Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

قراءة في كتاب المذهب الجدلي والمذهب الوضعي

قراءة في كتاب

المذهب الجدلي والمذهب الوضعي[1]

أشرنا في مقال سابق، على هذا الموقع[2] أن دور الياس مرقص في الثقافة السورية، المعاصرة، وفي الثقافة العربية – بقدر ما يتقاطع الخاص والعام – ودوره في تقويم الفكر، ولا بأس أن “نقول تقويم المنطق” و”تقويم اللسان”، بلغة الكتاب القدامى، يشبه دور ديكارت في الثقافة الفرنسية، مع أنه لم يضع كتاباً في المنهج، على غرار ما فعل ديكارت. الملمح الديكارتي في منظومة مرقص الفكرية، هو أنها تعلم التفكير المنهجي. فقد كنا ولا نزال نعتقد أن هذا مكسب للثقافة العربية والفكر العربي.

امتياز مرقص المعرفي – الأخلاقي هو طرح القاضايا (الإشكاليات)، التي تحتاج إلى نظر، والمسائل، التي تحتاج إلى حل، وليس عنده من حل ممكن لأي مسألة بلا نظر، وليس عنده من نظر إلا من أجل حل؛ وهذا امتياز آخر، يعيِّن غاية الفكر النظري أو غاية الفلسفة؛ الفكر من أجل تحسين الحياة الإنسانية وتنميتها، وتحسين الإنسان نفسه. لذلك كان رهانه الفكري – السياسي معقوداً على ملكة التحسُّن الذاتي، التي تميز الإنسان من سائر الكائنات الحية، وإلإنسان، بلا أي صفة، ماثل في مركز تفكيره واهتمامه وفي مركز نظيمته الفكرية، من أجل الإنسان السوري والإنسان العربي، همِّه المباشر. الإنسية أو الإنسانية شرط إمكان الوطنية و”القومية”، وما يحصِّنهما من التعصب والعنصرية. هذا، في اعتقادنا، سر اختلاف خطابه الوطني – القومي عن الخطاب القومي السائد منذ خمسينات القرن الماضي.

1 – إشكالية الكتاب

كتب مرقص: “في اعتقادي، يجب على الفكر العربي، لاسيما التقدمي، اليوم أن يختار اختياراً أولياً ونهائياً بين مذهبين: المذهب الوضعي والمذهب الجدلي. .. هناك مذهبان، يجب الاختيار بينهما، في المنطلق (لا بعده). .. المذاهب. في ساحة التيارات والأسماء كثيرة؛ .. لكن أولاً: هناك مذهبان. وأحدهما باطل. وقد يكون للآخر وجود جدّي في الساحة الفكرية العربية، في ساحة المفكرين وفي المؤسسة الأيديولوجية والسياسية العامة والمتضاربة. في هذه الحال، تكون الساحة المذكورة باطلة بالأساس، ويكون الفكر العربي حتى إذا استطاع إنجاز شيء ما من علم وعلوم، قليل أو كثير، يكون عاجزاً عن تعبئة شعب من أجل عمل تاريخي. وفي الحاصل، ليس ثمة عمل ممكن وواجب سوى عمل تاريخي وكلي”. نفهم مما تقدم أن المذهب الباطل من هذين المذهبين هو المذهب الوضعي الإيجابي، إذا كان وحده، وعدَّ نفسه، وعدَّه أتباعُه المذهبَ الوحيد، الذي يذهب بنا إلى الحقيقة.

وضعنا الشرط (إذا كان وحده) لا لنقوِّل الكاتب ما لم يقل، بل لأننا نستند إلى قول الكاتب نفسه أن “الديالكتيك ينصف الوضعية الإيجابية”، بل إنه يحتويها ويتخطاها، بنفيها إيجابياً. الوضعية الإيجابية، تحيل على الكينونة، هنا – الأن، فهي لحظة من لحظات الصيرورة، صيرورة الأشياء والأحياء، أي إنها لحظة من لحظات الديالكتيك، هي لحظة الإثبات والتوكيد. الديالكتيك هو منطق الصيرورة، منطق النمو والتقدم أو التراجع، منطق التغير؛ ضد الثبات والسكون والجمود. هذا مهم اليوم في الحقل الثقافي السوري بصورة خاصة إذ السياسة التسلطية تحجر على الفكر، وتحول دون نموِّه وتجدُّده، فلا ينبغي إن تضاف إليها إعاقة ذاتية من قبل المثقفين والكتاب والمفكرين أنفسهم.

بطلان المذهب الوضعي لا يكمن في إيجابيته، أي في كونه يعيِّن، يحدد، يعرِّف، يدل، يشير، يصف، يحلل، يصنِّف، يحكم حكمَ واقعٍ، أو حكما موضوعياً … إلخ، بل يكمن في افتقاره إلى السلب، إلى النفي، لأن كل تعين هو نفي أوسلب، حسب اسبينوزا. وكل سلب أو نفي هو تعين، حسب هيغل وماركس، في مقاربتهما للاغتراب. الافتقار إلى النفي يعني الثبات والجمود والسكون، وهذا مخالف لطبيعة الأشياء والحياء كلها وطبيعة الظواهر كلها. السلب الكامن في الأشياء والأحياء هو عامل نموها وتطورها. الإيجاب والسلب وجهان للحقيقة ذاتها؛ (مثل قطبي المغنطيس، لا يكون أحدما بغير الآخر) ويمتاز السلب على الإيجاب بجعل الحقيقة نسبية .. المذهب الوضعي الإيجابي يناسبه المنطق الصوري، الأرسطي، منطق الهوية، (آ هي آ) وعدم التناقض والثالث المرفوع والقياس، الذي يعين صدق القضايا أو كذبها بقياسها على غيرها قياسَ الشاهد على الغائب، (وهو مذهب الفقه اللاهوتي والعلماني أيضاً). للسلب حظ سيئ وسمعة سيئة وموقع سيئ في ثقافتنا، لأنه ينفي ولا يعين؛ فينتج من ذلك وعي مبتور، (إما أسود وإما أبيض، إما نفي وإما إثبات، ولا منزلة بين المنزلتين، ولا جدل ولا واقع ولا تاريخ. لذلك تاريخنا مجرد حكايا جدات، خليط من حقائق وخرافات وأساطير[3])، وعي محافظ ورجعي بطبيعته.

لا تتضح إشكالية الكتاب إلا بإظهار جانبها الثاني، وهو تخيير المقفين العرب، ولا سيما الكتاب والمفكرين والسياسيين منهم خاصة بين الليبرالية والديمقراطية، إذ الليبرالية (وحدها) قد يناسبها المنهج الوضعي وحده. ولكن الليبرالية، لم تكن، في الواقع، وفي التاريخ، ولن تكون وحدها، لأنها النسغ الحي للديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بلا الليبرالية، مثلما لا ديالكتيك بلا وضعية إيجابية. الليبرالية مذهب الحرية؛ ولكن لا حرية مدنية بلا مساواة. الحرية والمساواة معاً هما قاعدتا العدالة، وقاعدتا الديمقراطية، وقاعدتا الوطنية والمواطنة المتساوية. وهي، أي الليبرالية مذهب الفردية؛ ولكن لا فردية بلا غيرية، أو آخرية، بلغة الياس، سوى الأنانية العدوانية والعدمية التافهة. الليبرالية واجبة، لكي تكون الديمقراطية ممكنة. الليبرالة تحمل أجنة الديمقراطية، والديمقراطية تتجاوزها إيجابياً، تنفيها إيجابياً، هذا هو الديالكتيك. هذان هما جانبا الإشكالية: المعرفي (النظري) والسياسي (العملي).

من جانب آخر، لا يقل أهمية، الجدل، عند مرقص هو “جهاد المعرفة”. أنا لا أحب كلمة الجهاد، ولا فريضة الجهاد، ولا أحب كذلك كلمة النضال ولا فذلكة “الإرادة والوعي والتنظيم” اللينينية أو الغيفارية أو سواهما، عن تجربة وخيبات؛ لكن قوله: (جهاد المعرفة) “ضد كل معرفة غير مجاهدة لأصنام نفسها”، غير مجاهدة ضد أوهامها ويقينياتها وثوابتها، غير مجاهدة ضد وثنيتها وإيماناتها ومطلقاتها، يجعلك تفكر ملياً في هذه الاستعارة. “جهاد المعرفة، الجدل، يوازيه ـ في الدين ـ جهاد النفس، الإيمان، التصوف. وليس ثمة مستوى فكري – ذهني إلا وهو مرتكز في “اللاوعي” على مستوى روحي – نفسي”. الجدل، بصفته جهاد الفكر ضد أوثانه، ضد وثنية الفكر، هو جدل الفكر المرتكز على النفس أو الروح، أي على الروح الذي يقول نفسه فكراً، على النفس التي تقول نفسها فكراً، على الفكر الذي كونُه هو فكرُ الكون، بلغة مرقص، أو تفكير الكون، وتفكير الكائن – الصائر، أي تحوبل الكائن، في الرأس، إلى فكر، هذا هو الاتجاه الراجع لعلاقة الفكر بالعالم، لعلاقة الإنسان بالعالم الفيزيقي والأخلاقي. فكرة جهاد المعرفة، رغم ضبابية الاستعارة ونكهتها الدينية، تحيل بالفعل على الديالكتيك، على واقع أن المعرفة إمكان مفتوح، يتحقق بالعمل، بالإنتاج المادي والروحي، بالابتكار والإبداع، وأن العمل والإنتاج الاجتماعي والابتكار والإبداع تنتج معرفة جديدة، في كل مرة. هذا معنى الاتجاه الراجع من العالم الفيزيقي والأخلاقي إلى الذات العارفة – الفاعلة. هذه الحركة، في الاتجاهين، هي جهاد المعرفة؛ هي مراجعة أفكارنا على الواقع، لترشيد أعمالنا وتحقيق غاياتنا.

الوجه الثاني لإشكالية الكتاب العامة، التي أوجزناها بوجوب ، بل بضرورة ان يختيار المثقفون والكتاتب والمفكرون العرب إما الليبرالية وإما الديمقراطية، يبسطها تحت عنوان:

“الديمقراطية لا الليبرالية

“هذا ليس معناه: لا للموقف الوضعي أو الإيجابي، بل معناه أن الموقف الوضعي أو الإيجابي والواقعي الإيجابي الخ له أساس خارج ذاته، له موقع كبير و”طويل إلى ما لا نهاية”. لكن بين حدين قطبين، ولا يجوز أن يتحول إلى مذهب، .. لا يجوز أن يكون مذهباً وعقيدة وديناً يتصور نفسه عاصماً وواقياً ضد الشمولية والتوتاليتارية، ويجهل توتاليتاريته هو. الجدل هو مذهب إقامة الحد، بالمبدأ، على هذه التوتاليتارية، الخاصة والعالمة سواء بسواء.

وهذا ليس معناه: لا لليبرالية، بل معناه أن ثمة فرقاً يجب أن يوسم بين موقفين ومبدأين: ليبرالية / ديمقراطية. وأن هذا الفرق هو، بين جملة أمور، شرط لفهم تاريخنا الأخير وحاضرنا ومستقبلنا، بلا ضياع ولا أحلام هوائية، وشرط لتصالح قطاع واسع من المثقفين الجيدين مع تاريخنا وشعبنا. والديمقراطية ليست هدفاً وطريقاً وأداة، في العمل السياسي، وحسب، بل هي أيضاً موقف في نظرية المعرفة”.

مرة أخرى سنقول إن اختبار الوضعية الإيجابية (وحدها) يقود بالضرورة إلى جمود الفكر ودوغمائيته، ويحول دون نموه وتجدده. وكذلك اختيار الليبرالية (وحدها) يقود إلى المحافظة الثقافية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ويقود إلى الرجعية، ويفتح إمكان التسلط والاستبداد الكلي. وقد دلت التجرية التاريخية على أن اختيار الليبرالية قد انتهى إلى سقوط محاولتي النهضة العربية الأولى والثانية، كالثمار الناضجة، في حضن الإسلام السياسي. بالمقابل دلت التجربة على أن “اختيار الديمقراطية” (وحدها) أدى إلى انزلاق الفكر والسياسة إلى الشعبوية ـ الجماهيرية، أو القطيعية، من جماهيرية الناصرية والقذافية إلى جماهيرية الصدامية والأسدية.

وإذ اختار مرقص الديمقراطية على نحو حازم وحاسم، فإنه قد اختار الليبرالية على النحو ذاته، لأنه كان على وعي تام بأن الليبرالية هي شرط إمكان الديمقراطية، في كل مرة، وفي كل بلد. الليبرالية لا تزال إلى اليوم، شرط إمكان الديمقراطية، وإمكان اسئناف الحداثة. قد تفيد كثيراً العودةُ إلى كتاب عبد الله العروي، الأيديولوجية العربية المعاصرة، لفهم مصائر كل من الليبرالية والديمقراطية في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، وفهم مخاطر اختيار إما .. وإما

“الموقف الوضعي أو الإيجابي، والواقعي الإيجابي .. الخ له أساس خارج ذاته”. أجل، إن أساس الموقف الوضعي الإيجابي، الواقعي الإيجابي، هو الديالكتيك، منطق الصيرورة أو منطق التاريخ، ولا فرق. لأن الوضعية الإيجابية تنتج، بالتحديد من علاقة الناس بعالمهم الفيزيقي والأخلاقي (المجتمع والدولة والجماعة الإنسانية) بتوسط العمل والفاعلية الحية والإنتاج الاجتماعي، من جانب وتوسط العلاقات الاجتماعية والإنسانية، علاقات التبادل والتعارف والتثاقف والتعاون، ونقائضها أيضاً

هذا قد يفسر بعض الغموض والإبهام في قول مرقص: “الديمقراطية ليست هدفاً وطريقاً وأداة، في العمل السياسي، وحسب، بل هي أيضاً موقف في نظرية المعرفة. الديمقراطية هي موقف اعتراف بالكائن والواقع، بذات الواقع والتاريخ، (ليبرالية)، موقف اعتراف بالبشرية الأمية صانعة التاريخ (ديمقراطية). سياسياً، الليبرالية هي موقف اعتراف بنخبة، بطبقة وسطى، ببرجوازية، بمثقفين وأحزاب، بدائرة حديثة من مجتمعنا، أي بشكل من أشكال “شعب الله المختار” حديث و”أيديولوجي”. كنخبوية، من السهل أن تنقلب هذه الليبرالية إلى فاشية. الديمقراطية هي موقف اعتراف بجماهير هي كتل كبيرة مهمشة ويجب أن تتحول إلى ذات تاريخية وسياسية. ومن أجل هذه القضية، التي هي قضية تاريخنا الأخير والراهن، على المثقف أن ينتقل بوعي من “عنصر” وضعانيّته الفلسفية إلى عنصر الجدل”. الانتقال بوعي من الوضعانية إلى الديالكتيك معرفياً، هو ما يؤسس إمكان الانتقال من الليبرالية إلى الديمقراطية، أي إلى نظام يصير فيه كل فرد من أفراد المجتمع حاكماً، (بفعل مبدأ الاقتراع) ومحكوماً من قبل نفسه (بفعل مشاركته في إقرار الديتور والقانون). أو محكوم بالدستور والقانون اللذين وضعهما لنفسه والتزم احترامهما ووجوب إنفاذهما.

إذا نظرنا في إشكالية الكتاب وقضاياه ومسائلة، يمكن بلورتها وتكثيفها في قول مرقص: إن القضية هي قضية الفلسفة وقضية الواقع وقضية الشعب. الوعي العربي “النظري” السائد مكوّن من إيمان ضمني وصميمي بأن الثالوث السابق متنافر: فالفلسفة في مكان (عالٍ وغائم، ومرفوض)؛ والشعب في مكان آخر (واطئ)؛ والواقع الحقيقي في مكان ثالث، متوسط وجيد، مع “العلم” و”العلوم” وحامليها “النسبيين”. هذا الإيمان هو أبرز مظهر للوضعية الفكرية العربية، الوضعانية”. هنا يجب علينا أن نخالف أستاذنا، في وصف الوضعية الفكرية العربية، وقت تأليف كتابه، الذي نحتفي به؛ نعتقد أن مظهر الوضعية الفكرية العربية ومَخْبَرَها لم يكن، لا وضعياً ولا وضعانياً؛ “العلمية”، التي كانت ولا تزال علماً على الوضعية الإيجابية، لا تزيد على كونها شعاراً سطحياً وهذياناً أيديولوجياً، ثمة خطاب علمي وعلموي، ما في ذلك شك، ولكنه مجرد خطاب، بدليل تدني العلم في المدارس والمعاهد والجامعات السورية ومثيلاتها في البلدان العربية، وتدني المعرفة والثقافة، وتدني الذوق العام، وانحطاط الأخلاق العامة، وبدليل حلول المجتمع العربي – الإسلامي محل المجتمع السوري أو العراقي أو اللبناني أو المصري .. وحلول الثقافة القومية – الاشتراكية محل الثقافة الوطنية، وعربدة النزعات التراثية، الإثنية والدينية والمذهبية، التي انتهت إلى انفجار المجتمعات وتنثرها وفساد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما هي الحال في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا والسودان وغيرها.

أجل، القضية لا تزال قضية الفلسفة وقضية الواقع وقضية الشعب.

  1. – الكتاب متاح للقراءة هنا، على الموقع.
  2. – جاد الكريم الجباعي، لماذا الياس مرقص اليوم، على موقع جمعية الياس مرقص للثقافة والتنوير.
  3. – تاريخ ابن خلون الشهير يبدأ بنسل آدم، بعد المقدمة المهمة، على سبيل المثال. مجرد البداية بنسل آدم نلغي التاريخ وندخل في الحكاية.

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية