«كثيراً ما يقال عندنا المعرفة تبدأ من الواقع، نحلل الواقع أولاً. ما شاء الله!! هل يمكن البدء من الواقع من دون مفاهيمه وكلماته ومفرداته؟».
إلياس مرقص([1])
المقدمة
هناك جدل سفسطائي قديم لم ينته إلى هذه اللحظة بين العلماء الغربيين حول سؤال الطبيعة الدينية، منظوراً إليها من زاوية الممارسة الدينية، وما إذا كانت هذه تحمل بُعداً شخصانياً فردياً أم جماعياً، وأيّ من هذين البُعدين تُنسب الريادة الأولية على الآخر. يخبرنا وليم جيمس W. James (1847-1910) عن الدين بأنه: «المشاعر، الأفعال، الخبرات الفردية للناس في عزلتهم، بمقدار ما يلزمون أنفسهم في علاقتهم بما يعتبرونه إلهياً، أياً يكن (هذا الإلهي)([2])». جيمس كان من الذين قالوا بـ «الدين الشخصي» والتجارب الدينية والشعورية الفردية. وبالفعل، يُعتبر الرجل من العلماء المؤسسين الذين أكدوا الطبيعة الشخصية للتجربة الدينية الشعورية والخبرة الروحية الفردية. وقد أعطى التجربة الدينية الفردية المكانة «الأولية»، بينما منح الطقوس المؤسساتية، مثل طقوس الأضحية والقرابين المكانة «الثانوية». وبالمثل يذهب ماكس فيبر M. Weber (1864-1920) حول الكاريزما الفردية والفضائل الشخصية بكونها تحتل الأولية في الحياة الدينية بين الأدوار المؤسساتية الدينية، فما هي إلا نتيجة ما يصطلح عليه فيبر بـ «روتنة الكاريزما Routinization of Charisma([3])» في الحياة الاجتماعية.
على النقيض من هذا الموقف، نقرأ تأكيدات كلاسيكية تشدد على أنه لا وجود للفرد الإنساني إلا من خلال عضويته في الجماعة، والعشيرة، القبيلة([4]). ومثل هذا يقال عن مسألة الممارسة الدينية أنها لا تجسد بذاتها سوى ممارسة الجماعة. فلا يعدو الدين الفردي والخبرة الشخصية كونهما من المسائل الثانوية([5]). إنه الموقف الذي اتخذه وليم روبرتسُن سميث W. Robertson Smith (1846-1894) في كتابه المشهور عن ديانة «الساميين» Lectures on the Religion of the Semites (بصرف النظر الآن عن إشكالية اصطلاح الساميين)، وهو الموقف الذي لم يكن مجرد رأي عابر، بل جسد موقفاً إبستمولوجياً ساد بين ثلة كبيرة من المستشرقين، وبنى كتابه عليه في دراسة الساميين، ومن ضمنهم العرب. فكما أنه لا يمكن النظر إلى الفرد إلا من خلال عيون الجماعة كجسم واحد، كذلك الأمر بالنسبة للدين والإله حيث لا يمكن النظر إليهما إلا بوصفهما دين الجماعة وإله الجماعة، وهذا الأخير لا يمثل سوى مرآة لجماعته. لهذا ليس غريباً أن تتكرر عبارة «دين الجماعة» على طول محاضراته في الكتاب.
ربما من المهم الإشارة إلى أن الكثير من الدراسات الدينية الحديثة لا تزال تحوم حول هذين الموقفين الكلاسيكيين في دراسة اصطلاح الدين (من الزاوية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية) رغم التفاصيل الكثيرة التي تطورت بعد ذلك وصعود نظريات هائلة غربية حاولت الخروج على هذه الآراء. الهدف هنا ليس الدخول في هذه التفاصيل المعقدة في العلوم الدينية، بيد أنني اخترت البداية بهذين الرأيين، أولاً لأهميتهما وراهينيتها اليوم، ونحن نشير إلى اصطلاح الظاهرة الدينة، وثانياً لأنهما طالما كانا حاضرين في ذهني وأنا أحضر لهذه المقالة مرقص وما إذا كان من الممكن الإفادة منهما وربطهما بما قدمه الياس مرقص (1929-1991). وأين يمكن إذاً أنْ نجد مفهوم مرقص عن الدين بين هذه التوجهات؟ رغم أنه يصعب تصنيف مفهوم مرقص عن الدين ضمن أي منهما (رغم ميله أكثر إلى البعد الأول في التشديد على الخبرة الروحية الشاملة)، إلا أنه أضاف بُعداً قلما يشار إليه في حقول العلوم الدينية وهو البعد الفلسفي للدين الذي يعطيه الأولية ويربطه عمقاً ببعد فردي تحرري.
يشدد مرقص ، من جهة، على الجانب الروحي لله وأهميته، كما سيأتي، ومن جهة أخرى، على النقد الحاد للدين، بصفته مؤسسة تِدار من قبل كهنوت ما. وهذان الجانبان هما ما سيشكلان محوري هذه المادة: المحور الأول، سيتناول بعضاً من معالم الدين في فكر مرقص (وهنا سنفرق، كما سيلحظ القارئ، بين «إيمان مرقص» الذاتي وبين موقفه النقدي المعرفي من الدين)، والثاني هو الانطلاق من نقد مرقص للمؤسسة الدينية (وتحديداً الإسلامية) والتوسع بهذا المفهوم قدر الإمكان، وسأستفيد من بعض الدراسات النقدية الكلاسيكية والحديثة التي تناولت مفهوم المؤسسة. وهنا يمكن إضافة نقد آخر لمرقص، سنأتي عليه سريعاً في معرض الحديث، لطالما عبر عنه ضد اليسار العربي السائد، تجلى بعدة مستويات، وتحديداً تلك التيارات التي تشدد على إلحادها وعزوفها عن دراسة الدين بوصفه ظاهرة لا تستحق عناء طالما أنها قائمة على الغيبيات: «هكذا يكون عندنا عشرات أو مئات الماركسيين المختصين بعلم الجمال مثلاً، ولا يكون عندنا مختص واحد بالإلهيات. فالإلهيات غيبيات، هي إذن غير جديرة باهتمامنا العلمي. هذا الغباء وجه من حماقات الماركسية الراهنة، من مثالية ولاهوتية الماركسية الراهنة»([6]). وهذا حال للأسف، يمكن سحبه أيضاً على واقعنا الراهن في النظر اليساري العربي السائد للظاهرة الدينية.
وعلى أية حال، فإن نقد إلياس مرقص للمؤسسة الدينية لا غبار عليه على الإطلاق من حيث الأخطار الجسيمة التي ألحقتها بالبشر([7]). بيد أنّ نقد مرقص بقي نقداً خارجياً أتى من خارج المؤسسة الدينية، ولم يولها اهتماماً لفهمها من داخلها كظاهرة تاريخية، وكيف تعمل هذه المؤسسة وفق بناها الداخلية التأسيسية، فضلاً عن أنه لم يوضح تماماً هذه النقطة في بعدها التاريخي والسوسيولوجي في تاريخ الأديان، وتحديداً من حيث أنّ صعود أي مؤسسة دينية هو التطور الطبيعي لكل الأديان كما علم إيميل دوركايم (كما سيأتي معنا)، طبعاً منظوراً للدين بكونه تأسيس اجتماعي، بصرف النظر عن تشظيه الأفقي بين خبرات البشر الدينية المختلفة. وحتى المتصوفة التي تحاول الإفلات من المؤسسات الدينية الأرثوذكسية، فإنها تبني هي بمعظم تياراتها أرثوذكسيتها الخاصة مدعومة بطرقها الصارمة، بمرشديها ومؤسساتها([8]) التي تشكل نقائض المؤسسات الرسمية (وفي أحوال كثيرة تتحول الصوفية إلى أرثوذكسية رسمية متمأسسة بتأسيس الدولة وأيديولوجيتها، أو تقاس بمقاس مسطرة السلطة، كما هو الحال في سورية). من المستحيل أن نرى دالاً دينياً اجتماعياً ينسب لنفسه المعقولية([9]) من غير أن يتحول إلى كنيسة، أي إلى مؤسسة. أما عن الجرائم الذي يرتكبها هذا التأسيس، فهذا حديث آخر، وإن كنا سنعرض لها سريعاً في نهاية البحث.
النقطة المهمة التي أود التنويه إليها بداية هي أن إلياس مرقص لم يكن مختصاً بالدين وعلومه، بالمعنى الدقيق للتخصص، رغم حديثه المتكرر به وعنه هنا وهناك، رغم الغنى الكبير الذي تتمتع به الكثير من جمله والغنى الفكري والفلسفي في النظر للدين. ما سنفيد منه هو التالي: كيف فكر مرقص بالدين، بأي معنى أضاف له البعد الفلسفي، بل وكيف خبر الإله فلسفياً، وليس أسئلة من قبيل كيف تجسد الدين ويتجسد الدين عند البشر في حيواتهم السوسيولوجية والأنثروبولوجية، وهذه أسئلة لم تحتل عنده مساحة درسية. الأهم بالنسبة لي هنا أن مرقص في معظم ما قدمه كان بمثابة المحرض على التفكير والمساءلة. وهذا المقال هو جزء من تحريضه. وكما تشير كلماته التي أوردناها في رأس المقال والتي يقف خلفها نقد عميق لواقع عربي مرير، فهناك دعوة ملحة لنا على ضبط نقدنا ومعالجتنا للواقع بمفاهيم واضحة لكي نستطيع فهم مدلولاتها الواقعية بشكل نقدي. واصطلاح المؤسسة (في السياق الديني تحديداً) يعتبر من الاصطلاحات المحورية التي يمكن من خلالها مقاربة واقعنا الديني المتصحر.
عن إله مرقص والفكر الديني
يخال المرء لأول وهلة أنّ سؤال تعريف إله إلياس مرقص، أو قل القبض على مدلوله دينياً، حتى وإن تسمّى بالله، ليس بالمهمة اليسيرة. وهذا ليس بسبب لغة مرقص وتعقدها وتزحزحاتها، بل وانفلاتها من يد القارئ في محطات ليست بالقليلة، بل بسبب إشكال دال الإله نفسه وتشظيه في عالم الفكر وجهة الروح. حيث إن الإله هنا عصيٌّ على التصوير، متجرد متعال، ليس من أشقاء «المادة» والصورة، طالما أنه منعدم عن أيّ حسية صورية حلولية. إنه ليس إلهاً يهودياً، ولن يكون مسيحياً على الإطلاق (بالمعنى الإنجيلي للكلمة)، وليس كذلك بالإله القرآني الذي «استوى على العرش» [القرآن: 7.54، قارن كذلك 10.3، 13.2 20.5 الخ.] أو الذي «كان عرشه على الماء» [القرآن: 11.7]. إنه بكلمة: إله منفلت من كل مدلول، أي دال من غير مدلول، أو بمعنى أدق: دال فلسفي فكري من غير مدلول ديني مؤسساتي.
وهنا، فإذا كان هذا الدال ليس إلهاً حسياً يتموضع «مع الجبل والكرسي والطاولة»([10])، فإنه كذلك ليس إلهاً ممتنعاً ومتمنعاً عن موضعته في خانة السؤال والنقد. إصرار مرقص على وضع الله في جهة الفكر والروح وتاريخ الفلسفة لهو دعوة ملحة إلى مسألته ومساءلته، أي جعل الله بالمعنى النقدي للكلمة «سؤالاً» مفتوحاً على المعرفة والتفكر والتفلسف. وبالفعل، كثيراً ما شدد مرقص على أن الإله لطالما كان حاضراً في عمق الفلسفة الغربية في تاريخها كله، من الفلسفات الأفلاطونية والأرسطية قديماً وليس انتهاء بمعظم فلسفات الاتجاهات الحديثة منذ عصر التنوير. بيد أنه بنفس الوقت، يعتقد بهذا الإله بأنه حافز فكري وبمثابة «المبدأ»([11]) الذي يحفز على التفكير والإبداع في مسيرة البشر، ولا يمكن تخيله والحال هذا، بمثابة الأول والآخر الذي تُختم به قضايا البشر. الله، منظوراً إليه بوصفه سؤالاً، يعني بمثابته محرضاً على السؤال عنه ومساءلته في عالم الفكر. من هنا يأتي نقد مرقص لحضور الله الببغائي عند كثير من الشعوب «الله الله الله» دون أن يكون لهذا الحضور تحفيز «لسمو القانون»([12])، ومن هنا كذلك نقده ضد من جعل هذا الله بمثابته خاتمة الأمور، أو مغلاقاً تنغلق معه وبه العمليات العقلية والتفكير الفلسفي. إن إله مرقص، بكونه مبدأ، فإنه بالضرورة الفلسفية يتجلى بكونه إشكالا، ولأنه مسألة فيجيب أنْ نتعارك معها ديالكتيكياً («نريد دائماً أنْ نتعارك مع المبادئ، والمبادئ مسائل […]»([13])).
والحال، فإن الأمر في فترتنا هذه تجاوز تلك الطقوسية الببغائية الدينية في حضور هذا الإله الذي أخذ اليوم يمتاز لا بالعنف والإرهاب المنفلت من أي عقال روحي فحسب ، بل حتى بجاذبيته المقدسة الجديدة التي تستطيع ملء الفراغ الوطني الذي تعاني منه الكثير من شعوبنا التي تتراقص حول اسم الله، وبخاصة الأجيال الجديدة منها، والتي تعاني فراغاً مخيفاً من الدولة وفراغاً من الحداثة حيث يتم ملؤه باسم الله، والذي لم يعد يكتسي عباءة تراثية بالمعنى الحرفي، بل لبوساً معولماً جديداً يعتمد على باردايماتٍ ثقافية جديدة: إنها بالفعل ألوية الله المعولمة الجديدة التي يحمل لواءها لا جهاديون قدماء من الدينيين النصانيين، بل «أصوليات جديدة» منفلتة من عقال الدولة وثقل الجغرافية، إنها أصوليات مائعة في فضاء الإنترنيت الافتراضي التي تترجم عدمها على الأرض، أصوليات هي بحق ما فوق-الدولة، أصوليات خرجت عمقاً من البنية الضدية على الدولة ومفهوم الدولة.
إن مثل هذا الله هو تماماً على النقيض من إله مرقص، وإنْ لم يكن فيلسوفنا بَعْدُ في فترة جيله قد عايش صور الله هذه التي ازداد وتكثف توحشها اليوم. إله مرقص هو إله فلسفي روحي ينتمي ضمن خط هيجلي إذاً إلى إله الفلاسفة بمعنى ما، والذي كان وما زال يشكل لديهم حقلاً للتفكر. وطالما أنّ هذا الله وفقاً لفلسفة مرقص يجسد سؤالاً، فإن يمكن الامتداد بتأكيده أن «مشكلتنا ليست في سيطرة الفكر الديني، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي»([14]) إلى أنه ليس الإشكال الحقيقي الذي خاض به اليساريون وغيرهم حول وجود الله من عدمه، بمقدار ما يكمن في غياب التفكر الفلسفي حول مقاربة هذا المفهوم.
الحس النقدي من عدم وجود فكر ديني هنا لا يعني على الإطلاق الانحياز للدين بحد ذاته كما تقدمه لنا المنظومات الدينية التقليدية وحراس هياكل المعبد. رؤية مرقص تتجاوز الأيديولوجيا المتمأسسة على الدوغما والأرثوذكسية التي تقدمها لنا الأديان المعهودة. إنها دينية قائمة على مبدأ يدعوه مرقص «دين الله الواحد» الذي يتهيكل من ماهيتي المادة والروح والذي غلبت فيه الثانية على الأولى. حيث الروح هنا يتناسب تماماً مع «الفكر الفكري»([15]). وبهذا المعنى فإن الفكر الديني هنا الذي يدافع عنه مرقص، وينقد انعدامه، هو الفكر الذي «يؤدي إلى الفلسفة»([16]). مرقص لا يكتفي بذلك، بل يمتد نقده حتى ضد من وقف من مثقفي العرب (مثل هاشم صالح)([17]) ضد اللاهوت والميتافيزيقيا، ويشدد تماماً، بحق، أن هذا الجانب اللاهوتي لم يغب أبداً عن الفلسفة الغربية، حيث إنّ إلغاءه يعني التخلي عن الفكر والفلسفة: «لقد تبين في الغرب أنّ الفلسفة المعادية للاهوت والميتافيزيقيا ليست فلسفةً بل هي إلغاء للفلسفة. والعرب ضائعون بين الموقفين: فلسفة دينية تلجم الفكر، ووضعانية علماوية تلجم بدورها الفكر وتلغي الفلسفة باسم الفلسفة»([18]).
نقد مرقص يصب هنا إذاً في زاويتين: الأولى هي نقده للتفكر والتراث الديني التقليدي الذي يقف في وجه اللاهوت كمدخل للتفلسف (وهو الاتجاه الديني الكلاسيكي السائد)، والثاني للاتجاه الوضعي المعادي للوجه الديني لهذا اللاهوت. طبعاً مرقص لا ينكر هنا أن التاريخ العربي الإسلامي قد شهد مثل هذا التنوير اللاهوتي، بيد أنه اختنق فيما بعد وتحولت فيه المسألة الدينية إلى مسائل مذاهب وطوائف، وخنق معها السؤال الفلسفي: «إنّ أول مصيبة في تاريخنا هي سقوط علم اللاهوت، أقصد تحديداً علم الإلهيات العقلي. نوعاً ما المسلمون بدؤوه، المسلمون العرب، لكنهم فيما بعد صرفوه، والأوربيون تابعوه حتى هذه اللحظة»([19]) (للأسف، على أهمية هذا السؤال، فإن مرقص لا يعطيه المساحة الكافية)([20]). من هنا، فإنه يمكن القول، مع مرقص، أنه من العبث الارتكان إلى تلك الأحكام المتسرعة التي تتردد على ألسنة كثير من المتثاقفين بأن الفلسفة الغربية قد رمت باللاهوت وفكرة الإله وراء ظهرها. والحال، فإنّ الإله في معظم تاريخ الفلسفة الغربية كان ومازال يحتل مساحة للتفلسف والتفكر، وذلك تماماً لأنه مبدأ، وبالتالي، لأنه «مسألة ومسألة دائمة» (طبعاً لن يكون الإلحاد في الفلسفة الغربية سوى إجابة من بين أجوبة كثيرة)([21]).
أنْ يتمسأل الله دياليكتيكياً في عالم الفكر هو تماماً ما يقف في صلب نداء مرقص، وإذا كان الإلحاد هو سينتج عن ذلك، فليكن، لكن يجب أن تتم مسألة الله. هكذا، فإن تدين مرقص هو في عمقه تدين روحي، من جهة، بيد أنه يتوسل التفكير الفلسفي، من ناحية أخرى. إنه تدين غير منضبط بحدود أي دين من تلك الأديان التي اشتكى مرقص كثرتها. إنه تدين عميق، بل أكثر دينية مما تمتاز بها جماعات الإسلام السياسي والأصولي. وبالفعل، لقد قبض جاد الكريم الجباعي على هذه النقطة عند إلياس مرقص بتعبيره بأنّ «مادانية إلياس مرقص أكثر روحانية من دينية الجماعات الدينية المتطرفة الثورية الارتدادية كما وصفها» ([22]). وحتى الطلب الكبير اليوم على الدين في مجتمعات المشرق لا يمت في كثير من سياقاته التأزمية على حضور العمق الديني لديها بمقدار ما يشكل صورة تعكس تأزمات هوياتية تبدأ بالطائفة والقضايا السياسية المتعلقة بها ولا تنتهي بالقبيلة ومسألة الدم. الطلب على الدين لا يعني على الإطلاق أنه هناك طلب على «الدينية» بعينها. وربما يكون المعنى الأدق أنه هناك طلب على «هوية الدين»، طلب على هوية الجماعة الدينية، أكثر من كونه طلب على «تقوى الخشوع» العربي الذي أفاضت به بعضٌ من سلالات ما بعد الحداثة. القضايا الدينية التي يطرحها الأصوليون الإسلاميون في المستوى العام لا علاقة لها على الإطلاق بما يبغيه الفرد من تقوى دينية خلاصية. قضايا الأصولية الإسلامية هي قضايا تنتمي إلى السوق السياسية العامة ولا شأن للدينية التقووية بها رغم أنها تدور في الفلك الأصولي المريض. لهذا نصرّ على أنّ الأصوليين الإسلاميين هم أكثر الناس ابتعاداً عن «الدينية» لكنهم الأكثر والأشد مهارة في تديين الغير.
عن التدين والمؤسسة
والحال، فإن تدين مرقص (وهو تدين نخبوي في النهاية) يحيلنا إلى نقطة مهمة لطالماً طرحت في ميدان العلوم الدينية. التشديد على البعد الروحي للدين، يعني بشكل أو بآخر الوقوف ضد مأسسته ضمن قوالب اعتقادية وعبادية، وهو حال قلما نشهده في تاريخ الأديان، وتحديداً ما يسمى بالإبراهيمية منها. أريد بهذا السياق التوسع قليلاً بهذه النقطة أكثر من ذلك. إضفاء الطابع المؤسساتي على الدين يجسد في النهاية عمليات تاريخية تمثلها نخب محددة (وغالباً ما ترتبط بتأسيسات سياسية محددة)، يتم فيها منح الدين والمعتقدات الدينية بعداً تنظيماً اجتماعياً وسياسياً، سواء أكانت هذه تجسد تطلعات مجتمعاتها أم لا. هناك إذاً في هذه العمليات المؤسساتية ثلاثة عناصر([23]): الأول، الأفكار الدينية التي يجب مأسستها، والثاني، النخب التي ستتبناها، والثالث، الهياكل الاجتماعية والسياسية التي ستغدو مع مرور الزمن وكأنها جزءاً متأصلا من الدين.
يحيلنا هذا المفهوم للمؤسسة إلى تحديد مستويات عديدة في تجسدات المؤسسة الدينية. بيد أننا سنقتصر هنا على ثلاثة فقط. أولاً، إنه مفهوم يتحدد بإنتاج نظائم محددة في أشكال التعبير الديني وتنميطه Typisierung؛ وهذه تمثل نظائم غالباً ما تتسم بالدوغمائية العقيدية وقوننة الدين ضمن «خطاب منتظم»، منضبط ومشدود ومُقاد بسُلط تحدد آليات إنتاج المعنى. تشير الدوغمائية المؤسساتية هنا تماماً إلى عمليات تقونن أنماط المعرفة ضمن خطابات محددة، وتدعي في ذلك على أنها ملزمة على الشعوب. إنتاج المعرفة الدينية هنا يعني إنتاج السلطة (إذا ما استخدمنا تعابير فوكو). وربما تجد مثل هذه الادعاءات الملزمة تعبيرها السلطوي في إنتاج مصطلحاتها ومفاهيمها الخاصة أو أنواع معينة من النصوص (الكتب المدرسية، المجلات، النصوص من قبل السلطات السيادية أو الكنسية([24])، أو سلطة وزارة الأوقاف في الحالة الإسلامية). وهذا يقف على الضد تماماً من الخبرة الدينية الروحية الفردية (التي تتسم بالتعددية ولا يمكن ضبطها)، كما مر معنا في المقدمة، وكما أصر على ذلك إلياس مرقص. وهي خبرات لطالما تحاول التفلت من هذه السلط العقائدية. وهذا بالضبط ما يقود إلى التفريق الجوهري بين «الإسلام المعاش» على الأرض المتشظي في خبرات الأفراد السوسيولوجية والأنثروبولوجية([25]) وبين ذلك «الإسلام الرسمي»، «إسلام الوزارة»، الذي يحاول خنق الأول. وفي الحقيقة يعتبر هذا المستوى من أشد تعقيدات الأديان ومساراتها التاريخية: بين من يحاول التأكيد على الفردي والروحي في الدين، وبين من يحاول ضبط هذا ضمن أسوار المؤسسة.
المستوى الثاني الذي يمكن التعريج عليه هنا هو بعض الدلالات التي يوحي بها اصطلاح الكنيسة (وهذا لن نقف عنده أيضاً طويلاً). بصرف النظر عن بعض الإشكاليات الخطرة التي وقع بها إميل دوركايم في مخطوطه ذائع الشهرة الأشكال الأولية للحياة الدينية، The Elementary Forms of Religious Life، وتحديداً تلك التي تتناول المجتمع والدين بوصفهما معطيات إطلاقية كل منهما يعكس الآخر([26])، فإنه هو الذي توسع باصطلاح «الكنيسة» إلى مستويات سوسيولوجية جديدة تماماً ليؤكد بأنه من المحال على دينٍ ما الاستمرار في صيغته الدنيوية من غير التمترس بالجماعة، والتي يعني بها تماماً الكنيسة التي تعبر عن المجتمع؛ «لم نجد في التاريخ ديناً من دون كنيسة» يقول دوركايم([27]).
إنّ الكنيسة-المؤسسة هي الصيغة «التمثيلية» للجماعة. إنها مؤسسة «تمثل» اعتقادات الناس المشتركة فيما بينهم التي يترجمونها إلى طقوسهم الخاصة. إنّ الذي لا يمتلك كنيسة هو ما يرتبط بالممارسات الدينية التي تنحو نحو السحر وما إليه، والتي لا يعتبرها دوركايم بكونها تربط الجماعة البشرية. الكنيسة مؤسسة لا علاقة لها بمثل الاعتقادات الفردية السحرية: «لا يوجد كنيسة للسحر([28])» (رغم أن السحر أيضاً يمكن أن يتحول في سياقات ما إلى مؤسسة). إنّ دوركايم في واقع الأمر يذهب بالكنيسة إلى ما هو أبعد من وظيفتها الأساسية: «بعض الأحيان تكون الكنيسة بنحو ضيق قوميّة، وفي أحيان تمتد إلى ما وراء الحدود، وأحياناً أخرى تشمل شعباً بأكمله (روما والأثينيين والعبرانيين)، وبعض الأحيان لا تشمل إلا قسماً واحداً فقط (الطوائف المسيحية منذ مجيء البروتستانتية)، وبعض الأحيان تقاد بواسطة مجموعة من الكهنة، وفي أحيان أخرى، بشكل قلّ أو كثر لا تقاد من قبل أي هيئة رسمية على الإطلاق([29])».
هذا الفهم للكنيسة يمكن سحبه أيضاً، في كثير من استحقاقاته السوسيولوجية، على الإسلام([30]). لا شك أنّ المسلمين يشددون على غياب الكنيسة في دينهم أو أي شكل كهنوتي، كما هو الحال الكاثوليكي، بيد أنّ دوركايم لا يعني بالكنيسة أبداً هذه الدلالات الضيقة. الإسلام أيضاً يسكنه، حاله كحال أي دين، نمط كنسي-جماعاتي، والذي لولاه لما كان هناك أصلاً استمرار تاريخي يُدعى بـ«الإسلام» (وهذا الأمر ينطبق كذلك على الذات الجماعية لأيّ طائفة إذا ما أرادت كتابة البقاء لاسمها). طبعاً نقول هذا الكلام ونحن على وعي باستحالة تمترس الطائفة السنية وراء كنيسة سنية جامعة في العالم الإسلامي (رغم «الكنائس السنية» الهائلة فيه) طالما أنّ ثيمات الخطاب السني تخضع لميكانيزمات وتجسدات تاريخية معقدة غير تلك التي نجدها عند الشيعة مثلاً (حيث استطاع أصوليو طهران إنشاء كنيسة شيعية تسيطر على جزء واسع من الشيعة في العالم الإسلامي، وتحاول إلى اليوم السيطرة على والنطق بـ «مرجعية» شيعة العراق)، وهو الأمر الذي ساهم، وما زال، في وجود كنائس متعددة، كل منها تخضع لمساراتها التاريخية الخاصة (أنثروبولوجياً، سوسيولوجياً، سياسياً…الخ).
وعموماً، طالما أنّ هذه الانشداد الجماعاتي الكنسي ليس شيئاً معطى في الهواء الطلق بمقدار ما يجب أنْ تقوده سلطة، فإنه لا غرابة أنْ نجد في كل مراحل تطور الإسلام صعود قوى تحاول السيطرة ومأسسة الجماعة بما تراه مناسباً لها. لنتذكر هنا نقطة أجدها مهمة في سياقنا: لقد تم إنشاء ما اصطلح عليه بـ«المدرسة» الإسلامية بقيادة سلجوقية في سياق الحروب الصليبية وقبلها (المدرسة النظامية في بغداد مثلاً)([31]). وهو الأمر الذي كان له التأثير الهائل على العصور الإسلامية اللاحقة. وقد اشتهرت هذه المرحلة التاريخية بـ«عصر العلماء»، وذلك حينما بدأت تتهاوى سلطة الخلافة العباسية وسيطرة البويهيين عليها قبل ذلك (بين 945-1055 م.) ومن تلاهم بعدها. لقد بدأ بالفعل في هذه الفترات التاريخية شكل تحالف جديد بين التأسيس العلمائي وبين السلطة العسكرية المسلمة([32]). وهنا بالفعل أخذ الإسلام يأخذ تعريفات مؤسساتية جديدة قوامها عنصران: المفهوم المؤسساتي الجديد للمدرسة (حيث «تجاوزت سلطات الدولة السلجوقية، من خلال المدارس النظامية ، التي تسمت وفق نظام الملك، تلقي دعم العلماء. بدأوا في التأثير بشكل منهجي على تكوين العلماء نفسه»([33]))، والثاني السلطة التي كانت تفتقر للكاريزما المحمدية، والتي احتاجت تعويضها بسلطة العلماء. لا نستغرب بالفعل لاحقاً ولادة شخصيات أخذت موقفاً حاداً مجبولاً بالسلفية الطهورية، كأمثال ابن تيمية (1263-1328م) والشخصية الألين منه ابن قيم الجوزية (1292-1349م) وذلك رداً على قرنين متتاليين من التبعثر والهزائم وسيطرة سلالات غير عربية على البلاد الإسلامية. ما يهمنا هنا أنّ ظهور المدرسة يعني بشكل من الأشكال مأسسةً للفكر الديني الإسلامي، من جهة، وشرعنة للسلطة السياسية التي تحميها من جهة أخرى (خذ مثلاً كتاب «سير الملوك أو سياست نامه» لنظام الملك الطوسي /ت 1092/). والحال، أنّ هذه المأسسة، التي استمرت في هيكليتها في العصر العثماني، عادت للظهور بشكل ممنهج أكثر في العصر الحديث تحت تأثير الحداثة الغربية، وسيطرة سُلط عسكرية عليها لا ينتمون إليها، لا من قريب ولا من بعيد.
إذن، فإن سؤال المؤسسة في الدين هو سؤال تاريخي، ينتمي إلى طبيعة الظاهرة الدينية نفسها، بوصفها ظاهرة بشرية سوسيولوجية. وهنا يمكن الولوج إلى المستوى الثالث في دلالات المأسسة. فإذا كانت دلالات هذا المفهوم (هنا في سياقنا على الأقل) تجسد عمليات تاريخية في إعادة هيكلة فضاءات اجتماعية وسياسية ودينية ضمن الشروط التي قدمتها عمليات التحديث، والتي طالت أيضاً سورية، فإنها في السياق النظام السوري، مثلاً، لم تكن لتمثل سوى أداة من أدوات التسلط. وهنا نشير سريعاً أنه بصرف النظر عن بعض النقاشات التي تدور حول ما إذا كانت «المؤسسة»، في مفهومها المعاصر، إحدى الفضائل التي نتجت عن الحداثة، وبالتالي العلمنة، أو ما إذا كانت مفهومةُ المأسسة بحد ذاتها تجسد تماماً العلمنة ومساراتها (أو على حد تعبير ماكس فيبر «ريضنة العالم»)، فإنه لا يمكن فصلها في كلتا الحالتين عن مسار الحداثة. بيد أنّه طالما كان، ومازال، سؤال الحداثة وصدمتها سؤالاً لم يكن ليجسد تحولات اجتماعية عميقة داخلية تنطق به مجتمعاتنا، بمقدار ما كان سؤالا «فوقياً» فُرض من الأعلى، فإنه لا غرابة أنْ يتخذ سؤال مأسسة الفضاء الديني، بالمعني الحداثي، مساراً مبتوراً، ليتحول بالتالي أداة للهيمنة.
لا غرابة أنه بسبب فوقية الحداثة والفشل في تبييئها وإعادة إنتاجها ضمن معظم المجتمعات المسلمة أنْ تسير بنفس الوقت مع نهايات القرن التاسع عشر عمليتان، تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين: الأسلمة والمأسسة (باكستان تعتبر من بين الدول الإسلامية التي تبرهن على ترابط عضوي بين الأسلمة والمأسسة التي زاد معها معدلات التدين والازدياد الهائل للمدارس الدينية والمؤسسات الإسلامية الرسمية الخ.([34])). الأسلمة بوصفها إعادة أسلمة للإسلام نفسه وفقاً للشروط التاريخية الجديدة التي وجدت المجتمعات المسلمة نفسها فيها، طبعاً وبغير إرادتها (وهذه نقطة يطول الحديث فيها)؛ والمأسسة بوصفها أشكالا حديثة في إعادة تنظيم توزيع القوة وتدخل أشكال جديدة من الدولة في الشأن السوسيولوجي والسياسي وغيرهما. الاستحقاق الذي ولد عن هذه العمليات هو انتزاع القوة والسلطة من أرباب الدين إلى مراكز جديدة، وخلق طبقات جديدة من العلماء ورجال الدين لينطقوا بلسان سلطة الدولة. والحال، أنه بمقدار ما كانت تشتد فيه سطوة تدخل الدولة في الشأن الديني، بمقدار ما كان الإسلام يزداد تأسلماً جديداً في الطرف المقابل، أو قل يزداد أسلمة سياسية (حيث كذلك تعزز سياسة الأسلمة إضفاء الطابع المؤسسي على كوادرها المختلفة، من ناحية، مع دعم تسييسها «حتى التطرف»، من ناحية أخرى)([35]). تنظيم الإخوان المسلمين، الجد الأكبر للحركات الإسلامية، هو المثال الأسطع على هذا التنابذ، وتحديداً في مصر. حيث لم يخرج هذا التنظيم من قاع الطبقات الجديدة من رجال الدين المُتهيكلين جديداً بأجهزة الدولة، بل على الضد منهم، أي على الضد من الدولة ومفهومة الدولة. في سورية أخذت هذه العمليات مسارات مختلفة. فلأن سورية تفتقر جداً لمؤسسات دينية علمائية، فقد ولدت صيغٌ من الإسلام السياسي من داخل الدولة وفي تناغم معها. إنهم العلماء أنفسهم الذين ساهموا في مأسسة الفضاء الإسلامي (وتحديداً العلمائي) ضمن قوالب الدولة. كلية الشريعة الدمشقية هي المثال الأهم على هذا، والتي ساهم في تأسيسها مؤسس حركة الإخوان السوريين، مصطفى السباعي.
وختاماً
نشير سريعاً إلى إشكالية اصطلاح اللاهوت الذي يتكرر كثيراً في كتابات مرقص، والذي يقف مرقص إلى جانبه إذا قاد إلى الفلسفة أو إذا انبنى على أبعاد فلسفية. بيد أنه من التشديد على أن هذا لن يقود بالضرورة إلى روحنة الدين، بمقدار تعقيده بعقد اللاهوت الأرثوذكسية والقوننة التأسيسية، حيث لطالما كان اللاهوت والمؤسسة حليفين، كما حدث في تاريخ الكنيسة المبكر (ولاحقاً مع المسلمين) وهو ما أدى من قبل اللاهوتيين المسيحيين، مدعوميين بسلط سياسية، إلى ارتكاب أفظع الجرائم بحق الآخر، سواء أكان الآخر من داخل الدين الواحد أو المختلف. وهذا عنف رافق اللاهوت المسيحي منذ أن بدأ بالفعل يتخمر بالسياسة، حتى وإن ارتدى رداء الأفلاطونية الجديدة([36]). لطالما أثبت تاريخ الكنيسة أن ما يطالب به اللاهوتيون، مؤسساتياً، يقف على النقيض تماماً من الحريات الفردية الدينية وخبرات البشر المتشظية التي تختبر الدين في بعده الروحي لا الأورثوذكسي (واصطلاح الارثوذكسية بذاته يحيلنا بالضبط من الناحية اللاهوتية على «الاعتقاد الصحيح» والسليم الذي تصر عليه الكنيسة لاهوتياً)، وهذا رغم سبق الكنيسة على الإسلام في ميادين العلوم اللاهوتية العقلية على التراثيين المسلمين والذين سيطرت عندهم شوكة الفقه على العقل، كما ألمح مرقص كثيراً إلى ذلك([37]).
من المهم كذلك تماماً فصل سؤال اللاهوت الديني بحد ذاته عن سؤال الحرية. لا ننسى أن محاكم التفتيش التي قامت في القرن الثالث عشر واستمرت لما بعد ذلك، كانت من بين أكثر أشكال الاضطهاد اللاهوتي الأوروبي الذي أخذ طابعاً مؤسساتياً حيث كانت تهدف أولاً إلى قمع الطوائف المسيحية المختلفة، وفي النهاية ضد اليهود والمسلمين. ولا ننسى أن مارتن لوثر الذي ثار على الطقوس العبادية الكاثوليكية وكان من مناصري سؤال الإيمان في بعده الروحي، قد أنشأ كذلك هو نفسة وأتباعه مؤسساته الأصولية البديلة عن المؤسسات الكاثوليكية الأخرى، وتحالف بهذا مع بعض ملوك ألمانيا. فالرجل «لم يكن للأسف نصيراً للتسامح: في عام 1530 دعا إلى السجن والتعذيب والموت للزنادقة الآخرين المختلفين عنه… وقبل اضطهاد اليهود»([38]). لا شك، أنه هناك أعداد لا بأس بها من الأصوات التنويرية الغربية قد خرجت من عباءة اللاهوت المسيحي، بيد أن هذا لا يعني على الإطلاق أن اللاهوت بحد ذاته هو حامل للتنوير، هذا فضلاً عن أن هذه الأصوات قد خرجت نقدياً على اللاهوت نفسه الذي صعدت منه. اللاهوت المتعقد بعقد الأرثوذكسية لهو جانب مظلم في تاريخ الأديان، ولطالما كان يقف ضد التدين الفردي والحرية. ومعظم اللاهوتيين الغربيين لم يكونوا أصدقاء التنوير، وتاريخ الكنيسة والإسلام متخم بالأسماء التي تم التنكيل بها سواء من قبل اللاهوت الإسلامي أو المسيحي، وخاصة حينما ارتبط هذا اللاهوت بتأسيس سياسي ومؤسسات سلطوية.
المصادر والمراجع
العربية
مرقص، إلياس، حوار العمر، أحاديث مع إلياس مرقص، أجراها وحررها جاد الكريم الجباعي، ط1، دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع، 1999.
مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، أجراها طلال نعمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013.
مرقص، إلياس، ضمن مقدمته للترجمة العربية لـ باور- ماركس، حول المسألة اليهودية، دار الحقيقية – بيروت، 1973.
مرقص، إلياس، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد، دمشق، ط1، 1997.
الأجنبية
James, William, The Varieties of Religious, Experience, A Study in Human Nature, The Pennsylvania State University, 2002.
Sharot, Stephen, Hasidism and the Routinization of Charisma, Journal for the Scientific Study of Religion, Vol. 19, No. 4, 1980, pp. 325-336 .
Smith, W. Robertson, Lectures on The Religion of The Semite, The Fundamental Institutions, with an Introduction and Additional Notes Stanley A, Cook, New York, 1927.
Donker, Teije Hidde. “Islamic Social Movements and the Syrian Authoritarian Regime: Shifting Patterns of Control and Accommodation”. In: Middle East Authoritarianisms: Governance, Contestation, and Regime Resilience in Syria and Iran, edited by Steven Heydemann and Reinoud Leenders, Redwood City: Stanford University Press, (pp. 107-124), 2013.
Krech, Volkhard. “Dimensionen des Religiösen.” Handbuch Religionssoziologie. Wiesbaden: Springer Fachmedien Wiesbaden, 51–94, 2018.
Kuru, Ahmet T, Islam, authoritarianism, and underdevelopment: A global and historical comparison, Cambridge University Press. Cambridge, UK, 2019.
Lapidus، Ira M., “The Institutionalization of Early Islamic Societies,” in Max Weber and Islam, Toby E. Huff and Wolfgang Schluchter (eds.), New Brunswick, London, (148–150), 1999.
Andreas Thier, Dogmatik und Hierarchie: Die Vernunftsrechtslehre. In Dogmatisierungsprozesse in Recht und Religion, ed. von Georg Essen und Nils Jansen, Tübingen: Mohr Siebeck, 217-238, 2011.
Theresa Beilschmidt, Gelebter Islam: Eine Empirische Studie Zu DITIB-Moscheegemeinden in Deutschland. Bielefeld: Transcript-Verlag, 2015.
Malory Nye, Religion: The Basics, 2nd edition, London and New York, 2008.
Durkheim, Emile, The Elementary Forms of Religious Life. Translated and with an Introduction by Karen E. Fields. New York: The Free Press (Simon & Schuster), 1995/1912.
Ephrat, Daphna, A Learned Society in a Period of Transition: The Sunni ‘Ulama’ of Eleventh-Century Baghdad. Albany: SUNY Press, 2000.
Malik, Jamal, “Madrasah in South Asia.” In Oxford, UK: Blackwell Publishing Ltd,.105–121, 2006.
Nixey, Catherine , Heiliger Zorn. Wie die frühen Christen die Antike zerstörten, übers. von Cornelius Hartz, München 2019.
Eller، Jack David, Introducing Anthropology of Religion. Culture to the Ultimate, New York: Routledge, 2007.
- () مرقص، إلياس، حوار العمر، أحاديث مع إلياس مرقص، أجراها وحررها جاد الكريم الجباعي، ط1، دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع، 1999، ص37. ↑
- () James, William, The Varieties of Religious, Experience, A Study in Human Nature, The Pennsylvania State University, 2002, p. 38 . ↑
- () Sharot, Stephen, Hasidism and the Routinization of Charisma, Journal for the Scientific Study of Religion, Vol. 19, No. 4, 1980, pp. 325-336. ↑
- () Smith, W. Robertson, Lectures on The Religion of The Semite, The Fundamental Institutions, with an Introduction and Additional Notes Stanley A, Cook, New York, 1927, pp. passim. ↑
- () Smith, ibid, p.LI. ↑
- () مرقص، إلياس، ضمن مقدمته للترجمة العربية لـ باور- ماركس، حول المسألة اليهودية، دار الحقيقية – بيروت، 1973، ص9. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، أجراها طلال نعمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013، ص 278-279. ↑
- () قارن Donker, Teije Hidde. “Islamic Social Movements and the Syrian Authoritarian Regime: Shifting Patterns of Control and Accommodation”. In: Middle East Authoritarianisms: Governance, Contestation, and Regime Resilience in Syria and Iran, edited by Steven Heydemann and Reinoud Leenders, Redwood City: Stanford University Press, 2013 (pp. 107-124), p. 113. ↑
- () قارنKrech, Volkhard. “Dimensionen des Religiösen.” Handbuch Religionssoziologie. Wiesbaden: Springer Fachmedien Wiesbaden, 51–94, 2018. P. 68. ↑
- () مرقص، إلياس، حوار العمر، ص47. ↑
- () مرقص، إلياس، حوار العمر، ص47. ↑
- () مرقص، إلياس، حوار العمر، ص47. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 267. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 265. ↑
- () مرقص، إلياس، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد، دمشق، ط1، 1997، ص111. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 266. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 266. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 266-267. ↑
- () مرقص، إلياس، نقد العقلانية العربية، ص125. ↑
- () هناك الكم الهائل من الدراسات التي تعالج هذه المسألة، والتي لا يمكن الإحاطة بها الآن. لكن من بين الدراسات الصادرة حديثاً التي تعالج جانباً من سؤال انحطاط المسألة الفلسفية في الوسط المسلم والعربي، ومن ثم تحالف العلماء مع السلاطين وما أداه ذلك في كبح الفلسفة وصعود الجانب النقلي الأرثوذكسي هي هذه الدراسة، رغم تواضعها في بعدها النقدي:Kuru, Ahmet T, Islam, authoritarianism, and underdevelopment: A global and historical comparison, Cambridge University Press. Cambridge, UK, 2019. ↑
- () مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 267. ↑
- () الجباعي، جاد الكريم، في: مرقص: حوار العمر، ص46-47، حاشية18. ↑
- () Lapidus، Ira M., “The Institutionalization of Early Islamic Societies,” in Max Weber and Islam, Toby E. Huff and Wolfgang Schluchter (eds.), New Brunswick, London, (pp. 148–150), 1999, p. 140 . ↑
- () Andreas Thier, Dogmatik und Hierarchie: Die Vernunftsrechtslehre. In Dogmatisierungsprozesse in Recht und Religion, ed. von Georg Essen und Nils Jansen, 217-238 . Tübingen: Mohr Siebeck, 2011. P. 220. ↑
- () قارن حول هذا المفهوم:Theresa Beilschmidt, Gelebter Islam: Eine Empirische Studie Zu DITIB-Moscheegemeinden in Deutschland. Bielefeld: Transcript-Verlag, 2015. ↑
- () انظر حول بعض هذه الانتقادات:Nye, Malory, Religion: The Basics, 2nd edition, London and New York, 2008, P. 49. ↑
- () Durkheim, Emile, The Elementary Forms of Religious Life. Translated and with an Introduction by Karen E. Fields. New York: The Free Press (Simon & Schuster), P.41. 1995, 1912. ↑
- () Durkheim, ibid, p. 42. ↑
- () Durkheim, ibid. ↑
- () دوركايم يشدد في نفس السياق (ebd, P.41): «إنّ الأفراد الذين يشكلون الجماعة يشعرون بالاتحاد الواحد تجاه الآخر وذلك بواسطة حقيقة الإيمان المشترك. إنّ المجتمع الذي يكون أعضاؤه متحدين بسبب تخيلهم، بنفس الشكل والأسلوب، عالماً مقدساً مع علاقاته بالعالم المدنس، وبسبب ترجمتهم هذه التمثيلات [الاعتقادية] المشتركة في ممارسات مماثلة بينهم، هذا ما يدعى بـ”كنيسة“» [التشديد من عندي]. ↑
- () إضافة إلى المدرسة النظامية في بغداد، قاد نظام افتتاح سلسلة من المدارس الدينية السنية في العراق (بغداد والبصرة والموصل) وإيران (أصفهان ونيسابور) وآسيا الوسطى، والتي عرفت بـ النظامية. انظر:Kuru, Ahmet T, Islam, authoritarianism, and underdevelopment: A global and historical comparison, Cambridge University Press. Cambridge, UK, 2019, p. 101-102 and Lapidus, Ira M. A History of Islamic Societies, Cambridge University Press 2002, p. 136 f.
من بين من درس هذه المدارس هي دافنا إفرات التي تناولت 24 مدرسة ازدهرت في بغداد بين عامي 1066 و1193. حيث كان العديد من مؤسسي هذه المدارس وفقًا لأفرات حكاماً ومسؤولين أو زوجاتهم. انظر:
Ephrat, Daphna, A Learned Society in a Period of Transition: The Sunni ‘Ulama’ of Eleventh-Century Baghdad. Albany: SUNY Press, 2000. ↑
- () Kuru, Ahmet T, Islam, authoritarianism, p. 94 and passim. ↑
- () Kuru, ebd., p. 102. ↑
- () Malik, Jamal, “Madrasah in South Asia.” In Oxford, UK: Blackwell Publishing Ltd, 2006 (pp.105–121), p. 111. ↑
- () Malik, ebd. p. 115. ↑
- () وهذه عمليات تاريخية طويلة، من الصعب الإحاطة بها هنا، لكن يمكن القول أنها بدأت بالتمظهر تحديداً بعد تبني الامبراطرية الرومانية المسيحية كصوت ديني-سياسي أوحد لسياساتها في القرن الرابع، طبعاً بعد أن كانت الامبراطورية تتمتع قبل ذلك بالتسامح الديني الذي كانت الوثنية تمثل الحاضنة الكبرى له. انظر مثلاً حول عنف اللاهوتيين وجرائمهم في العصر القديم المتأخر وتحالفاتهم مع السلطة السياسي ضمن هذه الكتاب:Nixey, Catherine , Heiliger Zorn. Wie die frühen Christen die Antike zerstörten, übers. von Cornelius Hartz, München 2019. ↑
- () قارن مثلاً: مرقص، إلياس، حوارات غير منشورة، ص 274. ↑
- () Eller، Jack David, Introducing Anthropology of Religion. Culture to the Ultimate, New York: Routledge, 2007, p. 238. ↑