Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي

,

هذا الحوار المنشور على حلقات هو حوار أجراه جاد الكريم الجباعي مع إلياس مرقص، ونشره في كتاب (حوار العمر) الصادر عن دار حوران. وهنا القسمان الثالث والرابع من الفصل الأول (نقد الكلمات وتحرير المفاهيم والمقولات). لقراءة الحلقات بالترتيب انظر أسفل النص.

3 ـ مفهوم الشكل ومبدأ التشكل

مطابقة الفكر للواقع مطلب بعيد المدى، مطلب أبدي. نحن مؤمنون بأن الفكر والوعي لا يتطابقان مع الواقع لكننا ننشد التحسن الدائم، نحن في سعي إلى التحسن، هذا شيء مهم، في الفكر، في الوعي عنصر مستقبلي. الوعي فكر مبدع وضمير أخلاقي أيضاً. هذا سينقلنا إلى مقولة الروح. ولكن لنلاحظ قبل ذلك أننا نقول بالعربية فكر وفكرة، بالفرنسية يقولون (La pense’e) ويقولون Ide’e. في العربة اللفظ مشترك تقريباً. أما Idialism من Idia أي المثالية فتعني مذهب أو عقيدة الفكرة. ياسين الحافظ أمسك بذلك في حديثنا مرة وكان واضحاً جداً. بدلاً من المثالية نستطيع أن نقول الفكرانية ربما تعزيزاً للفكر والفكرة. الكلمة في اليونانية هي الأيدوس Idos وهي الأصل الفلسفي. والأيدوس الأفلاطوني يترجم بالفكرة والشكل Forme. والشكل عند أرسطو ابن أفلاطون. عندما يقول أفلاطون الأشياء مادة وشكل فإنه يعني قابلية المادة لأن تحس (الإحساس) وقابلية الشكل لأن يّذهن لأن يفهم أو يُفكَر. الشكل هو الذي يأتي بفكرة المفهوم. إذن الشكل أخ للفكر والمعرفة. هنا أفتح قوساً لأقول: إن مقولة الشكل Forme هي أضعف مقولة في تعليمنا العربي، وفي ذهننا وتفكيرنا وفي كتاباتنا، في حين هي أقوى مقولة في الفكر الفرنسي وفي الفكر الغربي عامة. من كلمة Frome اشتق الأوروبيون الكلمات التالية Formation أي تشكيل، بمعنى التكوّن، و Transformation يعني تغير الشكل بمعنى التحول. وInformation بمعنى الإعلاء، الشيء غير المشغول، فهم معجم، عجمة، وInformation بمعنى المعلوماتي، العلم المعاصر. يقول كيدروا: كل العلم في القرن العشرين هو عملية Formalisation متزايدة، عملية شكلنة متزايدة. هذه الكلمة دخلت في تعليمنا الرياضيات من دون دراسة. إذا ذهبت إلى مكتبة تبيع الكتب الفرنسية ستجد فيها سلسلة الليدي بورت للأطفال، هناك كتاب الماء وكتاب سكك الحديد، وكتاب السيارة، وستجد كتاباً عنوانه Les Formes الأشكال للأولاد حتى عمر خمس سنوات. يبدؤون بتكوين هذه المقولة عند الأولاد من عمر خمس سنوات[1](14)، ولطالما فكرت بضرورة نقل هذا الكتاب إلى العربية، إنه كتاب مصور، ليس فيه جمل كثيرة، في كل صفحة جملة واحدة، الصفحة الأولى تبدأ بجملة: كل شيء لـه شكل (توافورم) في الصفحات 2،3،4،5،6، تجد الدائرة والكرة والبالون، وفي الصفحتان 7و8 تجد المربع والمثلث وبعد ذلك المستطيل، في الصفحة 14 يرسمون دائرة في الوسط ودائرة أخرى ومستطيلين ومثلث ومربع، فيخرجون صورة لطفل يركب دراجة، لم يقولوا للطفل ذلك، بل يجدها أمامه بالأشكال. أرسطو يميز الشكل من الصورة. وعنده كل شيء يتألف من مادة وشكل نحن ترجمناها مادة وصورة، هذا خطأ، الشكل غير الصورة. الشكل شقيق الفلسفة العقلانية المثالية مع أفلاطون وأرسطو وديكارت وماركس. والصورة Emag غنية ومعقدة بنت ديمقريط وأبيقور بنت الفلسفة الماديانية الذرية. أرسطو حل الإشكال بقول قصير جداً: الصورة هي الشكل الأخير. بتعبير آخر الشكل هو صورة فارغة، صورة بسيطة مجردة، أما الصورة فهي شكل غني ومليء. إنك حين تشكل شيئاً من الأشياء تكمل شكله، تبرز صورته. الصورة هي الشكل الأخير أو الشكل الأعلى، هكذا تاريخ الوجود وهكذا المعايير، نبدأ بالبسيط لنصل إلى المركب وإلى العياني المكتمل، هذا هو خط الديالكتيك في المعايير. عند ماركس الأمر واضح تماماً[2](15).

كثيراً ما يقال عندنا المعرفة تبدأ من الواقع، نحلل الواقع أولاً. ما شاء الله!! هل يمكن البدء من الواقع من دون مفاهيمه وكلماته ومفرداته؟. نبدأ من الواقع، ها نحن استعملنا كلمة واقع، مفهوم الواقع هذا أولاً. ثانياً إذا كنت تعرف الواقع سلفاً، فلماذا تقوم بعمل سبيرة؟ ثالثاً زعمك البدء من الواقع سيقودك في نهاية التحليل إلى مجردات أثيرية محببة تسميها القانون وتسميها المفاهيم، تحلل الواقع في سورية أو في إنكلترا مثلاً وتنتهي إلى قانون عظيم هو صراع الطبقات. الواقع تبدد، طار، لم يعد هناك شيء. أو تحلل حالتنا ونضالنا على أنه نضال ضد الإمبريالية.. هذا كلام، مجرد كلام. الطريق الديالكتيكي عكس الطريق الشامل. أو لنقل الطريق الشامل صحيح ولكن بشرط أن تكون مسلحاً بالمجردات البسيطة، مسلحاً بالمفاهيم وبالقوانين وشيئاً فشيئاً تنتهي إلى إعطاء لوحة الواقع. صورة العالم، أو صورة البلد، صورته وليس شكله، جميع المفاهيم أدوات من أجل هذه الصورة. ستالين لم يفهم ذلك إطلاقاً. إذا قارنت بين ما يقوله ستالين في “المبدأ السابع” وما يقوله إنجلز تجد الفرق، فستالين يقول: من الممكن أن تعرف قوانين الطبيعة. إنجلز يقول: هل يستطيع الفكر أن ينشئ صورة الواقع؟. ستالين تكلم عن المعرفة وعن القوانين، إنجلز طرح السؤال بلغة الفكر وإنشاء صورة الواقع، الهدف الأعلى هو إنشاء هذه الصورة، الصورة المليئة المترابطة الحية التفصيلية. في الماضي كما نعتقد غير ذلك، سأقول لك لماذا: التعليم العلمي (تعليم العلوم) في الابتدائي والثانوي يبدأ بالملاحظة ثم التجربة وينتهي إلى استخلاص القانون. قانون تمدد المعادن في الفيزياء مثلاً هو خلاصة هذه العملية: الملاحظة والتجريب، وصوغ القانون أو وضع القانون وصولاً إلى تطبيقاته في الصناعة أو في بناء سكك الحديد أو الاتصالات.. فالمسلسل يكون كذلك ملاحظة واقع وتجربة فقانون وتطبيق للقانون. الرفيق ستالين قال لنا: هذه هي القوانين خذوها وطبقوها. وهنا أريد أن أحذر من كلمة تطبيق البشعة، التي حلت محل كلمة براكسيس ترجمة سيئة لها، البراكسيس تعني النشاط العملي، أو فاعلية الإنسان، عمل البشر. إن كلمة تطبيق تخربنا، تعليمنا يقوم على فكرة التطبيق، نقول للطالب: هذه هي القاعدة، طبق هذه القاعدة وهذا القانون وبعد أشهر نمتحنه في تطبيق القوانين أو القواعد الكثيرة التي تعلمها أو حفظها وما أكثر ما يضيع فيها وبينها، ذلك بدل أن نعلمه كيف يفكر، بدل أن نعلمه الفكر والعقل.

4 ـ الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي

أنتقل الآن من مقولة الشكل إلى مقولة الروح. أريد أن نتفق على المقولات أي المقولات الكبرى التي ذكرتها. المقولات أصناف. أخذنا سلسلة، مجموعات ومجموعات من الظواهر أو الظاهرات صنفناها في المقولة المادية وسلسلة أخرى صنفناها في المقولة الفكرية، الروحية. هنا أتساءل: هل أئمة الماركسية استعملوا كلمة الروح ترجمة لكلمة Sperit الفرنسية أو كلمة Geist الألمانية. الجواب فوراً: نعم. من يقرأ هيغل، أو من يقرأ ماركس وإنجلز ولينين سيجد هذه المقولة مكررة عشرات المرات بل مئات المرات. سؤال آخر: هل استعمل ستالين مقولة الروح؟ الجواب إن ستالين حين نقل نصوص إنجلز ولينين نقل كلمة الروح حيثما وردت، أما في كتابه وبلسانه الخاص استغنى عن مقولة الروح واستعمل محلها مقولة الفكر والوعي والنفس، ولكن بلا روح. أما المترجمون العرب فألغوا كلمة روح من شواهد لينين وإنجلز عند ستالين، ووضعوا العقل محل الروح. هذا غير مقبول، وضار، هذا تزييف. الترجمة العربية لكتاب ستالين استعملت كلمة عقل ترجمة لثلاثة أو أربعة مصطلحات مختلفة: Montage ترجموها عقلي وL’esprit ترجموها عقل وReasom عقل. نعود إلى ستالين بعد أن ألغى في كلامه الشخصي مقولة الروح نجده يستخدم عبارة (حياة المجتمع الروحية) بدلاً من (الحياة الروحية للمجتمع) ويكررها مراراً، وكذلك غدانوف و”عصر غدانوف” العصر السوفييتي الستاليني كرر عبارة “حياة المجتمع الروحية” مراراً مع التصفيق. والروحية ( ) Sperit ← .Sperital ألتوسير الذي جاء بعد ستالين ألغى كذلك مقولة الروح، وكثيرون من التقدميين العرب يقولون: يا الياس دعك من كلمة الروح هذه لأن الروح عندنا، نحن الشرقيين، لا تعني ما تعنيه عند هيغل وماركس. طبعاً هذا كلام غير مقبول، إذا كانت لا تعني عندنا ما تعنيه عند هيغل وماركس فهذا ليس سبباً للاستغناء عنها ولأن نقول: العقل بدلاً منها. ثم إذا كانت اليوم لا تعني فإنها غداً سوف تعني، ستصبح ذات معنى إذا أحسنا استعمالها، أي إن مضامين الكلمة وإيحاءاتها تتغير إلى هذا الحد أو ذاك، وتتغير كما نريد وكما نعمل.

هناك عندنا من يقول الروح كالهواء، وفلان (طلعت روحه) يعني أنه مات، فهل تعتقد أنها تعني عند الأوروبيين غير ذلك؟ كلمة روح في العربية من راح[3]* ، وهناك أغنية لفيروز تقول: «إن راحت روحك يا روحي روحي بتروح». والنفس من النفس (التنفس)، فهل تعتقد أو تتصور أن اليونانية والفرنسية والإنكليزية ليست كذلك؟ المشروبات الكحولية هي المشروبات الروحية عندهم Speriter، وطبيعي أن يستعملها البشر هكذا. عند أرسطو (بنرما) تعني النفس من النَفَس والتنفس فأصل الكلمة هكذا. جميع الكلمات الفلسفية ذات أصل شعبي، جميع المقولات الفلسفية ذات أصل شعبي وعامي وهي مقولات كبرى وشعبية جداً ويكررها الناس يومياً، لكن الفلاسفة حولوها[4]** . المادة بالفرنسية القديمة كانت تعني الحطب وعند الألمان المادة (شتوف Staff) تعني القماش، لكنها لم تعد تعني ذلك مع أن كلمة شتوف (Stoff) بقيت تعني القماش. وعلى الأرجح كلمة Matere التي تعني مادة أصلها من جذر قديم قد يكون هو المَذَر. المذر عند العرب يعني الطيب وإنه لشيء جميل أن تكون قد أعطت عند اللاتين والانجليز الـ Mater. خذ مثلاً كلمة (هازار) التي هي أكبر مقولة علمية فلسفية بمعنى المصادفة والاحتمال وحساب الاحتمالات التي تقوم عليها التقنية اليابانية والهندسة الوراثية أصلها من الزهر، النرد في لعبة الطاولة. العرب لا يزالون يلعبون بطاولة الزهر في نهاية القرن العشرين في حين كان الغربيون قد اخترعوا علم الزهر، علم الاحتمالات وقوننته المصادفة… إن كل فيزياء هايزنبورغ تقوم على أن عشوائية الصغائر هي أساس قانونية الكبائر، فذرات هذه الطاولة تتحرك عشوائياً لذلك هي ثابتة في مكانها، ولولا ذلك لتحركت في أي اتجاه، يمكن أن تصعد إلى السقف. إن ذهننا حتى اليوم ضد هذه المقولة، عندما تذكر المصادفة أو القانون نقول سبحان الله، إن أهم شيء هو قانونية المصادفة، كل ما حولنا وكل ما يقع من الحوادث والأحداث هو من باب العرضي. دائماً هناك ما هو عرضي وطارئ ومصادفة. إذا لم يكن في ذهننا سوى الحتمية من جهة، والمصادفة من جهة أخرى، فإننا نعود إلى مستوى هيرقليط. عند هيرقليط فكرة الإيمارميني تعني الضرورة الحتمية وتعني الحظ في الوقت ذاته. البشرية بدأت هكذا لا تفرق بين الضرورة والحظ والقدرة الإلهية مع رفض التفسير. البشرية تقدمت وأخذت تفرز، جاء وقت في القرن الثامن عشر قال فيه بعضهم بعدم وجود المصادفة، ورد عليهم فريق آخر بأن هناك ضرورة ومصادفة، هذه المقولة تفرض تلك المقولة، تطور الأنواع ضروري وحتمي، ولكن لماذا هذا الفرد أطول من ذاك هذا عرضي. الأفراد مختلفون ضمن الفصيلة الواحدة والعرق الواحد وسيختلفون دوماً. هذه مقولة مفتاحية وقد باتت موضوعاً لعلم عمره في أوروبا 350 سنة أو 400 سنة، منذ عصر باسكال بل قبل غاليليه وباسكال، وبرز في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وبرز أكثر فأكثر في القرن العشرين مروراً بداروين ودورفيز. ما أريد قوله أن التراث الماركسي لم يهتم بحساب الاحتمالات بل اهتم بتحليل اللامتناهيات أي حساب التفاضل والتكامل. لقد كتبت قبل عشرين عاماً موجهاً كلامي إلى العرب، وقلت: العقل عقلاني كما ترون، هناك عقل بدون حساب الاحتمالات وبدون تحليل اللامتناهيات، العقل الذي نريده في صلبه علم الاحتمالات وعلم تحليل اللامتناهيات.

أعود فأقول: إن كل ما يخطر في بالك من مقولات فلسفية لها أصل شعبي ثم أصبحت فلسفية، من ذلك الحرية والمصادفة والمادة والروح والذرة. الذرة مقولة شعبية ومقولة دينية “وردت في القرآن”: {من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}، وفي التوراة والإنجيل. الخطاب الإلهي أو الوحي خطاب شعبي، خطاب لجميع الناس، للبشر العاديين، وليس خطاباً فلسفياً أو علمياً، فكرة الذرة قديمة ويقصد بها شعبياً حبة صغيرة جداً جداً، في هذا الإحساس إرهاص قديم بالوعي البشري إلى أن أتى أحدهم من صور الفينيقية (أصحاب سعيد عقل) قام بعمل شيء مهم وسعيد عقل يعطي جائزة لمن يكتب عن هذا الرجل الصوري (لا أذكر اسمه) أعلن هذا الرجل خلافاً لليونان أن الذرة تتجزأ إلى ما لا نهاية. طبعاً سعيد عقل لم يدرك أن هؤلاء اللصوص اليونان سرقوا الفكرة من فينيقيا عندما أعلنوا الحل، أسسوا بالذرة لعلم الفيزياء. الذرة الفينيقية قبل اليونان بقليل، الذرة تتجزأ إلى ما لا نهاية. ثم جاء لوسيبو ديمقريط من تلاميذ هيرقليط وأعلن أن الذرة تتجزأ ثم لا تتجزأ، فظهرت فكرة العنصر، غير العناصر الأربعة أو الجواهر الأربعة النار والماء والتراب والهواء، عنصر من نوع آخر. هذه الفكرة الجديدة انتصرت أخيراً مع لافوازييه، لم يعد هناك نار بل ظاهرة احتراق، وصار الماء الذي نشربه مؤلفاً من جسمين عنصرين، الأوكسجين والهيدروجين H2O. هذا انقلاب في العلم، إذا بالذرة قد أصبحت عند ديمقريط Atom أي جزء لا يتجزأ. قال سعيد عقل في التلفزيون Atom لا يتجزأ، إنه يصفق للفينيقي، لكنه أيضاً يصفق لليوناني الذي أخذ الفكرة الفينيقية البابلية الهندية الشرقية وأضاف إليها فكرة هيرقليطية غربية: هناك وجود وهناك عدم، هناك ذرة وفراغ. منطلق ديمقريط وأفلاطون وجميع الفلاسفة هو تجاوز الرأي العام (تجاوز التقليد السائد والمعرفة السائدة أو”العقل السليم”ج).

أعود إلى القول إن جميع المقولات الفلسفية ذات أصل شعبي فلِمَ نستغني عن مقولة الروح، هل بسبب إيحاءاتها العربية؟ معروف أن إيحاءات هذه الكلمة في اليونانية واللاتينية والفرنسية والإنكليزية.. مثل إيحاءاتها العربية مع اختلاف في التعبير بين شعب وآخر، لكن هذا الاختلاف لا ينفي وجود جوهر مشترك أو قاسم مشترك بين الشعوب، نحن لا نراه، بل نتجاهله ونسقط في مذهب خصوصية مبالغ فيها، للأسف ستصبح خصوصيتنا أن الأمم تتقدم ونحن نتراجع.

إن كلمة روح مؤكدة ومستعملة عند ماركس وإنجلز ولينين وهي نفسها الروح. إذا كان ستالين وألتوسير والمنتدون العرب من علمويين وماركسيين من محمد عابد الجابري وسمير أمين إلى حسن حنفي لا يريدونها، هم أحرار، أنا أريدها. كارل ماركس استعمل هذه الكلمة، وأهم نص وردت فيه هو الصفحة الثانية من الفصل الثالث من مخطوط مدخل سنة 1857 الذي ترجمته ونشرته في مجلة الواقع، العدد الرابع، إنه نص كثيف جداً وهائل جداً عن الديالكتيك وطريقة علم الاقتصاد السياسي يصل فيه ماركس إلى أن هذا العلم يعني العلم الفلسفي النظري، الفلسفة والعلم، المعرفة العاملة بالمفاهيم، هي شكل للتملك يختلف عن الأشكال الأخرى، ألا وهي الفن والدين، التملك الروحي العملي (البراكسيس) (Praxis) وقبلها بقليل أو بعدها بقليل استعمل الغايس Gaist (الروح). عند ماركس مقولة التملك التي تعني أن أتملك العالم وأجعله خاصتي، عالمي. الإنسان يتملك العالم، لأن العالم في النهاية هو عالم الإنسان. العالم الآن مستلب من الإنسان، الإنسان ينشئ العالم، وإذا بالعالم يقف ضده. فكرة التملك هذه هي فكرة الاستيلاء، فكرة التغلغل، فهناك مسألة تملك بشتى المعاني. مقولة الغايس، الروح جاءت شقيقة لمقولة التملك. ومقولة التملك هي مقولة المعرفة تحت لواء مقولة العمل. وقد حدد ماركس للتملك أربعة أشكال هي: العلم أي الفلسفة بالمعنى الواسع أو العلم بالمعنى الواسع[5](16) (العلم النظري، الفكر النظري) والفن والدين والتملك الروحي العملي. هناك من يتساءل ما هو التملك الروحي العملي، أنا أقول إنه شيء أقرب إلى عمل النجار والحذاء والمزارع أيضاً. مثلنا الأعلى هنا شغل الحرفي الذي يملك حانوته وأدواته ويؤدي عمله من كل قلبه، أي إنه يضع كل قلبه وكل نفسه في عمله ويعرف أن عمله لن يخذله أو يخيبه وأنه سوف يربح منه أو سيرى نتيجته. هذا الحرفي يصنع مُنتجاً، لا يصنع ثورة ولا مجتمعاً جديداً، هذه صعبة جداً. مقولة الروح لا يمكن الاستغناء عنها. مقولة العقل أو الفكر النظري مقولة جافة. هنا أعود إلى سؤالك: قطعاً مقولة الروح واسعة جداً، أستطيع أن أشملها جميع النواحي الروحية والنظرية والأخلاقية والفكرية والمعنوية عند الإنسان، وهي مقولة شاملة للدين وللفن على السواء. مقولة الروح إذاً كمقولة الثقافة ومقولة الأخلاق، كل هذا مجتمعاً. ما هي الأخلاق (إن لم تكن ميداناً من ميادين الروح)؟ الأخلاق هي ضمير الإنسان وعمله، هي ميدان العمل والتعامل بين الناس على أساس الضمير. ليس هناك عمل من دون أخلاق. تسمى هذه الناحية المعنوية في الفرنسية Moral التي تعني الأخلاق وتعني المعنوي، معنويات الجيش مثلاً قوة كبيرة، القوة المعنوية.

وإنك إذا فتحت قاموس La Rouse على كلمة Moral في الصفحة الأخيرة من قسم التاريخ فإنك ستجد أنه يذكر جميع معاهد فرنسا، أي جميع الأكاديميات الفرنسية. يضعون أولاً الأكاديمية الفرنسية وبعدها أكاديمية المنقوشات والكتابات والآداب الجميلة، وبعدها أكاديمية العلوم وتشمل الهندسة والميكانيك والفلك والجغرافية والملاحة والكيمياء والفيزياء..إلخ. وبعدها أكاديمية الفنون الجميلة وتشمل الرسم والنحت والعمارة والحفر والموسيقا وبعدها أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية أو أكاديمية العلوم المعنوية والسياسية أو الأخلاقية المعنوية والسياسية وتضم الفلسفة والأخلاق وعلم الاجتماع (لنلاحظ الأخلاق قبل علم الاجتماع) ثم التشريع والحق العام والقضاء ثم فرع الاقتصاد السياسي والإحصاء والمالية. لاحظ الاقتصاد السياسي من علوم الأخلاق. ثم التاريخ. لو أن السوفييت سمعوا هذا الكلام قبل عشر سنوات لمنعوه أي رفضوه، لكنهم اليوم يقبلونه ويؤيدونه. كانوا يعلموننا أن لا أخلاق من دون اقتصاد، فقد كانت الأخلاق تابعة للاقتصاد. أما اليوم فيقولون علناً لا اقتصاد من دون أخلاق. ولكن يجب أن نتفاهم ما هي الأخلاق؟ الأخلاق هي الضمير، هي العمل والتعامل بين الناس. أما الإيحاء الذي يحصر الأخلاق في الأعضاء التناسلية وفي علاقة الرجل بالمرأة فهو جزء من الموضوع. لم لا؟ فأول تعامل بين الناس هو التعامل بين الرجل والمرأة. يجب أن نرفع لواء الأخلاق بقوة، ما زالت هذه القضية في قلوبنا منذ 25 سنة، قبل أن يدخل ياسين السجن. كنا نرى أن الأخلاق تنهار، يجب أن نثبتها في كتاباتنا وليس فقط في قلوبنا أو أحاديثنا الشخصية، هذه معركة، معركة من أجل الأخلاق. منذ 25 ـ 30 سنة ينمو عندنا الكذب والعنف.. ونمو العنف يساوي انحدار الأخلاق، نمو العنف يساوي القتل والسجن والضرب والذبح والاغتيال والمجازر، نمو الكذب ونمو الخطاب المزدوج.. هذا كله يعادل أو يساوي انحدار الأخلاق وتقلصها وتراجعها. الأخلاق تتراجع، يجب أن نرد وندرس الرد ونرد.

هنا نأتي إلى مقولة الروح التي هي الشقيقة لما قلت. أعود إلى مناقشات بعض أصدقائنا قبل وفاة ياسين، حول الدين والموقف من الدين. إنني بعد دراسة طويلة ومنذ عشرين سنة أفكر في هذه المسألة: الإلحاد في رأيي موقف مغلوط نظرياً وعملياً، وفي أحسن الأحوال لا معنى لـه. وفي أسوئها هو موقف عدمي يسوغ العنف. وهذا يشرح الموقف العظيم لدوستويفسكي حين قال: إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح. قال دوستويفسكي ذلك في معرض التحذير من الإرهابيين السود.

  1. (14) في تعليمنا الباكر، أذكر أنه كان عندنا كتاب في الصف الثاني الابتدائي اسمه “الأشياء”. وكنا نلفظ اسمه “الإشيا” جمع شيء، كما يلفظها اللبنانيون اليوم باللهجة الدارجة. وكان يعتمد الوصف ويوحي بأن الأشياء معطيات ناجزة ونهائية.
  2. (15) هذا الحديث عن الشكل وتمييزه من الصورة له أهمية حاسمة في تحديد مضمون الوعي وفي تحديد مضمون الأخلاق أيضاً، أي له أهمية حاسمة في الوجدان. مفهوم الشكل ملازم لمفهوم المادة. إذ لا مادة بلا شكل في الواقع. والصورة هي الشكل الأخير، الأعلى والأرقى،⇐ ⇐ لا بأس ولكنه ليس الشكل النهائي، الصورة تتغير ومادتها تتشكل من جديد وإلى ما لا نهاية. التاريخ تنويعة على الأشكال. ليس هناك أشكال نهائية من شكل الملكية إلى شكل الحكم أو نظام الحكم، وهكذا جميع التشكيلات الاجتماعية كلها قابلة للتغيير. والبشر لا يستطيعون سوى تغيير الأشكال بدءاً من عناصر الطبيعة. الأخذ بمبدأ الشكل والتشكل يرشد العمل ويفتح إمكانات الإبداع. الفنون التشكيلية مثال مهم. المادة اللونية تتشكل أشكالاً لا حصر لها وكذلك المادة الصوتية في الموسيقى، وكذلك البنى والعلاقات الاجتماعية. مقولة المجموعات الرياضية شاهد مهم جداً أيضاً. الرياضيات تجريد للواقع وللعالم وكشف عن علاقاته الكمية وتناسباته وكشف عن طابعه الاحتمالي المفتوح على اللانهاية.
  3. * الروح في العربية أصل. والرُّوح (بالضم) ما به حياة الأنفس، ويؤنث. والقرآن والوحي وجبريل وعيسى عليهما السلام والنفخ وأمر النبوة وحكم الله تعالى وأمره ومَلَك وجهه كوجه الإنسان وجسده كالملائكة. (القاموس المحيط) ومن الأصل نفسه بالفتح (الرَّوح) الراحة والرحمة ونسيم الريح.. ومنه الريحان المعروف. والراح (الخمر)، والراحة والارتياح.. ومنه راح يروح رواحاً.. (راجع القاموس المحيط).
  4. ** هذه إشارة مهمة جداً، فمن بين المفكرين العرب، وحده الياس مرقص ربط الفلسفة بالشعب وبالواقع، ربطاً وثيقاً. وفي حين لم يكن مأخوذاً بالشعبوية، فقد كان مؤمناً بأن الفكر هو فكر البشر على اختلاف كفاياتهم وتباينها، وبأن الحقيقة في متناول الجميع وفوقهم وأمامهم والقضية الأساسية عنده كانت قضية الفلسفة وقضية الواقع وقضية الشعب.الأصل الشعبي لمقولات الفلسفة هو الضمانة الواقعية لمشروع اندراج الفلسفة في حياة الشعب، في الوعي الاجتماعي. الضمانة الموضوعية لتحقيق الفلسفة أو وقعنتها في العالم، أي جعلها واقعاً.
  5. (16) في زمن ماركس وقبله كانت عبارة العلم تعني الفلسفة والحكمة بصورة أساسية وتشمل العلم الوضعي لا سيما أن الفلسفة كانت تسمى أم العلوم. ثم ارتبطت العلوم الوضعية بالدين أيضاً وكانت “عذراء منذورة للآلهة”. وتحرير العلم من اللاهوت كان أول عملية فرز وخطوة عظيمة في تاريخ تطور العلوم الوضعية، واستقل العلم الوضعي كذلك عن الفلسفة وإن دأبت الفلسفة على إمداده بالمناهج والمقولات والفرضيات. هيغل قبل ماركس وضع العلم والعلوم الوضعية في دائرة الفهم، دائرة القوانين الجزئية ولحظة الفهم لحظة ضرورية للعلم أي للفلسفة ميدان الرؤية الشاملة والمبادئ الكلية. وكذلك الأمر عند ماركس العلم بالمعنى الواسع هو الفلسفة متضمنة العلوم الوضعية ولا سيما في المدخل الذي يشير إليه الياس مرقص. هنا تغدو معرفة القوانين الجزئية مدخلاً ضرورياً للتملك الروحي العملي الذي هو الغاية والهدف المنشود لتصالح الإنسان مع ذاته ومع عالمه، أو لاستعادة ذاته المغتربة عنه.

ترتيب مواد كتاب (حوار العمر)

  1. مقدمة كتاب حوار العمر

  2. الثنائيات الفلسفية

  3. المادية والفلسفة المادية

  4. مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي

  5. الإيمان والإيمان الديني، أو الإيمان الحسي والإيمان العقلي

  6. المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق

  7. المادية والمثالية

  8. الاستلاب والاغتراب

  9. الانحطاط. النهضة. عبد الناصر والناصرية

  10. الحرية هي وعي الضرورة والاختيار

  11. قاموس دلالي – تاريخي

  12. سمو الدولة

مشاركة:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Authors

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية

مقالات ذات صلة