هذا الحوار المنشور على حلقات هو حوار أجراه جاد الكريم الجباعي مع إلياس مرقص، ونشره في كتاب (حوار العمر) الصادر عن دار حوران. وهذا النص هو القسم الأول من الفصل الخامس والأخير (إعادة إنتاج مقولات عصر النهضة وتعميقها). لقراءة الحلقات بالترتيب انظر أسفل النص.
ـ أستاذ الياس لك جزيل الشكر. وإذا أردت أن تستدرك شيئاً لم تقله أمس أو شيئاً حول ما قلته أمس حول نقد عبد الناصر وحول الناصرية فتفضل.
# أريد أن أقول أولاً: إن علينا أن نستأنف المقولات التي طواها زمن عبد الناصر والقومية العربية والماركسية اللينينية وأن نعمقها. أقصد المقولات التي ظهرت في عصر النهضة أو في العصر الليبرالي: مقولة الحرية ومقولة الاستبداد. مقولة الشعب ومقولة الأمة ومقولة الوطن ومقولة المجتمع ومقولة الثقافة ومقولة الفكر (ومقولة الحقوق المدنية، والحريات السياسية والحياة الدستورية ومقولة العلمانية ومقولة الديمقراطية..إلخ) فإذا أخذنا مثلاً مقولة الاستبداد، وطبائع الاستبداد نرى أن العصر التالي تجاوزها عبثاً، فبدلاً من أن نعمق الكواكبي ونثبته وأن ننقده ونوسعه ونعرف ما لم يكن يعرفه وأكثر مما كان يعرفه الكواكبي، قلنا لأنفسنا: تلك مرحلة انتهت منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ودخلنا في وهم مفاده أن الوحدة العربية قاب قوسين أو أدنى وأن انتصار الاشتراكية قاب قوسين أو أدنى وأن مسألتنا هي الرأسمالية أم الاشتراكية، الطريق الرأسمالي أم الطريق الاشتراكي أم الطريق اللارأسمالي أم طريق الديمقراطية الوطنية أم طريق أقصى اليسار… كل الإشكالية المحددة على هذا النحو باطلة ووهمية. اليوم يجب أن ندرك بطلان موقفنا ذاك. وإنه من غير الصحيح أن البشرية قاب قوسين أو أدنى من الاشتراكية. فالبشرية انقسمت إلى حد كبير بين رأسمالية تتهذب وتتمدن وتتثقف وتتأنسن وإشتراكية بربرية همجية وسفاحة وسفاكة ومخربة للاقتصاد وللضمائر والنفوس ولكل شيء. هنا أذكر برواية المرحوم ياسين الحافظ عن المدة التي قضاها في السجن، ياسين أمضى سنة في السجن، وأنا لم أسجن ولا دقيقة. تلك السنة التي قضاها ياسين في السجن مهمة جداً، فقد كان يقول لي ولكم ماذا فكر في السجن، وقص علينا قصة الشرطي الذي سرح من عمله وسجن. ذلك الشرطي كان يقف أمام باب دار المحافظة في دمشق حارساً. ولديه تعليمات بأن الدخول ممنوع، وجاءه محافظ حلب يريد الدخول، وهو لا يعرفه، فمنعه الشرطي من الدخول لكن المحافظ أصر على الدخول وأغلظ في القول للشرطي فما كان من هذا إلا أن ضربه، فرد لـه المحافظ الضربة وكشف لـه عن هويته، وكانت النتيجة تسريح هذا الشرطي الذي التزم الأوامر والتعليمات وزجه في السجن. وكان تعليق ياسين هل نحن مع الاشتراكية ضد خالد العظم، في عهد خالد العظم لم يكن يحدث مثل هذا. هناك يا أخي مسألة مدنية وبربرية، مسألة مدنية وهمجية. كان ياسين يقول هذا الكلام في أوائل السبعينات مراراً وروى لي هذه الحادثة.
1 ـ الحرية هي وعي الضرورة… والاختيار
إذن عصر عبد الناصر كان عصر القومية العربية الثورية الجامحة الآتية من انتصار الاستقلال الوطني وزوال الاستعمار في المغرب والمشرق والعالم، والآتية من الاعتقاد بأن الاشتراكية قد عمت ثلث الكرة الأرضية: الاتحاد السوفييتي والصين وفييتنام الشمالية وأوروبا الشرقية.. وأن المعركة هي بين الرأسمالية والاشتراكية وبين التقدمية والرجعية في العالم وعندنا، وكأنه لم يبق علينا إلا أن نختار إما الاشتراكية وإما الرأسمالية، وأن القضايا التي كانت مطروحة قبل عهد عبد الناصر قد طويت في عهده، فالحرية أصبحت للطبقات الكادحة وللتحرر القومي من الاستعمار وهذا ليس إلا جانباً من الحرية، أعني التحرر السياسي، وتحرر الجماهير الكادحة وتحرر الشعوب وتحرر الأمة من الاستعمار. هذا، في تاريخ أوروبا الغربية ملحق بمسألة الحرية وليس أصل مسألة الحرية. وهنا إذا سمحت لي يا أخ أبو حيان أريد أن أعرج على مسألة الانتلجنسيا الروسية، لأنني أرى الكثير من القواسم المشتركة بيننا وبين الروس.
ذكرت لك بالأمس أن الروس أخذوا هيغل وفويرباخ من دون كانط. الآن أريد أن أذكر شيئاً آخر: الروس أخذوا مقولة الإرادة والعزم والتصميم واستوعبوا مقولة الحرية في مقولة الإرادة. فهم يفهمون موقفنا إذا قلنا لهم إننا في أيام شبابنا تربينا على مثل قول الشاعر:
لا تلــم كفي إذا السـيف نبا صح مني العزم والدهر أبى
هكـذا الميـكاد قـد علمـنا نـرى الأوطان أمـاً وأبا
هذا شيء جميل جداً. واليوم لا يجوز أن تكون لدينا تربية غير وطنية وغير اجتماعية وغير إنسانية ونحن نتعلم ونعلم هذا الشعر الجميل (إرادة القيامة) وإنني أؤيده اليوم كما أيدته بالأمس ولكن ذلك يحتاج إلى حذر. اليوم نحتاج إلى الحذر. الولد يكبر ومن الممكن أن نعلمه في طفولته هذا الشيء، ولكن يجب أن نعلمه شيئاً آخر. أجل،
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يسـتجيب القدر
ولا بـد للـيل أن ينجـلي ولا بد للقيد أن ينكســر
أجل، إذا الشعب أراد الحياة، وكسر القيد: أي الحرية. أحب الناس شعر أبي القاسم الشابي وغناء سعاد محمد وكانوا في مقاصف دمشق أو اللاذقية يطيرون من النشوة عندما يسمعون غناء سعاد محمد وهم يشربون العرق، كنا كلنا وجوهرنا مع السياسة ومع حرية الأمة، ومع الشعب ومع كاس العرق ومع الأريحية والشهامة. إن فهم هذا شيء مهم. مؤخراً سمعت قصيدة لأبي القاسم الشابي لم أكن أعرفها من قبل، قصيدة بروموثيئية سمعتها من شابة تونسية جاءت إلى جامعة تشرين في اللاذقية لحضور ندوة. قصيدة فيها أنفة ضد الشعب، فالشاعر الفرد، الشاعر البطل الفرد مثل طائر يحلق غير آبه بالشعب وهنا أيضاً سأمتدح الشابي لأنه، ربما، شعر أن الحركة الوطنية القومية الشعبية الضخمة لا تكفي، يريد أن يضيف ويعوض حرية الفرد الشاعر البطل الذي يحلق غير آبه بأحد.. ونستطيع أن نعرج على أدونيس الذي يرى أن هذه العقيدة الشعبية الثورية الحرة، هذه الجماهيرية لا بد من إكمالها بأن تضع شيئاً فردياً ترى الموقف السديمي الجمهوري والشعبي منه. والموقف الفردي والفرداني فيه الفرد بطل. هذان ليسا متضادين بل هما متكاملان. فكرة الاجتماعية وفكرة الشخصية معاً وإلا فإنهما تشحبان ولا تعودان موجودتين ولا يعود هناك ديالكتيك فرد/ مجتمع. يعني من دون أن أتفلسف إذا كانت الحرية هي كسر القيود وجميع القيود فيجب من باب العتب أن أقول للفرنسيين أو لبلدية ماسيه قرب باريس: لماذا تمنعون الناس وكيف تمنعونهم من نشر غسيلهم على شرفات منازلهم، فهم أحرار والبيوت بيوتهم وملكهم، ولكن هناك شعب وبلدية، هناك شعب هو الذي يقرر.. الحرية السياسية والاجتماعية ليست كسر القيود بالمطلق. هذا تعريف سلبي للحرية. أعود لروسيا وتغليب فكرة الإرادة على مقولة الحرية واستيعاب الحرية في الإرادة خُدم من طرفين اثنين أولهما الفلسفة الألمانية: شيلنغ وهيغل وإنجلز ولينين يقولون: الحرية هي الضرورة المفهومة جيداً. الحرية هي وعي الضرورة. في مقالة لينين العظيمة عن كارل ماركس التي كتبها في الموسوعة الروسية سنة 1914وصدرت في العهد القيصري لم يذكر لينين الحرية إلا مرة واحدة وفي سطر واحد يقول إن إنجلز قال ضد دوهرنغ إن الحرية هي الضرورة المفهومة جيداً أو وعي الضرورة. وهذا موقف ألماني يمكن أن أقول عنه هيغلي، شيلنغي، فيختي، أي ألماني ليس كانطياً، ليس من أمانويل كانط، بل من خلفائه. الموقف الفرنسي مختلف، يقول التعريف الألماني صحيح لكن هناك جانباً آخر للمسألة فهل أستطيع الحديث عن الحرية من دون الاختيار وفكرة الاختيار، ومن دون فكرة الاحتمال والاحتمالات. وعندما ألغي فكرة الاختيار وفكرة الاحتمال من واقع الكون وواقع المجتمع ومن السلوك الإنساني ومن التطور السياسي والإنساني للبلد أكون قد ألغيت الأساس الفلسفي للحرية وأكون قد ألغيت المسؤولية الإنسانية وأكون قد ألغيت الذاتية وأكون قد ألغيت الوعي والوجدان والضمير. هذا مهم جداً. ففي دائرة الموضوعية الحرية هي وعي الضرورة حقاً. أي الواقع مع الوعي. وفي دائرة الذاتية، الحرية هي الاختيار والمسؤولية، أي الذات مع الإرادة الواعية الحرة. الأولى من دون الثانية تؤول إلى ضرب من جبرية تلغي دور الإنسان وفاعليته. والثانية من دون الأولى تؤول إلى ذاتوية لا تعترف بالواقع والذاتوية أسوأ أشكال المثالية. الأولى من دون الثانية موضوعية خالصة، الثانية من دون الأولى مثالية خالصة أو ذاتية خالصة، هذا الفصل يبطل الديالكتيك ويزيف الوعي ويضل الممارسة. الديالكتيك هو وحدة الذات والموضوع وتعارضهما مع عدم إمكانية حذف أحد الحدين الجدليين.
لا أتذكر الآن، في خلاصة لينين لمنطق هيغل ربما ورد هذا الترادف أو التراصف: الوعي، الحرية، الذاتية، وربما المسؤولية أيضاً. وبفقرة بارزة بسطر أو بسطرين بارزين ذكر أيضاً: التطلع، التوجه. أيضاً تطلع، توجه، هل ذكر لينين الاختيار لا أدري. على كل حال سأعود إلى خلاصة لينين لمنطق هيغل. إذن لا يجوز لأطروحة الحرية بوصفها فكرة الضرورة أن تنسينا فكرة الاختيار وكل ما يتشارك معها في المنطق الفلسفي الماركسي الصحيح.
والطرف الثاني لموقف الإنتلجنسيا الروسية، أي لامتصاص الحرية في الإرادة هو اللغة الروسية. ففي الفرنسية والانكليزية والعربية نجد لفظ الحرية ولفظ الإرادة متباعدين وليس لهما جذر مشترك، وليس بينهما علاقة (لغوية) وبعيدين أحدهما عن الآخر لفظاً وكلاماً. بالألمانية (فرايهايت) هذه (الفرر) تذكرنا بأصلها الصوتي. فإذا كان لدينا طفل صغير ونريد تعليمه اسم العصفور نقول له فِرْرْ. ربما هناك جذر قديم ومشترك للمصطلح وقد يكون بدأ من عندنا. وقد قلت أمس إن المقولات الفلسفية الكبرى مثل الهازار (المصادفة) أو آتوم (الذرة) أو العدم والوجود أو الشكل والمادة والمذر، المادة كلها التي قلنا إنها حطب في الفرنسية (ماتيير) وقماش عند الألمان ـ كل المقولات الفلسفية الكبرى أصلها مقولات شعبية، كلمات شعبية كثيرة التواتر، اتخذتها الفلسفات مصطلحات فلسفية صعبة مدروسة، وتدرس جيلاً بعد جيل ويختلف فيها الفلاسفة ويتعارضون وكذلك المذاهب، هكذا تقدّم البشرية، المقولات تفحص، الديالكتيك هو فن فحص المقولات. ولكن في اللغة الروسية، بخلاف اللغة العربية والفرنسية والانكليزية، الأمر مختلف. وقد عرفت هذا الاختلاف أو لمحته من دون أن أعرف الروسية، عندما كنت أقرأ وأدرس منذ أربعين سنة، الكتاب الذي أشرف عليه ستالين “تاريخ الحزب الشيوعي البلشفي في الاتحاد السوفييتي” في الفصل الأول الفقرة الأولى أو الثانية حين يتكلم عن الشعبيين، أو صدقاء الشعب، ويذكر المنظمات الشعبوية الإرهابية ومنها منظمة نارودنايا فوليا (الإرادة الشعبية)، قيل بالفرنسية (فولونتيه دوبييه؟) هكذا الترجمة الموسكوية إرادة الشعب، بعدها يذكر منظمة زيميليا فوليا. وإذا سألت دكتوراً أو مهندساً من خريجي موسكو، وليكن من أبناء السويداء وزوجته روسية مثلاً أو من أبناء دمشق أو اللاذقية درس في موسكو، لكنه لم يدرس في حياته الإنتلجنسيا أو تاريخ روسيا أو تاريخ الحزب البلشفي، إذا سألته ماذا تعني كلمة زيميليا فوليا يقول لك تعني الأرض والإرادة. وإذا ناقشته أكثر سيقول لك أنت لا تعرف الروسية. أنا أقول لـه نعم أنا لا أعرف الروسية ولكنك لا تعرف عن هذا الموضوع شيئاً فأنت لا تعرف الروسية. فإذا فتحت الكتاب الستاليني مترجماً في موسكو وكتاباً بالانكليزية في أمريكا عن تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي أو كتاباً فرنسياً مطبوعاً في باريس تجد هناك إجماعاً، فكلهم يترجمون زيميليا فوليا: الأرض والحرية. هنا كلمة فوليا ترجمت الحرية علناً وعلى المكشوف. وأنا عندي كتاب ليونار شابيرو مترجماً إلى الفرنسية وشابيرو هو أكبر خبير في تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي، وقد صدر الكتاب منذ ثلاثين سنة، ونستطيع القول إن كل ما كتبه ثبتت صحته. في هذا الكتاب بترجمته الفرنسية عندما يصلون إلى ترجمة زيميليا فوليا في بداية الكتاب يقولون: الأرض والحرية ولكن بعد صفحة حين تتكرر الكلمة يكتب المترجم هامشاً تحت الصفحة يقول فيه: كان من الممكن أن نترجم زيميليا فوليا بـ الأرض والإرادة. فما أقوله عن هذا الموضوع صحيح. وقد يقول قائل ممن يعرفون الروسية إن هناك كلمة ثانية للحرية في اللغة الروسية، أقول له هذا صحيح ولكن الكلمة الثانية ليست فوليا، فقد انحصر استخدام هذه الكلمة في التحرر السياسي، في حركة تحرر وطني، في حركة شعب، في حركة تحرر أكثر من الحرية. وطبعاً يا أخ أبو حيان إذا سألت نفسك أي كلمة أصعب، أي كلمة أكثر بساطة، أي كلمة أكثر تجريداً، أي كلمة أقرب إلىالفهم؟ تجد مشكلة كبيرة وترى أن الكلمة الأكثر بساطة والأكثر تجريداً والأصعب على الفهم هي كلمة الحرية. كلمة التحرر أسهل علىالفهم، وتعني أنا مقيد وأريد أن أتحرر، من الذي يقيدني يجب أن أرفع قيده عني، هناك قيد اجتماعي أريد التحرر منه وهناك قيد سياسي وحكم مستبد أو استعمار جاثم على صدري أريد أن أتحرر منه. هذا أسهل على الفهم من مقولة الحرية، وكلمة الحرية أبسط. كلمة تحرر أطول وهي كلمة مركبة عندنا وعند الفرنسيين والألمان. هذه القضية ساعدت الروس على طي الحرية الإنسانية المدنية الاجتماعية لمصلحة تحرر الفلاح وتحرر العمال وتحرر الشعب، الحرية المدنية الاجتماعية، العلاقة بين الإنسان والإنسان، بين المرأة والرجل وكذلك الحرية الدينية، حرية المعتقد لكل فرد على الإطلاق من دون أي إكراه ومن دون أي تمييز، أي التطبيق المطلق لمبدأ: لا إكراه في الدين، الحرية للشيع والهرطقات والمنبوذين والفرق الصغيرة التي يقف الجمهور ضدها وفي أحسن الأحوال لا يبالي بها.. هذا كله يصبح ثانوياً وتافهاً.
من يقرأ كتاباتي منذ عشرين عاماً يجدني متعاطفاً مع لينين. فقد ذكر لينين منذ عام 1898 الهرطقات الدينية أو الشيع الدينية وتحدث عن حرية هؤلاء. كان في روسيا كنيسة أرثوذكسية عريقة، الحكم السوفييتي أبادها وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً. ولكن في الزمن القيصري كان هناك عشرات الشيع المسيحية البروتستانتية وشيع من كل الأنواع تعاني من تمييز واضطهاد وملاحقة بدرجات متفاوتة بحسب الحكومات وحكمة الحكومات. طبعاً العصر الستاليني أبادها كلها. ضرب الكنيسة الأرثوذكسية والهرطقات والإسلام والبوذية واليهودية، وأهان الأديان جميعها. وعندما أعود إلى واقعنا أرى أن هناك شبهاً غريباً بيننا وبين الروس في هذه القضية، بين تفكيرنا وتفكير الإنتلجنسيا الروسية (في قضية الحرية). وأعتقد بأن الناس سيفاجؤون بهذا الشبه بين مصائر تفكير المثقف الروسي ومصائر تفكير المثقف العربي الذي هو أكثر جهلاً وأقل معرفة منه بشؤون الفكر. كذلك ما يمكن أن نسميه اليقينية الدوغمائية هي نوع من الهيغلية الفيورباخية المادية، أي الديالكتيك بلا المادية (هيغل) والمادية بلا الديالكتيك (فيورباخ.ج). عند الإنتلجنسيا الروسية هناك عبادة الطبيعة، والشعب الروسي عاش مئات السنين متديناً يعبد الله والمسيح. وجاء وقت في القرن التاسع عشر انقلب المثقفون الروس على هذا الوضع. وضعوا داروين مكان الله من دون الفلسفة. فإلى أي مدى فهموا داروين؟ هذا سؤال آخر. وأعتقد أن الأمر نفسه جرى عندنا وأستطيع أن أفصل في ذلك. لقد جرى عندنا وفي جيلنا (فرح أنطون) وكثير من شبابنا اليوم يرفعون راية علم الطبيعة والعلوم عموماً ونبراسها علم الطبيعة، وعلم الطبيعة مع نظرية التطور. هذا يحمل يقينية ويحمل مطلقاً، وحامل مطلقات وهذا غلط وشيء مرعب وغير مقبول. اليقين هو اليقين، دينياً كان أم علمياً. فلم نحمل على اليقين الديني باسم اليقين العلمي؟ اليقينية ضد الفكرية ونقيضها، الفكرية مع الإمكان والاحتمال والاختيار ووعي الضرورة في الوقت ذاته. اليقينية مع الدوغما ومع وعي الضرورة، مع الموضوعية العلمية الصائرة فلسفة ومذهباً “العلم” مع الفكرية هو الديالكتيك حيث ثمة ذات وموضوع وعلاقة وتعارض وصيرورة. الديالكتيك وحده ينصف الوضعية الإيجابية ويدمجها في نشاط البشر وفي تاريخ الإنسان.
أريد أن أذكر شيئاً عن السيد رفعت السعيد وكتابه “تاريخ الاشتراكية في مصر”. يصل هذا الكتاب إلى رجل لبناني مصري مهم، وكما تعلم هناك لبنانيون فطاحل ومظلومون في مصر لم نعطهم حقهم بعد. يصل الكتاب إلى أحد هؤلاء. وفي حديثه عن فرح أنطون الذي ترجم بوخنر يقول عنه إنه آمن بالمادة وبالحركة أي بالتطور الدارويني، إذن فهو مادي جدلي. مأخذي على رفعت السعيد أنه ليس فقط خبيراً عظيماً بتاريخ الصحافة اليسارية في مصر وينقل على هواه، بل لأنه تكشف عن فيلسوف كبير. يا أخي رفعت أنت تتكلم عن فرح أنطون، وتمجده وأنت لا تعرف أن فرح أنطون ترجم بوخنر وهذا أي بوخنر رمز المادية المبتذلة في نظر ماركس وإنجلز ولينين، ومن المستحيل أن تجد جملة إيجابية عنه في كتاباتهم، بل لا تجد عندهم إلا السخر به. وأنت يا أخ رفعت السعيد لا تعرف، ربما، أن بوخنر هذا قد ترجم داروين أو عفواً حمل بضاعة داروين على كتفيه مع الإلحاد وبات بائعاً متجولاً للإلحاد كما يقول إنجلز متهكماً في كتابه ضد فويرباخ (دوهرينغ؟).
ثم إلى أي مدى فهم فرح أنطون داروين؟ عندنا مدرس بيولوجيا فهيم جداً يقول لي إن فرح أنطون لم يفهم شيئاً من داروين، ويبدو أن له نظرية عن المرأة تعدها حيواناً أو في منزلة وسط بين الإنسان والحيوان. فرح أنطون تحدث عن تطور الأنواع، ولكن إذا ألغينا مقولة الأفرادية وفكرة الاختلاف بين الأفراد داخل النوع نفسه أو داخل فصيلة ولو صغيرة منه، نكون قد ألغينا إمكانية التحول والتطور ونشوء أنواع جديدة وعروق جديدة. فكل عملية الاصطفاء الطبيعي وعملية التكيف مع البيئة المتغيرة قائمة على اختلاف الأفراد، من دون الاختلاف ليس هناك تغير. وهذا واضح في بداية كتاب داروين. وإذا اطلعت على ماندل أو على وايزمن أو على أي دراسة مقتضبة أو شاملة لتاريخ البيولوجيا وعلم الوراثة تجد هذه النقطة علناً. أي إن العلم لا يبدأ مع لامارك. لامارك قال بالتطور وكثيرون غيره قالوا بالتطور وبتحول الأنواع، والمهم هو من الذي يقوم بفك السر ويفسر هذه الإمكانية ويكشف الآلية، آلية التحول؟ هذا الموضوع لا يتضح من دون باسكال وليبنتز ومن دون نيوتن وبيرنوويين وكيتوليين وغاوس ولابلاس أي من دون علم الإحصاء، علم الحالة الستاتيك ومن دون حساب الاحتمالات.
وأريد أ أعرج أيضاً على عبد الله العروي. أنا أرى أن عبد الله العروي مفكر كبير جداً جداً وأتمنى أن يستمر في الكتابة والتأليف والنشر وأن يكون عنده تعميق وتجديد على الدوام. وأعتقد أن الساحة العربية في حاجة إلى أمثاله. وأعلن اغتباطي أنه في المرحلة الأخيرة أكد الترابط بين الوضعانية والليبرالية، وبين طريقة تفكير القرن التاسع عشر في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، هذه الطريقة الغربية التي صارت فيما بعد طريقة تفكير عالمية في الصين ومصر، عند مصطفى كمال أو في الاتحاد والترقي. وقال العروي أن العرب لم يدركوا ـ لسوء الحظ ـ أن الحرية مفهوم فلسفي، أي إن هنالك قضية فلسفية في مفهوم الحرية، ولم يتناولوا القضية من هذا الجانب. وإني أؤيده بأن العصر التالي لعصر النهضة شطب هذه القضية بدل أن يدخل فيها. وفي الحقيقة لم يكن هناك من يشجع على الدخول وعدم الشطب، فالروس والشيوعية لم يشجعونا إلا على الشطب، والغرب معروف أننا نرفضه بصفته استعماراً ونتعامل معه بحذر وارتياب.
اليوم يجب أن نعود إلى قضية الحرية بصفتها قضية فلسفية وعلى نحو أعم. ولعل من أكبر المهام أمام الفكر العربي اليوم هو إنشاء ما أسميه القاموس الدلالي التاريخي للمفردات العربية الكبرى. قاموس تاريخي دلالي، غير اشتقاقي (أنتي اشتقاقي) ضد الاشتقاق. فللبحث عن كلمة حرية لا يجب أن أفتح على كلمة حر من أجل حرية، بل مباشرة على كلمة حرية. ولا أفتح على جمهور من أجل جمهورية وأقرأ الجمهورية من الجمهور ثم أتكلم عن الجمهورية. وهذا لا يعني أن نرمي الاشتقاق فالدولة من دال يدول ثم أتكلم عن مفهوم الدولة وتطور دلالته تاريخياً. أنا لا أعرف إلى الآن إذا كان العرب المسلمون منذ ألف سنة قد استعملوا كلمة الدولة، لا تؤاخذني، والله إلى الآن لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال ولا من هو أول من استعمل كلمة الحرية أقصد الاسم الموصوف، الحرية وليس كلمة حر وأحرار، بل كلمة الحرية ومن أول من استعمل كلمة الثقافة. قال لي أحدهم، لا يهمنا ذلك اليوم فالثقافة موجودة عند العرب منذ ألفي سنة أو خمسة آلاف سنة. والثقافة من ثقف الرمح وكذا وكذا. فقلت له هل تحسبني جاهلاً؟ الثقافة ومن ثم كلمة المثقف بمعنى رجل الفكر ورجل الثقافة بمعنى (الأنتلكتويل..) والثقافة بمعنى (كليتر بالفرنسية وكالتشر بالانكليزية..) لم تظهر عندنا إلا في القرن التاسع عشر. وكان ظهورها يعني أن أشخاصاً عندنا أدركوا أن هناك شيئاً جديداً في الدنيا وهناك مقولة جديدة في الوجود. وهناك ظاهرات جديدة يجب أن تجمع تحت اسم أو مصطلح جديد وغير متداول. ويبدو أن العرب والأتراك اصطلحوا في استنبول على كلمة مركبة هي رووش نصفها فارسي ونصفها عربي بمعنى الثقافة (كلتير). وبعد ذلك بقليل نحت العرب من كلمة ثقف كلمة الثقافة بمعنى التهذيب والتربية والفكر والأدب والفن..إلخ. فنحن نحتاج إلى قاموس تاريخي دلالي. إن رفضنا كأمة وإلى اليوم كأكاديميين، كنخبة، إن رفضنا إنشاء هذا القاموس معناه أننا نرفض التطور والنمو ونرفض مقولة الجديد، أو كأننا نؤمن بأنه لا يوجد شيء جديد وأن الثقافة موجودة منذ خمسة آلاف سنة لأن كلمة ثقف الرمح موجودة وأن الدولة موجودة وبديهية وأصلية ما دام فعل دال موجود وكذلك الجمهورية والحرية التي تصبح فررر… الطائر الحر والصافي النقي..إلخ. وليكن معلوماً لنا جميعاً أن اللغة هي تقطيع للواقع. وكل لغة تقطع الواقع بطريقتها، تجمع الظواهر وتضع لها اسماً. واليوم ظهرت عندنا كلمات جديدة كالحرية والجمهورية والشعب والأمة والثقافة والثورة الديمقراطية.. وهكذا يجب أن نعترف بأن هذه الكلمات حديثة وجديدة مئة بالمئة عندنا نحن العرب، بغض النظر عن لفظها وأصلها سواء كانت عربية أصيلة أم مستوردة من اليونان أو أوروبا. الديمقراطية واضح جيداً أنها غير عربية الأصل لفظاً واشتقاقاً إنها يونانية.. فرنسية. ومع ذلك ألف برهان غليون كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” من دون أن يتساءل ماذا تعني كلمة ديموس وماذا تعني كلمة شعب، فهو يعتبر أن الشعب موجود كما هي الطاولة موجودة وكما هو الجبل موجود. الشعب موجود. وبعد قليل يتبين أن الشعب هو الأغلبية وأن الأغلبية هي المسلمون السنة وربما الرجال الذكور الفحول من السنة. والسؤال هل كان الرجال من المسلمين السنة هم الحاكمين بوصفهم الأكثرية؟ إذا كان الأمر كذلك فهنيئاً مريئاً. أما أنا فلا أوافقه على ذلك. والشيء الأول الذي لا أوافقه عليه هو تعامله مع كلمة شعب وكلمة جماهير وما شابه كأنها كلمات موجودة في الأصل وبديهية ومشرقة نورانية ولا يوجد حولها التباس. وهنا أدعوه إلى قراءة مذكرات البديري الحلاق، دمشق في القرن الثامن عشر وأن يحاول تطبيق كلمة شعب أو كلمة مجتمع على نص البديري الحلاق، فإذا نجح في ذلك فأنا أصدقه وليسمح لي بالقول إنه لم يكن هناك مجتمع بل مجتمعات هي في الواقع جمعات، هي كتل هامدة ومتقاتلة وافتراسية ومغبونة جميعها وغابنة، وظالمة. ولم يكن هناك جيش بل خمسة جيوش في كل مدينة، ولم يكن هناك دولة بل سبع دول في كل مدينة، وطبعاً لم يكن هناك طبقات، بل سديم بشري، خليط كله سلطات ديزوتورينية وإذا أردتها سَلَطات يا سيدي.
ترتيب مواد كتاب (حوار العمر)
-
مقدمة كتاب حوار العمر
-
الثنائيات الفلسفية
-
المادية والفلسفة المادية
-
مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي
-
الإيمان والإيمان الديني، أو الإيمان الحسي والإيمان العقلي
-
المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق
-
المادية والمثالية
-
الاستلاب والاغتراب
-
الانحطاط. النهضة. عبد الناصر والناصرية
-
الحرية هي وعي الضرورة والاختيار
-
قاموس دلالي – تاريخي
-
سمو الدولة