدَّاد والمهندس والطبيب وغيرهم عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم الشخصية ما داموا يتقنون أعمالهم، ويقومون بوظائفهم الاجتماعية الضرورية. ولا بد من الاعتراف أيضاً أن الأفكار الفعالة ليست هي الأفكار الصحيحة دوماً، وأن الفكر بوجه عام لا يخضع لثنائية الخطأ والصواب فليس ثمة أفكار صحيحة بصورة مطلقة وأفكار خاطئة بصورة مطلقة، وإلا لكف الفكر عن النمو ولكف البشر عن التقدم.
3 – لا بد من الاعتراف بأن البشر لم يتمكنوا حتى يومنا وساعتنا من السيطرة على نتائج أفعالهم، وأن نتائج أعمالهم لا تطابق النوايا والأهداف التي انطلقت منها، ولا تطابق تصوراتهم الذهنية ومقاصدهم الأخلاقية. فحساب البيدر كان دوماً ولا يزال مختلفاً عن حساب الحقل. ومن ثم، إن النتائج المتحققة على كل صعيد هي أهم المعايير الموضوعية لنقد الأهداف والأفكار والتصورات والبرامج. على أن ينظر إلى هذه النتائئج على أنها كينونات أو كونات لا تتوفر إلا على استقلال وثبات نسبيين، لأنها تكون دوماً حبلى بالاحتمالات، ومحفوفة باحتمالات لم تتحقق.
والفعل السياسي بوجه خاص هو أقل الأفعال وثوقية ونتائجه أقل النتائج مطابقة للأهداف والنوايا، بحكم تعدد القوى المؤثرة في حركته واتجاهه وتعارض مصالحها، وتعدد الاحتمالات التي ينطوي عليها. إن التوتر والتنابذ الدائمين بين الفكر والواقع واستحالة مطابقة الأول للثاني تجعل من الخطأ ظلاً ملازماً للعمل، ناهيك عن أن للخطأ مصدرين لا بد من وعيهما: أولهما اجتماعي (فئوي أو طبقي) ثاوٍ في النوى الصلبة للأيديولوجيات المختلفة والمتخالفة، وفي الآراء والخطابات الفردية والحزبية المؤسسة على المنفعة الأنانية المباشرة، والثاني غنوزيولوجي أو معرفي يتعلق بالمنهج أو بنظرية المعرفة، وبالتصور الذي يحمله الفاعل أو الفاعلة عن العالم، ولا سيما عن المجتمع والدولة والإنسان. التصور الذي يحمله أحدنا أو تحمله إحدانا عن العالم وعن المجتمع والدولة والإنسان ليس التصور الوحيد أولاً، وليس التصور الصحيح بالضرورة ثانياً، وليس التصور الذي تقيمه المعرفة العقلية في ذاتها ولذاتها، أو الذي يقيمه العلم الوضعي في ذاته ولذاته ثالثاً، وليس هو العالم الفعلي، الواقعي، في حركته الدائمة وتغيره المستمر أخيراً. هناك دائماً العالم الواقعي، في وحدته وكليته، وصورُه غيرُ محدودة العدد في أذهان البشر، فمن هو ذلك السعيد الذي تطابقت صورة العالم في ذهنه مع العالم الواقعي؟ إن وظيفة المعرفة الواعية ذاتها، وهي معرفة نقدية بالضرورة، هي إنشاء صورة العالم في الذهن وإعادة إنشائها باستمرار، وإلى ما لا نهاية، ومن البديهي أن هذا يفوق قدرة الفرد، مهما أوتي من الحصافة والحكمة والذكاء، ولذلك كان الحوار رفيق المعرفة الواعية ذاتها والمتجاوزة حدودها، وشرطاً لازماً من شروط هذا التجاوز. وحدها المعرفة القائمة على مبدأ الحوار تمكن البشر من السيطرة على نتائج أعمالهم وتوجيهها باتجاه المصلحة العامة المشتركة.
4 – الاعتراف بأن الأفكار التي ننتجها تتحول إلى منظومات مستقلة، تملكنا بقدر ما نملكها، وتدفعنا إلى العمل، وإلى الموت من أجلها أحياناً. فهي مزودة بنوع من أنواع الحياة، مثلها مثل الآلهة التي أنتجتها أذهاننا، ولا تزال تسيطر على المؤمنين بها. الآلهة بهذا المعنى حية، ولكن الأيديولوجيات، التي نملكها فتملكنا، مجردة تجريداً مخيفاً قياساً بالآلهة، إذ ليس لها أي صفة بشرية أو حياة إنسانية، فهي تفرض نفسها علينا، فنخدمها بقدر ما نستخدمها[13]. الأيديولوجيات، التي نملكها، تكمل نقص ذواتنا الإنسانية، ونقص حياتنا الإنسانية، إذ تعبر عن حاجاتنا وتطلعاتنا وأشواقنا، لذلك يغدو الدفاع عنها دفاعاً وهمياً عن أنفسنا، باعتبارنا زوائد لحمية، أو تجليات “مادية” لكائنات خرافية، نتوهم أنها معنى وجودنا. الغرق في المنظومات الفكرية والأيديولوجيات هو نسيان الوجود الفعلي والواقع الفعلي. وهذا يعني أن الوجود الوهمي يغدو هو الوجود الفعلي، وتغدو الذات، من ثم، “ذات بلا موضوع” خارجي فيزيقياً كان الموضوع أم أخلاقياً. فالذات لا تتشكل إلا بعلاقة جدلية بموضوع خارجي، وبالآخر الذي يؤسسها، والأخرى التي تؤسسها.
كل منظومة فكرية معرضة للجمود والتحجر، أو التحول إلى مذهب، ما لم تعمل على تلافي قصورها الذاتي ومفاعيل الزمن، بفعالية المراجعة الدائمة على الواقع والحوار مع المنظومات الأخرى. وإلا فإنها تتحول إلى أيديولوجيا، تلجأ إلى عدة آليات للرفض، أولها تجريد الأيديولوجيات المنافسة وتجريد الخصوم من الأهلية، فكل ما يأتي من الخصم لا يستحق النظر فيه. الخصم مخطئ دوماً أو كاذب ومغرض، وهنا يتخذ الرفض صيغة الازدراء والاحتقار. والثاني، تحويل النظر عن الموضوع إلى موضوع آخر، كأن يتحدث أحدهم عن القمع في سوريا وقتل المعتقلين تحت التعذيب، فيجيبه الآخر بالحديث عن وحشية إسرائيل، أو عن معتقل غوانتانامو أو سجن أبو غريب. والثالث هو السخط ونقل المسألة إلى الصعيد الأخلاقي، بوصف الخصم بانعدام الشرف، وكذلك أيديولوجيته، فانعدام شرف الحجة هو ما يجرد الخصم من الأهلية. والرابع هو الدفاع الذاتي عن النواة الصلبة للمذهب. فإذا كان من الممكن مناقشة بعض الأفكار الهامشية في أي مذهب، فإن التعرض لنواته الصلبة خط أحمر، لا يجوز الاقتراب منه، كفكرة الوحي في الإسلام أو فكرة التجسد في المسيحية، أو فكرة المادية في الماركسية .. إلخ. والخامس هو المناطق العمياء، التي يقذف إليها كل ما يعارض المذهب من أفكار ووقائع. وأخيراً تحويل الرئيسي إلى ثانوني وبالعكس. (وحشية إسرائيل أو الإمبريالية الرأسمالية حقيقة واضحة تستحق الإدانة، أما الاعتقالات في سورية فهي ضرورية أولاً للدفاع عن الثورة، وهي عارضة ثانياً تقتضيها مرحلة معينة، وأخطاء بشرية ثالثاً، يمكن الصفح عنها).
“إن المنظومة الفكرية، التي تحولت إلى مذهب وأيديولوجية تبريرية وتسويغية، والتي تدافع عن نفسها بصورة (معقَّلة)، هي منظومة مانوية، باعتبارها تجسد الحياة والخير ضد الموت والشر، ومنظومة سحرية، باعتبارها هي الواقع الحقيقي، مقابل الواقع الوهمي [14]. هنا يجب الالتفات إلى تحولات تاريخية كبرى ذات أثر عميق في حياة البشر، من أهمها تحول اليوتوبيا إلى أيديولوجية، بكيمياء السلطة، ثم تحول الأيديولوجية إلى فولكلور، هكذا جميع العقائد الدينية، السماوية والأرضية. ومنها تحول النزعة العرقية إلى نزعة إثنية، وتحول الأخيرة إلى نزعة قومية، لم تتحول بعد إلى فولكلور، كالنزعة القومية العربية وغيرها، لأن “الدولة القومية” أو الوطنية، ولا فرق، لم تستنفد شرطها التاريخي بعد.
5 – اعتراف الذات بحقيقتها الواقعية، الفعلية، شرط لازم لتحررها من الأوهام وإزالة الورود عن القيود التي تكبلها وهدم الحواجز التي تفصلها عن الأخريات والآخرين. فثمة في عالمنا ومجتمعنا أفراد وجماعات وأحزاب يعيشون في واقع من صنع أفكارهم وأوهامهم، وينكرون واقعهم الفعلي وحقيقتهم الواقعية؛ لذلك كان مجتمعنا مجتمعات وعالمنا عوالم متحاجزة ومتنافرة. وكل فريق منا هو “الملة الناجية”؛ ولذلك كنا ولا نزال يكفر بعضنا بعضاً، ويخون بعضنا بعضاً، وينكر الصاحب صاحبه قبل صياح الديك.
أول اعتراف بحقيقة الذات وحقيقيتها هو اعتراف الفرد بفرديته، وبأنه لا يمثل في رأيه وموقفه وسلوكه سوى نفسه، وبأنه محدد بالكلية الاجتماعية وبالجماعة التي ينتمي إليها، وليس هو من يحددها، واعتراف الفئة الاجتماعية والحزب السياسي بأنها جزء من المجتمع المدني وبأنه جزء من الفضاء السياسي أو المجال السياسي، وبأن الجزء يتحدد بالكل ولا يحدده. فليس هنالك حزب يمثل طبقة اجتماعية برمتها ناهيكم عن ادعاء تمثيل الشعب والأمة والعرب والكورد والمسلمين. والثاني هو الاعتراف بأن الانتماءات الثقافية والأيديولوجية والسياسية هي تحديداتنا الذاتية ليس لأي منها قيمة مطلقة. وبأن أحداً لا يستطيع، ولا يحق له، أن يفرض حتى السعادة على غيره بالقوة والإكراه. وبأن الله أكبر، والله أعلم، و”لا إكراه في الدين”. والثالث هو الاعتراف بأن الذي يخالفني في الرأي هو مواطني، شريكي في الوطن، على قدم المساواة، ولا يفعل شيئاً أكثر من ممارسة حقه الطبيعي والمدني، كما أفعل، حين أدافع عن رأيي وأحترم كلمتي. وبأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
في ضوء هذه المقدمات يمكن مقاربة السؤال: علام تتأسس مشروعية الحق ومشروعية الحوار؟ وعلام تتأسس مشروعية الحقيقة؟
الأساس الذي يستمد قيمته ومشروعيته ومسوغاته من ذاته، لا من أي شيء خارجه هو العقل، وحين نتحدث عن العقل إنما نتحدث عن الروح والوجدان والضمير، وعن العاطفة أيضاً ولا سيما عاطفة الحب، بما تنطوي عليه من بذور السعادة، إذ لا سعادة في الحياة بغير الحب، نتحدث عن ماهية الإنسان التي لا تستنفدها هذه الكلمات المفاهيم؛ لأنها هي ذاتها نتاجات الروح الإنساني، عن قابلية التحسن والسمو والارتقاء إلى مستوى الكلي، هذه القابلية هي، التي تميز الإنسان من غيره من الكائنات. والعقل كما وصفه ديكارت أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فكل فرد على الإطلاق مطمئن إلى أنه قد أوتي كفايته منه. والتفاوت في الذكاء والحيلة والقوة والمكر والدهاء ليس تفاوتاً في العقل ولا تفاضلاً في الإنسانية. الإنسانية صفة جوهرية لا تقبل التفاوت والتفاضل، ومثلها جميع الصفات الجوهرية التي هي مناط التماثل والتشابه بين أفراد النوع، كالوطنية، على وجه التحديد. ومن ثم فإن الفروق والاختلافات بين البشر فروق واختلافات في كل شيء عدا الصفات الجوهرية أو الماهوية، وهذه جملة من القابليات والاستعدادات والإمكانات غير المتناهية تمكِّن الإنسان من أن يكون ما يريد. ونظن أن نمط تقسيم العمل وأشكال الملكية وتوزيع الثروة وأنماط التربية التي تحددها هي من العوامل الرئيسة في تفاوت الذكاء والحيلة والقوة والدهاء بين الأفراد.
تتأسس مشروعية الحق ومشروعية الحوار على استجابتي العقلية، الروحية، الجوانية، للحق الذي في خطاب الآخر والأخرى كائناً من كان هذا الآخر، وكائنة من كانت هذه الأخرى، وكائناً ما كان سياق الحوار وهدفه، وعلى استجابة الآخر والأخرى للحق الذي في خطابي. فالخطابات، بما فيها الخطابات الفردية، منظومات مختلفة ومتباينة ومتعارضة باختلاف أصحابها وتباينهم وتعارض مصالحهم ورغباتهم وأهوائهم وغاياتهم، وباختلاف خصائصهم الذهنية والنفسية أيضاً، ولكن بينها دوماً عناصر متماثلة هي عناصر الحق. وعناصر الحق هي عناصر العقل أو عناصر الروح الإنساني التي لولاها لما كان التعارف والتفاهم والتثاقف ممكناً بين الناس، ولما اختلفت المجتمعات البشرية اختلافاً نوعياً عن مجتمعات الحيوان الأكثر تنظيماً كمجتمع النحل أو النمل.
عناصر الحق في الخطابات المختلفة تنتمي إلى ما هو جوهري في الإنسان وإلى ما هو جوهري في الحياة، إلى ما يجعل حياة البشر قابلة للتحسن باطراد وقابلة للتقدم أو النمو، فهي التي تمكث في الأرض وتنفع الناس. وستظل هذه العناصر ملتبسة بنقائضها ومبثوثة في أفكار الناس وفي أعمالهم وفي ما يخلفه السلف للخلف، من دون أن تبلغ تمامها وكمالها. ولعله من غير الممكن بلوغ منظومة الحق الخالص، بل لعله من غير الممكن أن يكون في حياة البشر حق خالص، لا يلابسه باطل، وصواب خالص لا يلابسه خطأ. فإن للباطل والخطأ قيمة بيداغوجية وأخلاقية لأنهما ملازمان لأفكار البشر وتصوراتهم وأعمالهم، وبهما يعرف الحق والصواب. الحق والحقيقة هما مما ينتجه الحوار، بالشروط الآنفة الذكر، وهما قسمة عادلة بين المتحاورين والمتحاورات، الذين يشاركون واللاتي يشاركن في إنتاجهما. نتحدث هنا عن الحق الأخلاقي، لأن الحق القانوني ينتج من الملكية الخاصة، التي يتعين على الجميع صونها واحترامها وعدم التجاوز عليها.
ولعل إدراك المرء أنه على خطأ أسهل من إدراكه أنه على صواب؛ لأن الأول، أي إدراك المرء أنه على خطأ، يتعلق بقوة الاستدلال، في حين يتعلق الثاني بالإيمان أو اليقين. الصواب والخطأ مترابطان ومتعالقان في الخطابات والأعمال، ويصعب تمييزهما كلما كان الخطاب متماسكاً ومتسقاً في بنيته الظاهرة أو في شكله الخارجي. لكن المرء لا يستطيع إدراك واقع أنه على خطأ إلا بالحوار، الحوار مع الذات والحوار مع الآخر. وأكثر ما يكون تمييز الصواب من الخطأ والحق من الباطل عند انتفاء الخصومة أو تعليقها؛ فالحَكَم العادل هو من يرجح كفة الصواب في أقوال المتخاصمين، والحُكْم العادل هو شيء في الوسط بين التصديق التام والتكذيب التام. والاعتراف هو سيد الأدلة. والقانون تسوية بين مصالح متعارضة لو انحاز إلى أي منها لكف عن كونه قانوناً أي شيئاً عاماً.
العقل والعقلانية لا يعنيان التماسك النظري، أو تنظيم معطيات الخبرة فقطـ بل هما إرادة الحوار المفتوحة على الخبرة وعلى العالم الخارجي بصورة أوسع. يكفي أن ينغلق العقل على خبرة معينة، وينغلق على ذاته حتى تصبح العقلانية تعقيلاً. والتعقيل هو التماسك المنطقي الصوري انطلاقاً من مقدمات ناقصة أو مغلوطة، وانطلاقاً من مبدأ استدلالي باتر. .. العقل الذي أصبح تعقيلاً ينتصب فوق الوقائع ويصبح متفوقاً عليها. بالمقابل فإن العقلانية تضع بناءاتها موضع المساءلة حين تبدو التجربة مناقضة لها. والحوار صعب، لأن الطرفين (البناء العقلي والوقائع) عنيدان. .. ويتصف التعقيل في الوقت نفسه، بالإفراط في المنطقي قياساً بالاختباري، ورفض تعقيد الواقع. إنه يريد إخضاع الواقع لبنى الذهن التبسيطية[15]، لذلك ينزع إلى رفض المعطيات أو قسم منها، وعزو بعضها إلى المؤامرة أو التخريب.
في دخيلة كل شخص، يتوفر على شروط الصحة والسلامة العقلية، حاكمٌ يسوِّغ آراءه ومواقفه، ويلاحظ ما هو مشروع، ويؤسس عليه أو يهبه مشروعية الحق. والحوار وحده هو الوسيلة التي تجعل هذا الحاكم يقظاً ونشطاً. فليس هنالك شخص سويٌّ يعمد إلى / أو يرغب في تأسيس خطابه على الباطل، بيد أن ما يعتقده الشخص حقاً قد لا يكون كذلك بالفعل؛ ولذلك تجدنا إزاء آراء وتصورات بعدد الأفراد، وكلها يدعي لنفسه المشروعية والحق. فلو كانت كل هذه الآراء صحيحة، على تنافرها وتعارضها، لما كانت هناك حقيقة أو حقائق عامة وكلية. ولكانت مقولة بروتاغوراس “الإنسان هو مقياس جميع الأشياء، ما هو موجود منها هو مقياس وجوده، وما هو غير موجود هو مقياس لا وجوده” هي الحقيقة النهائية، ولكانت المعرفة الذاتية متطابقة مع الحقيقة، أو لكان الرأي والحقيقة شيئاً واحداً.
في خضم الآراء المتعددة والمتعارضة إلى ما لا نهاية والتي يعبر كل منها عن مصلحة فردية مباشرة، أوعما هي المصلحة العامة من منظور المصلحة الفردية المباشرة، أو من منظور مصلحة خاصة، فئوية أو طبقية أو حزبية أو غير ذلك ؛ الحوار وحده “يجعل ما انقلب من التعارض إلى جدل ينشئ حقيقة أخرى جديدة ليست لأي من المتحاورين دون الآخر، بل لهما معاً لأنها قائمة في كل منهما”. ومن ثم فإن الحوار شقيق الجدل، شقيق الديالكتيك، وهو الذي ينتج دوماً حقائق جديدة من الأطروحة ونقيضها معاً، وليس من أي واحدة منهما دون نقيضها. فالديالكتيك هو منطق الواقع ومنطق الفكر، منطق الصيرورة ومنطق التقدم، وعلى صعيد الفكر خاصة هو منطق إنتاج المعنى، وإظهار الماهية الحقيقية للإنسان والماهية الحقيقية للأشياء. وهو السبيل الوحيد إلى دمج هذه الماهية في واقع البشر وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. ولكن المهم أن تكون “الحقيقة مبدأ ومسعى وغايةً”. الديالكتيك هو منطق الحوار، وهو الفيصل بين الخطأ والصواب.
الاعتراف بأفرادية الواقع يقتضي الاعتراف بحق جميع الآراء في الوجود على قدم المساواة، وبحق جميع الأفراد في التعبير عن آرائهم بلا قيود، ويؤدي، من ثم، إلى الاعتراف بأن الحقيقة إنما ينتجها المتحاورون. وربما كان الحوار، بهذا المعنى، هو المدخل الوحيد إلى السياسة بوصفها الشيء العام أو الشأن العام المشترك بين المواطنين والمواطنات جميعاً والذي هو ماهيتهم/ـن وجوهرهم/ـن، ومخرجاً من حالة الحرب التي ينتجها التطرف على كل صعيد. والاعتراف بتعدد الآراء وتنوعها وتعارضها هو في الوقت ذاته اعتراف بتعدد الحاجات والمصالح الجذرية وتنوعها وتعارضها؛ فإرواء الحاجات الجذرية هو الصيغة الواقعية للعدالة والشرط الضروري للحرية. وهو الشرط الضروري لتحويل الإرادة الذاتية إلى واقع موضوعي أو إرادة موضوعية؛ والإرادة هي المعرفة والحرية بالتلازم.
ولكن كيف ينتج الحوار حقيقة جديدة ليست لأي من المتحاوريْن، بل لهما معاً، أو ما طبيعة الحوار الذي ينتج مثل هذه الحقيقة؟
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال أن نميز الرأي من الحقيقة العقلية/الواقعية، وأن نميز الأيديولوجية من الفكر. فإذا صح أن الرأي مرتبط بالمصلحة الشخصية والمصلحة الخاصة بألف سبب وسبب، فإنه بالأحرى ينتمي إلى دائرة الأيديولوجية التي تعني هنا توظيف الأفكار والمعارف والوقائع في خدمة المصالح الخاصة والأهداف والمآرب الذاتية، بعد أن تقوم بتأويلها وتحويرها وبترها واستبعاد ما يعارض تلك المصالح وهاتيك الأهداف، وكف ما يشي منها بخصوصيتها وجزئيتها وذاتيتها؛ لذلك، كان نقد الأيديولوجية هو المدخل الضروري لنقد الآراء والأفكار والتصورات الذاتية والخطابات الصادرة عنها. ومستند النقد الذي لا مستند موضوعياً غيره هو العقل بوصفه أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وملكة الحكم المشتركة بينهم بوصفها تعبيراً عن نزوع كل منهم إلى الكلية، وإفصاحاً عن الوجدان والضمير.
ومعروف أن الأيديولوجية لا تقنع سوى أصحابها وحامليها وأتباعها ومحازبيها، في حين تقنع الحقائق العقلية / الواقعية جميع العقلاء والعاقلات، بلا استثناء. فقيامة السيد المسيح بعد الصلب، مثلاً، لا تقنع سوى المسيحيين، ومعراج النبي محمد إلى السماء لا يقنع غير المسلمين، أما كون الجزء أصغر من الكل ومحدد به فيقنع الجميع، وكذلك كون العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس. فالحوار ليس معرضاً لخطابات متوازية، ولا ضجيجاً بين متحدثين لا يسمع كل منهم سوى صوته الذي هو عنده صوت الحقيقة وموئل الحكمة، بل هو تناصت وتعارف وتفاهم يجري في نطاقه تفكيك الخطابات والآراء المتباينة والمتخالفة لتمييز ما في كل منها من عناصر أيديولوجية لا تقنع سوى أصحابها من العناصر العقلية التي تقنع الجميع؛ فينقلب التناقض بين الخطابات والآراء إلى جدل يوحد الأطروحة ونقيضها في تركيب جديد هو وسط بين التصديق التام والتكذيب التام، ينفي الأطروحتين معاً وينتج حقيقة جديدة هي للمتحاورين معاً، لأنها فيهما معاً. والحوار على هذا النحو متصل أوثق اتصال بالوجدان والضمير، متصل أوثق اتصال بالجوانية أو بـ “لحظة الأمية والصفحة البيضاء”، أو أخلاقيات الشاهد المحايد، و”حجاب الجهل”، حسب جون رولز[16]؛ لأنه يقتضي درجة عالية من التجرد عن الهوى والارتقاء فوق المصالح الخاصة والنزعات الأنانية التي تسم الفرد الطبيعي، ويقتضي التحرر من الرأي المسبق ومن سلطة التقاليد والمرجعيات الأيديولوجية والعقائد الثابتة. التحرر من سلطة التقاليد والمرجعيات والعقائد لا يكون إلا بالتحرر من سلطة النص “المقدس” دينياً كان أم علمانياً، فللعلمانيين أيضاً نصوصهم المقدسة، فكل نص يلاقي هوى في النفس يرتفع إلى مصاف المقدسات.
التقديس والهوى متلازمان ويغذي كل منهما الآخر، كلاهما من آثار الوثنية الباقية ومن مظاهرها، وسلطة النص المقدس عقبة معرفية تعترض طريق العقل، وقد تسده، لأنها تثبت في الذهن أن الحقيقة بتمامها وكمالها قد اجترحت في الماضي مرة واحدة، وأنها مكنونة في النصوص، وما علينا سوى البحث عنها هناك، بتأويل النصوص وتحويرها وإعادة إنتاجها، وأن وظيفة الواقع الوحيدة هي أن يشهد لتلك النصوص أو عليها، وأنه ليس سوى استطالة زمانية ومكانية للحظة تدشين قدسية أو لعصر ذهبي تجلت فيه الحقيقة كلها، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان.
ما يقال في الرأي الفردي، على افتراض أن هناك رأياً فردياً خالصاً، يصح في ما يسمى الرأي العام الذي يمتح من الأيديولوجية السائدة ويستمد مبادئه منها، والذي تتضح هشاشته وتناقضاته في أثر الإعلام الموجَّه في إنتاجه وإعادة إنتاجه، وفي توجيهه الوجهة التي تخدم مصالح الفئة المالكة للثروة والقوة والسلطة، ولا سيما في النظم الشمولية والاستبدادية. فالرأي العام عاجز عن الانتهاء من تناقضاته ومقضي عليه، بحكم طبيعته أن يتشرذم فيها. لذلك فإن البدء بالفكر النظري هو من البداية طرح مشكلة مضمون الآراء المختلفة، ومضمون الرأي العام وكشف علاقته بالمصالح والغايات والأهواء الخاصة لفئة أو طبقة أو حزب أو سلطة سياسية. فعلى محك الفكر النظري تكشف الآراء المختلفة والمتعارضة عن تناقضاتها وتهدم نفسها بنفسها، بل تطرح مشكلة وجودٍ يظنُّ أن الإعراب عن الرأي يعني المعرفة، وأنه يكفي أن يكون الإنسان مقتنعاً حتى يكون رأيه سليماً وصحيحاً. ذلك أن الرأيِ لا يقنع بأن يكون رأياً، بل يطالب لنفسه بأن يوحَّد مع الحقيقة نفسها، ويدعي أنه المعرفة كما هي في ذاتها. وفي غياب العقل أو استقالته، كان هناك دوماً وراء “اللعبة الحرة” للآراء والتعارض في المصالح حَكَم حقيقي هو الذي يحسم الأمور أخيراً وهو العنف. وعلينا أن نختار بين حكم العقل وحكم السيف.
لا بد أن يقوم الفكر النقدي في معارضة الرأي، بشرط أن يستمد الفكر مقدماته من نتائج العلم الحديثة والأحدث، ومن نتائج العمل البشري والإنتاج الاجتماعي، ومن الخبرة المكتسبة. اللحظة الأولى في الفكر الذي يضع الإنسان على طريق الحكمة الممكنة تقوم على تحليل الرأي من الداخل حتى يشعر صاحبه نفسه بما ينطوي عليه رأيه من خطاً أو خطل أو ضلال. وذلك بتعيين الواقع الفعلي، الذي يظن أنه يستند إليه، والكشف عن جدله الداخلي، وعن طابعه التناقضي والإمكاني والاحتمالي، وإعادة بناء صورته في الذهن من دون أوهام أو رغبات ومن دون تأويل أو تحوير. هذا يقتضي التحرر من “سحر الكلام”، بتوكيد الطابع الاصطلاحي للغة التي لا تعني مفرداتها شيئاً إذا لم تعبر عن معرفة حقيقية. فمفردات اللغة كلها كليات تنتمي إلى الفكر، وليس لأي منها قيمة معرفية تزيد على قيمة غيرها، فالخير والشر والحق والباطل والجمال والقبح مفاهيم متساوية في القيمة المعرفية؛ الخير معرف بالشر ومحدود به، وكذلك الحق والجمال معرفان بالباطل والقبح ومحدودان بهما. وإن إضفاء قيم أخلاقية مطلقة على بعض مفردات اللغة دون غيرها كان ولا يزال من أكثر العقبات المعرفية كؤداً. ولا سبيل بغير ذلك إلى إنتاج خطاب متسق ومتماسك يتوفر على وحدة حقيقية بدلاً من الوحدة الوهمية التي تقنّعها البلاغة وتوشيها القيم الأخلاقية الثابتة ويحجبها التماسك المنطقي الصوري. فمن أجل أن نفهم استحالات الواقع وتحولاته، واستحالات الأفكار وتحولاتها ينبغي لنا أن نتصور أن منظومات الأفكار، مثل كل المنظومات في كوننا الفيزيائي، تخضع لمبدئين أساسيين: مبدأ القصور (الذاتي) ومبدأ الإيكولوجيا. الأول يفرض على أي منظومة فكرية أن تقاوم الفساد والتفسخ والتشتت، أي أن تعاند الزمن، لكي تحافظ على تماسكها. ذلك لأن الزمن يفصل بين الفكرة والواقع، اللذين يبدوان مترابطين، ويحول الفكرة إلى واقع وبالعكس … وكذلك ينزع مبدأ قصور الفعل إلى تفسيخ المعنى الأصلي للفعل، أي إلى جعله يتحول، ثم، في نهاية المطاف إلى حله وحل الفعل نفسه في لعبة التفاعلات والتأثيرات الراجعة، التي أثارها والتي ستغمره. .. كل فعل يدخل بصورة اتفاقية في لعبة متعددة ومعقدة من التفاعلات والتأثيرات الراجعة التي لا يملك الفاعل ضبطها وليس لديه عنها غالباً أي فكرة [17]. كما يمكن لمنظومة فكرية معينة أن تتخذ معاني مختلفة، بل متعاكسة، وفقاً للإيكولوجية العقلية أو الثقافية التي تغذيها. (تحول الأرسطية من مدرسة فكرية عقلانية إلى تعقيل مغلق في الإيكولوجية اللاهوتية المسيحية في العصور الوسطى، وكذلك تحول الماركسية من فلسفة تحريرية إلى تعقيل للاستبداد الكلي)
“إن ما يجهله الرأي أنه يستعيض عن كلية الواقع بالمعطى الجزئي” الذي فيه وجهات نظر شتى، بل إن ما يجهله الرأي أنه يستعيض عن الواقع الفعلي بالصورة التي أنشأها الذهن عنه، فينشئ وقائع عن طريق أمثلة محتملة الوقوع يبنيها بصورة عشوائية قياساً على ما يصادَف عرضاً في الحياة اليومية، وعلى مصالح تثيرها الحاجات والرغبات والأهواء. وهذا الذي يطلِق عليه الرأيُ اسمَ الواقع أو الواقعي إنما هو الخيالي، بل الوهمي، الذي أنشأه من أجزاء من الواقع استبقاها الإدراك المعتم والإدراك الإهلاسي الذي يلابس عمليات الإدراك الفردي والجماعي. وهذان الاستعاضة والإنشاء يثويان في أساس اليقينية الوثوقية المزهوة بنفسها والعصية على النقد.
تستوي في هذا المجال وظيفة الوضعية الدوغمائية ودوغمائية الدين الوضعي. الدوغمائية الوضعية تبخر الواقع وتحوله إلى مجردات أثيرية تسميها القوانين، وتضفي عليها قيمة مطلقة مساوية لقيمة النواميس الدينية؛ فكلاهما تتجاهلان واقعية العالم وكليته أولاً، وأثر الفاعلية الإنسانية وجدل الذات والموضوع ثانياً. ولا عجب أن تتضافر الدوغمائية الوضعية ودوغمائية الدين الوضعي في إنتاج الوعي الزائف أو الوعي الشقي، وفي تعميق اغتراب الإنسان عن عالمه وعن ذاته. ولا عجب أن تنتج من تضامنهما “دولة العلم والإيمان”.
الآراء المتناقضة يهدم بعضها بعضاً، وتخلي مكانها للفراغ الذي تنفتح فيه إما إمكانات التعقل وإما إمكانات القوة والعنف. وحين يتحدث المرء ليعبر عما في نفسه للآخرين أو ليسوغ موقفاً أو سلوكاً فإنه يتحول إلى ذات وموضوع في الوقت نفسه: فهو ذات لأنه ينتج الكلام ويراقبه، وهو موضوع لكلامه خاضع له، ولو كان حمقاً محضاً أو جهلاً أو كذباً، فإن عليه أن يخضع لقوانين القول. الإنسان زميل الحديث ومواطنه معاً، بل هو سيد الحديث وعبده معاً. واحترام المرء لذاته يتجلى في احترام كلمته، وهذا أهم قوانين القول، فضلاً عن قانون الصدق وموافقة القول للعمل. ومهما يكن الإنسان فإنه يظل يحب الحقيقة ويريدها. إلا أن إرادة الحقيقة إنما تعبر عن نفسها بعدم قبول التناقض. وهو على حبه لقناعته وحرصه عليها يظل كذلك محباً للانسجام، ومن ثم فهو في موقف حرج، وهذا الحرج هو الذي يحمل إمكانية تجاوز الذات التي كانت منغلقة على نفسها.
والآراء، إذ تحل الصورة محل الواقع، والجزئي محل الكلي، والمثال محل الحادث، والاسم محل الشيء الذي يدل عليه الاسم، تقع دوماً في الخلط وعدم الانسجام، ويظن كل منها أنه يملك المعنى الكامل والسلامة التامة. ولكننا حين نرغمها على التجابه، ونحلل بنيتها الغريبة والفريدة، فإننا نكشف عن تناقضاتها وعن فراغها. “بفضل الكلام الذي يحاور، لا مجال لما في الرأي من فقر مدقع”، وإن تستر بزينة الألفاظ. بالحوار يتحول الفقر في الرأي إلى غنى لا متناه عن طريق الكلام نفسه، وهو الغنى الذي تقدمه المعرفة الحقيقية. وعندما يتدرب أحدنا على تحديد ما يعنيه بكلامه والتزامه إياه فإنه يفهم ماذا يعني كلام الآخرين. وحين نتعلم الإصغاء إلى الآخرين ونحاول أن نكون مع ذلك على انسجام مع أنفسنا، أي حين نتعلم أن نحب ذواتنا في الآخرين وأن نحترمها فيهم فإننا نبدأ بانتزاع أنفسنا من إغواء الهوى والمصالح الأنانية الضيقة والاعتداد الفارغ بالذات، نبدأ بالتحرر من التعصب والانغلاق على مسبقاتنا وقبلياتنا وقَبَلياتنا، وعندئذ تبدأ مسيرة طويلة ربما نصل في نهايتها إلى ارتواء مستمر[18].” وعليه، ستصبح إيتيقا المناقشة الحجاجية هي الصورة الجديدة لأي بنية عقلية منطقية، يمكنها الركون إلى المحاججة والبرهان لبلوغ صيغة تواصلية مثلى بين أفراد مجتمع معين. وثمة إمكانية لإرساء قواعد ممكنة متينة لأي تواصل مستقبلي على الطريقة الكانطية”.[19] وإذ يعد الصدق والنزاهة والدقة من أهم معايير الحوار، فإنه لا يمكن تأسيس نمط تواصلي جديد، يعبر عن مجتمع جديد، من دون أن يبلغ النقد أداةَ التواصل الأولى ذاتها، وهي اللغة، سواء تعلق الأمر بالتواصل الذاتي أو بالتواصل البينذاتي، بما هو الدعامة القاعدية لعملية التشارك الاجتماعي [20].
في المعايير الأخلاقية للحوار
المعايير الأخلاقية للحوار هي تلك التي يتوصل إليها أعضاء الجماعة التواصلية المعنيون بها، بحيث تراعي مصالحهم المشتركة، ولا يتحقق هذان الشرطان إلا إذا كانت المعايير معايير إنسانية عامة (كونية) تتداولها الجماعة الإنسانية المعاصرة، لأن الحَكَم، في هذه الحال، هو “العقل التواصلي”، لا العقل الكلي ولا العقل الأداتي، ولذلك نقرن العقل دوماً بالأخلاق.
“بهذا المعنى يغدو النقاش العملي أداة ذات مكانة جوهرية في سن المعايير وتبريرها (العقلي والأخلاقي)، لأن التبرير، أو الإبراء، عملية تداولية بينذاتية؛ كما أنه وسيلة ملائمة لتأسيس تصور مجتمع حديث ومعاصر. من هنا تأتي أهمية أخلاقيات النقاش والحوار، فمعاييرهما هي ما قد يكفل توازن المجتمعات ويدعم تنميتها. ذاك هو رهان أخلاقيات النقاش بشرط التوافق العام على قواعد ومعايير وضوابط يلتزمها المتحاورون في إطار فعل تواصلي خلاق. من أهم هذه القواعد، كما صاغها هابرماس:
- لكل من هو قادر على الكلام والفعل (وكل من هي قادرة) نصيب كامل في النقاش.
- لكل واحد/ة الحق في إثارة أي إشكال أو اعتراض على أي تأكيد كيفما كان؛ يندرج ضمن هذا الحق حق الاعتقاد بآراء ما والتعبير عنها.
- لا يحق منع أيٍ من المتحاورين من النقاش، ولا يحق لأي كان استعمالُ أسلوب الضغط والإكراه (أو الإحراج والابتزاز).
تفترض هذه القواعد مشاركة ندية بين المتحاورين؛ فلكل منهم الحق في أن يدلي بدلوه، ويفصح عما عنده، دونما تضييق أو مضايقة، قصد تحقيق التوافق. وقد لا يكون قصد التوافق مؤكداً إلا إذا دعت إليه حاجة جذرية، يدركها المعنيون بالحوار، ويدركون مسؤوليتهم إزاءها.
فالمعايير ليست قرارات شخصية، بل هي مؤسسة على إمكانية تبريرها تبريراً عقلانياً اعتماداً على عملية حوارية حجاجية، (تتبدى فيها قدرة المشاركين على الاستدلال)؛ أي إن صلاحية المعايير الأخلاقية يحكمها تصور عملي ذو صلة بممارسة النقاش والحجاج، قوامه اعتراف جميع الأطراف بالمعايير وقبولها صراحة أو ضمنياً. “وعليه فإن أخلاقيات الحوار والنقاش، هي في العمق، أخلاقيات المسؤولية“. “فإن نشاط التفاهم المتبادل يخضع لشرط أساسي، به يحقق المعنيون مشروعاً لاتفاقهم المشترك … فهم يسعون إلى تفادي خطرين: أولهما سوء الفهم وفشل التفاهم المتبادل؛ والثاني فشل مشروع الفعل والإخفاق التام. فتلافي الخطر الأول شرط لا بد منه لتلافي الثاني”[21].
يبدو أننا لا نستطيع تجاهل البنى المعقدة للأخلاق والأخلاقيات؛ يتبدى التعقيد في العلاقات الجدلية بين الأخلاق الإيكوسنترية، التي يكون الفرد أو تكون بمقتضاها مركز التفضيل، والأخلاق الجينوسنترية، التي يكون الآباء والأولاد والأقارب مركز الاستناد والتفضيل، والأخلاق الإيتنوسنترية / سوسيوسنترية، تكون الجماعات والمجتمعات مركز الاستناد والتفضيل. إضافة إلى التمركز على الإنسان[22]. ولكن يمكن الرهان على مبدأ الاهتمام والعناية الكامن في هذه البنية الأخلاقية المعقدة والارتقاء به إلى مستوى أخلاقيات المواطنة المتساوية، والمواطنة العالمية. إن صواب الأحكام مرهون بسلامة المعايير، العمومية والكونية هما المعيارات الرئيسان للسلامة.
العقبات التي تحول دون التواصل والحوار المجدي
إذا كان الحوار حاجة اجتماعية وإنسانية، حاجة للفرد والجماعة والمجتمع، والجماعة الإنسانية العاقلة والأخلاقية، فمن الضروري تلمّس العقبات التي تحول دونه، وهي عقبات مبثوثة في الحياة الاجتماعية لمختلف المجتمعات، بما فيها المجتمعات المتقدمة، وإن كانت تختلف، في الدرجة، من مجتمع إلى آخر. ولعل التعصب هو العقبة الأكثر كؤداً. وهو، أي التعصب، fanaticism حقيقة بشرية؛ تتبدى بأشكال مختلفة ودرجات مختلفة، بعضها يهدد تماسك الجسم الاجتماعي، ويزعزع وحدته، كما هي حالنا اليوم، بقدر ما يهدد تماسك شخصية الفرد، ذكراً وأنثى، ويزعزع وحدتها. وهو ظاهرة عالمية، وتاريخية، تختلف تجلياتها، في الدرجة، من مجتمع إلى آخر باختلاف الشروط الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، التي هي ذاتها أبعاد الظاهرة، إذ تمكن ملاحظة التعصب العرقي والإثني والقومي والعشائري أو القبلي والجهوي والديني والمذهبي والأيديولوجي والحزبي والطقوسي … و”العلمي” أو العلموي أيضاً، في كل زمان ومكان. لذلك نحاول أن ننزع الطابع القيمي المطلق والطابع السلبي عن مفهوم التعصب، لكي تنجلي حقيقيته التاريخية، في تناوب السلم والحرب والتعايش والنزاع، وإلا يغدو التعصب نوعاً من القدر.[23]
التعصب ليس مرادفاً للتطرف، إذ تمكن ملاحظة التطرف أو الاعتدال في حقل التعصب ذاته، فلا يخلو أحد من تعصب، بمن في ذلك الفلاسفة والشعراء والفنانون. ما يوجب على الإنسان العاقل والأخلاقي مساءلة الذات ومراجعة البداهات واليقينيات على واقع المجتمع وقيم العصر. حقل التعصب فسيح ومتموج، يبدأ بالاقتناع فالتلقين والإقناع فالحماسة فالدعوة، أو التبشير، فالتطرف فالجهاد، أو النضال، فالعنف، فالإرهاب. وهذا مما يربط التعصب بالطوباويات، التي تتحول، بعد انقضاء زمنها، إلى أيديولوجيات، ثم إلى فولكلور، تكتسب معه الطقوس والعلامات والرموز والأساطير طابعاً شعبياً. ولعل الأيديولوجيات على اختلافها وتخالفها، هي الأنساق التعصبية، التي تحمل جرثومة التطرف والعنف وإمكانات تحول الأخير إلى إرهاب. وبهذا يتجاوز التعصب حدود الحاجة (كالحاجة إلى الانتماء أو الحاجة إلى تأسيس الذات وتأثيثها، والحاجة إلى يقين والحاجة إلى حماية الذات وحماية الجماعة) إلى مستوى الرغبة، التي تؤججه وإرادة السلطة والسيطرة، التي تستثمره.
ولعلنا لا نجد هذا التحول الخطير من حقل الحاجة إلى حقل الرغبة والهوى و”إرادة القوة” إلا مشفوعاً بالسلطة، بما هي علاقات قوة أو علاقات بين قوى متنافسه، داخل الجماعة أو المجتمع الصغير (Community)، وبين الجماعات المختلفة، في المجتمع الكلي (Society)، في الوقت نفسه. فلا ينفك التعصب عن آليات تَولُّد السلطة والمبادئ التي تؤسسها، ابتداء من جيناتها الأولية أو الميكروية. فإذا ما حذفنا عنصر السلطة من التعصب، على سبيل التمرين الذهني، لا يتبقى منه سوى الاقتناع والحماسة والتلقين والإقناع الذي لا يبلغ حدود الدعوة.
لعل “الدعوة” هي الحد، الذي يتحول عنده التعصب إلى تطرف، والجهاد أو النضال هو الحد، الذي يتحول عنده التطرف إلى عنف مادي ورمزي، ويمكن أن يتحول في شروط معينة إلى إرهاب.
ولما كان التعصب لا يقوم بلا “آخر” يُتَعَصَّب عليه (شخص آخر، جماعة أخرى، عرق آخر – إثنية أخرى – قومية أخرى، جنس آخر، مذهب آخر ..)، فإنه يظل مفتوحاً على التعايش مع هذا الآخر المختلف ومفتوحاً على قبول الاختلاف، ما لم يتحول، بكيمياء السلطة وإرادة القوة والسيطرة، إلى تطرف ملازم للدعوة، حينئذ يتحول الآخر المختلف إلى عدو، (عدو الله، وعدو الدين، وعدو الأمة أو عدو الاشتراكية والطبقة العاملة..) يجب كسر شوكته وإخضاعه إن لم يمكن القضاء عليه، ويغدو هذا كله من قبيل الواجب الأخلاقي، فتنعدم إمكانية الحوار.
ويبدأ انزلاق المجتمع إلى مهاوي العنف، الرمزي و / أو المادي ، عندما يختار الزعيم بطانته، على صعيد الجماعة، (وعلى صعيد الحزب الذي يُختزَل في لجنته المركزية ثم في مكتبه السياسي ثم في أمينه العام)، وعندما يختار الحاكم شعبه، كما تفعل الآلهة، على صعيد المجتمع، وينظر إلى بقية رعاياه ويتعامل معهم على أنهم الأعداء الموضوعيون، الذين يتربصون به. فيتجاوز العنف، الذي تمارسه بطانته وأدواته حدود القانون، حتى يتلاشى القانون، ويضمحل، فتحل الامتيازات محل الحقوق، وتحل الولاءات محل القانون. وليس تلاشي القانون واضمحلاله سوى تلاشي الدولة واضمحلالها والدخول في حال من الفوضى، على كل صعيد، فيتآكل ما حققه المجتمع من تمدن. الهمجية هي نتيجة هذا التآكل وذروته.
فإن احتكار الحقيقة والإعلام واحتكار السلطة ومصادر القوة من قبل حزب أو فئة أو طبقة يؤلفان مصادر التعصب والتضييق على لعبة الحقيقة والخطأ وشلِّها وتدميرها. إنهما يُنفذان القمع المفترس إلى كل معارضة، وكل نقد، وكل وسيلة، لبيان الحقيقي وإظهاره. إنهما يسمحان بإنتاج مستمر للوهم والأكذوبة. ليست الرقابة واحتكار الإعلام نتيجتين للاستبداد، بل هما جوهر الأنظمة المستبدة. فالسيطرة والاستعباد يتضمنان بالضرورة إلغاء الشروط التعددية / الجدلية للتحقق والمناقشة والنقد والمساءلة، وقمعها، تحت قناع الحرية: (لا حرية لأعداء الشعب). الحقيقة المطلقة وهم مطلق، والقائلون بها واهمون وهماً مطلقاً، هذا المطلق هو جذر جميع أشكال التعصب والتطرف والعنف والإرهاب.
ثمة وجاهة في قسمة المتعصبين قسمين: متعصبين أصليين، يحوزون الثروة والسلطة ومصادر القوة، ويعملون كل ما في وسعهم للدفاع عنها والحفاظ عليها، ومتعصبين تابعين يتماهون بهؤلاء ويستبطنون تعصبهم [24]. ولا يخلو أن يُحمِّل المتعصبون الأصليون مسؤولية نتائج تعصبهم المغلف بألوان عجيبة لتابعيهم. وهؤلاء التابعون الذي يقبلون أن يُعمل بهم أي شيء، يصيرون قابلين لأن يفعلوا أي شيء، بلا أي وازع. وذلكم هو الأساس العميق للانحطاط الأخلاقي. فليس من المنطقي فصل الانحطاط الأخلاقي، الذي يتجلى في وجود أشخاص فوق القانون، عن انحطاط الدولة وتلاشي القانون، لأن الدولة هي “الحياة الأخلاقية للشعب”[25]، حسب تعبير كارل ماركس.
في ضوء هذه الإحداثيات، يمكن تلمس جذور التعصب في الاغتراب الذاتي والخوف من الحرية والقواعد التي تتأسس عليها السلطة، في مجتمعنا، وفي أي مجتمع.
1 – الاغتراب الذاتي
أشرنا في المقدمة إلى أن الاغتراب علَّةَ التديُّن والملكية الخاصة، والمؤسسات الناتجة منهما والسلطات التي تحرسهما، وعلة الهيمنة الذكورية أيضاً. فما كان للإنسان أن يتجنب تجلي ماهيته في الآخر المختلف أو يخاصمه أو يعاديه لولا اغترابه، بدايةً، عن خصائصه الانسانية، التي تحولت على مر التاريخ إلى سلطات خشنة وناعمة، وهويات عرقية وإثنية وقومية، ملتبسة بعقائد دينية، تمتح منها هذه السلطات ثقافتها ومقومات شرعيتها، مع أن جميع الشروط التي أنتجتها والرؤية الكونية (الكوسمولوجية) التي كانت تسندها وتشدها قد تغيرت تغيراً جذرياً في عالم اليوم، إلا في المجتمعات التي لا تزال ملقاة على هامش التاريخ موضوعاً للقوى الكبرى وأداة من أدواتها وسماداً لتاريخها، إن لم تكن خارج التاريخ.
فقد رأى كارل ماركس، في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 أن الاغتراب Alienation هو علة الملكية الخاصة، التي كانت ملكية الأرض أول أشكالها، ورافقها تملك الرجل لجسد المرأة، إذ كان تقسيم العمل الجنسي أول تقسيم للعمل، وما لبث أن تمأسس في ظل الملكية الخاصة للأرض. الملكية الإقطاعية للأرض .. هي الأرض التي اغتربت عن الإنسان، وتواجهه في شكل عدد من السادة العظام، وتسيطر عليه. فالقن ملحق بالأرض، ومثله، سيد الضيعة الموروثة – الابن الأكبر – ينتمي إلى الأرض، التي ترثه. إن سيادة الملكية الخاصة تبدأ بملكية الأرض، فهذا هو أساسها [26]. ولكن السيد في ملكية الأرض الإقطاعية يبدو على الأقل مليكاً للضيعة” .. وهذه أقرب إلى أن تكون وطناً لمن ينتمون إليها، إنها نوع ضيق من القومية”، إذ ثمة اندماج بين النبالة (السيادة) والأرض، ثم بين السيادة والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الحديثة. وإذ لا تقوم سيادة إلا على تبعية أو عبودية، فإن السيادة هي مبعث التمييز والتعصب، وهما صنوان، ومن ذلك التعصب القومي، في الدولة الحديثة، التي لا تزال تنطوي على صورة الحياة الاجتماعية والإنسانية بالأبيض والأسود، أي على التمييز والتعصب.
وإذ تنجر ملكية الأرض إلى حركة الملكية الخاصة، في النظام الرأسمالي، تصبح الأرض سلعة أعلى قيمة من الإنسان، وتتحول السيادة الصريحة والمباشرة إلى سيادة مقنًّعة، والتبعية أو العبودية الصريحة والمباشرة إلى عبودية مقنَّعة وشديدة الخفاء والغموض، تحت ستار المساواة والحرية. ولكن، ما كان للملكية الخاصة أن تسود هذه السيادة على مر التاريخ من دون سلطة تحميها وعقيدة تبررها، هي “سلطة ناعمة” رديفة للسلطة الخشنة دوماً.
السلطة التي تحمل جرثومة العنف المادي والعنف الرمزي، بالتلازم، لا تقوم، حتى يومنا، إلا على عصبية تُعصِّب الجماعات والفئات الاجتماعية (الطبقات) وجميع أفرادها، وإن في صيغة تضامنيات حديثة ونقابات وأحزاب سياسية. فالتعصب وهذه الحال متصل أوثق اتصال وأشده بقواعد تشكل السلطة، وفقاً لطبيعة البنى الاجتماعية وعلاقاتها الداخلية والخارجية. لذلك نذهب إلى أن مصادر التعصب هي ذاتها مصادر الاغتراب ونلخصها في الأتي:
1 – الجهل بالأسباب الموضوعية للظواهر، الطبيعية أو الاجتماعية أو السياسية، والشعور بالعجز إزاءها والتبعية لها، بدءاً من الشعور بالتبعية للطبيعة، بصفتها مصدر الحياة وشرط البقاء. فالجهل والعجز والشعور بالتبعية مما دفع الناس إلى إضفاء خصائصهم الإنسانية على عناصر وظواهر طبيعية، وتقديس هذه العناصر والظواهر، بعد تجريدها من خصائصها الشيئية أو المادية وتمثيلها برموز وصور ينسب إليها الخير والشر والنفع والضرر، فأصبحوا تابعين لها، يغنونها بقدر ما يفقرون أنفسهم، أي إنهم يغتربون عن خصائصهم الإنسانية التي صارت خارجهم. ومن ذلك تقديس الأسلاف، وتقديس الأب والزعميم والملك – الإله .. وعبادتها، وهذا مايسمى “الاغتراب الديني”، ويسميه بعضهم “الاغتراب الذاتي”، والعبودية الطوعية للرموز والصور، وهذه على الأرجح معادل رمزي للعبودية الفعلية.
2 – علاقات القوة الناتجة من تفاوت الأفراد والجماعات، وعجز أكثرية أفراد الجماعة أو المجتمع عن السيطرة على منتجات عملهم وفاعليتهم، وخضوعهم للاستغلال، فتغدو منتجات عملهم وفاعليتهم ملكاً خاصاً لآخرين، وتتحول في أيدي هؤلاء إلى قوة خارجية تسيطر على من أنتجنها ومن أنتجوها، وتستتبعهم، فتستعبدهم أو تسترقُّهم وتسخِّرهم أو تحولهم إلى أجراء. لذلك تعد الملكية الخاصة وتقسيم العمل، بين الرجال والنساء، وبين الرجال أنفسهم، أولى نتائج الاغتراب، وعلة للاستتباع والاستغلال. قال جان جاك روسو: إن أول شخص أقام سوراً حول قطعة من الأرض وقال هذا لي، هو سبب آلام البشرية. لعل اغتراب النساء أول اغتراب في الجماعة (المنظمة) والمجتمع، فمع ظهور الملكية الخاصة تحولت المرأة إلى ملكية خاصة للرجل.
3 – التفاوت الاجتماعي واستغلال الإنسان للإنسان، وذلك بتحويل العمل الأجير إلى سلعة، خاضعة لمبدأ العرض والطلب، ومن ثم تحويل العاملة والعامل إلى سلعة، وتحويل منتجات العمل إلى ثروة وريع ورأسمال لمن يملكون الأرض أو وسائل الإنتاج الأخرى. ومع ظهور السوق، تحول الريع ورأس المال إلى قوة تسيطر على العاملات والعاملين، وتحولت العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين المنتجين إلى علاقات مادية بين أشياء، وتحولت العلاقات المادية بين الأشياء إلى علاقات اجتماعية.
فإذ يتحول العمل إلى ريع أو رأسمال مسيطر، وتتحول الفاعلية إلى علاقات اجتماعية وقيم ومؤسسات مسيطرة، وتنجدل معاً في علاقات القوة، التي تنتج السلطة، تنشأ فجوات عميقة تفصل بين الشعب وبين الفئة الحاكمة، وبين العامل ورب العمل والتلميذ والأستاذ والمرأة والرجل والغني والفقير والمثقف والأمي أو شبه المثقف والمتعصب دينياً والعلماني متديناً كان أم غير متدين .. إلخ. لهذا السبب وغيره من الأسباب الأخرى ينقسم الشعب على نفسه، وخاصة لدى هيمنة السلطوية ورسوخ سلسلة لا تنتهي من القمع المتواصل[27].
وقد ذهبنا إلى أن مظاهر الاغتراب في المجتمع تتعدى المستوى السوسيولوجي إلى المستوى الثقافي والسياسي، ونوجز ذلك في الاغتراب في الوطن، والاغتراب منه، والاغتراب عنه، ورأينا أن هذا الأخير هو النسق المولد للعنف والإرهاب[28]. ولكن، ما دامت أسباب الاغتراب معروفة، أو قابلة لأن تُعرف، يمكن تقليصه وتلافي تأثيره في الدولة والمجتمع والمؤسسات والأفراد. لذلك فإن الاغتراب يتصل بمشكلات التفكك الاجتماعي والثقافي والسياسي وتدهور القيم حيثما تسود علاقات القوة والنزاع وعلاقات التبعية والطائفية والفئوية الطبقية والسلطوية بدلاً من علاقات التعايش والتضامن والتفاعل الحر والاندماج الطوعي. [29]
هذا الجذر الاغترابي والتغريبي هو ما يدعو إلى إرجاع التعصب إلى الاغتراب في الدين والملكية الخاصة والمؤسسات التي ينتجانها والسلطات التي تحرسهما. فإذا كان الاغتراب علة الدين والملكية الخاصة، فإن التعصب نتيجة من نتائجهما. بتعبير آخر، إذا كان الاغتراب علة نقص الحياة الإنسانية، التي قوامها الحرية، فإن التعصب مظهر من مظاهر هذا النقص. لا مفر من حقيقة أننا جميعاً أشخاص نمارس سلطة، مادية أو معنوية، و / أو أشخاص تُمارَس علينا سلطة، مادية أو معنوية، في جميع مجالات حياتنا. وأن ميلنا الطبيعي إلى التملك ورغبتنا فيه مشروطان بهذه الحيثية إيجاباً وسلباً. ما يؤكد أن السلطة قوة ملازمة للتملك أو لمنعه وكفه ومقاومته، إذ كل سلطة تولد مقاومة. ومن ثم، فإن سلطة الملكية هي ملكية السلطة؛ وقوة الملكية هي ملكية القوة. والسلطة متعسفة بطبيعتها، إذا لم يزعها وازع، والقوة عمياء إذا لم تزعها قوة مكافئة، ولم تستنر بنور العقل والأخلاق، فلا يكفي العقل وحده.
أليس الاغتصاب، مثلاً، ومنه اغتصاب الزوج لزوجته، سلطة غاشمة على الجسد، مصدرها رغبة عارمة في تملكه واستهلاكه، أي تدمير خصائصه ومقوماته الإنسانية؟ أليس القتل والتمثيل بجثث القتلى واستعراضها والرقص على أشلائها، مثلاً آخر، سلطةً غاشمةً على الحياة والموت، لا يزعها وازع؟ أليست الرغبة (العامة) في تجهيل الفاعلين، في هذين المثالين، أو التشفي بالضحايا، تعبيراً عن تلازم التطرف والانحطاط الأخلاقي والنكوص إلى الهمجية والتوحش، وتعبيراً عن الضمير التسلطي، الذي وصفه إريك فروم [30]؟ أليست الحرب، من ألفها إلى يائها نكوصاً إلى الهمجية والتوحش؟ إن السلطة على الحياة والموت هي السر الدفين للعنف المقدس والإرهاب المقدس، لأن الإنسان يقوم بعمل الآلهة. التعصب هنا عنف ممسرح، وإرهاب ممسرح، هو المآل الأخير للذات الخائبة.
إن وعي الاغتراب والعمل من أجل تقليصه وتقليص آثاره مسألة اجتماعية وإنسانية بامتياز، لا يمكن الولوج إلى حلها إلا بالتواصل والحوار والنقاش العمومي.
2 – الخوف من الحرية
لاحظ عبد الله العروي أن دلالة كلمة الحرية في ثقافتنا لا تطابق دلالات المفهوم المتداولة في عالم اليوم، وأن الحرية لا توجد إلا خارج حقل السلطة، ورأى أن رموز الحرية في ثقافتنا هي البداوة والعشيرة والتقوى والتصوف. وإذ نتفق مع فرضية العروي الأولى فإننا نخالفه في وصف علاقة الحرية بالسلطة ووصف رموز الحرية في ثقافتنا، انطلاقاً من اعتبار السلطة علاقات قوة مبثوثة في الجسم الاجتماعي، فهي محايثة للعلاقات الاجتماعية وما تنتجه هذه العلاقات من انتظامات وتنظيمات ومؤسسات، وليست مجرد رأس الهرم، وإن بدت كذلك. ونرى في اللجوء إلى البداوة والعشيرة والتقوى والتصوف أشكالاً من الهروب من الحرية والعجز عن مواجهة الاستبداد والطغيان، وأشكالاً من الاغتراب في المجتمع والاغتراب منه والاغتراب عنه. أو هروباً من استحقاقات الحرية المدنية إلى حرية طبيعية لم تعد ممكنة.
ورأى إريك فروم أن “الرأسمالية حررت الفرد من النمط الإقطاعي الذي لم يكن يُعترف بفرديته، وأتاحت له أن يقف على قدميه ويجرب حظه، فصار سيد قدره، وقدره هو المخاطرة والربح؛ فالجهد الفردي يمكن أن يفضي به إلى النجاح والاستقلال الاقتصادي”؛ وألقت هذه الحرية السلبية بكتل بشرية كبرى في خضم السوق التي تقوم على مبدأ ربح أكثر وتكلفة أقل، تحت الشعار الليبرالي الشهير: دعه يعمل دعه يمر. وما لبثت الرأسمالية حتى تحولت إلى نمط عالمي، لا بفعل قوانين السوق ويدها الخفية فحسب، بل بفعل النشاط الاستعماري للدول القومية المرسملة، والحروب التي خاضتها هذه الدول فيما بينها ومع الدول الضعيفة النمو، وبفعل الاحتكارات الكبرى التي تطبع عالم اليوم بطابعها، وانقسم العالم إلى مركز وأطراف تدور في فلك المركز، وتتكثف فيها تناقضات النظام الرأسمالي العالمي وعيوبه الأصلية وأزماته، وتتردد فيه، مع ذلك أصداء الحرية، جنباً إلى جنب مع تشييء الإنسان أو تسليعه (من السلعة) ومع تتجير (من التجارة) العلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ وبموازاة “صنمية السلعة” نشأت “صنمية السلطة”، وبلغ اغتراب الإنسان عن ناتج عمله وعن عالمه وعن ذاته ذروة لم يعد ممكناً معها سوى الكفاح من أجل تقليص الاغتراب والحد من آثاره وصولاً إلى حذفه.
ولكن معنى الحرية وأساليب ممارستها أو الهروب منها تختلف بحسب انتماء الفرد إلى إحدى فئات المجتمع أو طبقاته الدنيا أو الوسطى أو العليا في الهرم الاجتماعي الذي بات تقسيمه الطبقي صارماً. فإذا كانت الحرية الإيجابية لا تزال مقصورة على أفراد الطبقة العليا المالكة للثروة والسلطة ووسائل الإنتاج، فإن الحرية السلبية (التحرر من) هي ما حصلت عليه الطبقات الأخرى، فغدا معنى الحرية لدى الطبقات الدنيا، ولا سيما الطبقة العاملة، هو العمل في سبيل تغيير النظام القائم، أما الطبقة الوسطى، وهي أكثرية المجتمع، فهي التي تتجلى فيها تناقضات النظام، إذ تميل إلى المحافظة على النظام القائم من جهة، وتحتج على التفاوت الاجتماعي الذي ينمو باطراد من جهة أخرى، ولذلك تتكثف لديها مظاهر الخوف من الحرية والهروب منها.
ويمكن أن نغامر بالقول إن الفئات الوسطى هي التي تستثمر في التعصب والتطرف، بقدر ما تستبطن تعصب الفئات العليا وتطرفها، إذ تقدم لنا نماذج واضحة من التطرف العشائري والإثني والمذهبي، علاوة على التطرف الجنسي، إزاء النساء، وإن تحت شعارات “تحرير المرأة ومساواتها بالرجل”، ولا يخفى ما في المصدرين: التحرير والمساواة من زعم ذكوري، يعني أن الرجال هم من سيحررون النساء ويساوونهن بهم، لأسباب تتعلق بالتعبئة والتجييش وادعاء الحداثة.
الرأسمالية، في المركز والأطراف، وضعت الفرد الذي حررته من الروابط الأولية إلى غير رجعة، إذ بات من غير الممكن استعادة تلك الروابط إلا بصورة وهمية، وضعته أمام أحد خيارين: إما التقدم نحو الحرية الإيجابية والتصالح مع العالم ومع نفسه، بالحب والعمل والإبداع، والتعبير الأصيل عن قدراته العاطفية والحسية والعقلية، وإما الهروب من الحرية إلى التبعية والخضوع [31]. ويتناسب هذان الخياران مع تيارين متناقضين في النظام الرأسمالي ذاته، التيار الديمقراطي والتيار العنصري، على اختلاف تفريعاته ومظاهره. وإن كان عالم الأطراف والهوامش أكثر عرضة للتسلط والاستبداد والدكتاتورية. وهذان التياران كلاهما متجذران ومؤثلان في النظام الرأسمالي العالمي، في مركزه وأطرافه على السواء؛ إذ يقترن أولهما بالتناقس، ويقترن الثاني بالاحتكار، والتنافس والاحتكار تياران أساسيان في النظام الرأسمالي العالمي. وإذا كان التيار الهتلري نوعاً من مرض خبيث يصيب القومية، أعني التعصب والاستعلاء القوميين، والشعور الوهمي بالتفوق القومي أو العرقي، فإنه لا يستنفد في هذه الصفة التي ترجع هي ذاتها إلى عوامل اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية تتعلق بالفئات الوسطى بصورة أساسية، وبالحالة “الجماهيرية” التي تنتجها هذه الفئات، التي تجلت لديها النزعات التسلطية والتدميرية والنمطية الآلية، والعدمية، عندنا وفي غير مكان من عالمنا المعاصر. فالاستعادة الوهمية للروابط الأولية والعلاقات التفاصلية ليست عوارض حمق أو جهل، فقط، أو مجرد نكسة في التطور وحسب، لأن الوهم والإيهام شرطان من شروط التسلط والاستبداد، ومصدران من مصادر التعصب.
3 – القواعد المؤسسة للسلطة
رأى الجابري أن دراسة ابن خلدون للعصبية تنطلق من فكرة الوازع التي تقتضيها ضرورة الاجتماع البشري، لكبح الميول العدوانية المترسبة في الطبيعة البشرية أثراً من “آثار القوى الحيوانية؛ .. فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصدَّه وازع” [32]. وتتدرج فكرة الوازع عنده من السلطة المعنوية، التي للشيوخ والكبراء، إلى السلطة المادية التي تقوم على “الغلبة والسلطان واليد القاهرة”، أي على الملك. فالوازع سلطة اجتماعية “تستمد خصائصها من نوع الحياة الاجتماعية السائدة”، لذلك لم يهتم بالوازع الذاتي النابع من ضمير الفرد، كالوازع الأخلاقي أو الديني، وإن أبرز أثره في تقوية الروابط الاجتماعية[33]. (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
تبين لنا فكرة الوازع أن العصبات لا تصير عصبيات، ضيقة أو موسَّعة، وأنساقاً لتوليد التعصب والتطرف والعنف والإرهاب إلا بإرادة السلطة أو إرادة السيطرة، التي عبر عنها ابن خلدون بالمدافعة والمطالبة، وأن قوة السلطة ليست شيئاً آخر سوى سلطة القوة، التي يقوم عليها “حق الأقوى”. فلا تتبين الآثار الخطيرة للتعصب إلا في القواعد الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والأخلاقية التي تؤسس السلطة، وتشكل حقل السياسة. نتبنى في هذا السياق مقاربتين متكاملتين: المقاربة البطركية، التي قال بها هشام شرابي وغيره، ومقاربة الشيخ والمريد، التي قدم فيها عبد الله حمودي إسهاماً مميزاً. يتأتى تكامل هاتين المقاربتين من التضامن التاريخي بين السلطة والعقيدة، دينية كانت العقيدة أم علمانية. ونفترض أن العلاقات البطركية وعلاقة الشيخ والمريد متضامنتين لا تنتج منهما سوى سلطة / سلطات شخصية مطلقة، خشنة وناعمة، لا تقبل المناقشة والمراجعة والمساءلة وتتطير من النقد.
“السلطة علاقات قوة، أو علاقات بين قوى”، حسب ميشيل فوكو، ومن طبيعة السلطة أنها تميل دوماً إلى التوسع والشمول والسيطرة على الفضاء الاجتماعي برمته، إذا لم تواجه مقاومة كافية من المجتمع المدني، الذي يميل بطبيعته إلى الحرية والاستقلال، ويتحلى أفراده بالشعور بالمسؤولية الملازمة للحرية. أما في البلدان المتأخرة والتي عاشت تجربة الاستعمار الحديث و”تحررت” من سيطرته المباشرة، فإن توسُّع السلطة لا يواجه مقاومة تذكر، إما بسبب الاستجابة الإيجابية والسلبية لخطابها “القومي” و”التحرري”، وإما بسبب الطموح إلى الارتقاء الاجتماعي، من طريق الالتحاق بها والاندماج في عالمها، وإما بسبب العزوف واللامبالاة المعززين بالفقر والجهل والأمية، علاوة على رهبة السلطة والخوف المزمن من بطشها، وهذه كلها تعبر عن ضعف أو فتور في إرادة الحرية، التي استنفدت في مقولة “التحرر من الاستعمار، والتحرر من الإقطاع، ثم من الهيمنة الإمبريالية”. وهو ضعف تمتد جذوره إلى نسيان الذات الفردية، أي إلى “الغيرية الجذرية”، التي تعني ذوبان الأفراد في البنى والتشكيلات ما قبل الوطنية، وضعف، إن لم نقل عدم الشعور بالمسؤولية .. فلم تلبث السلطة إلا قليلاً حتى اخترقت الفضاءات الاجتماعية الخاصة، ثم سيطرت عليها سيطرة تامة، من دون أن تكون فضاء عاماً، ولا سيما بعد استيلاء العسكر على السلطة عام 1963، وانطلاق سيرورة تنسيق قوى المجتمع تبعاً لتوسُّع أجهزة السلطة وتوسُّع نفوذها وتعدد أدوات سيطرتها.
كثافة في التواصل ونقص في التفاهم
وفرت تقنيات التواصل الحديثة ووسائل الإعلام والنشر فضاء مفتوحاً للتواصل والحوار بين الأفراد والجماعات والقوى الاجتماعية والسياسية ومراكز الأبحاث والدراسات، وغدا تدفق المعارف والمعلومات كثيفاً وسريعاً، وغدت الموارد الثقافية في متناول الخاصة والعامة، من دون أن ننفي مثابرة القوى الكبرى والشركات الكبرى على احتكار مستوى معين من المعارف العلمية والتقنية وأنواع مختلفة من المعلومات، التي توفرها أجهزة الرصد الحديثة، كالأقمار الصناعية ووسائل الاستشعار عن بعد، ما يعني أن تدفق الموارد يظل ناقصاً وموجهاً، بغية السيطرة على العقول والتلاعب بها. ولذلك تقترن كثافة التواصل بنقص التفاهم، ما دام هنالك قوى تعمل على إخفاء المعطيات وتحويرها، وتحرص على جعل الإعلام الناقص والكاذب، مصدراً وحيداً للمعرفة وشكلاً مبتوراً ومشوهاً للثقافة.
على الصعيد السوري، تلاحظ ظاهرة كثافة التواصل ونقص التفاهم بوضوح، في العالمين المتوازيين: الواقعي والافتراضي، حتى ليمكن القول إن العالم الافتراضي بات مرآة العالم الواقعي، ما يشي بأن حالة الحرب الباردة بين السوريين قد تستمر بعد وقف الحرب الساخنة زمناً طويلاً، إذا لم تقم النخب الثقافية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني بواجباتها الاجتماعية، الوطنية، والحوار هو أول هذه الواجبات، لأنه يمكن أن يفتح ثغرة واسعة في جدار الاستبداد، ويعري إستراتيجيات السلطة ورأسمالية المحاسيب، ويفتح إمكانية تشكل ثقافة وطنية ذات محتوى إنساني، هي شرط لازم للاندماج الاجتماعي. فلا يمكن أن يقوم تواصل حقيقي بين السوريات والسوريين بعيداً عن كل قسر وإكره وسوء فهم، في ظل تواشج المعرفة والأيديولوجيا وتواطؤ العقل والسلطة. لا يمكن قيام حوار فيما بينهم بتوسط لغة زئبقية مراوغة تقول الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، فاللغة مجال للاتفاق والتفاهم لا ميدان للغموض والضبابية وسوء الفهم. ولا يمكن أن تقوم أخلاق تواصلية في ظل النزاعات المحتدمة على خلفيات إثنية ودينية ومذهبية، ونزوع وحشي إلى احتكار الحقيقة واحتكار السلطة.
لعل الشرط الأولي لإمكان التواصل الإنساني والاجتماعي هو إزالة المتاريس والحواجز المادية والمعنوية، وإزالة الثانية بالحوار والمناقشة العمومية شرط لازم لإزالة الأولى، من أجل التفاهم والتوافق على حلول جذرية للمشكلات القائمة، تلبي مصالح الجميع، بلا استثناء، سوى من ارتكبوا جرائم موصوفة، هؤلاء تجب محاكمتهم محاكمة عادلة، هي شرط لازم للنسيان الإيجابي، الضروري لتشكل أي مجتمع واستقراره. المصالحة الوطنية، في مغزاها الأعمق هي نسيان إيجابي مبعثه تحقيق العدالة، بما هي رفع جميع أشكال اللاعدالة، التي يمكن رفعها، من خلال “حرية الفعل الإجمالية لمختلف الناس”، فضلاً عن المساواة، حسب أمارتيا صن[34]، وصولاً إلى العدالة الاجتماعية.
خاتمة
الحوار مدخل ضروري إلى السياسة، بل لعله المدخل الوحيد. والسياسة، في أحد معانيها وأهمها، هي نفي الحرب خارج المدينة، خارج المجتمع، خارج الدولة، وفي مستوى متقدم هي نفي الحرب كلياً ونهائياً. جدلياً، السياسة هي نفي الحرب، وهي المعنى الذي تنعقد عليه وحدة المجتمع والدولة، والسلطة والشعب، والحكم والمعارضة، وحدة الساحة والقصر، ووحدة المعارضة أيضاً. هي المعنى الذي تنعقد عليه وحدة المجال السياسي المجتمعي. السمة الأبرز للمجتمعات المتقدمة الموحدة أو المندمجة قومياً (= وطنياً) واجتماعياً هي وحدة مجالها السياسي الذي تتجابه فيه وتتقاطع تيارات واتجاهات مختلفة ومتعارضة. في نطاق مثل هذا المجال السياسي الموحد تقوم الوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة، وهذه الوحدة التي لا تعرفها النظم الاستبدادية ويستهجنها سياسيوها ومثقفوها أيضاً، هي التي تفضي إلى الاستقرار السياسي الفعلي وإلى التداول السلمي للسلطة. إنه من المستحيل أن يتم تداول سلمي للسلطة ما لم تكن هناك وحدة جدلية بين السلطة والمعارضة، وإلا كيف يمكن أن يتحول الشيء إلى نقيضه من دون تدمير الوحدة أو تفكيكها؟
إن مصير السلطة الاستبدادية أن تدمر وحدة المجال السياسي، ثم وحدة المجال المجتمعي، ثم منظومة القيم الاجتماعية والإنسانية، بالفساد والإفساد، ثم تدمر نفسها. هذه كانت الحال في سوريا، وانتهت إلى تدمير الوطن. منطقياً وأخلاقياً، السلطة السياسية لا تستطيع أن تنفي المعارضة من دون أن تنفي ذاتها. والمعارضة كذلك، لا تستطيع أن تنفي السلطة من دون أن تنفي ذاتها. والدولة لا تستطيع أن تنفي المجتمع من دون أن تنفي ذاتها أيضاً. الدولة المستبدة هي أي شيء سوى الدولة السياسية، والسلطة المستبدة هي أي شيء سوى سلطة سياسية؛ لأنهما، بالقدر نفسه، استلاب ناجز للمجتمع والشعب. والحوار هو المدخل الضروري إلى الإصلاح الديموقراطي لأوضاع مجتمعاتنا ودولنا وأوطاننا التي أوصلها الاستبداد إلى مفترق: إما الإصلاح الديموقراطي والتنمية الإنسانية العادلة، وإما الكارثة، إما الديموقراطية وإما التوحش والهمجية، إما نجاة الجميع وإما غرق الجميع. قال الشاعر الألماني هنريش هاينه: “نادراً ما فهمتكم ونادراً ما فهمتموني، ولكننا حين نسقط في الوحل نتفاهم فوراً”. ألم نسقط في الوحل بعد؟ لمَ لم نتفاهم بعد؟![35]
المراجع
ادغار موران، مقدمات للخروج من القرن العشرين، ترجمة أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1992
إريك فروم، الإنسان من أجل ذاته، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، إصدار وزارة الثقافة، دمشق، 2007.
إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972.
أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، 2010
أندريه هاينال وميكلوس مولنار وجيرار دي بوميج، سيكولوجية التعصب، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الساقي، بيروت، 1990.
جاد الكريم الجباعي، اغتراب الإنسان وتغريبه، لا يزال مخطوطاً.
جاد الكريم الجباعي، قضايا النهضة، دار علاء الدين، دمشق، 2003.
جاد الكريم الجباعي، التعصب وآليات إنتاج العنف، ورقة بحثية، 2016.
جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009
حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1998.
سالم يفوت، فلسفة التواصل عند هابرماس، على الرابط: http://www.hurriyatsudan.com/?p=111546
طه عبد الرحمن، الحوار أفقاً للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2013
فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2011.
كارل ماركس، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ
كارل ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي، نسخة إلكترونية، 2004.
محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط6، 1994
محمد نور الدين أفايه، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء وبيروت، 1998
مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2005.
يورغن هابرماس، إيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم، ناشرون، الجزائر العاصمة، 2010.
يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطنة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995
- – من أبرز المثلة على الحوار العقيم ما يسمى حوار الأديان، على وزن “حوار الطرشان”، أو ما يسمى الحوار العربي الكردي، عندنا. أو ما يسمى حوار الشمال والجنوب. ↑
- – إشارة إلى “المصالحات” التي قام بها وزير المصالحة الوطنية وبعض ضباط الجيش والأمن، في المناطق المحاصرة، في غير مكان. ↑
- – فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2011. ↑
- – مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2005. ↑
- – لدى فحص مفهوم الآخر / الأخرى يتبين أنه مفهوم غير مناسب، أو لم يعد مناسباً لنمو الإنسانية. فالآخر / الأخرى يعبر عنه/ـا بضمير الغائب/ـة المفرد /ة (ضمير الشخص الثالث) فهو معدود في مقام الأشياء والحيوانات، وممنوع من الحضور وممنوع من الكلام، وموضوع لأحكام المتكلم/ـة. ↑
- – راجع/ي، يورغن هابرماس، إيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم، ناشرون، الجزائر العاصمة، 2010، ص 26 وما بعدها. ↑
- – محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء وبيروت، 1998، ص 185. ↑
- – فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2011، ص 15. ↑
- – طه عبد الرحمن، الحوار أفقاً للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2013، ص 28. نخشى أن يذهب بنا “إظهار القوة الاستدلالية” إلى المبارزة والمناظرة. نحن نقترح تنمية القدرة الاستدلالية. ↑
- – ادغار موران، مقدمات للخروج من القرن العشرين، ترجمة أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1992، ص 183، بتصرف. ↑
- – موران، ص 190. ↑
- – يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطنة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995، ص 455. ↑
- – موران، ص 89، بتصرف. ↑
- – راجع/ي، موران، الصفحات 94 – 108. ↑
- – موران، ص 136 – 137. ↑
- – جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 215 وما بعدها. ↑
- – موران، ص 151. ↑
- – جاد الكريم الجباعي، قضايا النهضة، دار علاء الدين، دمشق، 2003، ص 150 وما بعدها.. ↑
- – جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة عمر مهيبل ، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، والمركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 2006، نسخة إلكترونية، ص 13. ↑
- – فيري، ص 14. ↑
- – سالم يفوت، فلسفة التواصل عند هابرماس، على الرابط: http://www.hurriyatsudan.com/?p=111546 ↑
- راجع/ي في ذلك، موران، ص 269 وما بعدها. ↑
- – جاد الكريم الجباعي، ورقة بحثية. ↑
- – راجع/ي، أندريه هاينال وميكلوس مولنار وجيرار دي بوميج، سيكولوجية التعصب، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الساقي، بيروت، 1990، ص 9 – 10. ↑
- – كارل ماركس، حول المسألة اليهودية، ترحنة نائلة الصالحي، نسخة إلكترونية، 2004. ↑
- – كارل ماركس، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ نشر، ص 62. ↑
- – بركات، ص 61. ↑
- – جاد الكريم الجباعي، الاغتراب، ورقة خلفية، المركز السوري لبحوث السياسات، 2014. ↑
- – حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1998، ص 8. ↑
- – إريك فروم، الإنسان من أجل ذاته، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، إصدار وزارة الثقافة، دمشق، 2007، ص 177. ↑
- – إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972. ↑
- – محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 6، 1994، ص 163. ↑
- – الجابري، ص 164. ↑
- – أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، 2010، ص 423 وما بعدها. ↑
- – الجباعي، ص 166.. ↑