لكي لا يكون فكر الياس مرقص صرخة في واد
مرت ثلاثة عقود ونيف على رحيل الصديق والمعلم الياس مرقص عن دنيانا، لكنه لم يبارح الذاكرة؛ فقد ظل، ولا يزال، المعلم الذي أستشيره في ما أكتب، لا هو يبخل بالمشورة، ولا أنا أكف عن معاودته بجهلي، كأنه بذلك لم يرحل، وكأني بهذا لم أتعلم. لكن هذه المقالة تناقش، بصورة مباشرة، رؤيته لمفهومَيْ “الفكر العربي”، و”الفكر العربي الإسلامي”، وأحوال “الفكر العربي”، على وجه الخصوص، من حيث علاقة الصفة بالموصوف، والحامل بالمحمول، أو من حيث علاقة الموضوع بالمحمول، بلغة أهل المنطق. وعنوانها مستوحى من مقالة له في مجلة الوحدة، التي أسهم في تأسيسها، منشورة في كتاب: العقلانية والتقدم، من منشورات المجلس القومي للثقافة العربية (1992). فما الفكر، وكيف هي حال “الفكر العربي” في نظر الياس مرقص؟
عن سؤال ما الفكر؟ يجيب الياس مرقص بالقول: “لهذه الكلمة أكثر من معنى؛ لحقيقتها أكثر من مستوى؛ ولفكرتها أكثر من اتجاه؛ فأي فكر نقصد؟ هناك أولاً المقولة الكبرى، الأكثر أساسية: الفكر ..، الروح ..، الوجدان والوعي ..، التي تقابلها – في المنطق – مقولة الكائن، الواقع، الطبيعة، (بما فيها المجتمع). هذا المعنى يشمل الصورة، التي في رأس النجار، وترشد عمله، ويشمل الفكر النظري المفهومي (فلسفة، علم وعلوم) ويشمل كل أشكال تملك الإنسان للعالم، عالمه، يشمل الحلم والخيال والشعور والعاطفة، الدين والفنون والآداب. هذا الفكر كله يجب أن يكون موضع سؤال. الروح العربية تحتاج إلى انقلاب. الحلم يحتاج إلى انقلاب. حلم موضوعه وغرضه الماضي! حلم وغرضه الماضي؟ هذه مفارقة فاضحة. الحلم المفيد، حلم الشغيل مثلاً، غرضه المستقبل: صنع هذه الطاولة، تنشئة الأولاد، وعالم أفضل. أما الحلم المسقط على ماض فهو بالأصح منام، رؤيا منامية.
أنتقل إلى مستوى ثان: الفكر، بحصر المعنى، (هو) الفكر الناظر، النظري. هل الفكر العربي فكر؟ لعله اليوم شيء أقل من الفكر، أدنى منه في المرتبة … لعله، في معظمه “فقه”؛ فقه قومي، فقه ماركسي، فقه هذا العلم أو ذاك، فقه ثوري، فقه ديني ولغوي وثقافي – حضاري … “مسيَّس دوماً”. وليس عندي قضية أرفعها على الفقه؛ قضيتي هي ضد الفقه الذي يتصور أنه هو الفكر أولاً وأخيراً. أدعو “فقهاً” الفكر الذي قوامه مبادئ وتطبيقات، أصول وفروع. مثلاً، المادية الجدلية، في عرض ستالين ومقلديه.
أما الفكر الحقيقي فيبدأ من الصفر. ركيزته “الصحيفة البيضاء”[1] “الأنا أشك، أنا أفكر” الرأس ومقابله العالم. مبدأ التجرد، الذي يؤسس طريق التجريد، هذا التجريد الواعي أنه تجريد، وحدٌّ، ومفهوم. هذا الصفر ركيزة كل الفتوحات، آينشتاين والسومري، مخترع الدولاب، آدم سميث وهيغل وماركس، فيثاغور والخوارزمي وباسكال، هيراكليت أفلاطون، أرسطو وابن رشد وابن خلدون، كوبرنيك وفييت ونيوتن، فلاسفة عصر الأنوار و”الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”. (ص 14)
لا بد من التوقف ملياً عند تعريف الفكر بأنه “جميع أشكال تملك العالم”. في البداية علينا أن نستكشف معنى تملك العالم، قبل الخوض في أشكال هذا التملك. سنستعير عبارة من كارل ماركس، ونجعلها أساساً واقعياً وتاريخياً لفكرة “تملك العالم”؛ عبارة ماركس تقول: “كل إنتاج هو تملك”؛ كل ما ينتجه الفرد من منتجات مادية ولامادية يصير ملكاً له، سواء أنتجه لنفسه، واحتفظ به، أو بادله بمنتجات شخص آخر، أو أنتجه لغيره لقاء أجر معلوم أو مكافأة أو سخرة. وهذا النوع الأخير من الإنتاج – التملك يندرج في باب الاغتراب (Alienation)، الذي ندعي أنه البذرة التي تحمل شجرة الديالكتيك. وبحسب قدرة الفرد على التصرف في ما ينتجه – يملكه تكون حريته. هذه واحدة من الدلالات العملية للحرية، قلما نتوقف عندها.
في ضوء ما تقدم، نفترض أن هناك ثلاثة أشكال رئيسة لتملك العالم، هي المعرفة والعمل أو الفاعلية والحب، يشمل كل منها ما لا حصر له من الأشكال، لأن من أبرز خصائص المعرفة والعمل والحب أنها لا محدودة، إلا بحد الفناء، فناء النوع البشري، ومن العسير جداً أن نقع على أشكال متطابقة من المعرفة والعمل والحب. هذا مما يضع مفهوم الحقيقة ومفهوم الواقع ومفهوم العالم تحت السؤال دوماً، ويضع الفكر نفسه، بصفته شكل العالم، تحت السؤال أيضاً.
الفكر، في لسان العرب، هو “إِعمال الخاطر في الشيء”؛ القاموس لا يعطينا سوى اسم عملية التفكير. الفكر هنا هو مصدر الفعل الثلاثي (المتعدي): فَكَرَ، ومنه المزيد (المتعدي أيضاً) فكَّر وتفكَّر وأفكر .. (تفكَّر: تأمل). ميزنا صفة المتعدي لنقول إن الفكر لا ينفصل لا عن فاعله ولا عن مفعوله، وكذلك العقل، وكذلك العاطفة والشعور، والذاكرة والخيال. بعبارة أوضح: الفكر لا يعني شيئاً من دون موضوعه، فيزيقياً كان الموضوع أم أخلاقياً، وكذلك العقل والعاطفة والشعور والذاكرة والخيال (ليس هنالك حب بلا محبوب/ـة). الفكر هو فَكر الموضوع، أو تفكيره، وتحويله، في الرأس، إلى وعي ذاتي، تحويله إلى صور ورموز وعلاقات، وتحويله إلى لغة منطوقة ومكتوبة، وتحويله إلى فلسفة وعلم وأدب وفن. كرامة الذات هي كرامة موضوعها ومواضيعها وموضوعاتها، ليس غير. الفكر ليس في الرأس؛ والعقل أيضاً ليس في الرأس[2]؛ الفكر هو الموضوع الفيزيقي والميتافيزيقي، محوَّلاً في الرأس إلى وعي ذاتي، إلى وجدان وضمير، بعملية مركبة ومعقدة من الإدراك الحسي وما فوق الحسي. (التفكير هو تملك، هو تملك العالم بالمعرفة). هنا امتياز الياس مرقص: كون الوعي هو وعي الكون؛ وكون العقل هو عقل الكون؛ وكون الفكر هو فكر الكون. هذا غير الانسحار بالعقل والفكر .. غير الانسحار بالبيان. وغير الانسحار بـ “البرهان” أيضاً، على طريقة الجابري (الانسحار بالعلم بلا علم). “التحرر من سحر الكلام” (ومن صف الكلام)، من أجل علم كلام، قد يمهد الطريق إلى الفلسفة. هذه كانت رسالة الياس مرقص، في هذا المجال.
ثم يفاجئك الياس مرقص بقولٍ، يبدو لدى المسحورين بـ “الفكر العربي” و”العقل العربي” و”الخطاب العربي” و”الفكر الإسلامي”، و”.. العربي الإسلامي” .. إلخ، ضرباً من اللغو وصف الكلام، أو ضرباً من الهذيان: يقول مرقص: “الفكر العربي ليس عربياً”. (بمعنى من المعاني)، ولندفعْ المسألة إلى الأمام: الفكر الغربي ليس غربياً، بمعنى من المعاني، والفكر الصيني ليس صينياً، بالمعنى ذاته .. إلخ.
يتساءل مرقص: “هل الفكر عربي؟”[3] (وهل الفكر العربي عربي؟)
أهمية هذا السؤال أنه يستوقفك (بالتأنيث والتذكير دوماً) أمام مسألة عليك أنت أن تحكم/ـي فيها سلباً أو إيجاباً أو ما شئت، قبل أن تتابع/ـي القراءة، وإلا فأنت قد سلمت رأسك له، يحشوه بما يشاء. (لذلك ربما وضع السؤال على سطر مستقل). القراءة اختبار للحرية، واختبار للذاتية، وجلاء لحدودهما؛ القراءة اختبار لحرية القارئ/ـة إزاء سلطة الكاتب/ـة، ولا سيما قراءة النصوص المكرَّسة، والنصوص المقدَّسة. إذا أردت أن تملأ الفراغ الفاصل بين سطر السؤال والسطر الذي يليه، وهو مسافة في المكان وبرهة في الزمان، معطاة لك لا للكاتب، وكذلك الفراغ الفاصل بين كلمة وأخرى وجملة وأخرى، قد تقول: “الفكر العربي” عربي، ببداهة التعريف، أو غير عربي، أو عربي وغير عربي، ثم تنظر في ما سيقوله الكاتب. فقد يوافقك أو يخالفك، وقد توافقه أو تخالفه (هذان موقفان مختلفان، باختلاف الموقع، الذي تختاره وتختارينه، وزاوية النظر، التي تختار/ـين)، ولا جناح على من يختار أو تختار، ولا نقاش في الخيارات؛ لأن الاختيار حق مشروع لأي شخص، وهو أهم من الشيء الذي نختاره.
نحن إذاً إزاء ثلاث إجابات ممكنة، تحدد ثلاثة مواقف مختلفة هي: إيجاب (الفكر العربي عربي بالبداهة، بدليل لغة المفكرين) وسلب (الفكر العربي ليس عربياً، بالبداهة، بدليل جنسية المفكرين) وتركيب من الإيجاب والسلب (الفكر العربي عربي وغير عربي). الإجابة الأولى تحيل على عنصرية ممكنة، والثانية تحيل على عدمية ممكنة، والثالثة تجمع الحدين المتناقضين. ولكي لا نقع في فخ تقديس العقل، يجب أن نقول إن الإجابة الأولى معقولة، والثانية معقولة بالقدر نفسه، ولكن الثالثة هي عقل أعلى، لأنها ليست سجالية. (الطابع السجالي يتأتى من اختلاف المعايير؛ والعقل لا يُعرَّف إلا بالمعايير، على اختلاف صنوفها، (المنطقية أو المعرفية، والعلمية والأخلاقية، ومدى عموميتها أو خصوصيتها)
في إجابته عن السؤال يقول مرقص: “عربي كلمة. في (عبارة) “تحديث الفكر العربي”. (صفة العربي) يجب ألَّا تتضخم؛ أَّلا تتحول إلى إله، صنم. في الوعي الصاحي، إن هذا الوصف، “عربي”، يعني أن هذا الفكر الذي نحن معه أو ضده، فكرُ بشرٍ عرب، ومفكرين عرب”. كل “تضمين” إضافي يكون مصادرة في غير محلها. بطبيعة الحال، إن كونهم عرباً يفترض ويتضمن: هموماً عربية، أداة تعبير عربية، إلخ. لكن هنا أيضاً يجب الحذر من التصنيم؛ فالهم العربي هم بشري، واللغة العربية لغة، والفكر فكر، هذا أولاً. وثانياً يجبُّ الصراع والتسويغ، و”إقامة الحد”. (ص 17). انتهى الاقتباس، وما بين قوسين من عندنا.
هذا ليس تبسيطاً، بل تعقيد؛ وليس بداهة، بل نقد للبداهة، يذهب إلى تلافي إمكان النرجسية والدونية، وتلافي إمكان العنصرية والكوزموبوليتية، اللتين تحملهما الصفة، (العربي)؛ ويذهب، من ثم، إلى إقامة الحد على الخصوصية بالعمومية، وعلى الخاص بالعام، على القومي أو الوطني بالإنساني.
الإنساني أساس الوطني والقومي وأفقهما، وإلا كانت الوطنية والقومية عنصريتين. (هذا مُتضمَّن في التحذير من تضخيم الصفة أو تقزيمها والتهوين من شأنها[4]). العنصرية هي قومية بلا أساس، سوى الأوهام الأيديولوجية، ووطنية بلا أساس. الصفة تعيين وتحديد لا يستنفدان الموصوف، بل هما تقليص للموصوف، ولا يخلو أن يكونا تخفيضاً. (في نحو اللغة العربية، الصفة تابعة، الصفة تابعة للموصف، في جميع أحواله، وللموصوف الواحد صفات كثيرة، وكثيرة جداً، وهي لا تتقدم على موصوفها وإلا صارت حالاً متغيرة).
“الفكر العربي، الذي نحن بصدده، يقول مرقص، ليس عربياً إلا بمعنى محدد ومحدود؛ الليبرالي، القومي، الماركسي، الإسلامي الحديث والإسلامي الأخير، هذا كله فكر بشري وعالمي، إنه ينتمي للإنسان ككلي مجرد وكعالم أمم. الليبرالي والقومي والماركسي أوروبي المصدر، وكذلك، جزئياً، الإسلامي الحديث. بل والإسلامي كله هو، في جوهره ذاته، عربي وغير عربي. ولا يمكن فهمه ولا تصور وجوده كمضامين واتجاهات وشعارات بدون العالم وبدون أوروبا. ويمكن أن نقول عن معظمه أنه لا يعترف بـ “العربي” كقومية. إن عالمية الفكر الإسلامي (بل، بمعان محددة، عدم عروبته)، تدفعنا بعد التذكير بأن العرب قطعة من المعمورة الإسلامية (فالعرب خمس المسلمين في العالم)، إلى إبراز جانب آخر يمكن أن أدعوه “الإحداثية الزمنية، التاريخية”. في إطار التاريخ الإسلامي وتاريخ العالم “العرب” حقبة، (العصور الوسطى، القرن 7 – 15). بالمقابل، الأزمنة الحديثة هي حقبة الإمبراطورية العثمانية وفارس الصفوية وكبار مغول الهند، حقبة أوج إسلامي سياسي (وحضاري) العرب خارجها. العرب جزء من الإمبراطورية الأولى، (جزء) تابع. في تاريخ الفكر الإسلامي، تنتهي الفلسفة العربية الإسلامية مع ابن رشد وتشريقة (وشرقنة) محي الدين بن عربي، وتبدأ حقبة جديدة في تاريخ الفلسفة الإسلامية، العرب خارجها” (ص 19).
ثم يستدرك بأن هذه الأحكام العامة السابقة ليست صحيحة إلا بصفتها محاولة للقبض على الخطوط العريضة، لا أكثر. ويستأنف أحكامه قائلاً: “الفلسفة العربية الإسلامية شيء والفلسفة الإسلامية التالية (أو بالأصح المرافقة والتالية) شيء آخر. وبعد إقامة الحد على المصطلحات لا بد من القول: إن (صيغة) “الإسلامية العربية” هي الأقرب بكثير إلى الموقف النظري، الذي يجب أن يُدعى “المفهومية والتاريخية”.
ثمة حقبة إسلامية في تاريخ العرب، ما في ذلك شك؛ وثمة حقبة عربية في تاريخ الإسلام، ما في ذلك شك أيضاً، ولكن ثمة حقب عربية متتالية في تاريخ الدين، أو في تاريخ الظاهرة الدينية، منذ كانت حياة الجماعات مجرد تجربة دينية أو أقرب ما تكون إلى تجربة دينية. ولعل امتزاح مبادئ الإسلام وقيمه في حياة العشائر والقبائل العربية، في أعرافها وعاداتها وتقاليدها وقيمها وسائر تفاصيل حياتها وحياة أفرادها، من المهد إلى اللحد، هو مثال قريب إلينا نسبياً على اصطباغ حياة العشائر والقبائل وتاريخها بهذه العقيدة الدينية أو تلك. ولكن العقيدة الدينية لم تكن هوية اجتماعية وسياسية لأي جماعة من الجماعات العربية، قبل القرن العشرين. كان الدين مجرد مصدر لشرعية السلطة، يخفي شرعيتها الفعلية، أعني شرعية القوة والغَلَبَة، ومصدر لشرعية المعارضة، بصفتها سلطة بالقوة. فلا تزال العشيرة والقبيلة أقوى من العقيدة أينما اتجهنا في عالم العشائر والقبائل. فليس من مسوِّغ منطقي وليس من مسوغ تاريخي للحديث عن “فكر عربي إسلامي” و”ثقافة عربية إسلامية” وما إليهما، على وجه الإطلاق.
لا قوميةُ الفكرِ، ولا طبقيتُه، ولا مذهبيتُه، تحيل كلها على كونه فكرَ بشرٍ أولاً، قبل أي صفة أخرى، وتحيل ثانياً على كونه فكر أفراد، يتكلمون لغات مختلفة، في مجتمعات مختلفة، في أمكنة – أزمنة مختلفة؛ المبادئ والقيم المشتركة بين هؤلاء الأفراد، على نحو ما تتجلى في فكرهم، بعد استبعاد كل ملمح فردي، هي التي تسمح بنسبة فكرهم إلى هذه الجماعة أو تلك إلى هذه الأمة أو تلك. والمبادئ والقيم المشتركة بين الجماعات والأمم، بعد استبعاد كل ملمح إثني أو قومي أو طبقي أو مذهبي .. هي التي تؤكد كون الفكر بشرياً، قبل أي صفة أخرى وفردياً قبل أي نسبة. البشرية هي المبدأ والمآل؛ بشرية الفكر هي التي تعيِّن أفق المفكرين الأفراد الوطني أو القومي، ولا فرق، وهذا يتضمن سائر التعيينات الأخرى. وهي، أي بشرية الفكر، تعين أفق الجماعات والمجتمعات والشعوب والأمم، أعني الأفق الإنساني المشترك. البشرية تسير نحو أفقها الإنساني، العام، مع انتكاسات وتراجعات واستئنافات. العنصرية المشار إليها فوق، عنصرية قومية مضادة للتاريخ، تسير بعكس سير تاريخ البشرية العاقلة والأخلاقية، وكذلك العنصرية الوطنية والطبقية والدينية – المذهبية. البشرية العاقلة والأخلاقية تتبرأ منها جميعاً، تدينها أخلاقياً، وتجرمها قانونياً.
أفكر في قومية “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وفي “فكر” ميشيل عفلق، وزكي الأرسوزي، وساطع الحصري، وعصمت سيف الدولة وعبد الله عبد الدايم وغيرهم كثير، وفي نقد الياس مرقص الباكر لساطع الحصري، وفي قائمة طويلة من المفكرين القوميين – الإسلاميين المكرَّسين، من أمثال محمد عابد الجابري، وفرسان الصحوتين: الصحوة القومية العربية و”الصحوة الإسلامية”.
هل ثمة فروق مفهومية وتاريخية بين المصطلحين: “الفكر العربي الإسلامي” و”الفكر الإسلامي العربي”؟ لعل التاريخي، هنا ودوماً، هو العامل المحدد للمفهومين. من زاوية التحقيب التأريخي، الكرونولوجي، لا من زاوية التاريخ، العرب كانوا (موجودين) قبل الإسلام، ثم اعتنق معظمهم الإسلام؛ إذ ظل اليهود منهم على يهوديتهم، والمسيحيون على مسيحيتهم، ثم انقطعت صلة المسلمين من العرب بتاريخ الإسلام، فتوقف تاريخ الإسلام العربي،[5]، وانطلق تاريخ إسلام غير عربي، سوف يلقي بظلاله على المسلمين من العرب، حين حاول بعضهم استئناف التاريخ الإسلامي، أواخر عشرينات القرن الماضي، برؤية مضادة للتاريخ (من حسن البنا إلى سيد قطب والقائمة طويلة)، أي بإعادة إنتاج “تجربة محمد”، (التكفير والهجرة والجهاد والفتح) في القرن العشرين.
بانقطاع تاريخ الإسلام العربي أو توقفه، صار العرب سماداً لتاريخ المماليك، ثم العثمانيين والصفويين والمغول … ثم الأوروبيين. وصار من الحيف الحديث عن تاريخ “عربي إسلامي” و”فكر عربي إسلامي”، بلا تروٍ. ومن الزاوية المفهومية يندرج مصطلح “عربي إسلامي” في التأريخ للعرب، في حين يندرج مصطلح “إسلامي عربي” في التأريخ للإسلام، وهذان أمران مختلفان. من يؤرخ للإسلام عليه أن يؤرخ للإسلام العربي وغير العربي، وللمذاهب الإسلامية كافة. ومن يؤرخ للعرب عليه أن يؤرخ لعرب ما قبل الإسلام، مع نقد مفهوم الجاهلية، وللحقبة الإسلامية في “تاريخ العرب”، بل تاريخ الغالبين منهم، وتاريخ الحقب التالية. على أن تاريخ الغالبين لا يُعرف، على حقيقته، إلا من خلال تاريخ المغلوبين.
يجب أن نقول هنا: إن تاريخ الإسلام جزء من تاريخ العقائد الدينية، منذ نشوء الظاهرة الدينية إلى يومنا. وتاريخ العرب جزء من تاريخ البشرية، الذي يشكل تاريخ الدين وجهاً من وجوهه، ولا يستنفده. أما الحديث عن تاريخ عربي إسلامي وفكر عربي إسلامي وثقافة عربية إسلامية .. إلخ، فلا يتعدى نطاق أيديولوجية قومية عنصرية، (حديثة)، تريد أسلمة القومية وقومنة الإسلام، مرة أخرى؛ وأيديولوجية عنصرية إسلامية تريد أسلمة العالم وأسلمة العصر مرة أخرى، حسب فهمي هويدي. هذا واضح اليوم أشد ما يكون الوضوح في إيران الخمينية واستطالاتها الأيديولوجية، وضوحه في جماعات الإسلام السياسي السنية (يراجع كتاب “إدارة التوحش، المنسوب لأبي بكر ناجي).
“الفكر العربي”، في نظر مرقص، “ليس الفكر العربي. المثقف العربي المعاصر لم يكتشف الذرة. الفكر العربي لم يفتح شيئاً. وهو لن يفتح إلا إذا توافرت له شروط وأسباب. أولها، في صعيده الخاص، الإيمان بذاته كفكر. وإلغاء التضمينات الملتبسة (القومية والدينية واللغوية) للصفة، “العربي”. الفكر العربي ليس الفكر العربي، والمطلوب أن يعي هذه الحقيقة، عندئذ يمكن أن يكون عربياً وفاتحاً، يمكن أن يرشد العمل العربي، أن يسهم إسهاماً أولياً في تكوين وعي عربي وذات عربية” (ص 17).
إذا كان ثمة علاقة أو ظلُّ علاقةٍ بين الفكر والعمل (بين الفكر والممارسة)، بين المعرفة والعمل، فإن السؤال الذي ينبغي طرحه والتفكير فيه ملياً هو: ما العمل الذي أسهم “الفكر العربي” أو “الفكر العربي الإسلامي” في إلهامه وتوجيهه وترشيده، منذ مطلع القرن العشرين، و”استقلال الدول العربية”، على الأقل، إلى يومنا؟ ما علاقة هذا الذي يسمى “الفكر العربي” و”الفكر العربي الإسلامي” بما صارت إليه بلدان عربية، كانت عواصمُها عواصمَ “الفكر العربي” و”الفكر العربي الإسلامي” وعواصم الإسلام و”مدن الإسلام”؟
في المنطق، الإنسان، الفرد الإنساني، حامل أو مسند إليه، تُسند إليه محمولات شتى، لا حصر لها، ولا يمكن منطقياً وواقعياً أن يكون هو محمولاً؛ العربي أو الفارسي أو الهندي أو الفرنسي … صفة محمولة على الفرد الإنساني، وظيفتها التخصيص أو التحديد والتعيين، ولا تستنفد الموصوف (الفرد الإنساني). والفكر محمول على الفرد الإنساني؛ هو في نظر الياس مرقص فكر الزرَّاع والصانع والفيلسوف والعالم .. إلخ؛ كل فرد إنساني هو مفكر. ثمة أفراد، في أي مجتمع، يحترفون التفكير أو الفكر، ويستعملون عقولهم استعمالاً عمومياً، بلغة إيمانويل كنت، بهذا الاستعمال العمومي للعقل يحظون بامتياز ما، في مجتمعاتهم، ولدى الجماعة الإنسانية. الفكر محمول على أفراد النوع البشري، لا يجوز أن يكون حاملاً، كما في القول الشائع: الفكر العربي الإسلامي أو الفكر الفرنسي أو الفكر المسيحي. إذا لم نتبنه إلى مجازية التعبير نقلب المجاز إلى حقيقة، والمحمول إلى حامل، كما هي الحال في التفكير الديني.
لو فحصنا ما يسمى الفكر العربي، لتبين لنا أنه فكر أفراد عرب وغير عرب، ولعل غير العرب أكثر من العرب عدداً وبعضهم أطول باعاً، سوى في المجالات العربية الخالصة، كالشعر. ما يقال عن الفكر يقال مثله عن العقل، مصدر الفعل عقل، فلعل العقل اسم آخر للفكر وأدنى منه إلى الفلسفة (بلغة هيغل)، وإلى غير الفلسفة، كالحساب، وحساب المصالح، مثلاً.
إذا صح افتراضنا أن تاريخ الإسلام العربي، بصفته جزءاً من تاريخ الإسلام، قد توقف، منذ سقوط غرناطة (1492)، حتى أوائل القرن العشرين، والتوقف انتكاس وانحطاط وتردٍ، في حين لم يتوقف تاريخ العرب، بصفته جزءاً من تاريخ النوع البشري، وإذا صح أن محاولة استئناف تاريخ إسلامي عربي هي محاولة اختراع تاريخ من الرأس، وفوق ذلك، تاريخ مضاد للتاريخ، صار على المفكرين من العرب خاصة أن يعملوا على رفع الالتباس والاختلاط بين العروبة والإسلام، وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام، وبين الفكر العربي والفكر الإسلامي وبين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية وبين التراث العربي والتراث الإسلامي .. فقد تكون هذه الخطوة تدشيناً لميلاد فكر عربي “يؤمن بذاته كفكر أولاً”، بتعبير مرقص، ويشارك في الفكر الإنساني وفتوحاته ثانياً، ويرشد العمل والممارسة العملية ثالثاً. التباس العروبة بالإسلام هو ما عزز إمكان العنصرية في العصبية العربية، ثم في “القومية العربية”، إذ يعتقد العرب المسلمون أنهم “خير أمة أخرجت للناس … ” وأنهم أفصح الأمم وأقومها لساناً وأصلبها عوداً، وأن لغتهم هي لغة أهل الجنة؛ فقد أضاف “الإسلام” عصبية دينية – مذهبية، إلى عصبية إثنية[6]، عشائرية وقبلية، وهذا هو قوام “الأيديولوجية العربية المعاصرة”، التي حللها عبد الله العروي أفضل تحليل.
مخلوطة “العربي الإسلامي”، وخرافة “المادة والروح”، (العروبة مادة الإسلام، والاسلام روحها)، وثنوية الماهية والوجود، (الماهية للإسلام والوجود للعرب)، والنفس والجسد (النفس أو الروح للإسلام والجسد المدنس للعرب) والذكورة والأنوثة … مخلوطة “العرب مادة الإسلام”، و”الإسلام روح العروبة أو روح الأمة العربية” .. عفى عليها الزمن، ولم تنتج سوى مزيد من الانحطاط والتردي.
ما تقدم كله وجه من وجود المسألة، مسألة الفكر العربي، والفكر العربي الإسلامي، ثمة وجه آخر متصل بهذا الوجه وناتج منه، قد يكون أكثر أهمية، في حاضرنا، هو الطابع الفقهي لما يسمى الفكر العربي، والفكر العربي الإسلامي. وثمة وجه ثالث متصل بالوجهين السابقين وناتج منهما هو كون هذا الفكر الفقهي مسيساً على الدوام، بأردأ معاني السياسة. إذ الفقه، في حاضر العرب المسلمين وماضيهم هو مرآة السياسة، ومرآة السلطة. حالة الفكر العربي شخصها مرقص أدق تشخيص بقوله: لعل (الفكر العربي أو العربي – الإسلاميي) اليوم شيء أقل من الفكر، أدنى منه في المرتبة … لعله، في معظمه “فقه”؛ فقه قومي، فقه ماركسي، فقه هذا العلم أو ذاك، فقه ثوري، فقه ديني ولغوي وثقافي – حضاري … “مسيَّس دوماً”. وليس عندي قضية أرفعها على الفقه؛ قضيتي هي ضد الفقه الذي يتصور أنه هو الفكر أولاً وأخيراً. أدعو “فقهاً” الفكر الذي قوامه مبادئ وتطبيقات، أصول وفروع. مثلاً، المادية الجدلية، في عرض ستالين ومقلديه.
الفقه، في اعتقادنا هو نوع من تأويل غايته “المطالبة والمدافعة” والتسويغ والتبرير. المطالبة والمدافعة والتسويغ والتبرير تعبر كلها عن تبعية “الفكر” للسلطة تبعية تامة، سواء كانت السلطة سلطة قائمة بالفعل أم سلطة بالقوة. بإزاء غلبة الطابع الفقهي على أعمال المفكرين العرب يبدو لنا مفهوم الخطاب أقرب إلى واقع العرب اليوم وأقرب إلى واقع الثقافة العربية من مفهوم الفكر. هذا يكشف عن حقيقتين صادمتين أولاهما أن الخطاب المسمى فكراً لا يوجه الممارسة بل يبررها فحسب، والثانية أن الخطاب والذات المتكلمة فيه لا يرتقيان إلى الكونية، لأنهما لا يحتكمان إلى المبادئ والقيم الإنسانية العامةـ وهما، الخطاب والذات المتكلمة فيه معاصران لذاتيهما فقط، لا للجماعة الإنسانية في واقعها الحي المتدفق، على الرغم من هاجس المعاصرة الذي شغل المثقفين العرب في خلال “الصحوة الإسلامية” والانشغال بالتراث والاشتغال فيه (تراجع أعمال حسن حنفي والجابري وطيب تيزيني وحسين مروة وفهمي جدعان وعلى حرب ونصر حامد أبو زيد وغيرهم).
ننقل تعريف الفقه عن موسوعة ويكيبيديا، الذي يقول: “الْفِقْهُ في اللغة: هو الْفَهْمُ للشيء والعلم به، وفهم الأحكام الدقيقة والمسائل الغامضة، وهو في الأصل مطلق الفهم، وغلب استعماله في العرف مخصوصا بعلم الشريعة؛ لشرفها على سائر العلوم، وتخصيص اسم الفقه بهذا الاصطلاح حادث، واسم الفقه يعم جميع الشريعة التي من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله ووحدانيته وتقديسه وسائر صفاته، وإلى معرفة أنبيائه ورسله عليهم السلام، ومنها علم الأحوال والأخلاق والآداب والقيام بحق العبودية وغير ذلك. وذكر بدر الدين الزركشي قول أبي حامد الغزالي: «أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى ودلائلها وعللها» واسم الفقه في العصر الأول كان يطلق على: «علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستلاب الخوف على القلب». وعند الفقهاء: حفظ الفروع وأقله ثلاث مسائل. وعند أهل الحقيقة: الجمع بين العلم والعمل لقول الحسن البصري: «إنما الفقيه المعرض عن الدنيا، الزاهد في الآخرة، البصير بعيوب نفسه». وعرفه أبو حنيفة بأنه: «معرفة النفس مالها وما عليها» وعموم هذا التعريف كان ملائماً لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية
وعرف الشافعي الفقه بالتعريف المشهور بعده عند العلماء بأنه: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية». وفي اصطلاح علماء أصول الفقه: «العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية». ويسمي عند المتأخرين علم الفقه، ويطلق في العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي مخصوصا بالفروع، والفقيه العالم بالفقه، وعند علماء أصول الفقه هو المجتهد. وللفقه مكانة مهمة في الإسلام، حيث دلت النصوص الشرعية على فضله ووجوب التفقه في الدين، وكان من أعلام فقهاء الصحابة ذوو تخصص في استنباط الأحكام الشرعية، وكانت لهم اجتهادات ومذاهب فقهية، وأخذ عنهم فقهاء التابعين في مختلف البلدان، وبذلك بدأ تأسيس المدارس الفقهية في الحجاز والعراق والشام واليمن ومصر، وتلخصت منها المذاهب الفقهية وكان أشهرها المذاهب الأربعة. وقد كان الفقه بداية التاريخ الإسلامي يطلق على العلم بالأحكام الشرعية عموما، وبعد تطوير الدراسات الفقهية والبحوث العلمية ووضع العلوم وتدوينها كانت الدراسات الفقهية تتضمن: الأصول والفروع والقواعد وتاريخ الدراسة والمدارس الفقهية ومداخل المذاهب ومراتب الفقهاء ومراتب الاجتهاد وغيرها. وأصبح الفقه بمعناه الاصطلاحي يطلق على: علم فروع الفقه وهو أحد أنواع العلوم الشرعية، وهو: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمدة من أدلتها التفصيلية». (انتهى الاقتباس، والتشديد من عندنا)
يؤخذ على هذا التعريف المفصل تجاهل الفقه الجعفري، المنسوب إلى جعفر الصادق أحد أئمة الشيعة، والفقه الشيعي عموماً، ولا سيما من جهة الأدلة، إذ يستمد الفقه السني أدلته من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما أقوال الصحابة فتابعة للسنة، وأما تعامل الناس فتابع للإجماع، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس، وتفصيل ذلك في كتب الأصول. فقد أضاف الشيعة “العقل” إلى مصادر الأدلة، التي هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس ومقتضى الحال والاستحسان، وهذان الأخيران فرعيان، بخلاف الأصول الأربعة الأساسية.
لعل ما يجمع بين الفكر العربي والفقه أمور أهمها: 1 – استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، والأدلة الأساسية هي النصوص “الأصلية” المقدسة والمرفوعة إلى درجة القداسة كهذيان ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي عند البعثيين، أو هذيان عصمت سيف الدولة عند بعض الناصريين، أو أقوال كارل ماركس وفريدريك إنغلز ولينين وماو تسي تونع، عن الشيوعيين … 2 – الإجماع، وهو إجماع “العلماء”، لا إجماع معظم العقلاء والعاقلات، لأن الإجماع المطلق مستحيل أو شبه مستحيل. فالمقصود بالإجماع هو إجماع الخاصَّة وخاصَّة الخاصَّة من علماء مذهب المتكلم/ـة وأعلامه. 3 – الاجتهاد الذي تتأسس عليه المذاهب الفكرية والاتجاهات الأيديولوجية، وتتعين وفقه المدارس المختلفة والمتخالفة. 4 – التصنيف والتقسيم والتفريع وفقاً لمرجعية من يصنف ويقسم ويفرع، أي وفقاً للاقتناع الذاتي، لا وفقاً لمعايير يقبل بها سائر العقلاء والعاقلات. 5 – الطبيعة، وفقاً لما تقدم، ليست المصدر الوحيد للمعرفة، والمجتمع ليس المصدر الوحيد للقيم، والعمل والإنتاج الاجتماعي المادي والروحي نافلان، في أحسن الأحوال، من حيث أثرهما في المعرفة والفهم، ومن حيث أثرهما في الفكر. 6 – اعتبار الأساطير، كأسطورة الخلق التوراتية ومعجزات المسيح ومعراج محمد إلى السماء حقائق تاريخية، والخرافات، كخرافة العرق، حقائق علمية، واعتبار التعصب فضيلة أخلاقية.
فإذ يحتفي كثيرون من الكتاب العرب اليوم بالتأويل (الهيرمونيطيقا)، نزعم أن الحدود الفاصلة – الواصلة بين التأويل والفقه تكاد تنمحي، عند هؤلاء. وإذ لا تخفى الأصول اللاهوتية للتأويل على الباحثين، نزعم أن ثمة صلة بين التأويل والفقه، وأن أثراً ما للمعرفة الدينية، قد رافق التأويل في رحلته التاريخية من تأويل النصوص المقدسة إلى تأويل النصوص الأدبية وغيرها، إذ تلاحظ، لدى التأويليين، التباسات مربكة بين المعنى الحرفي والمعنى التاريخي، وبين المجاز والحقيقة، والخرافة والعقل والأسطورة والواقع. وأن ثمة حدوداً لتأويل النصوص المقدسة والنصوص المكرسة، كحد الوحي وأساطير الخلق، على سبيل المثال، لا يجرؤ التأويليون من العرب على اقتحامها، ناهيكم عن تجاوزها، على نحو ما يلاحظ لدى نصر حامد أبو زيد، أو محمد شحرور وأمثالهما. ما يطرح على الشابات والشباب من الكاتبات والكتاب والباحثات والباحثين مهمة اقتحام الحدود والتابوهات وتفكيكها شرطاً لإمكان التحرر الذهني، إمكان استقلال الوجدان وحرية الضمير، بلغة الياس مرقص.
- – تفهم عبارة “الصحيفة البيضاء” على أنها تعبير مجازي عن وجوب الحذر من المسبقات والقبليات والحقائق الناجزة، و”الثوابت” القومية والدينية، بمنأى عن الفكرة الأرسطية، التي تداولها كثرة من الفلاسفة، والتي لا تؤيدها الكشوف العلمية الحديثة، ولا سيما علم الجينوم. ↑
- – ثمة فكر في الرأس، ليس صورة المعقول في نفس العاقل، وثمة عقل في الرأس، ليس صورة المعقول في نفس العاقل، لم يتنبه لهما الياس مرقص، هما الفكر الذي بلا موضوع والعقل الذي بلا موضوع، سوى تخيلات الإنسان وأوهامه وهواجسه ومخاوفه ورغباته وتمنياته .. إلخ. الفكر الذي في الرأس هو معرفة مباشرة، أو معرفة غير موسطة بالعمل والإنتاج الاجتماعي، غير موسطة بالفاعلية الحية. لقد أنتج الرأس كوناً وهمياً موازياً للكون الفيزيقي، خلقته الآلهة، ثم الإله الواحد. فالدين، منظوراً إليه من زاوية ماهيته هو الذاتية المطلقة، التي لا تتحدد بأي موضوع. في هذه الحيثية يتضح الفرق بين الحلم، الذي هو أحد مظاهر الخيال المستند إلى ذاكرة، وبين الوهم الذي هو خيال بلا ذاكرة، أو مرض الخيال. الخيال والذاكر هما جناحا المعرفة. بتعطيل قوة الذاكرة تتعطل قوة الخيال. ما نسميه الفكر الذي في الرأس يختلف جذرياً عما يسمى التفكير الأعلى، أي التفكير في الفكر المنجز، الذي يتضمن النقد ↑
- – الياس مرقص، العقلانية والتقدم، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، 1992، ص 15. وسنشير إلى الاقتباسات الأخرى من هذا الكتاب بذكر رقم الصفح في متن المقالة. ↑
- – نقرأ لمثقفين من الكرد، على سبيل المثال، تهويناً من شأن الفكر العربي والثقافة العربية، بقرينة الأصل الإثني للمفكرين والمثقفين، وهذا من قبيل رد الفعل على عنصرية عربية موصوفة إزاء الكرد، وعلى أدلوجة تفخيمية لكل ما هو عربي. ↑
- – التوقف انحطاط وتردٍ وانتكاس، لأن التاريخ لا يتوقف، ولأن تاريخ البشر قابل للانعكاس. ↑
- – من الصعب أن نفهم العداوة المستحكمة، العمياء” للغرب “المسيحي”، عموماً، من دون أن نأخذ هذا الالتباس في الحسبان. ↑