هذا الحوار المنشور على حلقات هو حوار أجراه جاد الكريم الجباعي مع إلياس مرقص، ونشره في كتاب (حوار العمر) الصادر عن دار حوران. وهنا القسم الأول من الفصل الأول (نقد الكلمات وتحرير المفاهيم والمقولات). لقراءة الحلقات بالترتيب انظر أسفل النص.
ـ تهيمن على الخطاب الفلسفي، ومن ثم، على الفكر السياسي، ثنائيات تناقضية من قبيل الفكر والواقع، الوعي والوجود، المثالي والواقعي، الذاتي والموضوعي، المجرد والمعين، المادة والروح، ومن بين هذا الثنائيات أو الأزواج التناقضية تستأثر ثنائية المادة والروح باهتمام خاص، إذ تنطلق منها السجالات والمعارضات بين العلمانيين واللاهوتيين، بين أنصار “الفكر العلمي” وأنصار “الفكر الديني”، بل بين الأيديولوجيات العلمانية والعلمانوية والأيديولوجيات الدينية والمذهبية. ويلفت النظر تحاشي العلمانيين عامة استعمال مفهوم الروح والتعبير عنه بأحد أقاربه أو أبناء عمه، في حين تؤكدون في أحاديثكم وكتاباتكم مركزية مفهوم الروح أو مقولة “الروح” إزاء مقولة “المادة”. أود أن أسالكم عن المادة والروح وعن المادية، وهل الدين وحده هو ميدان الروح أم أن الروح تنبسط في جميع ميادين المعرفة والعمل وأن هذا “الروح” هو الروح الإنساني الذي تمثلته وانطلقت منه ماركسية ماركس وإنجلز ولم يتبعهما في ذلك سوى قلة من “الماركسيين” في العالم أنت واحد منهم؟.
# بداية، أريد أن أقول: إنني لا أمثل في جوابي إلا نفسي، وأعطي رأيي الشخصي[1](1). ثانياً، أعتقد أن الماركسية الستالينية التي هيمنت علينا بعيدة جداً عن ماركس، بل بعيدة جداً عن ماركس وإنجلز ولينين. النقطة الثالثة أن ماركس عزيز عليّ، لكن الحقيقة أعز، ومن ثم، أريد تأكيد مبدأ الحقيقة، أريد الحقيقة مبدأ ومسعىً وهدفاً، دائماً وأبداً، المرة تلو المرة. وبتعبير آخر، الحقيقة فوقي وفوق كل إنسان، فوق كل حزب وكل دولة، بل فوق الجنس البشري. البشرية هي في سعي إلى الحقيقة، البشرية الناظرة، النظرية، البشرية المفكرة، الروحية هي أبداً في سعي إلى الحقيقة. وهنا أريد أن أذكر لحظتين ضروريتين للإنسان: الأولى، لحظة بروتاغوراس، أو، ماركسياً، لحظة الحقيقة الذاتية، لحظة السفسطائية، المحامين، المرافعين،، شعارها: الإنسان مقياس جميع الأشياء. والثانية، اللحظة النقيضة، السقراطية: الإنسان بوصفه كائناً مفكراً هو مقياس جميع الأشياء[2](2). ونعرف أن لينين في مخطوطاته الفلسفية عام 1915 كان يصفق لرد سقراط، لرد السقراطيين. نحن يجب أن نصفق مرتين، لأن سقراط المناقض لبروتاغوراس ما كان ليوجد من دون بروتاغوراس. كذلك عند الانتقال إلى العصر الحديث نصفق لهيغل، ولكن نصفق أيضاً، وأولاً لكانط فهيغل.
الانتلجنتسيا الروسية الثورية بنت شعب كان بعيداً عن الفلسفة، مثل العرب أو أكثر من العرب (اليوم). روسيا ليس لها علاقة بالفلسفة، بيزنطة نفسها لا علاقة لها بالفلسفة. الفلسفة شأن أوروبي غربي، وشأن يوناني قبل ذلك، وجزئياً شأن عربي في وقت من الأوقات. ما حصل في القرن التاسع عشر أن الروس كانوا يريدون ثورة، يريدون تغييراً، فأمسكوا بالفلسفة، لكنهم، في الواقع، أمسكوا بالجزء، بهيغل. بدؤوا بهيغل بلا كانط. هيغل، من دون كانط، يمكن تأويله استبدادياً، إرهابياً، إطلاقياً. من هنا أعود إلى القول: إن الحقيقة فوقنا وهي أمامنا وهي طريقنا، هي ما نسعى إليه، ثم أنتقل إلى سؤالك.
1 ـ مفهوم المادة
يجب أن نتفق، قبل كل شيء، على أن المقولات التي ذكرتها في سؤالك، وخاصة مقولة المادة ومقولة الروح، هي مقولات فلسفية، ولا يجب أن تعامل إلا بصفتها كذلك. الستالينية السائدة تهرب من هذا وتهرب مما سأقوله الآن: ثمة ثلاث نقاط، ثلاث مقولات أنقل اثنتين منها عن لينين والثالثة عن إنجلز. عند لينين منذ سنة 1908 أي في كتابه “الفلسفة الأسوأ” المادة مقولة فلسفية، المادة مفهوم فلسفي، ويختم كتابه هذا بتسمية الواقع الخارجي المعطى لنا بالحواس. عندما نقل لنا ستالين هذه العبارة شطب عبارة: مفهوم فلسفي، فدفع القارئ إلى تصور أن المادة لا تحتاج إلى تعريف وليس لها مفهوم وأنها، أي المادة، هي الطاولة والكرسي والجبل والمغنطيس…. عدَّدها على هذا النحو، علماً بأن لتعريف لينين مزايا كثيرة أهمها أنه عرف المادة بعكسها فقال لنا: المادة مفهوم فلسفي يسمي الواقع الخارجي المعطى لنا بالحواس. فإذا أردنا أن نتبنى القسمة اللينينية، ولنتبن ذلك فعلاً، يتبين لنا أن عند لينين هناك المادة والكائن والطبيعة والفيزيقي وهناك الوعي والروح والفكر والإحساس (لينين يضم الإحساس) في الجهة المقابلة. المقولة الأولى المادة عُرِّفت بالمقولة الثانية. إذا أردنا الأخذ بهاتين المقولتين تكون المادة هي المعطى الأول، والفكر والروح والإحساس..إلخ هي المعطى الثاني، (ولنأخذ بذلك) يجب أن نلاحظ مباشرة أن المعطى الأول معرف بالمعطى الثاني. وأستطيع القول إن موقف لينين يستحضر موقف أرسطو عندما عرف المادة مقابل الشكل بأن «المادة تتمتع بقابلية أن تحس، أي يمكن أن تحس». لسوء الحظ، لم تقف الماركسية مطلقاً عند أرسطو وعند ثنائية المادة والشكل، وكان تجاهلها أو جهلها خسارة كبيرة للفلسفة الماركسية. إنجلز عرف المادة بقوله: «المادة كمادة لا وجود لها في الواقع، المادة، كمادة، محض خلق من الفكر وتجريد محض». ماذا يعني بالمادة كمادة؟ يعني بذلك أنه إذا أخذنا أي شيء من الأشياء وجردناه من جميع كيفياته الخاصة ومن جميع خصائصه وصفاته (أو تعييناته.ج) إلى النهاية، نصل إلى المادة العامة، نصل إلى المادة كمادة[3](3). المادة تجريد محض، اختراع من الفكر. ورد هذا في “ديالكتيك الطبيعة” لإنجلز، الذي طبع في موسكو وباريس منذ 35 سنة كما أعتقد. نستطيع أن نبرهن الآن أن جميع كتب الشّراح السوفييت وغير السوفييت كانت تتجاهل كلام إنجلز. ومما يلفت نظري أن أول مرة قرأت فيها قول إنجلز كانت في كتاب سوفييتي هو “المادية والديالكتيك عند أينشتاين” للكاتب غريبانوف. هذا الكتاب طبعته دار الفارابي، غلاف أبيض وأصفر، وترجمه توفيق سلوم. يذكر غريبانوف قول إنجلز في السياق التالي، في معرض حديثه عن بيركلي وأينشتاين قال ما معناه: يجب ألا ننسى أننا نجد عند إنجلز قولاً شبيهاً بقول بيركلي. وأنا أريد أن أضيف نقطة عن لينين: يتصور القراء أن ما قاله لينين ضد بيركلي هو حكمه الأخير على بيركلي، أي بيركلي الرجيم، المثالي، الرجعي..إلخ. ولو قرأنا مقال لينين حول الديالكتيك المكتوب عام 1916، وهو جزء من “الدفاتر الفلسفية” فإننا سنجد في نهاية هذا المقال حديثاً عن تاريخ الفلسفة مقسماً في دوائر، عدة دوائر، دائرة في العصر القديم، دائرة في العصر الحديث… وكل دائرة مؤلفة من ثلاثة، كأن الثلاثة تأكيد ونفي ونفي النفي، كأن يقول مثلاً: الدائرة القديمة أفلاطون أو ديمقريط فأفلاطون فهيرقليط. وإحدى هذه الدوائر تقول ما يلي: من هولباخ (أي المادية) إلى هيغل (أي الديالكتيك) عبر بيركلي وهيوم وكانط. بيركلي ليس منبوذاً. بيركلي وهيوم وكانط أخذوا أماكنهم في صلب الإشكالية، في صلب الدورة الصاعدة. طبعاً هذا يتضمن أيضاً أن لينين لم يكن يرى أن ديمقريط وأفلاطون عدوان وعلينا أن نختار أحدهما، ولا إلى الفلسفة على أنها أيديولوجية طبقية أو ما شابه، بات ينظر إلى الفلسفة ومذاهبها بصفتها زوايا نظر إلى الواقع وكلها مسوَّغة، فحين يقول لينين: أفلاطون ـ وديمقريط ـ هيرقليط فغير وارد أن يتبنى ديمقريط وينبذ أفلاطون أو يتبنى أفلاطون وينبذ ديمقريط، وغير وارد أن يتبنى هولباخ وينبذ بيركلي وهيوم وكانط.
نرجع الآن إلى الأطروحة الثالثة لهيغل ولينين في “خلاصة منطق هيغل”: المادة هي المجرد على وجه الامتياز. ما معنى مجرد على وجه الامتياز؟ إذا أردت مقولة مجردة مجردة مجردة فما عليك إلا بما قلته أنت[4]* : مجردة بمعنى لاغية، تلغي، نافية إلى النهاية. الآن كل فلسفة المادية الجدلية الشهيرة لو عرضها ستالين والشراح، وعرضوا هذه العبارة: المادة هي المجرد على وجه الامتياز، المادة، كمادة، هي محض خلق من الفكر، لو أنهم بدؤوا بهذه العبارة كنا تجنبنا الخراب الذي ترتب على أنركابنا بمقولة المادة. لو قمنا باستفتاء أو سبر عند الماركسيين لوجدنا معظمهم يعتقدون أن المادة والكائن والطبيعة والوجود والفيزيقي مترادفات. ألم يضع لينين هذه كلها في جهة ووضع مقابلها الفكر والوعي والروح؟. هؤلاء الماركسيون يظنون مقولات الصف الأول مترادفات وكذلك مقولات الصف الثاني، وهذا غير صحيح. عند لينين هذه وهاتيك متقابلات[5](4). خارج هذا التقابل، بصورة مستقلة عن هذه المعارضة بين الطرفين كل مقولة تستعمل في سياقات معينة مختلفة متنوعة غير السياقات التي تستعمل فيها زميلاتها. لنقل مقولات الصف المادي ومقولات الصف الروحي والفكري، لكل واحدة منها استعمالها، فالمادة غير الكائن وغير الوجود والطبيعة غير المادة، يا سيدي، الفيزيقي غير المادة، فمن غير المعقول استعمال كلمة المادة محل كلمة الطبيعة أو بدلاً منها أو محل كلمة الكائن وبدلاً منها. فإذا سئلت عن الكائن أو الشيء الذي أمامي وأجبت أنه مادة لا أفيد شيئاً ولا أستفيد. وإذا قلت عن هذه الأشياء التي أمامي أو التي أراها وألمسها إن كلاً منها مادة أكون قد أعدمتها وأعدمت العالم، ها هنا خطورة المادة[6](5).
لنتساءل الآن: أليس للمادة امتياز أو امتيازات مقارنةً بالطبيعة وبالكائن؟ بلى لها امتياز كبير، وهذا الامتياز ضيعته “الماركسية” الشهيرة. أنا أسميه امتيازاً أرسطياً، أفلاطونياً: المادة متشاركة مع مقولة الشغل في شكلها الأولي[7](6)، شغل النجار والحذاء والحرفي.. وشغل بيتهوفن ورامبرانت أيضاً. ماذا يعمل هؤلاء، ماذا يعمل بيتهوفن؟ مع أي شيء يتعاملون؟ إنهم يتعاملون مع مادة ويشكلونها، النجار يتعامل مع الخشب والحذاء مع الجلد، وبيتهوفن مع الصوت، ورامبرانت مع اللون، هذا الفنان وذاك الحرفي يتعاملان مع المادة لكل شغل مادته يشكلها كما يريد. هنا لا يمكن لمقولة الطبيعة أو الوجود أو الكائن أن تنوب عن مقولة المادة (مادة العمل.ج). والآن لنقلب القضية على وجهها الآخر، والله إذا الزراع (زراع الحنطة أو البطاطا) أو الرفيق ستالين بصفته قائداً للزراعة السوفييتية وفيلسوفاً للاقتصاد والزراعة أو بصفته المزارع الأول، إذا أراد أن يتعامل مع الطبيعة على أنها مادة فإنه يخرب كل شيء. وإذا كانوا في الممارسة السياسية يتعاملون مع الواقع ومع البشر (المجتمع)، مع الواقع الكبير الذي له منطق وله بنية وسببية والغني جداً، إذا كانوا سيتعاملون مع المجتمع على أنه مادة، كما يتعامل النجار مع الخشب وبيتهوفن مع الأصوات.. فهذه مصيبة المصائب. الواقع ليس مادة إنه أكثر من المادة.
ثمة نقطة أخرى. أعتقد أنه عند أرسطو وأفلاطون وكذلك عند ماركس وإنجلز وهيغل، وعند أرسطو وماركس خاصة، المادة مقولة كمية رياضية. فعندما نسمي الأشياء المختلفة مادة يجب أن نميزها بكمية المادة التي هي قوامها، بمقدار ما تحمله من مادة. وعندما نعلم الفيزياء لأطفالنا نشرح لهم مفهوم الكتلة وحجومها المتفاوتة، وعندما يريد أستاذ الفيزياء أن يفهم طلابه أن الكتلة غير الوزن يعلمهم أن الوزن = الكتلة + الجاذبية. وإذا ركبنا سفينة فضائية فإن الوزن ينعدم (خارج مجال الجاذبية الأرضية) أما الكتلة فلا تتغير، لأن الكتلة أبسط من الوزن، الكتلة هي كمية المادة في الشيء، والمادة مفهوم عام. لذلك فإن مقولة المادة مقولة حسية خارجية، مجردة، رياضية، كمية، عددية، حجمية.
في نهاية البند الأول من مقالتي “الإنسان، العقل والتاريخ” التي قدمتها في ندوة “الغزو الثقافي الاستعماري والصهيوني” قلت: على العرب أن ينتقلوا من المادة والجوهر والكم والحجم إلى العلاقة والعقل والروح. كان هذا عام 1980، في عام 1987 أعطانا الاتحاد السوفييتي كشوفات مهمة جداً، ولو أنه لم يعبر عنها فلسفياً، مثلاً، قال وزير الصحة الجديد: لدينا أكبر عدد من أسرة المستشفيات في العالم، ولكن حيز السرير مع الفراغ الذي حوله هو 4م مربع، في حين أن المقياس العالمي هو 7,2 متر مربع. لنقل هنا أن الستالينية مع المادة ضد الفراغ، وفي رأيي الفراغ أخو الحرية. وقال وزير الصحة أيضاً: بنينا مستشفيات وأنفقنا 80% من الميزانية على الخرسانة و20% على الأجهزة. هذا جنون المادية. أو مثلاً، حين يطلب كولخوز في تركستان أو في روسيا أربعة تركسات صغيرة الحجم يرسلون له أربعة كبيرة الحجم قائلين هذا أحسن، وهو في الواقع ليس أحسن، لذلك أقول يجب الانتقال من المادة والجوهر والماهية والحجم والكم إلى العقل والعلاقة والروح والعقالة. المادية الديالكتيكية الستالينية والتطبيق الاشتراكي البريجينيفي وقبله الستاليني، كل ذلك الواقع النظري والعملي كان محكوماً بفكرة الـ Maximum (الأقصى أو الأكثر). وبغياب فكرة الـ Optimum (الأمثل) كلما كان أكبر وأكثر كان أحسن. هناك قياس، علاقات قياس، هناك نسب وتناسبات لا بد من حساب النسب والتناسبات، ثمة دائماً حد أمثل بعده تصبح الخسائر أكثر من الفوائد، هناك فكرة الحد الأمثل (بين حدين أدنى وأقصى.ج)، هناك علاقة بين الكم والكيف، الكم وحده (صفر)، خطأ كبير. طبعاً في الاتحاد السوفييتي أكبر عدد من المهندسين في العالم وأكبر عدد من الأطباء وأكبر عدد من طلاب دور المعلمين وأكبر إنتاج للفحم، ووجدنا أن لديه أكبر جيش في العالم عدداً وأكبر جهاز مخابرات في العالم يفوق عدد أفراده ما في الدول الأوروبية مجتمعة. هذه جوانب مختلفة وسريعة أختصرها بالقول: 1 ـ مقولة المادة مهمة جداً ويجب أن تفهم. 2 ـ لا يجوز أن تستعمل مقولة الطبيعة أو مقولة الوجود بدلاً منها، أو بمعناها.
لعل خطر “المادية” الستالينية يكمن في النظر إلى الطبيعة وإلى المجتمع، على أنهما مادة للإرادة الثورية، تحكمهما معاً قوانين متماثلة، لعله أراد أن يخضع المجتمع لانضباط صارم كانضباط الطبيعة، وستالين هو سيد القانون والقانونية. هذا الاتجاه ينفي مقولة التقدم التي ليست مقولة التطور ولا مقولة التغير. مقولة التقدم مقولة إنسانية، ترتبط بالإنسان، الكائن القابل للتحسن بخلاف غيره من الكائنات.ستالين شطب مقولة التقدم، ومن ثم مقولة الإنسان، الإنسان والطبيعة عنده متماثلان يخضعان معاً لقوانين “المادية الجدلية” لقد أكرمنا ستالين بقوانين الواقع الموضوعي، ولكنه ضن علينا بالقوانين التي ينشدها البشر من أجل حياهم ومن أجل الحرية، ضن علينا بمبادئ عملية صنع القانون جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، عملية بناء عمارة القانون. جان فالجان (بطل رواية البؤساء لفكتور هوغو) حكم بالسجن والأشغال الشاقة عشر سنوات لأنه سرق رغيف خبز، اليوم لا يسجن في فرنسا من يسرق رغيف خبز لأنه جائع وليس لديه ثمن خبزه. في لندن حكمت قاضية على رجل سرق بنطلوناً أن يرده أو يدفع ثمنه، وعلى آخر سرق زجاجة عطر بالسجن ثلاثة شهور لأن لديه مالاً ورصيداً في البنك (وربما لأنه سرق شيئاً كمالياً لا تمس الحاجة إليه.ج). ولأننا لم نبن عمارة القانون جيلاً بعد جيل فنحن ننحدر، وعودتنا إلى عمر بن الخطاب هي من قبيل شد الأمور إلى الخلف فنحن لم نتخذ من موقف أو مواقف لعمر بن الخطاب شيئاً نبني عليه.
ـ الأعراف والقوانين يضعها البشر في زمان ومكان محددين للحفاظ على وحدة الجماعة وتنظيم علاقاتها الداخلية، في ضوء نسبة القوى الاجتماعية السياسية المحددة بشكل الملكية السائد أو بنمط الإنتاج، كما يقولون، ومع ذلك فالقانون هو مبدأ وحدة الجماعة، مبدأ وحدة المجتمع، ومبدأ وحدة الدولة. بيد أن النظرة الكلية تقضي أن القانون يوجد من أجل الإنسان ولا يوجد الإنسان من أجل القانون.
# سنعود إلى ذلك، ولكن، أريد أن أسأل: هل القانون عمارة تبنى أم إنه معطى قبْلي ناجز؟ وإذا كان القانون معطى قبلياً ناجزاً فما هي وظيفة الفقهاء والمشرعين؟ إذا كنا نعتقد أن القانون معطى قبلياً فنحن لا نؤمن بتقدم الإنسان. ولكي لا نشعب الموضوع دعنا نعد إلى الفلسفة المادية.
- (1) دأب المفكر الراحل الياس مرقص، على تأكيد أنه لا يمثل في قوله إلا نفسه، لا لكي ينفي عن نفسه “شبهة” الانتماء إلى تيار بعينه، أو اتجاه بعينه، بل ليؤكد أن الماركسية بدون مزدوجين ليست كنيسة، وليس لها قول واحد ونهائي في أي شيء وفي كل شيء، وإنها ليست حقيقة ناجزة وليست الحقيقة، بل هي، هنا، منهج، نظرية معرفة، وليست المعرفة. وليؤكد أيضاً أن علم الإنسان ـ الفرد ناقص دوماً. ولعل الأهم من ذلك ميله إلى توكيد الـ أنا والـ “أنا أفكر” فمن دون أنا ليس هناك نحن. الأنا (الفرد) واقع عياني والـ نحن علاقة وعلاقات واجتماع وليس جمعاً. وإن التفكير دوماً فردي طابعه العام اجتماعي وإنساني، أو له بعدان اجتماعي وآخر إنساني ملازمان لوظيفته. وهو ما يظهر جلياً في العمل وفي الإنتاج الاجتماعي. ولا بد من الإشارة إلى أن الـ نحن الكلي هو أساس الـ أنا الفردي وحدُّه في الوقت ذاته، فليس للأنا أن يعدو أساسه أو يتجاوز حده. إن كل من يتحدث باسم الشعب أو الأمة أو الطبقة… إلخ بلا تفويض إنما يتجاوز حده. وإن الـ نحن من دون أنا عدم وخواء. لذلك كان يقول دوماً: عندما تصبح الأمة العربية مليوني أنا وأنا أفكر تكون قضية الوحدة العربية قد خطت خطوتها الأولى. في ضوء هذه الحيثية تبدو قضية الوحدة العربية قضية ديمقراطية. ↑
- (2) اللحظتان المعنيتان هما: 1 ـ لحظة الإنسان محدداً بذاته، يستمد قيمته من ذاته بصفته كائناً نوعياً، وهو الذي يعطي الأشياء قيمتها. 2 ـ لحظة الإنسان محدداً بعلاقاته الضرورية بعالمه الطبيعي والاجتماعي يستمد قيمته من هذه العلاقات ذاتها. تناقض اللحظتين تناقض جدلي إذ لا تكون إحداهما من دون الأخرى وكل منهما تنقلب إلى نقيضها. ويمكن مقاربتهما بمقولتي الوجود الخالص والوجود المعيَّن، أو بالوجود والكينونة. هكذا يتأسس الديالكتيك على مفهوم الإنسان، ويغدو مفهوماً القول إن العالم الفعلي هو عالم الإنسان، وأن التاريخ هو تاريخه. ويتبين لنا الخيط الذي يصل ماركس ببروتاغوراس وسقراط وأرسطو وكذلك بكانط وفيخته وهيغل. ↑
- (3) نصل بالفكر، بالتجريد، إلى اللامتعيِّن القابل للتعُّين والتشكُّل. هذا اللامتعيِّن، المادة، هو أساس المتعيِّن وحدُّه. هذا اللامتعيِّن هو المطلق واللامتناهي أساس النسبي والمتناهي. تجاهل هذا الأساس والحد أو جهلهما أو حذفهما هو حذف للروحية والفكرية والمفهومية وسقوط في الشيئية الوثنية سمة الوضعانية المعاصرة وأس الاستبداد. المادة والروح كلاهما يقعان، بالتقابل، في دائرة المطلق⇐ ⇐واللامتناهي ويحدان النسبي والمتناهي، هكذا يتأسس مفهوم الكينونة ومفهوم الإنسان. الإنسان هو وحدة المتناهي (الفرد) واللامتناهي (النوع). ↑
- * كنت قد أشرت هنا إلى أن التجريد هو حذف أو نفي الصفات أو التعيينات إلى النهاية والنفي لا يقع إلا على متعيِّن، فإذا نفينا عن الشيء جميع كيفاته وتعييناته إلى النهاية نصل إلى المادة، إلى الإيجاب الخالص أو الوجود الخالص (بحسب هيغل) (وكذلك إذا نفينا عن الفرد البشري جميع تعييناته نصل إلى الإنسان، إلى الروح الإنساني). والوجود الخالص القايل للتعين يحمل سلبه في ذاته، وهو الحد النهائي لعملية النفي. وعند هيغل الوجود الخالص هو العدم الخالص. في نهاية النفي هناك الإثبات. وتنتهي عملية النفي عندما لا يظل هناك ما يمكن نفيه فنصل إلى نفي النفي. ونفي النفي إثبات أو إيجاب. ويمكن أن نقول إزاء فكرة سبينوزا “كل تعيين هو نفي” إن كل نفي هو إثبات، وإلا انتهينا إلى العدمية والإلحاد. الإيجاب يضع السلب فلا يقوم إلا به. ↑
- (4) ثمة صفان من المقولات/ المفاهيم، المادة والوجود والواقع والطبيعة، والكائن والفيزيقي من جهة والروح والوعـي والفكر وما فوق الطبيعـة ونظرية الكـائن والميتافيزيقي من ⇐ ⇐ جهة أخرى، وهما مصفوفتان على التقابل والتعارض أو التناقض: المادة/ الروح والوجود/ الوعي والواقع/ الفكر..إلخ. افتراض الترادف خلط وتلبيس. المادة تتحول إلى روح والروح يتحول إلى مادة، الوجود إلى وعي والوعي يتحول إلى وجود، الفكر يتحول إلى واقع والواقع يتحول إلى فكر، وذلك بتوسط الشغل والعمل والإنتاج. وثمة علاقة بين المادة والروح، بين الوعي والوجود، بين الفكر والواقع، علاقة في الاتجاهين، والعلاقة هي العقالة والعقل. ↑
- (5) حين نقول عن هذا الشيء أو ذاك أنه مادة نكون قد أذبنا أو بخرنا جميع تعييناته وصفاته وخصائصه وهدمنا جميع الفروق/ الحدود التي تفرقه عن غيره من الأشياء، ونكون بذلك قد هدمنا المعرفة ذاتها التي تبدأ بتعيين الفروق ووضع الحدود: هذا الشيء غير ذلك، جميع الأشياء مختلفة ومتفارقة ومتماثلة في الماهية وليس في الهوية. ↑
- (6) المادة في شكلها الأولي هي المادة المتعينة: الخشب والحديد والصلصال والألوان والأصوات.. إذ لا مادة بلا شكل ولا شكل بلا مادة، مثلما لا مادة بلا حركة ولا حركة بلا مادة. الشكل والحركة هما المكان والزمان ومن هنا كان التاريخ تنويعة على الأشكال، التاريخ⇐ ⇐ هو الحركة وتغير الأشكال إلى ما لا نهاية. والعمل البشري صانع التاريخ هو قوة العمل ومادته وأداته وغايته معاً.وحدة العالم تتقوَّم بماديته (إنجلز). والعالم هنا هو عالم الإنسان يصنعه الإنسان بالعمل. المادة قابلة للتشكُّل، والعمل هو الذي يشكلها ويعيد تشكيلها. ليس بوسع الإنسان أن يضيف إلى العالم عنصراً أو يحذف منه عنصراً، ليس بوسعه سوى تغيير الأشكال. ↑
ترتيب مواد كتاب (حوار العمر)
-
مقدمة كتاب حوار العمر
-
الثنائيات الفلسفية
-
المادية والفلسفة المادية
-
مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي
-
الإيمان والإيمان الديني، أو الإيمان الحسي والإيمان العقلي
-
المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق
-
المادية والمثالية
-
الاستلاب والاغتراب
-
الانحطاط. النهضة. عبد الناصر والناصرية
-
الحرية هي وعي الضرورة والاختيار
-
قاموس دلالي – تاريخي
-
سمو الدولة