Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

عن موقف هابرماس من أحداث غزة

 

أعلن فيلسوف الفعل التواصلي والعقل التواصلي والفضاء العام والحقيقة التواصلية، يورغن هابرماس، وعدد قليل من زملائه، موقفاُ من أحداث غزة، ببيان مكتوب، تحت عنوان “مبادئ التضامن”، يقولون فيه: إن الهجوم الوحشي الذي شنته حماس، ورد الفعل الإسرائيلي أفضيا إلى سلسلة من المواقف الأخلاقية والسياسية والمظاهرات الاحتجاجية، وفي خضم هذه السلسلة هناك بعض المبادي التي لا يجب أن تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساساً لتضامن مفكَّر فيه ومتعقل مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانياً، مفترضين أن جميع اليهود واليهوديات في ألمانياً متضامنون ومتضامنات مع إسرائيل على طريقتهم المفكَّر فيها والمتعقلة. لكأن اليهود واليهوديات كتلة بشرية متجانسة، أو دمى بشرية تحركها العصبية اليهودية أو العصبية الإسرائيلة أو العصبية الصهيونية، أو كلها معاً، ما يطرح الشك في صفتي الموقف: المفكَّر فيه والمتعقل، ويطرح السؤال على معنى التفكير والتعقل؟ وإذ لا نماري في الأهمية النسبية للمبادئ، التي اقترحها البيان، ولا سيما مبدأ التناسب / عدم التناسب بين حماس وإسرائل وتجنب سقوط ضحايا من المدنيين وأن تكون الحرب مصحوبة باحتمال السلام في المستقبل، نستهجن أن يزيغ الحكم وأن تزيغ معاييره “عندما تعزى نوايا الإبادة الجماعية إلى التصرفات الإسرائيلية”، حسب النص.

وأشار البيان – الموقف إلى أن تصرفات إسرائيل لا تبرر بأي حال من الأحوال ردود الفعل المعادية للسامية، وخاصة في ألمانيا. وأن “الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصران أساسيان يستحقان حماية خاصة“؛ وعلى “الذين يقيمون في بلادنا (ألمانيا) أن يلتزموا هذه الحقوق ويمتثلوا لها.

سنناقش النص المشار إليه، في ضوء مقولات رئيسة في فلسفة يورغن هابرماس، نظراً للصفة التمثيلية، التي يحظى بها هذا الفيلسوف الكبير، ولجهلنا بالمرجعيات الفكرية لزميلته، السيدة نيكول ديتلهوف، وزميليه، السيد راينر فورست والسيد كلاوس غونتر، مع كل الاحترام الواجب.

1

من حق هابرماس وزميله وزميلته ومن حق غيرهم أن يتضامنوا مع إسرائيل، ومن حق آخرين وأخريات ألا يفعلوا، أو أن يتضامنوا مع الفلسطينيين على وجه العموم، أو مع حركة حماس على وجه الخصوص. نحن لا نجادل في حق التضامن، والتعبير عنه، الذي يُفترض أنه مشروع أخلاقياً، ومكفول قانونياً بالتساوي؛ بل نحاول تحليل الخطاب، تحليل المقول – المكتوب على وجه التحديد، لا تخمين ما لم يقله الخطاب؛ لاختبار مدى اتساقه أو عدم اتساقه مع فلسفة هابرماس التواصلية، واختبار القوة الإجرائية للمفاهيم الرئيسة في رؤيته الفلسفية، ومدى تساوق الموقف الخطابي، (النظري) والموقف الإجرائي (العملي) وتناغمهما، لكي لا نستعمل كلمات كبيرة من نوع اتساق الفكر والممارسة، لا سيما أن الممارسة هنا ممارسة خطابية محضة. وللمتلقي والمتلقية وضع هذا الخطاب إما تحت عنوان الموقف السياسي، وإما تحت عنوان الموقف الأخلاقي، بحصر المعنى، وإما تحت عنوان الموقف الوجداني، وإما تحت عنوان يجمع هذه المستويات كلها، لما بينها من اتصال وتداخل.

يطرح موقف هابرماس جملة من المسائل لعل من أهمها تطابق موقف الفيلسوف وموقف السلطة السياسية (الحكومة)، لنقل تطابق موقف الفيلسوف وموقف “الأمير”، بلغة ماكيافللي، أو تطابق المعرفة والسلطة، بلغة هابرماس نفسه وغيره من الفلاسفة. نعتقد أن تطابق موقف الفيلسوف وموقف السلطة (موقف الحكومة) أو تطابق المعرفة والسلطة السياسية، يلغي الحدود والفروق بين الفيلسوف والأمير، على نحو ما اقترح أفلاطون، ويلغي الفروق بين المعرفة والسلطة، فيحرم المعرفة من سلطتها الأخلاقية، التي من دونها تصير المعرفة كلبية والعقل العارف أداتياً. سلطة المعرفة الأخلاقية، أو السلطة الأخلاقية للمعرفة هي التي تحدُّ من ميل السلطة الدائم إلى تجاوز حدودها، حتى في المجتمعات المتقدمة والنظم الديمقراطية؛ سلطة المعرفة هي الحرية، التي تنهض، كل مرة، لمواجهة تعسف السلطة وتجاوزاتها.

2

لا نماري، ولا نجادل، في وحشية الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل، حسب منطوق هابرماس، لكن هذا لا يعني أن أعضاء حركة حماس وأهل غزة وحوش بشرية، حسب أحد وزراء حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة، كما يصفها إسرائيليون، بل يعني أن الحرب تجعل من جميع المشاركين والمشاركات فيها ومن جميع من يبررونها، سواء باسم الدفاع عن الوجود، أو باسم تحرير الأرض وإقامة الدولة، وحوشاً بشرية (تاريخ البشر قابل للانعكاس). الحرب هي التي تجعل المتحاربين وحوشاً بشرية. الموقف المفكَّر فيه والمتعقِّل يجب أن يكون موقفاً من الحرب أولاُ وأساساً، وإلا ما جدوى إيتيقا النقاش والعقل التواصلي والحقيقة التواصلية، حين يختار أحدنا إحدى جبهتي القتال؟!

كان أحرى بالفيلسوف، الذي نحترمه أشد الاحترام، أن يتنبه إلى أن تعطُّل السياسي، وتعطُّل الحوار والنقاش السياسيين، وتعسُّر الوصول إلى حلول يربح فيها الجميع، وإن بنسب متفاوتة، هو المدخل إلى الحرب. الحرب لا تحمل إمكان السلام، أفضل ما يمكن أن تحمله هو إمكان هدنة، تقصر أو تطول. أليس تاريخ البشرية، حتى يومنا، هدنات، طويلة وقصيرة بين حروب، عدَّها بعضهم امتداً للسياسة بوسائل أخرى، وليست كذلك؛ وعدَّها آخرون قاطرات التاريخ العمياء، وليست كذلك أيضاً؟ بئس التاريخ الذي تقطره الحروب. الحرب استقالة من اللغة، واستقالة من الحوار والنقاش، استقالة من الإنسانية، ونكوص إلى التوحش والافتراس، وليس من حرب عادلة تحت أي راية وأي شعار. رهان الفلسفة هو نفي الحرب، واستئصال أسبابها من المجتمعات والدول والعلاقات البينية، لكي تصير اللعلاقات البينية علاقات بينذاتية، وتكف عن كونها علاقات بين هويات ميتة وقاتلة، دينية وإثنية ولغوية وثقافية .. إلخ.

3

الموقف – البيان الذي، أصدره الفيلسوف ووقعه معه ثلاثة أشخاص، يلقي شيئاً من الشك على فكرة “الفضاء العام”، الهابرماسي، الفضاء الذي يجري فيه النقاش العام، بغية التوصل إلى موقف مشترك، كهذا الموقف الذي نناقشه، وإلى حقيقة تواصلية، يقتنع بها المشاركون والمشاركات في النقاش، بحكم سلطة النقاش الناتجة من إرادة النقاش، والقدرة على ابتكار قاموس مشترك يحد من مراوغات اللغة، التي تخفي أكثر مما تظهر، ومن شطط التأويل، لا من شيء آخر. نفترض أن مدى عمومية النقاش أو خصوصيته هي التي تعيِّن حدود الفضاءات الخاصة وحدود “الفضاء العام”، وهي التي تعين معنى العقل التواصلي والحقيقة التواصلية. لنقل إن المساحة الأخلاقية المتاحة للحوار والنقاش هي التي تحدد “مساحة” الفضاء العام، إذا جاز التعبير. فإن موقفاً يتفق عليه أربعة أشحاص، يلقي الضوء على مدى التفكير والتعقل، اللذين أنتجا هذا الموقف “التواصلي” المشكوك في تواصليته وبراءته الأخلاقية.

فالتعددية الثقافية، التي يعد هابرماس من أبرز المدافعين عنها، قد تعني، هنا، فضاءات عامة مختلفة، ينعقد لواء الحقيقة في كل منها على هوية الجماعة الثقافية، دينية كانت الجماعة أم إثنية أم قومية أم وطنية أم أيديولوجية وسياسية .. إلخ، ما لم يُعرَّف العامُّ بأنه الفرديُّ مجرداً، وما لم يكن هذا التعريف معياراً من معايير الحكم، وما لم تستوفِ الفرديةُ جميعَ حقوقها، فيكون الفردي هو العام والكلي متعيناً، هنا – الآن (هابرماس إنسان). لا تستقيم فكرة الفضاء العام، في اعتقادنا إن لم تتأسس على وحدة الفرد والنوع أو الجنس. في ضوء هذا البيان وعدد الموقعين عليه، هل يمكن تعريف الفضاء العام بأنه مجرد المكان – الزمان الذي يشغلة ثلاثة أشخاص وما فوق، أو المنظمة أو المؤسسة أو الجماعة، التي يزيد عدد أفرادها على ثلاثة أشخاص، وليست أسرة أو عائلة؟! الفضاء العام هو العمومية (الإنسانية) المكنونة في الأفراد، في جميع الأفراد، بلا استثناء، والتي يظهرها أو يظهِّرها التواصل والتبادل، ولا سيما التبادل العادل، ويظهرها الاعتراف المتبادل بالتساوي في الكرامة الإنسانية، والكرامة الوطنية، والأهلية، والجدارة، والاستحقاق، والاعتراف المتبادل بتكافؤ المعاني والقيم، الذي هو شرط إمكان الفعل التواصلي، وشرط إمكان الحقيقة التواصلية، بل هو إيتيقا النقاش ذاتها. المساواة المحدودة بالحرية، أو الحرية المحدودة بالمساواة وتكافؤ المعاني والقيم هما لب إيتيقا الحوار والنقاش العام.

الاعتراف بالتعدد الثقافي هو اعتراف بمعقولية العالم، وقبوله، كما هو، بصفته اللحظة الراهنة من سيرورة لا تتوقف، ولا تنتهي، أو بصفته العالم المشترك الممكن على الدوام، ولكن الاعتراف بالتعددة الثقافية لا يكفي لتعزيز الروابط الاجتماعية – الإنسانية، والمشاركة الخلاقة في إنتاج العالم وترسيخ مبادئ الحق والعدل والأمن والسلام، ما لم يتأسس هذا الاعتراف على اعتراف ضروري بتكافؤ المعاني والقيم، أي بتكافؤ الثقافات المختلفة، وتساويها في القيمة الإنسانية (الروحية) والكرامة الإنسانية.

4

لا نماري في تساوي اليهود وغير اليهود، وتساوي أفراد الجماعة الإنسانية كلها إناثاً وذكوراً، رجالاً ونساء، في الكرامة الإنسانية وحق الحياة وسائر الحقوق الطبيعية والمدنية؛ ولا نماري في وجوب التضامن الإنساني العميق مع الضحايا والمتضررين والمتضررات من الأعمال العدائية والقتالية، إسرائيليين كانوا أم فلسطينيين أم ثنائيي الجنسية .. ولكننا نستهجن فكرة الحماية الخاصة لهؤلاء أو أولئك، كالحماية الخاصة، التي يطالب بها هابرماس لليهود في ألمانيا. البشر كافة جديرون بالحماية، ويستحقونها بالتساوي. فكرة الحماية الخاصة مجافية للمساواة في الكرامة الإنسانية، ومجافية للتراث الفلسفي الألماني. ومما يجافي هذا التراث العظيم، ولا سيما تراث إيمانويل كنت المتفرد بين الفلاسفة بالدعوة إلى سلام شامل وإلى حسن وفادة الوافدين إلى البلاد واللاجئين إليها والمقيمين على أرضها، النظرُ إلى غير الألمان، “الذين يقيمون في بلادنا، والذين بثوا فيها المشاعر والقناعات المعادية للسامية”، حسب تعبير البيان، على أنهم مجرد أغيار (غوييم) وغرباء؛ وهي فكرة تتجاهل إمكان أن يكون بعض هؤلاء “ساميين” وغير معادين لـ “السامية”، وتتجاهل واقع أن بعض هؤلاء “المقيمين في “بلادنا” مواطنون مثلنا، يحملون الجنسية الألمانية وجواز السفر الألماني، ومن حقهم التعبير عن مشاعرهم على نحو لا يتعارض مع الدستور والقانون، ولا يؤذي مشاعر الآخرين.

ربما يتعين علينا أن نتذكر نقاشات القرن التاسع عشر حول “المسألة اليهودية”، ولا سيما مناقشة كارل ماركس لأطروحات برونو باور، ومحاذير “الحماية الخاصة”، التي تحيل على امتياز فئة اجتماعية على غيرها من فئات المجتمع، وأثر هذا الامتياز في تعميق خطوط الفصل والتمييز العنصري بين المواطنات والمواطنين وبين الفئات الاجتماعية، وفي بنية الدولة ووظائفها.

5

نعتقد أن مبادي التضامن، التي اقترحها البيان، والتي لا يجب أن تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساساً لتضامن مفكَّر فيه ومتعقل مع إسرائيل واليهود واليهوديات، في ألمانيا، هي نفسها المبادئ التي يُفترض أن تشكل أساساً لتضامن مفكر فيه ومتعقل مع فلسطين والفلسطينيين والفلسطينيات، (المسلمين والمسلمات)، في ألمانيا، ولا سيما الحاصلين منهم والحاصلات على الجنسية الألمانية، وإلا تكون المبادئ مثلومة، ونكون بإزاء ازدواج المعايير وتضاربها. أما الموقف من حركة حماس وأنصارها في ألمانيا، فيفترض أنه من شأن الحكومة الألمانية في الدرجة الأولى، مثله مثل الموقف من الجماعات اليمينية المتطرفة الألمانية. ومن حق أي ألماني أن يقترح على الحكومة حظر نشاط حركة حماس واعتبارها منظمة إرهابية، وأن يعتبر موقفه منها قابلاً لأن يكون موقفاً عاماً.

وإذ لم يفت البيان أن يعبر عن “القلق الكلي على مصير السكان الفلسطينيين“، أكد أن “معايير الحكم تزيع تماماً عن الطريق، عندما تعزى نوايا الإبادة الجماعية إلى التصرفات الإسرائيلية”. نحن لا نجادل في أن دولة إسرائيل لا تريد إبادة الفلسطينيين، على افتراض أنها قادرة على ذلك؛ وأن الفلسطينيين لا يريدون إبادة اليهود، على افتراض أنهم قادرون على ذلك؛ لأن إسرائيل ليست وحدها في العالم؛ والفلسطينيون ليسوا وحدهم في العالم، بل نجادل في النوايا؛ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يكن، وليس اليوم، صراعاً على الوجود، بل هو صراع على الحقوق. غير أن هذا لا ينفي إمكان أن يرتكب الجيش الإسرائيلي وحركة حماس جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تلامس حدود الإبادة الجماعية. فالمسألة لا تتعلق بالنوايا، ولا يسوغ أن تكون النوايا موضوعاً للحكم؛ الحكم في النوايا هو سبب من أسباب الزيغ عن الحق والصواب، لا النوايا نفسها. النوايا شيء والأفعال شيء آخر.

أخيراً هل بوسعنا القول إن هذا البيان خارج عن سياق فلسفة هابرماس، ولا يزيد على كونه انفعالاً عارضاً، لأن الحكومة الألمانية نفسها تراجعت عن تشددها إزاء المتعاطفين مع فلسطين وقضبة الشعب الفلسطيني؟ كان يمكن أن يُفهم موقف الفيلسوف لو أنه أُعلن في اليوم الثاني لهجوم حماس أو بعد أيام قليلة، في ضوء الدعاية الإسرائيلية النشطة، لا بعد نحو شهر، كأن الفيلسوف لم يسمع بقرار الحكومة الإسرائيلية قطع الماء والغذاء والوقود عن غزة كلها، عن سكان فلسطينيين، لا عن حركة حماس الموصوفة بالتوحش، وكأنه لم يسمع أو يقرأ تقارير المنظمات الدولية التي يفترض أنها محايدة، عن استهداف المدنيين وتدمير بيوتهم، علاوة على استهداف المشافي وبعض المدارس والمرافق، العامة والبنى التحتية. ولم يطلع على التقارير التي تتحدث عن عدد الأطفال والنساء من ضحايا هذه الحرب الملعونة.

من فضائل الحرب أنها تساوي بين المتحاربين في التوحش؛ وتتيح لنا فرصة اختبار إنسانيتنا، والتفكير في عالم بلا حروب.

 

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية