لا أجد ما أقدم به استعادتي الشخصية هذه للياس مرقص، إنساناً ومعلماً وصديقاً، أفضل مما يقوله هو بنفسه في مقدمة مخطوطته (مع جبرائيل سعادة): “جبرائيل سعادة بالنسبة لي، قضية شخصية. “ليس عنه تكتب بل عنك” سوف تقول لي أيها القارئ، مع بعض الحق، مع كل الحق. فحين أفكر في سيرة الرجل الذي في عقلي وقلبي، ففي نفسي أفكر، في سيرتي الذاتية، أفكر في الحوادث الصغيرة بيننا، استحضر من ذاكرتي شريطاً، شريطاً طويلاً في الزمن المجرد والمليء، شريطاً مكوناً من وقائع ناتئة، مفردة، معزولة، متقطعة ومتباعدة، ولكن الفجوات الطويلة ملأها التفكير الذاتي، ملأتها المضاربة الفكرية والروحية، الحاصلة في سريرتي الداخلية، وأحياناً مع أصدقاء ورفاق هنا وفي أماكن مختلفة. “نحن (مدينة) متعددة الأصوات، هذا على أي حال، مثلنا الأعلى”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعمل هذه الآونة، في ما يمكن اعتباره العمل الرئيسي في تجربتي. نوع من السيرة الشعرية، عنوانه المبدئي: (رجل أقوال)، وكان مقتصراً على ما أطلق عليه، إحضاراتي الشعرية. جمل وصور وأفكار، منها ما استخدمته في كتابة العديد من قصائدي ومنها ما لم يتح لي استخدامه. إلاّ أنه بسبب ميلي المعروف للاستطراد والوقوف عند كل واجهة، ومع كل شخص ألتقيه، على الطريق، أو ربما لشعوري الحاد بقرب نهاية العالم، نهاية النهايات، نهايتي، بات يحتوي تقريباً على كلّ شيء عني، أو ربما أكثر من كلّ شيء، لأنه يحتوي أيضاً أشياء كثيرة عن أناس آخرين، تتراوح أهمية أدوارهم في حياتي، من بطولية إلى كارثية، الذين لولاهم، واحداً واحداً، لولا عبورهم بي، وعبوري بهم، لكنت إنساناً آخر، ليس أفضل بالتأكيد، مع أني، دون أي رغبة في التواضع، لا أعتدّ كثيراً بما أنا عليه اليوم، وهذه حقيقة يدفعني لقولها، أنه كان من المفترض بي، بسبب هؤلاء الناس، ولأجلهم، أن أكون إنساناً أفضل بقدر ما، أكثر شجاعة، أكثر كرماً، أكثر قدرة على التضحية، وأكثر من أي شيء آخر.. أكثر حرية. وهؤلاء الآخرون ليسوا اثنين أو ثلاثة، أو حتى قلّة يمكن تعدادهم، بل هم كثيرون لدرجة أنه لا يمكن التفكير بحصر عددهم، فمنهم أناس بالكاد عرفتهم، وربما لم تسمح معرفتي بهم أن أحتفظ في ذاكرتي لوقت طويل بأسماءهم، إضافة إلى أن لا أحد أظنه تعنيه بشيء أسماؤهم، قالوا لي شيئاً، أو حدث لهم معي شيئاً، أو فعلوا أمامي شيئاً، واختفوا. ومنهم أناس كنت ألقاهم يومياً، رافقتهم لأشهر، وصادقتهم لسنوات، حتى صاروا جزءاً من حياتي، مني، وربما جزءاً عضوياً من جسدي، لأنهم صاروا، دون أدنى رغبة باستخدام الاستعارات، يحيون ويتصرفون على هواهم، في داخلي، علموني كل ما أعرف، ما أريد أن أعرف، وما لا أريد أن أعرف، غير أنهم جميعاً على اختلافهم، مضوا، أو أنهم سيمضون، كما بالتأكيد أنا سأمضي، أنت ستمضي، كما جميعنا سنمضي.
واحد من هؤلاء، الياس مرقص، الذي كان لقائي الأوّل به، رغم أنه من أبناء مدينتي، إذا لم أقل من آبائها، عن طريق كتابين له، استخدمتهما كمرجعين في رسالة تخرجي من كلية العلوم الاقتصادية في حلب: (دروس وتجارب اشتراكية: كوبا- إثيوبيا- اليمن- فيتنام)، التي تشاركت بها مع ثلاثة طلاب عرب أنهوا دراستهم الجامعية عام /1971/ معي، وهم؛ الفلسطيني نعمان كنفاني، الأخ الأصغر لغسان كنفاني، والمغربي عبد اللطيف عواد، والسوداني عمر عبد السلام. أوّل هذين الكتابين كان ذلك المجلد الضخم (الماركسية والشرق/1968/دار الطليعة/بيروت)، وثانيهما، وها هو أمامي، الطبعة الثانية من الكتاب الذي دون أية مبالغة رسم الجزء الأكبر من أفق تفكيري الثقافي والسياسي لليوم: (الماركسية في عصرنا/طبعة أولى1965- طبعة ثانية1969/دار الطليعة/بيروت) الكتاب الوحيد الذي أعيد طبعه للياس مرقص من بين جميع كتبه. وبعدها تحول هذا الإنسان إلى صديق ومعلم شخصي لي، ولأكون أحد الأشخاص القريبين منه الذين رافقوه إلى الخط الأخير من حياته.
لا حاجة لي بعد هاتين المقدمتين، بالتعريف بالرجل ولا بأهميته مؤلفاته وترجماته كماً ونوعاً، والكتب التي نشرت عن سيرته، والأبحاث التي قدمت عنه، وأخص بالذكر تلك المحاضرة التي ألقاها (عبد الله هوشة) في منتدى الأتاسي في دمشق، /2005/، بعنوان (الفكر السياسي عند الياس مرقص)، وكذلك المتابعات والاستعادات التي نشرت بعد وفاته، التي أرى أنها إن دلت على شيء، فهي تدل على حاجتنا لفكره، وافتقادنا لوجوده بيننا، ذلك أن مهمتي هنا تقتصر على نقل المقاطع، غير المترابطة، التي جاءت على ذكره في (رجل أقوال)، العمل الذي أجدني أهرب إليه بعيداً عن كل ما يعتري حياتي وحياة من حولي هذه الآونة، آملاً منها أن تقوم برسم جزء من صورة الياس الإنسانية أكثر من أي شيء آخر. يتبع هذه الاستعادة الشخصية، بعض المقتطفات من كتابه (المذهب الجدلي والمذهب الوضعي)، الذي يظهر ما كان يشغل فكر الياس مرقص في وسط الأزمة الحادة التي كانت تعبر بها سورية في بداية الثمانينات، التي يعتبرها البعض، على كارثيتها، صورة مصغّرة لما يحدث في سورية اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
31/10/1974: لا أدري ما كانت غاية رئيس فرع الأمن العسكري (ح. ب) في أن يقوم بنفسه ويزورني في بيتي، ليجري معاينته السريعة لرسومي، ثم يبدي موافقته الشفهية على إقامة معرضي الثاني في مركز الفنون التشكيلية، وهو يقول لأبي ممازحاً: “لولا تعرفي عليكم الآن، لكان من الواجب أخذ منذر إلى الفرع، للتحقيق معه في معاني هذه الرسوم”. اضطراري لأخذ هذه الموافقة جاء من كوني ضابطاً مجنداً في إحدى القطع العسكرية في اللاذقية.
– على الدفتر الصغير الذي خصصته لزوار المعرض، وبعد حوار من طرف واحد، ونحن نتنقل من أمام هذا الرسم إلى ذاك، وينتقل معنا رهط من الحضور، كتب الياس مرقص: “لئن كان الفن تعبيراً عن تطلع الإنسان فمن الواضح أن هذا التطلع غير محدود وأن عصرنا بانسلاباته المتنوعة والآخذة في التعمق يخلق ردوداً متنوعة وبالغة الحدة أرجو أن تصب جميعاً على انعتاق الإنسان وسعادته وديمومة النوع. وإني إذْ أبدي إعجابي وسروري بما رأيت أشكر الأخ منذر وأتمنى له دوام التوفيق”.
16/10/1977: البارحة كان افتتاح معرضي الثالث، شعرت وكأن الجميع يشاركونني عدم قناعتي بالرسوم!. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ بعض الزوار يبدون بعض الإعجاب بما يرون. أما الياس مرقص فقد أعجبه كلّ شيء، مما أراح قدميّ قليلاً.
– يحدثني الياس في المعرض عن جلسائه من الشيوعيين اللاذقانيين، بطريقته الخاصة في القص، وكأنها متابعة لما كان يجري من حوار: “إذا قلت لهم إن هذا قاله روجيه جارودي، أو قلته أنا، أو قاله مكسيم رودنسون، يعارضون، وينقدون، ويتهجمون، ثم إذا ذكرت لهم قولاً لكارل ماركس أو لينين يؤيد ما قاله جارودي أو قلته أنا، يقولون: لا .. ماركس كان يقصد بأن.. ولينين كان يعني أنه.. !!؟؟”.
– يقول لي الياس: “عندما أقارن نفسي بجارودي أو إسحق دويتشر أو رودنسون أجد نفسي صغيراً جداً، ولكن عندما أقارن نفسي ببعض الكتاب الماركسين العرب، أجد نفسي عملاقاً”. ثم يضيف مباشرة: أرجوك لا تعتبر هذا تباهياً، بالعكس، إنه في حقيقته أقرب لهجاء مقذع لمستوانا الفكري والمعرفي جميعاً”.
28/5/1980: بعد أن قدمت للياس مرقص كتابي (بشر وتواريخ وأمكنة) التقيت به دون موعد في مقهى البستان، ودون أن أسأله ما إذا كان قد قرأ الكتاب؟ بادرني بقوله إن ما لفت نظره هو ذلك الجواب الرهيب الذي يردّ به المغربي عبد اللطيف عواد علينا، عندما نناديه شاتمين: “يا بربري” فيجيبنا مقهقهاً وقد تقوّس ظهره: “يا عرب“.
– لم يتطرّق الياس في حديثه عن كتابي سوى عن لغتي، ليقول لي إنني أستخدم لغة متقشفة، نفعية، غرضية، اللغة للتعبير عن المعنى، لا غير. أي إنه، بخلاف ما سمعه عن شعري، يجد فيه شغلاً على اللغة وتشذيبها وصقلها باعتبارها وسيلة. وهذا برأيه ما يمكن اعتباره أحد الأشياء الجديدة في شعري، ذلك لأن لغتي تمضي بعكس اتجاه مفهوم العرب عن لغتهم، حيث أن العرب بإصرارهم على عروبة لغتهم، على صفتها، (لغة عربية عربية عربية) يكادون أن يضيعوا اللغة نفسها، كجوهر ومفهوم ووظيفة.
– يلتفت إلى صديقه جورج أستور وكان قد درسني يوماً مادة الاجتماعيات في ثانوية جول جمال، ويقول له موبخاً: “تلميذك منذر، أصدر ديواناً، بينما أنت لا هم لك سوى أن تقرأ لنا قصائدك عن هذا وذاك في المقاهي“. لا أعرف الياس موبخاً ولا قاسياً على أحد قسوته على جورج . وللحقيقة، أنا نفسي أجده لا يطاق.
4/7/1981: يمكن اليوم اعتبار النادي السينمائي في اللاذقية، أهم تجمع ثقافي ناشط في المدينة، فقد بلغ عدد اعضائه ما يزيد عن /1500/ عضو، جامعاً ربما كل مثقفي اللاذقية على تنوع مشاربهم، ولو أن بعضاً منهم لا يحضر العروض إلا لماماً. الياس مرقص من المتابعين، يكاد لا يفوت فيلماً، ومن المشاركين الدائمين في النقاش الفني والثقافي وأحياناً السياسي الذي يجري بعد العرض، رغم أنه لم يتقدم بطلب عضوية!؟.
– هذه المرة، كان الياس مرقص يجلس وحيداً في مقهى البستان. وكالعادة، هو من أشار لي لأجلس معه. ليبدأ حديثه عن أهمية نادي السينما بالنسبة لمدينة كاللاذقية. وأهمية الأفلام التي نقوم بانتقائها وعرضها لنشر الوعي السينمائي، ولو بحدوده الدنيا، بين هذا العدد الكبير من الحضور، مبدياً معرفة ليست بقليلة بكلاسيكيات السينما الروسية والأمريكية على السواء. إلاّ أن ما كان يهمه أكثر، هو نقل انطباعاته عن الحوارات التي كانت تدور بعد العروض، وخاصة ما كان يعبر عنه الشباب اليساريون من الحضور، الشيوعيون بانقساماتهم المعروفة، والبعثيون، والقوميون السوريون، كذلك. يقول لي: “يهاجمون البورجوازية وهم لم يتجاوزوا مرحلة البربرية”. ولكن هذا بالرغم عن قسوته الظاهرة، لا يمنع الياس من إعطاء الأهمية لأي فكرة تقال أمامه، من كان يكون قائلها، أذكر مرة أنه انتابتنا موجة من الضحك، ونحن نراه يمضي مع صديق لا علاقة له بالثقافة، سوى حقيبة جلدية سوداء صغيرة، يضع فيها تبغه وعدة غليونه، وهو يناقشه في رأي قاله، بدا لنا جميعاً أنه لا يستحق حتى الإصغاء له.
4/1/1982: في طريقي لبيت بوعلي ياسين، مررت على الياس مرقص الذي كان عائداً من بيروت اليوم السابق، واصطحبته معي للسهرة، دون أن يتاح لي الاتصال ببوعلي لإخباره، فقد كنت أعلم أنه بالتأكيد سيسر به كثيراً. استقبلني ميشيل كيلو الذي كان قد سبقنا، وقد فاجأه حضور الياس، عندها وجدت المناسبة لأمازحه حول عادته في احتكاره معظم الكلام في جلساتنا قائلاً: “أحضرت أبو زياد ليأخذ عنك كتفاً في الكلام”، فما كان منه، بسرعة بديهته المعروفة، إلا أن ردّ لي الصاع صاعين، وقال: “البركة فيك يا أخي”.
– قاطعتني سلمى: “يا لله شو بتحكي يا منذر”. نعم معلّمي الثلاثة في كثرة الكلام: (الياس مرقص، ميشيل كيلو، محمد سيدة). ذكرت هذا لمحمد سيدة، ونحن خارجان من مقهى قصيدة نثر، فاحتج بشدة قائلاً: “أهذا ما تقول للناس أنك تعلمته مني بعد كل هذه السنين”.
8/9/1984: تلهيني مكتبة (فكروفن) التي أنشأتها عن كل شيء آخر، فلا رسم ولا شعر ولا حتى قراءة وشراء كتب، بل العكس، ها أنذا أبيع كتب مكتبتي المنزلية، وخاصة الكتب التي لم أحتجها يوماً ولن أحتاجها أبداً. إلاّ إني أحظى بزيارات يومية للياس مرقص، فبيته الجديد يقع على مبعدة أمتار من مكتبتي. يمرّ ويحيني ذهاباً وإياباً، وأحياناً يجلس عندي بعض الوقت، أسمعه وأحدثه عن موسيقى الجاز، لا يستنكر ولا يرتاب بأي نتاج حضاري حديث، خلاف محمود عجان، وحتى جبرائيل سعادة، المتعصبين للموسيقى الكلاسيكية، غربية كانت أم عربية. البارحة قال لي: “.. أنه صحيح يوجد هناك موسيقى شرقية، عربية أو فارسية أو هندية، جميلة، ولكن شيئاً لا يقارن بعظمة نتاج الموسيقى الغربية”.
– يقول لي الياس، إن لديه مشكلة في كتابة المقالات، لا يستطيع أن يكتب مقالة قصيرة، بثلاث أو أربع صفحات صالحة للنشر في صحيفة، الحد الأدنى لمقالاته عشر صفحات أو أثنتا عشر صفحة.
18/6/1985: الياس مرقص عندي في مكتبتي، يخبرني أنه قادم من جلسة مع أصدقاء في مقهى (البستان). وأنه تكلم كثيراً عن (ميخائيل غوربتشوف)، فقد كان شديد الحماسة له، ولو مع بعض التساؤلات، وأن جميع الحاضرين أبدو اعتراضاتهم.. “إلاّ أن عبد القادر هلال، بقي صامتاً طوال الوقت ولم ينبس بحرف“. قلت له: “أظن (أبو عمر) بقي منصتاً طوال الوقت وليس صامتاً، وهذا ليس جديداً على الرجل، أنا لا أعرفه سوى على هذه الحال”.
13/3/1986: دخل الياس مرقص هلعاً إلى المكتبة: “منذر منذر، أتصل بي أحدهم و قال إن الحطينيين ضربوا زياد في الصالة المغلقة”. أغلقنا المكتبة وذهبنا بالسيارة أنا ومصطفى عنتابلي وحسان زريق إلى الصالة المغلقة عند عامود (السانت ألكسي) أو بلفظ اللوادقة (السانكلكس)، حيث كانت تجري مباراة كرة السلة بين فريقي حطين وتشرين. طوال الطريق كان الياس يلهج: “يا رب يا رب.. يا يسوع يا يسوع.. يا مسيح يا مسيح). وعندما وصلنا اكتشفنا أن الأمر كان مزحة سمجة من قبل أحد أصدقاء زياد.
6/9/1986: الجميع يهلل لعملية خطف أربعة فلسطينيين مسلحين من عناصر (منظمة أبو نضال) لطائرة البان آم الأمريكية في مطار كراتشي- الباكستان، التي قدر عدد ضحاياها بـ/43/ قتيلاً من جنسيات مختلفة، أغلبهم من الهنود. الجميع يهلل ما عدا الياس مرقص… وأنا!؟ يقول لي الياس مقترباً مني ومخفضاً صوته كدليل على أهمية ما سيقوله: “الإرهاب يا منذر.. مشكلة عالمية كبيرة”.
25/11/1987: أخبروني أن الياس مرقص، عند سماعه خبر اعتقالي، وهو في باريس، قال: ” إذا وصلوا بالاعتقالات إلى منذر مصري، فهذا يعني أنهم لن يدعوا أحداً من الشعب السوري إلاّ وسيعتقلوه”.
6/8/ 1988: رويت للياس مرقص، ما نقلته لي إحدى معلمات ثانوية الكرامة للبنات، كيف أن الشاعرة هند هارون، بعد أن أقالوها من منصبها كمديرة لهذه المدرسة، ذهبت إلى دمشق وقابلت الرئيس حافظ الأسد، الذي قال لها، كما أخبرت الجميع: “لا تقلقي يا أم عمار.. ستبقين مديرة لمدرسة الكرامة مادمت أنا رئيساً للجمهورية العربية السورية”. لم يضحك الياس كما كنت أتوقع، فقد أخذ القصة إلى أبعد مراميها، وصار يردد: “فظيعة.. فظيعة”.
3/4/1989: اكتشفت بالصدفة، وأنا أقوم بتسجيل بعض المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، أن الحركة الثانية (Andante) من (Sinfonia Concertante K. 364) لآماديوس موزارت، هي تماماً لحن الأغنية الشهيرة (The Windmills Of your Mind ) التي كتب على اسطوانتها أنها من تأليف الموسيقار الفرنسي ميشيل لوغراند، دون أي إشارة لصاحب اللحن الحقيقي، وهذا أمر إن كان يحدث عندنا نحن العرب، فمن المستغرب جداً أن يحدث في فرنسا وأوروبا عموماً. فكان أن أخبرت الياس مرقص بما اعتبرته، كما ذكرت اكتشافاً خطيراً، إلا أنه، أجابني بكل بساطة: “المقطوعة يا منذر، معروفة جداً، لدرجة أنهم ربما لا يجدون داعياً لكتابة اسم مؤلفها الحقيقي على الاسطوانة“.
– في الحقيقة، ما عادت تفاجئني معرفة الياس مرقص بالسينما أو الموسيقى الكلاسيكية والفن التشكيلي وبأشياء كثيرة أخرى، لأنه بكل الاعتبارات، يمكننا القول، مثقفاً موسوعياً، رغم صعوبة أمر كهذا اليوم، ما عدا علم النفس، فقد كان لا يخجل من الاعلان بأنه لا يقرأ فرويد ويونغ ووليام رايش، وسواهم، رغم جمع بعضهم لعلم النفس والماركسية معاً. لذا هذه المرة لم يفاجئني على الإطلاق بكونه قد قرأ منذ سنين كثيرة، رواية (النجمة) التي فازت بجائزة ستالين، عام /1947/: “طبعاً قرأتها، وأظن هناك ترجمات عربية لعدة روايات لكاتبها (عمانوئيل كازاكفيتش)“.
3/1/1990: خلال نقاش دار البارحة في بيت الياس مرقص، اصطفّ الياس معي في فكرتين، الأولى فيما يتعلق بالترجمة، حيث كان رأيي، بمواجهة ما كان يقوله أكثر الحاضرين بأن الترجمة خيانة للنص، وبأن الشعر لا يترجم: “أن الترجمة، ربما في الأدب أكثر من أي شيء آخر، الكاشف الحقيقي عن قيمة النص“. فكان رأي الياس: “إن الضرورة القصوى للترجمة كوسيلة لنقل المعرفة وترابط الجنس البشري، يغطّي بالتأكيد كل عيوبها“. أما فكرتي الثانية بوجوب بقاء الانتفاضة الفلسطينية سلمية، وكنت أعرف رأي الياس سابقاً في هذا الموضوع، فقد قال: “من يدعو ويدفع الفلسطينيين اليوم لاستخدام السلاح إذا لم يكن عميلاً أو مغرضاً.. فهو مجنون”.
9/8/1990: علمت أن مرض الياس مرقص، صديقي ومعلمي وأبي الفكري والروحي، أسمح لنفسي هنا باستخدام هذه التعابير الشائعة، لأنها تبقى صحيحة وصادقة بالنسبة لعلاقتي معه، هو سرطان البنكرياس، الذي لا يعطي وقتاً للحياة أكثر من ستة أشهر، والذي يقول عنه سليمان رشدي: “الله نفسه لا يستطيع شفاء إنسان مصاب بسرطان البنكرياس“، وليس كما أخبروه، وكما كان يخبرنا، بأنه يعاني لا أكثر من التهاب مزمن في البنكرياس، بترداده، المرة تلو الأخرى، وكأنه هو نفسه يريد أن يصدق: “مجرد احتضار طويل، قدروه بأنه قد يستغرق من السنوات أكثر من التي يمكن لي أن أعيشها، حتى ولو لم أكن مريضاً بشيء”!؟.
23/10/1990: لم يتح لي زيارة الياس البارحة قبل الساعة السابعة والنصف مساءً. فتحت لي أم زياد، وأشارت لي إلى الصالون. استطعت رغم العتمة التي تمسح المكان، رؤية الياس جالساً وحده، وما إن جلست بقربه حتى قال لي: “أنعشتني”.
15/1/1991: كنت في بيت الياس مرقص، من الساعة /7.30/ حتى /9.30/ مساء. لا يستطيع القيام عن السرير، ازداد نحولاً وضعفاً، يصرخ، يطلب من الموجودين إمساك يده. عندما تعطيه ماري الحقنة، يسألها إذا كانت تسمح له بالصياح!؟ أمسكت أنا بيده الصغيرة الشاحبة ذات الشعيرات الطويلة، وقبلتها، وأدمعت. تشبه يد أبي، يردد: “بسم الآب والابن والروح القدس” و “يا فاطمة”. ثم يقول لي، وقد خفف المورفين من آلامه: “إذا شفيت، سأدور أنا وأنت يا منذر كل المزارات، وسنصلي في الجامع”. أقول له: “منذ /30/ سنة، أنا يا أبو زياد، لم أدخل جامعاً، ولا أعرف كيف أصلي، ولكن نعم سنصلي معاً في جامع المغربي، بالتأكيد”. يبتسم.
– د. وهيب الغانم، يقول لنا: “لا تبخلوا عليه بالمورفين، ضيف خفيف”.
22/1/1991: أزور الياس مرقص، أجلس في الصالون مع بقية الزوار، يأتي ناس ويذهب ناس كمأتم، ولكن لا أحد يدخل غرفته.
26/1/1991: السبت، أخبروني أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، الساعة /10/ مساء أعلن خبر وفاة الياس مرقص.
28/1/1991: جنازة الياس مرقص، حضر الكثيرون من دمشق وحمص وحلب، منهم هاني الراهب وعبد الرزاق عيد وجمال باروت الذي عرفني وأنا لم أعرفه. وكان أيضاً نبيل سليمان وبوعلي ياسين ووفيق خنسة وآخرون. انحشرنا جميعنا في قاعة الكنيسة الصغيرة عند مدخل مقبرة الأرثوذوكس في الفاروس. حيث ظل الخوري الشاب ذو اللحية الطويلة المشعثة، يتبعه طفل يرتدي ثوب الكهنة، يرتل وينفث البخور ويقرع الأجراس حتى داخ الجميع.
– قال لي عبد الرزاق: “كنا نظن أننا نحن المسلمين متخلفون، أنتم المسيحيين، ما زلتم تعيشون في العصور الوسطى”. ظاناً أنني مسيحي كما الكثيرين ممن يعرفونني عن بعد.
28/1/1991: سهرتنا كانت في بيت يوسف جهماني، الذي فوجئت بأنه ضابط في البحرية، نبيل سليمان، وبوعلي ياسين، وعبد الرزاق عيد، وجمال باروت، وأخوه الذي جاء بهم في سيارته، وأحد الضباط في من رفاق يوسف. النقاش كان على أشده، بخصوص الحرب على العراق، وصدام حسين، وما إذا كانت الكويت محافظة من محافظات العراق،كما لبنان بالنسة لسورية، وهو ما يصدق به الجميع، ما عداي. كنت، خلافاً لبوعلي وعبد الرزاق، لا أرى في صدام حسين بسمارك العرب، ومع أن تخرج قواته من الكويت، إذا لم يكن باتفاق ما، فبالقوة. يسأل الضابط بوعلي ياسين ما إذا كان مستعداً للحرب في صف صدام حسين؟ يجيب بوعلي: “أنا لا أستطيع حمل بندقية، ولكن…”. يقاطعه عبد الرزاق عيد صائحاً: “أنا مستعد”.
– كانت الساعة قد قاربت الخامسة فجراً عندما قررت المغادرة، والذهاب للبيت. العتمة الحالكة للدرج جعلتني أندم وأفكر بالعودة، لولا شعوري بأني لن أعرف في أي طابق بيت يوسف. ولكن ما أن وصلت للمدخل حتى ساورني قلق مبهم، بأن شيئاً سيئاً سيحدث، لذا فضلت أن أسلك الشوارع الفرعية بدل شارع عمر بن خطاب الرئيسي، الذي يصل بخطوات قليلة إلى بيتي، تجنباً للدوريات الأمنية الليلية المعتادة التي تجوب المنطقة. لم أمكث في البيت سوى ساعتين وها أنذا في المديرية، بوعلي ليس حاضراً كما توقعت.
31/1/1991: ما زال بوعلي غائباً عن العمل، الأمر الذي أعاد لي إحساسي بذلك القلق، فطلبت من سميرة عوض زميلتنا في العمل، أن تتصل بسلمى زوجته وتسألها عنه، فأخبرتها بأنه لم يغادر السرير منذ عودته من فرع الأمن العسكري البارحة. الخبر الذي وقع علي وقع الصاعقة، مع أنني كنت أتوقعه، ما ضطرني للتوجه مباشرة لبيته الجديد في مشروع الزراعة، الذي لا أعرف موقعه بدقة.
– قرب البناء الذي أشاروا لي عليه، سألت صاحب دكان سمانة صغيرة، عن بيت الصحفية سلمى سلمان، وليس عن بيت بوعلي ياسين تجنباً للشبهات، وبالفعل سألني الرجل: “ماذا تريد منها؟” فتحججت بعمل يخصّ جريدة (الوحدة) التي كانت سلمى تعمل بها، عندها أشار للمدخل بجواره، وقال: “الطابق الأخير”. فتحت لي سلمى مبتسمة، قوية ومستبشرة كما عهدتها دائماً، (يا جبل ما يهزك ريح)، مثل ماري حداد زوجة الياس مرقص، ولكن ليس أكثر، ذلك أننا كنا نطلق على الثانية، مع مودتنا وتقديرنا لها، لقب (ماري الحديدية)، وقادتني إلى غرفة النوم، حيث بالكاد استطعت تمييز بوعلي وهو غاطس في السرير، ومغطى من أخمص قدميه إلى رأسه، بلحاف سميك، ما عدا عينيه اللتين كانتا تبرقان. أوّل ما قال لي إنهم اتفقوا جميعاً على ألاّ يأتوا على ذكري، وإنه لا داعي لي للقلق، وغداً سيأتي ألى المديرية ويخبرني بكل التفاصيل. بعد ذلك سألني كيف استدللت على بيته الجديد هذا، فأخبرته أني سألت السمان في الأسفل. فإذ به يقفز بنصفه من تحت اللحاف، ويصيح: “انتبه.. إنه من اتصل بالأمن العسكري وأخبرهم عنّا“. دون وداع هبطت الدرج ثلاثاً ثلاثاً، وغادرت المكان لا ألوي على شيء، سوى ألاّ يراني هذا المواطن المخلص الغيور على أمن الوطن.
1/2/1991: رواية بوعلي ياسين عن عواقب سهرتنا بعد جنازة الياس مرقص، أنهم غادروا بيت يوسف جهماني في الصباح الباكر، وذهبوا لبيت نبيل سليمان حيث تناولوا الفطور، بعد ذلك اتّجهوا لبيت بوعلي ليستريحوا قليلاً ثم ليهمّوا بالسفر. ولكن ما إن دخلوا وجلسوا خمس دقائق حتى داهمت البيت دورية أمن من أربعة عناصر، الماء والهواء والتراب والنار، أفسر له ضاحكاً، وقامت باعتقالهم جميعاً وأخذهم لفرع الأمن العسكري باللاذقية بعد تفتيش سريع للبيت. وهناك أبقوهم حتى المساء، وصاروا يحققون معهم على نحو فردي، ليس بخصوص السهرة تحديداً، بل بخصوص بيان المثقفين السوريين المناهض لمشاركة الجيش العربي السوري في قوات التحالف ضد العراق، حيث كان في ظنهم أن جمال وعبد الرزاق وأخاه جاؤوا من حلب للاذقية ليجروا اجتماعاً بهذا الخصوص. وعندما سئل بوعلي، ما إذا كان يؤيد صدام حسين؟ أجابهم، كما نقل لي: “أنا مع كل زعيم عربي يطلق صواريخ على إسرائيل“. وكان هذا الجواب، باتفاق ضمني، حجة الجميع، في اليوم التالي أطلق سراحهم جميعاً ما عدا شقيق جمال باروت، الوحيد الذي ليس اسمه على البيان، مما اضطرهم أن يبقوا السيارة قرب بيت ياسين لحين خروجه.
– قال ياسين، خارجاً عن سياق كلامه في هذه المناسبة وسواها: “جميع ضباط وعناصر الفرع علويون”
– ضحك ياسين عندما أخبرته أنني أرتدي البيجاما تحت ثيابي، تحسباً لاحتمال اعتقالي، قال لي سأكتبها في مذكراتي.
18/2/1991: يخبرني ياسين أن الأمن استدعى يوسف جهماني إلى دمشق، ويجري التحقيق معه بتهمة القيام بنشاط سياسي محظّر على العاملين في الجيش، ومن المتوقع تسريحه.
1/4/1991: أنهيت إعداد أسئلة المقابلة التي أنوي إجراءها مع ماري حداد زوجة الياس مرقص، على أن تكون المقابلة عنها، كإنسانة، ومربية، وكزوجة رجل كرّس حياته كلها للفكر والسياسة، تاركاً لها كل شؤون البيت ورعاية الأولاد، أحد هذه الأسئلة يبدأ هكذا: “أذكر مرة، وكان الياس في فرنسا، أني سألتك: “كيف تدعينه يغيب عنك كل هذه المدة؟”، فأجبت: “طوال حياته كان يدعو للحرية، فكيف تريدني أن أكون سجّانته؟“.
– بالتأكيد، كلام جميل هذا الذي قالته لي أم زياد، إلا أنني ومنذ سنين عديدة، أشعر وكأن الياس أشبه بالغريب في بيته، ماري هي المسؤولة عن كل شي. أو كأن الياس يتصرف ويحيا دون أن يكون له كبير الأثر في بيته وحتى على أولاده. ولكني أيضاً أذكر أنها فسرت لي انتقالهم من بيتهم السابق الذي كان يقع في شارع /8/ آذار إلى هذا البيت القريب من مكتبتي الواقع في شارع فرعي ضيق، بأن الياس لم يكن يحتمل الضجة هناك، وكان هذا يؤثر على كتابته.
2/9/1991: جاء زياد إلى المكتبة وقدم لي نسخة من كتاب الياس: (المذهب الجدلي والمذهب الوضعي). قائلاً: “طبعناه على حسابنا، وأحببنا أن نقدم لك أوّل نسخة منه.. كان البابا يحبك”.
16/3/1992: تجري ندوة المجلس القومي للثقافة العربية، تحت عنوان (الياس مرقص والفكر القومي)، في فندق ومسبح الشاطئ الأزرق خارج اللاذقية. التقيت بأناس عديدين أعرفهم، منهم الأستاذ أنطون مقدسي الذي سألني لماذا لم أشارك بإلقاء محاضرة؟ ما جعلني أفكر طوال الوقت، ليس فقط بالأفكار والآراء التي كان يمكن لي أن أغني بها الندوة، بل بأنه كان من المفترض أن أكون أحد هؤلاء المحاضرين حقاً، فعلاقتي بالياس ليست بأقل من علاقة نزيه جرجي به، على سبيل المثال لا أكثر، الذي تقدم بمساهمته الأقرب للإنشاء الأدبي، منها كمقالة فكرية، ولكني بالتأكيد غير مهيأ بعد لمناسبات كهذه.
– أشعر أن كثيرين يتمسّحون بالياس بعد وفاته، ومنهم من يدّعون صداقته الشخصية، وهو في الحقيقة براء من أكثرهم. مشكلته معهم، برأيي، كانت وما زالت هي هي، هم مغرضون ذو غايات، وهو بريء ذو إيمان. ويا إلهي كم كان الياس مرقص بريئاً. طفل بشعر شائب، هكذا وبكل بساطة.
– ما يجب علي فهمه، وما قد يساعدني على تفسير ما ذكرته سابقاً، أن الياس مرقص كان يملك القدرة على أن يجعل كل إنسان يعرفه يشعر أنه صديق شخصي. فلطالما استغربت من الذكريات الحميمة التي أسمع البعض يروونها عنه، مع أنني يوماً لم أشاهده برفقتهم،كما لم أسمعه يأتي على ذكرهم.
26/1/1996: الذكرى السنوية الخامسة لوفاة إلياس مرقص. ذهبت صباحاً إلى مقبرة الأرثوذوكس، أحمل باقة زهر. كانت أم زياد، زوجة الياس، تقف وحيدة بجانب القبر. ابنهما الأكبر زياد درس الطب وغادر لأمريكا، ولا يفكر بالعودة أبداً قالت. أما إياد فهو يقضي خدمته الإجبارية في الجيش. سألتني ما إذا كان لدي فكرة عن الجهة التي يفضل أن تقدم لها مكتبة إلياس الفرنسية!؟ أجبتها، دون تردّد، الأمر لا يحتاج لتفكير، أرى أن لا تعطيها لأحد، وتبقيها حيث هي.
26/1/2014: أخبرت عدة أصدقاء أنني سأذهب لزيارة قبر الياس في مقبرة الأرثوذوكس بالفاروس. ذهبت، وهذه المرة أيضاً لم يكن هناك أحد، سألت ما إذا جاء أحد قبلي، أخبروني لا أحد. أم زياد عند أحد ابنيها، إما عند زياد في أمريكا أو إياد في كندا.
22/6/2016: التقيت، بالصدفة، السيدة ماري حداد، زوجة الياس، عند باب أحد البنوك، فأخبرتني أنها جاءت بزيارة طارئة للاذقية، وستعود بعد أيام لكندا حيث يقيم ابنها إياد، ويعمل كطبيب أسنان، واتفقنا على أن أزورها صباح اليوم التالي، ذهبت بصحبة صديق مشترك عبد الله هوشة). الذي عرض عليها فكرة إعادة طبع أعمال الياس مرقص كاملة، فكان موقفها، أنها لا تقبل ولا ترفض أن يعاد طبع كتب الياس، أو استخدام أجزاء منها، ولكنها لا يمكن أن تعطي الحق بهذا لأي إنسان. أما بشأن مخطوطة (مع جبرائيل سعادة) فقد وعدتني إن وجدتها أن تودعها محلي في سوق التجار. سافرت ولم تفعل.
كما أنها نبهتنا، برفضها لمحاولة اتصال أي إنسان بأحد أبنيها، بخصوص أي شيء يتعلق بأبيهما، فلقد أنشأتهما بعيداً ما أمكنها عن السياسة والأحزاب والقضايا الأخرى التي شغلته.
أثاث البيت كله يقبع تحت الأغطية البيضاء، وعندما طلبت منها أن ترينا بعض صور الياس العائلية، نفت أن يكون لديها أي صورة لزوجها، ما عدا تلك اللوحة الصغيرة التي تمثل وجه الياس، والمعلقة على الحائط من رسم الفنانة ليلى نصير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المذهب الجدلي والمذهب الوضعي)
– كتبه الياس مرقص في 1982، وصدر طبعة خاصة، بعد وفاته بأشهر، في 1/8/1991.
ص 4: الجدل هو جهاد المعرفة.. جهاد ضد كل معرفة غير مجاهدة ضد أصنامها. يوازيه في الدين، جهاد النفس.
ص 5: إن الركيزة الأساسية والطبيعية هي أن الإنسان صاحب اللغة، (أداة الفكر وشرط الاجتماع والإنتاج والحياة البشرية) وصانع أصنامها مع الأصنام الأخرى، يحتاج إلى كلمات – مخدات يرتاح برأسه عليها- وينشئ في العالم الجدلي والصراعي والشيئي، قاموساً وثنياً (شيئياً) ومانوياً… هذا القاموس يختلف بين فئة وأخرى، لكن أسوأه، قاموس المثقف، فهو ذهني، لا حسي.. المثقف يوثن الكلمات.
ص 6: منطق الهوية الذي يعتبر الهوية بطناً، أي أنها ليست عقلاً وليست علاقة.
ص8: جورج بوشنير (مسرحي ألماني/1813-1837) : “الدماغ يفرز الفكر كما يفرز الكبد الصفراء”
ص 23: الاعتقاد بأن العرب من طينة أخرى، وأنهم في غِنىً عن، أو عاجزون عن، المجتمع المدني. اعتقاد لا يستند إلى أساس.
ص 24: لا أرى ما يدفعني جِدياً للاعتقاد بأن ماركس وأنجلز ولينين بشروا بفردوس قادم، أو بجنة على الأرض، لا أعتقد أنهم آمنوا بمستقبل بشري دنيوي يزول فيه كلّ شرٍ وداء، لكنهم آمنوا بمستقبل ممكن وواجب، لا يكون فيه فقر، جوع، حرب، استغلال اقتصادي وقهر سياسي من إنسان لإنسان.
ص 28: الديمقراطية ليست هدفاً وطريقاً وأداةً في العمل السياسي وحسب، بل هي موقف من نظرية المعرفة، هي اعتراف بالكائن والواقع، موقف اعتراف بالبشرية الأمية صانعة التاريخ.
ص 28: سياسيا الليبرالية هي موقف اعتراف بنخبة، بطبقة وسطى، ببرجوازية، بمثقفين وأحزاب… من السهل أن تنقلب هذه الليبرالية إلى فاشستية.
ص 29: أوغست كونت (1798-1857) صاحب المذهب الوضعي، ( ليتريه- غيزو – رينان – دوركيم – سبنسر – ميل – جيمس …) لقبوه بـ (هيغل فرنسا).
ص 32: يؤكد كونت الحالات الثلاث التالية للبشرية:
1- الحالة اللاهوتية (العسكرية!)
2- الحالة الميتافيزيقية (الماورائية الغيبية) مثل كونت هنا حوارٌ لموليير يسخر به من الأطباء المدعين: “يسأل المريض: لماذا الأفيون ينوِّم.. يا سيدي الطبيب؟ يجيب الطبيب: “لأن له قدرة على التنويم؟”.)
3- الحالة الأخيرة .. الوضعية .. الايجابية .
ص 33: في الحالة الوضعية يتم التخلي عن البحث في الأسباب (التعليل والتفسير) ويعمل لاكتشاف القوانين التي تحكم الواقع والوقائع وذلك بالملاحظة والمحاكمة.
ص 35: في الحالة الوضعية الدين (دين الشعب والدولة) هو عبادة البشرية – الإنسانية، أما الأخلاق فشعارها الحب والنظام والتقدم. أي دين بلا لاهوت، لكن مع طقوس وعبادات وتراتب وألقاب وبابا. نوع من الكاثوليكية بدون المسيحية.
ص 51: مفهوم الخصوصية في الذهن العربي اليوم بالغ الالتباس والخطأ، إنه مفهوم ماهوي وصخري.
ص 53: ليس للغة العربية خصوصية، بل لها مفردية، أي طابع مفرد (فرادة).
ص 76: الثورة الفرنسية، الروسية، الصينية، الانكليزية قرن /17/ .. الخ، كلفت البشرية ثمناً باهظاً، إن عملية ترحيل، هذه الحقيقة، عملية يجب أن ترفض من جميع الزوايا.
ص 77: لا كعبة، الكعبة هي الوجدان، الوعي.
ص 77: التاريخ كله له وجه دراما، وجه مأساة، وجه قبيح.
ص 88: يجب أن نعترف أن كلمة مادة تضخمت في القاموس الماركسي بدون أي مبرر حقيقي.
ص 93: ديكارت: “أنا أفكر إذا أنا كائن” أنا أشك في معطيات الحواس، في وجود كل هذه الأشياء والأجسام، حواسي تخدعني أحياناً، بل تخدعني دائماً، ولعلها تخدعني خصوصاً. الحواس ليست برهاناً.
ص 93: جون لوك (أبو التجريبية)، المعارض لديكارت (أبو العقلانية): “المعرفة كلها مصدرها الحواس، الخبرة أو التجربة”.
ص 93: كانط: الطعن بالمعرفة، وإعادة طرحها كمسألة.
ص 96: الماركسيون كانوا في الحاصل دون مستوى الفهم الهيغلي (المثالي)، وذلك لوقوعهم تحت تأثير المادية والمادية التاريخية، فلم يعوا جدّياً مبدأه: “كل ما هو واقعي هو عقلي (منطقي)، وكل ما هو عقلي هو واقعي”، حيث تمسكوا بالشطر الثاني، المثالي، من الأطروحة: “الأوضاع الألمانية المناقضة للعقل، فهي غير واقعية ويجب أن تزول”، واليمين الهيغلي تمسك بالشطر الأول المادي: “الأوضاع الألمانية واقع، إذا فهي معقولة وعقلية”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا بأس ببعض الشعر
ولأنه لا يحضرني ما أختم به هذه الاستعادة غير الشخصية على الإطلاق، كما تبيّن في القسم الأخير منها، فقد رأيت أن أتحفكم (!؟) بقصيدتين كتبتهما عن الياس مرقص، هذا إن كان يسمح للشعر أن يمد رأسه في محفل فكري جاد كهذا. الأولى كتبتها عنه في بداية الثمانيات، والثانية كتبتها من وحي زيارتي المتكررة لبيته خلال مرضه، حيث كنا، نحن أصدقاءه الأخيرين، على عادتنا نتناقش ونتجادل ونختلف حول كل شيء، بينما صاحب البيت (سقراط اللاذقية) المريض، يدخل ويخرج من غرفته، يبدي رأياً أو يذكر طرفة، أو فقط، كما روى لي صديق مشترك آخر ميشيل كيلو، أنه عندما كان الياس يتداوى في باريس، ولا يستطيع المشاركة في المجادلات والمناقشات التي تجري في الغرفة المجاورة للغرفة التي يقبع فيها، أنه كان من حين لآخر، يمدّ رأسه ويصيح بهم: “أمة العرب لن تموت.. وإنّي أتحدّاك باسمها يا فناء”.
1- وِسادةُ التاريخ
ها أنتَ تسنُدُ رأسَكَ التَعِب
على وِسادةِ التاريخ
يملأُ عينَيكَ الواسعتين
تَلوّي واصطِفاقُ ذوائبِ الأشجار
بمُرورِ الرياح
وتدافُعُ الغُيومِ في صفحةِ السماء.
/
ها أنتَ تُسَلِّمُ جسدَكَ التَعِب
إلى مجرى التاريخ
يمضي بكَ إلى بُحيرات
راكدةٍ في النِسيان
أو رُبَّما
إلى مصبّاتٍ صاخبة
يملأُ أُذُنَيكَ هديرُها
وقاسيةِ
الانحِدار..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- سُقراط في الحُجرةِ المُجاوِرة
كُنّا ثلاثةً تِلكَ الليلة
وقد احتدمَ الجِدالُ بيننا
وراحت أصواتُنا
تنطحُ السقف
وترفُسُ الجُدران.
/
كُنّا ثلاثةً
وهذا يعني أنّي لم أكن أحلُمُ
وأنَّهُ ليسَ من بناتِ الخَيال
عندما سمِعنا خِلالَ صمتٍ قصيٍر
نلتقِطُ بهِ الأنفاس
نَقراً خفيفاً على الباب
وفتىً بَهيُّ الطَلعةِ
يرتدي جُلباباً أبيضَ
يدخُلُ علينا ويقول:
“رَجاءً لو تخفِضوا أصواتَكم
…
سُقراط
في الحُجرةِ المُجاوِرة”..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللاذقية – سوريا