Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

العقل والعقلانية في فكر إلياس مرقص

 

لقد وجد العقل لدى الإنسان على الدوام ولكن. ليس دائماً بصيغة عقلانية.

ماركس

كان المفكر العربي الراحل الياس مرقص مثقفاً موسوعياً في زمن ” التخصص ” الجزئي المحدود، ومفكراً يعمل في سبيل الحقيقة التي لا تنفصل عن الحرية في زمن صار القابض عليها كالقابض على الجمر. ومعلماً أقرب إلى “رجل المعرفة السقراطية التي تدفع صاحبها إلى تجرع السم من أجل المواقف التي تمليها عموميتها وعلنيتها”. وكان فوق هذا وذاك، وبهذا وذاك من أبرز روّاد العقلانية في الفكر العربي المعاصر، وضعه انتماؤه إلى الماركسية، في موقع بين الفلسفة ومشروع تحقيقها، فلا هو ذلك الفيلسوف المنقطع إلى التأمل يحل الواقع في الفكر المجرد، ولا هو ذلك المتحزب المتمذهب، المنصرف إلى “النضال” يحل الواقع في الأيديولوجية. لقد عمل طوال حياته بدأب ومثابرة وصدق ونزاهة، وتواضع وصبر لكي لا تكون الفلسفة فلسفة فحسب، ولكي تنبني الحقيقة السياسية على الحقيقة الفلسفية بوصفها الحقيقة الواقعية. لقد كان في الفكر، وفي السياسية، بمعناها الأعمق و الأشمل، يجسد على نحو نادر المثال وحدة الفكر والعمل ، ببعديها: الاجتماعي / السياسي، والأخلاقي مؤسساً بذلك مع عدد من المفكرين العرب لمشروع عقلنة الفكر والسياسة، في سبيل عقلنة المجتمع وتحديثه.

الإشكالية التي وجهت فكره وعمله، الهم الذي لم يفارقه حتى وفاته، عطشه الفاوستي الذي لازمه وأقضّ مضاجعه، كان إعادة تأسيس العقلانية في الفكر العربي، وإعادة بناء الوعي العربي والارتقاء به من وهدة التأخر والفوات والشقاء إلى مستوى العصر الحديث.

وإعادة التأسيس تشير بالطبع إلى محاولات تأسيس سابقة، لا بد من إضاءتها، والبحث عن أسباب ضمورها وانكفائها، أو عدم اندياحها في الثقافة العربية الحديثة، وعن أسباب عجزها وقصورها أيضاً، ولعل من أهمها: افتقارها إلى الجذرية أو الراديكالية الكافية لمواجهة التأخر التاريخي الذي يتركز في المستوى الأيديولوجي / السياسي، وعجزها من ثم عن إحداث قطعية منهجية وأخلاقية مع التقليد؛ فقد تضافرت النزعة التقنوية والفكر الغيبي والرومانسية السياسية مع التقليد لمحاصرة تلك المحاولات وخنقها، فضلاً عن مفاعيل الاستبداد السياسي.

لم يكن الياس مرقص يدعي الريادة والسبق، فهو أبعد ما يكون عن الادعاء، ولم يكن يجهل، أو يتجـاهل، أن ثمــة محاولات جادة سابقة، وجهوداً بذلت وأخرى تبذل في هذا المجال، لكنه كان يشعر بالمرارة لأنها لم تولَ العناية اللازمة ولم تجد من يتابعها. لذلك يمكن القول إن فكر الياس مرقص ينتمي بجملته إلى التراث العقلاني العربي قديمه وحديثه وإلى التراث العقلاني الغربي قديمه وحديثه أيضاً، وإن كان أثر الثاني أكثر بروزاً؛ وتراني أميل إلى القول: إن لمحاولة الياس مرقص وياسين الحافظ وعبد الله العروي .. وغيرهم ما يميزها من المحاولات السابقة، بحكم تقدم الزمان وتطور الفكر البشري؛ ولعل ما يميزها هو الراديكالية والحزم المنهجي والقطيعة مع التقليد.

ثمة اتجاهات ومذاهب ” عقلانية ” كثيرة، ومختلفة، كالعقلانية الديكارتية، والعقلانية الهيغلية، والعقلانية الوضعية وما يتصل بها من التجريبية والتطورية والبراغماتية والعلموية، والعلمانوية، والعقلانية الكنطية القائمة على ” نقد العقل “، وثمة الماركسية ذروة العقلانية الحديثة. ولعل المحاولات السابقة كانت تختلف في البدايات، والمبادئ، لا في الأهداف والغايات، والاختلاف في البدايات والمبادئ يؤدي إلى اختلاف في النتائج، فالنتائج غير الأهداف، الأولى تنتمي إلى الموضوعية والثانية تنتمي إلى الذاتية وإلى الذاتوية.

كما أن إعادة التأسيس تطرح السؤال عما إذا كانت هذه العملية تعبر عن / وتلبي حاجة اجتماعية، أم هي مجرد هوى أو ميل فردي. وتفترض في كل الأحوال بناء أو إنشاء تصور واضح ومحدد لما هي العقلانية، فثمة حقول معرفية كثيرة قامت على معاني العقل: كالعقل الأسطوري، والعقل الديني، والعقل الفني، والعقل العلمي، والعقل الفلسفي، وثمة أيضاً العقل بوصفه جملة من المبادئ والقواعد صاغتها ثقافة معينة، فشكلت نظامها المعرفي ( الأبيستمي) وعامل تمايزها.

وقد ظهرت في هذا المجال الأخير دراسات حديثة حول “العقل العربي” و “العقل الإسلامي” .. الخ، وكل واحد من هذه الحقول ينشئ تصوراً ضمنياً أو صريحاً عن العقلانية. مما يخلق صعوبات معرفية ومنهجية جمة تواجه الدارس في هذا الحقل الشائك والمزهر. وليس من ضمانة لتخطي هذه الصعوبات سوى العقل ذاته. لذلك سوف أقصر حديثي هنا على دواعي العقلانية في الفكر والسياسة والأخلاق ، وتجلياتها في فكر الياس مرقص.

 

1 ـ في الحاجة إلى العقلانية :

لا بد من الإشارة أولاً إلى أن فكر الياس مرقص محاولة جادة لمعرفة العالم، أو الواقع، بأبعاده الثلاثة: التاريخي والكوني والمعرفي أو العقلي، من أجل معرفة الواقع العربي بهذه الأبعاد ذاتها؛ محاولة لمعرفة العام والكلي في سبيل معرفة الخاص والجزئي والمفرد. معرفة العالم من أجل معرفة العالم العربي، الوطن والشعب والتاريخ، معرفة تتجه نحو المستقبل. لذلك فإن مشكلات العالم، بصورة عامة، ومشكلات الوطن العربي و الأمة العربية، بصورة خاصة كانت مركز اهتمامه ومحور تفكيره وهدف عمله، وليس في نظره من مشكلة عالمية ليست مشكلة عربية وبالعكس، وليس ثمة من مشكلة قطرية ليست مشكلة قومية، وبالعكس. اتساع دائرة الرؤية على هذا النحو، مضافاً إليها رهافة الحس، وسعة الإطلاع، وغنى الثقافة وصفاء الذهن، وحماسة منقطعة النظير للإنسان وقلق دائم على مصيره .. جعلته شديد الحساسية إزاء مشكلات العصر، وقضايا الأمة، من دون أن ينسى لحظة “مكر العقل” ومكر التاريخ، أو مكر الله، أي الجزاء التاريخي الذي يناله البشر جراء أعمالهم أو لا أعمالهم، ودون أن ينسى أن ” التاريخ دراما ومأساة” ولكنه في المحصلة تاريخ تقدم العالم وتحسن الإنسان.

في صراع الوجود والعدم، العقل واللاعقل، على الصعيدين العالمي والعربي كان يلاحظ نمو العدم؛ (وهو عدم معين: عدم مساواة، عدم أمن وأمان، عدم ديمقراطية على الصعيدين، العالمي والعربي، وعدم إنتاج، وعدم حرية وعدم استقلال وعدم ثقافة.. على الصعيد العربي) وعربدة الباطل وطغيان اللاعقل. مما دفعه إلى رفع راية الفكر، والاستقواء بالعقل.

إن عصرنا الراهن يتسم بسمات متناقضة. أهمها، مما يتعلق بموضوعنا، التقدم المذهل في مجال العلم والتقانة، وتطور قوى الإنتاج، والسيطرة على الطبيعة وتحول العلم ذاته إلى قوة إنتاج مباشرة ورئيسية في نطاق ما صار يسمى بـ ” الثورة العلمية والتكنولوجية”(1) وما أحدثته من تغييرات ثورية في ميادين الإلكترونيات الدقيقة والحاسبات والإنسان الآلي وصناعة المعلومات والاتصالات والطاقة النووية وتكنولوجيا الفضاء والهندسة الوراثية، وتخليق المواد الجديدة وإحلالها محل المواد الطبيعية القديمة على أساس التكنولوجيا الكيمياوية والبتروكيماوية.. ونمو الأوتوماتية، وتغير طابع العمل البشري، إذا يلعب النشاط الذهني والبحث العلمي دوراً أساسياً في عملية الإنتاج الاجتماعي التي أفصحت عن طابعها العالمي، الإنساني مبرزة تناقضات النظام العالمي القائم. ذلك وكثير غيره من المعطيات يوحي بأن هذا العصر هو “عصر العلم” وينبغي من ثم أن يكون “عصر العقل”. بموازاة هذا التقدم العلمي والتكنولوجي وبالتلازم معه تلازماً ضرورياً، نشهد سباق التسلح، وانتشار أسلحة التدمير الشامل بكميات تكفي لتدمير كوكبنا مرات ومرات. ونشهد تمركزاً للثروة والقوة يضع أكثرية سكان هذا الكوكب تحت كابوس الفاقة والقهر. ونشهد كذلك تدميراً منهجياً للطبيعة والإنسان، فالعمل البشري الذي يؤنسن الطبيعة هو الذي يدمرها بحكم قوانين النظام الرأسمالي العالمي وشروط استمراره وازدهاره. كما نشهد عودة “الفاشية” ممثلة بالعدوانية الأميركية العارية الصريحة والمباشرة، التي تؤكد يوماً بعد يوم ضمور الروح البشري في مجتمع حوله “العلم” إلى مجرد وحش إلكتروني، فضلا عن بروز تيارات اليمين الجديد، وانطلاق حركات أصولية إحيائية وارتدادية وظلامية تلف العالم المتقدم والمتأخر، مما يضع البشرية كلها على مفترق أمام إحدى نهايتين إما فناء النوع أو تجاوز هذا النظام العالمي الذي تشكل الرأسمالية جوهره وأساسه.

ثمة إذن ظاهرتان متلازمتان تسمان عصرنا الراهن، وتحكمان عالمنا، تظهران تناقضاته العميقة وتحددان اتجاه حركتها: التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال قوى الإنتاج، واللاعقلانية في الفكر والسياسة والأخلاق في مجال علاقات الإنتاج بمعناها الواسع. فالنظام الرأسمالي العالمي دفع شقاء الإنسان وضياعه وعبوديته إلى ذروة بات من الضروري معها تغيير هذا النظام كي يستعيد الإنسان ذاته، ويمتلك عالمه بالمعرفة والعمل. ففي ظل الرأسمالية ينمو ضياع الإنسان طرداً مع نمو قوى الإنتاج.

في ما كان يسمى “العالم الثالث” بوجه عام، وفي وطننا العربي بوجه خاص، حيث التأخر التاريخي، والتبعية الشاملة للمراكز الرأسمالية المتقدمة، تتحول أصداء التقدم العلمي والتكنولوجي إلى أيديولوجية علموية، ونزعة تكنوقراطية تتعايشان مع التقليد، وتتقاطعان معه في المنهج والرؤية، وتتعايشان كذلك مع الاستبداد السياسي، وتضفيان عليه بعضاً من “مشروعية” فـ “المستبد لا يخشى علوم اللغة التي بعضها يقوِّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان .. وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر. ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ”. الأيديولوجيا العلموية، والنزعة التكنوقراطية تشيعان مناخاً وضعياً يخفض العقل إلى مستوى “الوعي المباشر” (3) والعقلانية إلى مستوى التجريبية الخبرية والمخبرية، ويعزز سلطان الدوغمائية التي تقلص الحقيقة إلى” قانون” وترفع” القوانين” إلى مستوى الحقائق الخالدة. هذا المناخ الوضعي يلف الثقافة العالمة، المنفصلة عن الشعب وثقافته الشفهية، والمنفصلة عن العمل والإنتاج، إلا ما قل وندر، ويلون، بل يشكل الوعي السياسي” التقدمي”، الاشتراكي والقومي والديني المستنير. وفي كنفه تنمو المثالية بأسوأ معانيها: الذاتوية، والنزق الثوراوي، والشطح الشعوري وردود الفعل. وتنطلق في مجاله، والمجالات المجاورة له، والمتعارضة معه شتى تظاهرات اللاعقلانية في الفكر والسياسة والأخلاق. إزاء هذا المناخ الوضعي، واستلاب الأيديولوجيا العربية بنوعيه: السلفي والاغترابي، وإزاء ضمور المجتمع المدني، وتراجع مقولة الدولة في الفكر والواقع بوصفها تجسيداً للصالح العام والشأن العام، ومن ثم تراجع المصلحة العامة، والمصلحة القومية والوطنية وضمورها، ونزع السياسة من المجتمع وإلغاء دور الشعب، وإهدار حقوق الإنسان والمواطن، ومن ثم إلغاء التاريخ الداخلي للأمة، تراجع الفكر والمنطق ( فالمنطق والسياسة مقولتان تنموان معاً وتتراجعان معاً، حسب الياس مرقص). وإزاء انبعاث الاستبداد الشرقي من جوف التاريخ واكتسائه ملامح فاشية تعكس واقعة الاستقطاب العالمي وتركز الثروة القوة في المراكز المتقدمة، وإزاء محاولات تسييس الدين، وتديين السياسة بالتلازم، وتنامي الحركة “الأصولية” الارتدادية… تصبح العقلانية خياراً ضرورياً، وواجباً؛ وذلك كان خيار الياس مرقص الصريح منذ أوائل السبعينات على الأقل.

2 ـ العقلانية تنويعة على معنى العقل:

تستمد العقلانية معناها، ومقوماتها، شكلها ومضمونها، من المعنى الذي نعطيه للعقل، ومن السياق التاريخي الذي تندرج فيه، الأهداف أو الغايات التي نتوخى تحقيقها بوساطتها، ومن السمات النوعية التي يفصح عنها العمل البشري والإنتاج الاجتماعي بوصفهما قاعدتها الموضوعية، ومن العلاقات الاجتماعية التي تنتجها، أو تفترضها وتحتاج إليها.

العقل لغةً، حسب القاموس المحيط، هو “العلم”. أو ( العلم ) بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين، وشر الشرين، أو مطلق الأمور، أو القوة يكون بها التمييز بين القبح والحسن، ولمعان مجتمعة في الذهن، يكون بمقدمات تستتب بها الأغراض والمصالح. ولهيئة محمودة في الإنسان في حركاته وكلامه. والحق إنه نور روحاني به تدرك العلوم الضرورية والنظرية. ابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكتمل عند البلوغ … وعقل الشيء فهمه فهو عقول .. وعقل البعير شد وظيفه إلى ذراعه كعقله واعتقله”.

أبرز معاني العقل اللغوية هو الربط والحجر والنهي، “يتجلى بهذه الدلالة العقل العملي “الذي” يعقل النفس ويمنعها عن التصرف على مقتضى الطباع” فالعقل ضد الطبع، أي التصرف العشوائي غير المترابط؛ العقل طاقة ربطية علائقية تقيد شرطياً دائرة السلوك وتحدد مجال الموضوعات عن طريق علاقاتها”. وقد توسعت الفلسفة العربية الإسلامية في نظريات النفس والعقل، والقلب (=العقل) توسعاً يعكس طموحاً إلى عقل الوجود وعقلنته من المادي إلى المقدس ومن الحسي إلى المتعالي ومن الواقعي إلى الماورائي(4).

في اللغة اليونانية العقل هو لوغوس Logos أو نوس Nous ، القانون والنظام والكلمة والمبدأ الكلي، والله المتعالي. كان هيراقليط (540 – 480 ق.م)، أحد مؤسسي الديالكتيك، يقول: “إن العالم واحد لم يخلقه أي إله، ولا أي إنسان، كان، وهو، سيكون شعلة حية أبداً، تحترق وتنطفئ حسب قوانين محددة. كل شيء يحصل خلال صراع وبالضرورة” وهذه الضرورة يسميها هيراقليط لوغوس Logos وهو أول من قال بفكرة اللوغوس أو العقل الكوني، أو القانون الكلي الذي يحكم الظواهر ويتحكم في صيرورتها الدائمة الأبدية. والعقول البشرية تستطيع التوصل إلى معرفة صحيحة عن ظواهر الطبيعة إذا هي شاركت في العقل الكلي أي إذا اجتهدت في البحث عن نظام الطبيعة وأدركت ما يتصف به هذا النظام من ضرورة وشمول.

لقد تصور هيراقليط العقل الكوني على أنه محايث للطبيعة ومنظم لها من داخلها فهو بالنسبة للعالم أشبه بالنفس للإنسان، لا بوصفها جوهراً مستقلاً متميزاً عن البدن، بل بوصفها مبدأ لحركته منتشراً في جميع أجزائه، لذلك كان هذا العقل أشبه ما يكون “بنار إلهية لطيفة” بل هو “نور إلهي” وهو حياة العالم وقانونه. والنفس البشرية قبس من هذه النار الإلهية أي من هذا القانون الكلي الذي يسري في الطبيعة ويحكمها، فعليها إذن أن تعرف هذا القانون وتعمل بموجبه. (5)

أنا كساغوراس (500- 428 ق.م) تصور الـ نوس Nous أي “العقل الكلي مبدأ مفارقاً للطبيعة، غير مندمج فيها ولا محايث لها، وفي نظره: “إن العقل هو الذي نظم كل شيء، وإنه العلة لجميع الأشياء؛ العقل يحكم العالم. وكل شيء نظام وضرورة، النوس ليس عقلاً يفكر وحسب، هكذا بعيداً عن العالم ومتعالياً، بل إنه أشبه بالنفس، هو بالنسبة للعالم كالنفس بالنسبة للجسم، بل هو نفس كل ما له نفس. إن نفوس الكائنات الحية قبس منه(6).

عند أفلاطون، وفيلون الإسكندري، الأفلاطونية الجديدة، اللوغوس ينقلب مثالياً، إنه الله مصدر الأفكار، أو وسيط بين الإله والعالم أو شكل من أشكال الألوهية، أو مبدأ أعلى خارق، أو الكلمة التي” في البدء كانت، والكلمة هي الله”. (7)

عند أرسطو”العقل قوة إلهية، أو أكثر ما فينا ألوهية، له المحل الأول بين قوانا، يتعقل الأمور الجميلة الإلهية، وتعقله هو السعادة القصوى” في الفلسفة القديمة اللوغوس، العقل والكلمة، والقانون الكلي، والنوس … مبدأ أول حاكم، عقل كوني وكلي إزاء الطبيعة، محايث أو مفارق. وهو النفس، الذات، إزاء الموضوع. وهو قوة إلهية، أو نار إلهية، ومصدر الحكم العقلي والأخلاقي. وهو الله المتعالي، المطلق. هذه البذور العقلية ستواجهنا في الفلسفة الحديثة، وقد أصبحت أشجاراً وارفة الظلال، لكن الإشكالية هي: مفارقة العقل للطبيعة أو محايثته لها، وحدة الوجود أو ثنائية الفكر والوجود، النفس والبدن، المادة والروح. المسألة الفلسفية الأولى كانت حاضرة في تلك البداية حاملة اللانهاية.

يعد ديكارت (1596 -1650) مدشن الفلسفة الحديثة، ومؤسس العقلانية الحديثة. في نظره “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس لأن كل فرد يعتقد أنه أوتي منه الكفاية. ولأن الذين يصعب إرضاؤهم بأي شيء آخر ليس من عادتهم أن يرغبوا في أكثر مما أصابوا منه. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، وإنما الراجح أن يكون هذا شاهداً على أن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل أو المنطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس. وهكذا فإن اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا أعقل من بعض، بل ينشأ عن كوننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا نطالع الأشياء ذاتها. إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيداً، إنما المهم أن يطبّق تطبيقاً حسناً.”(8) وكان ديكارت يرى أن العقل أو الحس ما دام هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا بشراً ويميزنا من الحيوانات، موجود بتمامه عند كل واحد منا. وأن الذين لهم عواطف مخالفة لعواطفنا ليسوا من أجل ذلك برابرة أو متوحشين”. (9)

العقل إذن هو قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل. والعقلانية بالتالي هي أن يطبق الفكر تطبيقاً حسناً، وضمانة ذلك هي الطريقة أو المنهج. ترتكز العقلانية الدياكارتية على مبدأ الشك المنهجي، أو الشك العقلي، وهو غير الريبية واللاأدرية. الشك الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية ، ومن سلطة السلف، وسلطة “العقل السليم” بصورة خاصة. الشك الذي يؤدي إلى الحقيقة عن طريق البداهة العقلية: الحدس والتحليل والتركيب.

وضع ديكارت لطريقته أو منهجه أربع قواعد: الأولى ” أن لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على أنه حق، ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أعنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك”. (10) والثانية هي “أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي أبحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه” ( التحليل) والثالثة” أن أرتب أفكاري فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة، وأتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيباً، على أن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع” (التركيب) والرابعة” أن أقوم بإحصاءات تامة، ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئاً”. (11)

وجدير بالتنويه أن قواعد الأخلاق التي وضعها ديكارت لنفسه تتفق وقواعد طريقته العقلية، أو منهجه العقلي. فما دامت وظيفة الشك هي الوصول إلى الحقيقة، فإن المفكر والعالم والرجل العادي مضطرون إلى الأخذ بالحقائق والمعطيات الأقل عرضة للشك، ما لم تتوافر تلك الحقائق الواضحة والمتميزة. “فلا يكفي المرء قبل البدء بتجديد بناء المسكن الذي يقيم فيه أن يهدمه، بل يجب أيضاً أن يكون له مسكن آخر يأوي إليه”. ولعل من أهم هذه القواعد القاعدة الثالثة التي تقول: “إنه من الأجدر بي أن أعمل دائماً على مغالبة نفسي، لا مغالبة الحظ، وأن أغير رغباتي لا أن أغير نظام العالم. وبالجملة أن أتعودّ الاعتقاد أنه لا شيء في متناول قدرتنا تماماً سوى أفكارنا بحيث أننا إذا فعلنا خير ما نقدر عليه فيما يختص بالأشياء الخارجية فإن كل ما ينقصنا من أسباب النجاح يكون بالنسبة إلينا مستحيلاً على الإطلاق”. (12) والقاعدة الرابعة التي تقول: “لقد رأيت أنني لا أستطيع أن أفعل خيراً من المثابرة على العمل الذي اهتديت إليه، أي أن أنفق كل حياتي على تثقيف عقلي، وأن أتقدم قدر ما أستطيع في معرفة الحقيقة تبعاً للطريقة التي رسمتها لنفسي”. (13)

الشك المنهجي، والبداهة العقلية، دفعا بديكارت إلى البحث عن يقين أول “كوجيتو” يؤسس عليه فكره. هذا اليقين الأول مبدأ بسيط ” أنا أفكر، إذن أنا موجود” مبدأ الأنا التي قوامها الفكر، العقل، وهي الذات إزاء الوجود “الموضوع”. هذا المبدأ الأول هو بداية كل فكر عقلاني وهو ما سنجده مضمراً، وصريحاً في الفلسفة العقلانية، من ديكارت إلى ماركس.

هذا المبدأ الذي وضع الذات والموضوع في علاقة ضرورية عقلية، ديالكتية، وأسس مبدأ وحدة الفكر والوجود مع الفرق والمفارقة والتعالي. على هذا اليقين العقلي الأول أسس اليقين الثاني: الله، الكامل، الكلي، المطلق، ضمانة وجود العالم، عالم المادة: الامتداد والحركة، من أجل الإنسان الذي يحتل مركز الفلسفة الديكارتية، والفلسفة العقلانية من بعده. لقد فصل ديكارت بين العقل والطبيعة، بإرجاعهما إلى ماهيتين مختلفتين: الفكر والامتداد. ولجأ إلى الإرادة الإلهية للربط بينهما. فقوانين الطبيعة مساوقة، بل مطابقة، لقوانين العقل لأن الله جعلها كذلك وقد استدعى ذلك نقد اسبينوزا (1632 – 1677) الذي أنشأ مذهب “وحدة الوجود” بل وحدة الفكر والوجود، الmonism الذي فيه الفكر والامتداد صفتان لماهية واحدة هي الطبيعة. وقال بوحدة “الطبيعة الطابعة”، الله، و “الطبيعة المطبوعة”؛ وجعل علم الله حداً على علم الإنسان: الله يعلم أنا لا أعلم. ورأى أن الفكر البشري يخطئ في أحكامه بسبب عدم إدراكه إدراكاً تاماً للضرورة والكلية التي تحكم جميع الأشياء والظواهر، حيث لا مصادفة ولا إمكان بل قانون كلي شامل هو ذاته العقل الكوني المحايث للطبيعة المنظم لها، المتحكم في صيرورتها. العقل والطبيعة إذن مظهران لحقيقة واحدة، والعقلانية بالتالي هي اتساق حركة الفكر مع حركة الواقع.

أعاد كنط في فلسفته المثالية المتعالية صياغة الفصل الديكارتي بين العقل ونظام الطبيعة. فقال بوجود عالم الأشياء الموضوعي خارج وعينا، لكن هذا العالم هو عالم الظاهرات الذي يمكن عقله ومعرفته، وعالم “الأشياء في ذاتها” الذي لا يمكن للعقل أن يتوصل إلى معرفته لأنه متعال أو عال، خارق transcendent وإن عملية المعرفة بالتالي هي “التقاء الذات والموضوع”. (الذات العارفة وموضوعها). وبما أن الموضوع متنوع، خاص، مفرد .. الخ. فإن العالم الكلي الموجود في المعرفة مصدره الذات. هذا الطرف الثابت الدائم الداخل في كل معرفة بحكم كونها معرفة. إنه القالب العقلي الذي ينصب فيه العالم في عملية المعرفة. الحس، العقل، الوعي، أداة المعرفة، تشوه موضوعها، تصبغه بلونها الخاص المستقل. ( مثلنا مثل رجل محكوم عليه لكي يرى أن يحتفظ بنظارة زرقاء على عينيه، إنه لن يرى اللون الحقيقي للأشياء”. (14)

ذلك القالب العام، العقلي، الذي ينصب فيه العالم الموضوعي ليس سوى المكان والزمان والسببية والضرورة. وتلك أشكال قبلية، سابقة للتجربة، وهي شرط التجربة وشرط كل إدراك، إنها موجودة فينا، إنها صفات ذاتية. إن الظاهرات (ميدان معرفتنا المشروعة، الصحيحة، القنوعة) هي نتاج التقاء الأشياء في ذاتها، وذاتنا القبلية الموحِّدة منشئة العام والكلي والوحدة. ومحاولات العقل للخروج من حدوده المشروعة تقوده إلى تناقضات لا حل لها. إلى ما يسميه كنط antinomis تعارضات أو ثنائيات تناقضية ) والثنائية التناقضية هي تناقض قضيتين متنابذتين وكلتاهما صحيحتان؛ ويميز أربع ثنائيات تناقضية:

1 ـ العالم محدود في الزمان والمكان، العالم غير محدود في الزمان والمكان.

2 ـ كل شيء بسيط وغير قابل للتجزئة، كل شيء معقد وقابل للتجزئة.

3 ـ الحرية موجودة في العالم، لا وجود للحرية في العالم، كل شيء ضروري.

4 ـ هناك سبب أول للعالم، ليس هناك سبب أول. ويثبت كنط صواب القضية الأولى ثم يثبت صواب القضية المعاكسة”. (15) واضعاً لبنة جديدة في صرح الديالكتيك الذي سيعيد هيغل بناءه على أحسن وجه.

لقد عمقت فلسفة كنط، وديكارت، مسارين في العقلانية متلازمين أولهما العقلانية التجريبية، والثاني العقلانية النقدية، وسيتحد هذان المساران في المعرفة الواعية ذاتها، والمتجاوزة حدودها باستمرار على يدي هيغل وماركس. فالعقل والتجربة كلاهما يحد الآخر العقل حد يحد التجربة، والتجربة / الممارسة حد يحد العقل، هنا مملكة الكلي، والعام والمطلق، مملكة الحرية. والواقع الفيزيقي مملكة الجزئي والخاص والمفرد والنسبي، مملكة الضرورة.

يلاحظ أننا، في مسار نمو الفلسفة العقلانية وتطورها ما نزال في نطاق المسألة الفلسفية الأولى والعليا، مسألة العلاقة بين الفكر والوجود ، بين الروح والمادة، بين الذات والموضوع. ليس في مسألة أيهما أسبق فحسب، أيهما أولاً وكفى الله المؤمنين عناء التفكير، فالعقل رابطة وعلاقة كما في المعنى اللغوي العربي لقد كانت مشكلة العلاقة، من ديكارت حتى كنط، مشكلة المعرفة ذاتها وقد كان الكوجيتو الديكارتي حدساً يدرك بفعل عقلي واحد، أعمق وحدة، وحدة التفكير والوجود، تلك الوحدة التي كان الشك يضعها موضع البحث ( أنا أفكر- أنا موجود ) وكانت الفلسفة الكنطية فلسفة للقانون أي فلسفة لعلاقة التعيينات المتمايزة “. ولسوف تفصح هذه العلاقة بين الذات والموضوع عن طابعها الديالكتي في فلسفة هيغل المثالية / الموضوعية، إذ تتجلى على نحو واضح وقطعي الوحدة الديالكتية بينهما.

رفض هيغل الفصل الذي أقامه كنط بين “الظاهر” و”الشيء في ذاته” وكذلك الفصل بين الذات والموضوع، بين العقل والوجود. ( ولا بد من الإشارة إلى أن هيغل ميّز الظاهر من الشيء في ذاته، وفرق بينهما، ولكنه لم يفصل، فكل فصل ليس وصلاً يتنافى مع العقل؛ ولم ينف كذلك وجود المجهول، أو غير المعلوم، لكنه نفى وجود شي غير قابل لأن يعرف، وأن يعقل فإن “الفلسفة، إذا كان مقرها، بحكم ماهيتها، هو عنصر الكلية الشاملة للجزئي، فإنها لتبدو أقدر من أي علم آخر على الإعراب، في غايتها، أو فيما تنتهي إليه من النتائج، عن الشيء نفسه في تمام ماهيته. (16) تطالعنا في فلسفة هيغل العقلانية المطلقة، والمثالية المطلقة على السواء. فقد انطلق هيغل من مبدأ أساسي: “كل ما هو واقعي فهو عقلي، وكل ما هو عقلي فهو واقعي. فالعقل، بوصفه مبدأ أولياً حاكماً وفاعلاً ، بوصفه المطلق، أو الفكرة الشاملة، أو الروح .. يتجلى لنا في المنطق الذي يتماثل في الهوية مع الديالكتيك. فالمنطق هو دراسة لطبيعة الفكر الخالص، إنه نسق العقل الخالص يحمل التناقض في داخله فيتحرك وينمو ويتحول إلى ضده ونقيضه، ويفضُّ نفسه في الطبيعة، يتموضع ويتوقعن، لكي يعود إلى ذاته وقد اغتنى بكل ثروة التطور. إن موضوعة الانخلاع، أو التموضع، أو الضياع هي أسُّ الديالكتيك وأسُّ العقلانية في صورتها الأكثر نضجاً. هيغل لا يسلم بعقلانية الواقع أولاً، بل يفترض واقعية العقلي وتحققه الفعلي، أي إن ما هو عقلي يحمل في جوفه القوة التي تجعله يتحقق بالفعل أو يتحوّل من القوة إلى الفعل. فالعقل ليس مجرداً، ولا هو ملكة بشرية، إنه قوة النوس nous الذي كان يتحدث عنه اليونان قديماً والذي يتحقق في العالم.

في فلسفة هيغل، ذروة العقلانية الحديثة، قبل الماركسية، يكشف العقل عن نفسه في ثلاث صور، هي ثلاث لحظات ضرورية في سيرورة تطور الفكر وتطور المعرفة الواعية ذاتها والقادرة على تجاوز حدودها باستمرار. هذه السيرورة هي بالأحرى ديالكتية تسير وفق إيقاع ثلاثي: إيجاب، سلب، تركيب. وهذه الصور هي:

1 ـ الوعي المباشر. (استقلال الذات عن الموضوع، وحياديتها إزاءه. إنها لحظة الإيجاب ).

2 ـ الوعي الذاتي وهو اتضاح حقيقة أن الموضوع هو الذات، إذن انهيار الاستقلال وهذه لحظة السلب أو النفي الأول.

3 ـ العقل : أي مرحلة اتحاد الموضوع مع الذات واختلافه عنها في آن . وهي لحظة التركيب أو نفي النفي. العقل هو قوة النفي، السلب، ولكن لا تاريخ ولا تقدم بدون نفي النفي. إن لحظة التركيب هذه ، لحظة نفي النفي هي التي تضع التلازم الضروري بين العقل والتاريخ. لذلك يمكن القول: إن الهيغلية قد دشنت مفهوماً جديداً للعقلانية يتماثل مع الموضوعية، والواقعية، والتاريخية في إطار الكلية الشمولية الكونية.

ميز هيغل العقل vernumft ، من الفهم verstuand ، هذا التمييز بالغ الأهمية لتحديد الفرق، والعلاقة بين الوضعية الإيجابية والعقلانية ومن ثم بين المذهب الوضعي والديالكتيك، مذهب العقل والعقلانية. وفي سبيل إضاءة هذه المسألة لا بد من إيضاح العلاقة الجدلية بين الصور التي يتجلى فيها العقل في فلسفة هيغل ومنطقه، والإيقاع الثلاثي لكل لحظة من لحظات نموه.

1 ـ فالصورة الأولى ” الوعي المباشر ” تتكون من ثلاث لحظات جدلية هي:

آ- الوعي الحسي أو اليقين الحسي. مرحلة الإحساس بصفة عامة، وهي مرحلة تتسم بالمباشرة، أي الاستقلال الظاهري أو الحياد وعدم ارتباط الموضوع بشيء آخر. وذلك يعني أن الموضوع مباشرة العلاقة بين الذات والموضوع علاقة مباشرة؛ فالموضوع فردي، جزئي، موضوع مفرد يقف في استقلال وعزلة عن الذات، إنه “هذا” أو “ذاك”. ومباشرة العلاقة تعني أن الموضوع يوجد مباشرة أمام الوعي بدون توسط بين الفكر وموضوعه. الوعي لا يستنتج وجود الموضوع إنما هو، أي الموضوع، حاضر أمامه. تبدو هذه المعرفة الحسية كما لو كانت أكثر ألوان المعرفة خصوبة، وأكثرها يقيناً وصدقاً وأن جميع ألوان المعرفة الأخرى تقوم بها وتعتمد عليها. إنها لم تحذف حتى الآن شيئاً من الموضوع؛ فأمامها الموضوع نفسه بتمامه وكماله. ( سنلاحظ أن العقل هو فاعلية حذف، حذف الصفات والخصائص والتعيينات. وصولاً إلى المجرد، الكلي والمطلق، إلى المفهوم ).

والواقع أن هذه المعرفة تعد أكثر ألوان الوعي تجرداً وفقراً. فالمعرفة الحسية تهدف أساساً إلى إدراك الجزئيات. وفي محاولتها هذه تقسم المعرفة إلى جانبين ذات وموضوع، الموضوع يبدو في استقلال كامل عن الذات وفي وجوده المباشر أمام الوعي، وهو الحقيقي، وهو الماهية إنه موجود لا يتأثر بأن يعرف أولا يعرف. في حين أن المعرفة لا يمكن أن توجد ما لم يوجد الموضوع. لكن هذا الموضوع الموجود بتمامه إزاء الوعي لا تمكن معرفته إطلاقاً إلا بتوسط الفكر. إن هذا البيت وهذه الشجرة، وهذا القلم، بيت وشجرة، وقلم، إن حقيقة الجزئي والمفرد هي الكلية واللغة كما هو واضح تنتمي إلى الفكر أي إلى الكلي. لذلك فإن الوعي الحسي أو اليقين الحسي متناقض يهدف إلى معرفة الجزئي والمفرد فيصل إلى الكلي إذ لا معرفة إلا بالكليات.

ب – الإدراك الحسي: تناقض اليقين الحسي الناجم عن تناقض الموضوع ذاته يدفعنا إلى مرحلة أعلى هي الإدراك الحسي؛ فالموضوع فردي، جزئي، لكن حقيقته هي الكلية ( والكلية من عنصر الفكر )؛ إنه واحد له كيفات كثيرة، إذن هو واحد وكثير في آن، أي متناقض، إنه بالأحرى نسيج من المتناقضات هي من حيث الأساس استنباطات من التناقض الرئيسي وتطوير له، التناقض الرئيسي يكمن في الموضوع بوصفه فردياً، جزئياً، وكلياً في آن واحد. فهو بوصفه جزئياً مستقل عن الأشياء الأخرى، منغلق على نفسه، موجود من أجل ذاته، وبوصفه كلياً له خواص أو كيفات، وله علاقات بغيره من الأشياء الأخرى أو له وجود من أجل الآخر.

ج – الفهم: تبين لنا أن الوعي الحسي هو الجزئي المباشر، غير الموسَّط، وهذا مستحيل إدراكه. لذلك ارتفع الوعي إلى الإدراك الحسي الذي موضوعه مركب من الجزئية والكلية، موّسَّط. وإبراز أن الكلية هي الأساس لأنها تضفي معنىً على الجزئية؛ (سقراط إنسان، الخاص هو عام. احذف من سقراط إنسانيته فلا يتبقى منه شيء الإنسانية، أي الكلية، هي ماهيته الحقيقية )

غير أن هذه الكلية ليست بعد كلية خالصة فما تزال ممزوجة بالجزئية وبالتالي متناقضة فالحقيقة ليست جزئية عارية ( الوعي الحسي) ولا جزئية ممتزجة بالكلية ( الإدراك الحسي ) إنما لا بد أن تكون خالصة، مع عنصر للجزئية مرفوع تماماً. وذلك يعني تغيراً في نوع الكلية، فلم تعد من نوع الكليات الحسية ( شجرة ، منزل ، قلم …) بل صارت كلية لا حسية، وغير مشروطة. إن الفهم هو الذي يحل مشكلة التناقض بين الواحد والكثير بالرجوع إلى الكلي غير المشروط، ويسميه هيغل بالقوة وهي فكرة شبيهة بالقانون. لأن الارتباطات التي تشبه القانون بين خواص الشيء هي التي تحدد وحدته. فالفهم ينظر إلى الكلي الخالص على أنه القانون، وإلى عالم ما فوق الحس على أنه مملكة القوانين. وأن ثمة افتقاراً متبادلاً، وتلازماً ضرورياً بين القوة ( القانون ) وتجلياتها أو الظواهر التي تتحقق فيها. وليس الاستقلال سوى وهم وباطل.

يقول هيغل ” الفكر من حيث هو فهم يركز على التحديدات الثابتة، ويهتم اهتماماً بالغاً بالفروق والاختلافات الموجودة بين هذه التحديدات ( الخواص أو الكيفات..) وهو ينظر إلى كل خاصية على حدة ويعالجها كما لو كانت مستقلة عن غيرها ولها وجود قائم بذاته.” (17).

ويوصف نشاط الفهم بصفة عامة بأنه محاولة لبحث الموضوع الذي يقدم له في صورة الكلية. إلا أن الكلي الذي يقدم للفهم كلي مجرد، يعارض الجزئي في شدة وصرامة، حتى أنه بذلك ينقلب إلى جزئي، لذلك كان على الفكر أن يجاوز مرحلة الفهم ويتخطاها. الفهم بوصفه الخطوة الأولى في الديالكتيك ، يقدم لنا المتناهي الذي لا بد أن يتجاوز نفسه، أن يلغي نفسه بفعل الضرورة الداخلية. يقول هيغل: ” إن علينا أن نعترف بحقوق الفهم وجدارته، فلو أننا أهملناه فلن نجد التحديد والإيجاب والدقة لا في مجال النظر ولا في مجال العمل”. لحظة الفهم هذه هي لحظة الوضعية الإيجابية التي تزود الفكر بمقدمات موضوعية على الدوام.

2 ـ الصورة الثانية هي الوعي الذاتي: لقد أدرك الوعي أن حقيقة العالم الحسي هي كليات ما فوق الحس ، أو مملكة القوانين. وهو الآن في مملكة الوعي الذاتي يتقدم خطوة أخرى أبعد فيدرك أن عالم الكليات هذا ليس شيئاً آخر غير ذاته الخاصة، وأنه في وعيه للعالم الخارجي لا يعي سوى ذاته إن ما هو حقيقي في الموضوع هو الذات نفسها التي ترى صورتها أو انعكاسها في مرآته. لم يعد الموضوع غريباً عن الذات ولا مستقلاً عنها، إنما هو وجودها الخالص نفسه. هنا تبدو مثالية هيغل بوضوح، فإن جميع موجودات العالم، في نظره، تجليات للروح الكلي أو الفكرة المطلقة. المثالية تتجلى هنا في نوع من التصوف.

3- والصورة الثالثة هي العقل: لقد قادتنا لحظة “الوعي الذاتي” إلى أن الموضوع هو الذات. فالذات حين تتأمل موضوعها إنما تتأمل نفسها. فالفكر يلغي نفسه كفكر، ويجعل من نفسه موضوعاً لنشاطه الخاص. إلا أن الموضوع لم يعد غريباً عن الذات فالذات هي الذات والموضوع في آن معاً. (18) وهنا نلاحظ:

آ – الموضوع إزاء الذات آخر ومستقل.

ب – وهو أي الموضوع هو نفسه الذات، أي ليس آخر ولا مستقلاً.

ج – الذات تجد الموضوع إزاءها لكنها تتخطاه وتتجاوزه محتفظة به في جوفها وتلك هي وجهة نظر العقل الذي يسلم بالتمييز والاختلاف لكنه يرى في الوقت نفسه الهوية الكامنة وراء هذا الاختلاف فهو يأخذ بمبدأ هوية الأضداد ( وحدة وصراع الأضداد ). لقد أصبح الموضوع الآن متميزاً عن الذات ومتحداً معها في آن. فالعقل هو هوية الاختلاف والتعارض أو التناقض. ذلك لأنه عقل الواقع ، عقل الكون ، وليس شيئاً مفارقاً أو متعالياً. لقد نظر هيغل إلى مسألة العلاقة بين العقل والطبيعة نظرة دينامية، نظرة تاريخية. فالشيء في ذاته لا يعطيه الحس، لأنه ليس من عالمه، بل يعطيه العقل والتاريخ من هنا تصبح المطابقة قائمة ليس فقط بين العقل والطبيعة ، بل أيضاً بين العقل والتاريخ. بل إن الطبيعة نفسها ستغدو مجرد مظهر من مظاهر تطور العقل عبر التاريخ. لقد بلغ هيغل بالعقلانية الغربية أعلى قممها، لقد أحل العقل محل التاريخ والتاريخ محل العقل، بأن أعطى للتاريخ معنى وللعقل حركة فأصبح التطابق بين العقل ونظام الطبيعة لا مجرد مسألة منطقية كما كان الشأن من قبل، بل أصبح مسألة صيرورة ومصير، مسألة واقع يتحقق عبر التاريخ”. (19)

إذن يتقوَّم الفرق بين العقل والفهم لدى هيغل بأن الفهم يعيّن، يحدّد، وأن العقل ينفي. مقولة الفهم تحيل على العلم الوضعي، التجريبي، مملكة القوانين، الذي يوفر للفكر، أو للعقل الأعلى مقدماته الموضوعية التي لا تلبث هي ذاتها أن تغدو موضوعاً لنقد العقل. العلم الوضعي يثبت؛ العقل ينفي باطراد، وإلى ما لا نهاية. ماركس، بعد هيغل على الخط نفسه. فالماركسية لا تستنفد في الوضعية الإيجابية، أو في “العلمية”.

الفهم وضعي، العقل ديالكتيكي، الفهم لحظة لازمة في نمو الفكر وتطوره. الفهم ميدان الضرورة، العقل ميدان الحرية وضمانتها. ولكن لا عقل بلا فهم. العقل يتظاهر في الفهم، والفهم يشكل عنصراً بنائياً أساسياً في صرح العقل.

تقوم فلسفة هيغل على وحدة العقل والوجود. “فالحياة والنظر لا يشكلان مجالين متميزين”(20) إن حياة العقل هي عقل الحياة. إن مفهوم الحياة، ومفهوم اللاتناهي متعادلان. الحياة هي الديالكتيك وهي التي تقسر الفكر أن يفكر تفكيراً ديالكتياً.

في فلسفة هيغل نستطيع تلمس الفرق بين العقلانية والمثالية في حقيقة أن الأولى، أي العقلانية، لا تتصور المطلق واللامتناهي فوق المعرفة أو خارج سلطة العقل بوصفه “الروح الذي ينفي دائماً” فليس اللامتناهي وراء المتضادات المتناهية بل إن التضادات المتناهية تعقل من حيث هي لا متناهية، الأمر الذي يضع فكرة التاريخ ومفهوم التقدم.

قدمت لنا الهيغلية صورة مركّبة عن العقلانية يمكن تلخيصها وتكثيفها بالقول إن العقلانية هي التفكير والعمل وفق المنهج الديالكتي. لقد تجلى العقل خالصاً في المنطق، والمنطق والمنهج، ونظرية المعرفة ثلاثة أسماء لمسمى واحد، حسب لينين.

تعد الماركسية ذروة العقلانية الحديثة، وطابعها الثوري يكمن قبل أي شئ آخر، في عقلانيتها فالثورية هي سمة الديالكتيك، قبل أن تكون سمة الأيديولوجية والأشواق والمطالب البشرية. لقد وضعت الفلسفة الديالكتية الماركسية حداً لجميع التصورات عن الحقيقة المطلقة والأوضاع الاجتماعية الخالدة؛ فليس ثمة عندها شئ مطلق ومقدس ونهائي. الماركسية هي وحدة المادية والديالكتيك، وحدة تنطلق من جدلية العلاقة بين الوعي والوجود بين الذات والموضوع ووحدتهما في الممارسة الحية (البراكسيس)، لحظة التوسط الديالكتي بين الفكر والواقع، أو لحظة التركيب ونفي النفي، نقطة انطلاق التاريخ وصيرورة العالم. وسيرورة المعرفة. وبحذف هذه الوساطة (البراكسيس) تؤول الماركسية إلى مثالية صوفية.

التضاد أو التعارض بين المثالي والواقعي هو أساس فلسفة ماركس ومذهبه فقد كانت (القضية الأساسية عند ماركس هي قضية التأليف تأليفاً جوهرياً بين المثالية والمادية، في تركيب أعلى، تركيب لا يكون فلسفة، بل عملاً، تركيب لكونه نقداً للواقع يكون في الوقت نفسه تحقيقاً للنقد أو للفكر”. (21)

الماركسية، بهذا المعنى، هي مذهب العقل والعقلانية، إن مشروعها التاريخي يتلخص في تحقيق الفلسفة في العالم، أي عقل العالم وحذف استلاب الإنسان بجميع أشكاله المقدسة وغير المقدسة. ففي الماركسية كما في الهيغلية العقل هو عقل الواقع، عقل الكون. والمنهج الماركسي الديالكتيك، ليس شيئاً خارجياً عن موضوعه، بل هو ديالكتيك الموضوع ذاته، أو روح الموضوع ذاته. إذن، الذات هي الموضوع مع جميع الفروق الضرورية الملازمة. في الموضوعة الأولى عن فويرباخ قال ماركس: “إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها، بما فيها مادية فيورباخ، هي أن الشيء، الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع، أو بشكل تأمل، لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة نظر الذاتية. ونجم عن ذلك أن الجانب العملي، بخلاف المادية، إنما طورته المثالية، لكن فقط بشكل تجريدي، لأن المثالية لا تعرف بطبيعة الحال النشاط الواقعي، الحسي، كما هو..” ويضيف في الأطروحة الثانية: “إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة عملية .. ليست مطلقاً قضية نظرية. إنما هي قضية عملية. ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا والنقاش حول واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي إنما هو قضية كلامية بحتة”. (22)

إن مفهوم العقل لدى ماركس محدد بمفهوم العمل، النشاط العملي، الممارسة (البراكسيس) فاعلية الإنسان الحية الواعية والهادفة. وبدون العمل والإنتاج ليس ثمة فكر، ولا حاجة إلى الفكر. لذلك فإن مسألة التموضع الهيغلية تتحول لدى ماركس من كونها عملية استلاب الروح، أو الفكرة الشاملة في الطبيعة، إلى كونها تعبيراً واقعياً عن وحدة الذات والموضوع أي تحول فاعلية الإنسان الحية، وخصائصه النوعية إلى موضوع، هو له في نهاية المطاف، مع أنه يبدو مستقلاً عنه ومخارجاً له. غير أن هذا المعنى الماركسي لا ينبغي أن يلغي أو يحجب المعنى الهيغلي الذي يعلن التوتر والتنابذ الدائمين بين الذات والموضوع، بين الفكر والواقع.

أن مسألة التموضع هذه هي كما سبقت الإشارة أس الديالكتيك الهيغلي والفلسفة الماركسية على السواء. وإنه ليتعذر فهم كتاب ماركس الأشهر “رأس المال” بدون هذه المسألة، وبدون فهم ديالكتيك هيغل عموماً.

ويمكن القول: إن ماركس قد صاغ مفهوماً جديداً للعقل أو الفكر هو: العقل / العمل، وأنشأ من ثم مفهوماً جديداً، وتصوراً جديداً للعقلانية هو الذي سنجده واضحاً في منهج الياس مرقص ورؤيته. التكنولوجيا، وحدة العلم والعمل، إحدى مظاهر العقلانية وثمراتها، قبل ماركس وهيغل، وبعدهما، لأنها انطلقت من مقولة: “لكي تطيعنا الطبيعة يجب أن نطيعها”. لكنها ما لبثت أن أنتجت، بحكم ماهيتها ضرباً من عقلانية تجريبية، هي تقليص وتخفيض للعقلانية بمعناها الواسعٍ، كما تبلور لدى هيغل وماركس. يقول الدكتور محمد عابد الجابري: “لقد تغيرت جذرياً مع الفيزياء الذرية مفاهيم العقل ومبادئه، تلك المفاهيم والمبادئ التي كان ينظم بها التجربة (مثل مفهوم الحتمية ومفهوم الزمان ومفهوم المكان ) فصار لزاماً عليه أن يغير فهمه لنفسه. وهل العقل شيء آخر غير مفاهيمه وأدوات عمله؟ إن العقل في نهاية التحليل جملة من القواعد مستخلصة من موضوع ما. أما المنطق فإنه سيصبح هو الآخر كما قال كونزيت عبارة عن “فيزياء موضوع ما” ومن هنا ضرورة الاعتراف بتعدد أنواع المنطق تبعاً لتعدد منظومات القواعد التي تؤسس النشاط العلمي في هذا المجال أو ذاك. تلك هي النزعة الأكسيومية، الفرضية / الاستنتاجية التي تجتاح الآن العلوم الناضجة التي بدأت انطلاقتها من الرياضيات مع منتصف القرن الماضي.

لقد غدا المجهود العلمي يقوم على إنشاء “منظومات قواعد” جديدة للعمل الذهني قابلة للتكيف مع الإجراءات التجريبية، وهذه المنظومات تعمل على خلق عقل جديد ستجعل منه العادة والممارسة عقلاً طبيعياً وضرورياً تماماً مثلما كان المنطق الأرسطي يبدو طبيعياً وضرورياً. إنه العقل المكوِّن والعقل المكوَّن – حسب تعبير لالاند – اللذان يعملان من خلال علاقتهما الجدلية على جعل العقل يكتشف حقيقته من خلال صيرورته وبواسطتها. وإذا نحن شئنا الدقة أكثر بالاستناد على التصور العلمي المعاصر لحقيقة العقل قلنا مع جول أولمو: “ليست القواعد الذهنية التي يعمل بها العقل هي التي تحدده وتعرّفه، بل قدرته على استخلاص عدد لانهائي منها هي التي تشكل ماهيته” ( هل يتساوى العقل والكومبيوتر؟!). ذلك لكي يخلص، أي الجابري، إلى نتيجة مفادها أن العقلانية هي المطابقة (وهذا حق). وأن التجربة وحدها هي التي بإمكانها أن تفصل في مسألة المطابقة التي أصبحت تعني التحقق تجريبياً، ومن ثم، فإن العقلانية المعاصرة هي عقلانية تجريبية، لا عقلانية تأملية كما كان الشأن من قبل. ( وهذا موضوع على جدول أعمال العقل). بيد أن الجابري ومن ينحو نحوه ممن بهرتهم “المناهج الحديثة” التي لا تعدو كونها مناطق جديدة افتتحها العقل، يقلصون العقل إلى مستوى أحد فروعه، أعني الإبيستيمولوجيا. أي إنهم يخفضونه إلى مستوى الفهم عند هيغل، أي إلى مستوى الوضعية الإيجابية، لحظة الإثبات، ويجعلون من هذه اللحظة معطى ثابتاً ونهائياً. فيقترن العلم، من ثم، بنزعة محافظة أولاً، واستبدادية ثانياً، لأنها تجعل من الجزئي كلياً ومن النسبي مطلقاً، وتضفي على “العلم” طابع اليقين القطعي والقدرة الكلية، فضلاً عن المعصومية. ويمكن وصف هذه النزعة العلموية بالأصولية الوضعية، الوجه الآخر للأصولية الدينية.

3 ـ عناصر العقلانية وتجلياتها في فكر الياس مرقص:

ثمة كما اتضح من العرض السابق، وهو عرض لا يستنفد موضوعه، على كل حال، ثمة عدد من المعاني والدلالات لمقولة العقل. وإنه على أساس كل واحد من هذه المعاني والدلالات يمكن إنشاء، بل نشأ، تصور حول ما هي العقلانية. فالعقلانية من هذه الزاوية ذات طابع إشكالي متجدد وليس فيها، من قول نهائي. وتجدر الإشارة إلى أن التحديدات أو التعيينات الآنفة الذكر لمقولة العقل، إنما تنفي بقدر ما تثبت، وتطرح استحالة التوصل إلى تعريف “جامع مانع” للموضوع / الذات أي للذات التي أصبحت موضوعاً لذاتها، وذلك يرجع أساساً إلى ماهية الموضوع ذاته، الموضوع غير القابل للضبط بقدر ما هو عامل ضبط. غير أن صيغة أخرى للتساؤل / الاستفهام تبدو ضرورية وواجبة هي: كيف نعقل عالمنا، كيف نفهم، ونعقل واقعنا؟ بديلاً من سؤال ما العقل؟ فالانتقال من سؤال الماهية إلى سؤال الكيفية هو انتقال من التجريد العقلي والتأمل الفلسفي المحض إلى العقلانية بوصفها فلسفة الممارسة. وهو، أي سؤال الكيفية، سؤال يضع الحاجة إلى المنهج، الطريقة، أساساً للفكر والعمل. في هذه الحيثية بالضبط يكمن امتياز وتميُّز الياس مرقص الذي أولى مسألة المنهج اهتماماً تستحقه. ولقد حدد تصوره للفلسفة بوصفها نظرية المعرفة المادية وتصوراً للإنسان وتاريخه ومصائره، ورأى أن القضية الأساسية هي “قضية الفلسفة وقضية الواقع وقضية الشعب” ضد “الوعي العربي” “النظري” السائد المكوّن من إيمان ضمني وصميمي بأن الثالوث السابق متنافر فالفلسفة في مكان (عال وغائم ومرفوض) والشعب في مكان آخر (واطئ) والواقع الحقيقي في مكان ثالث، متوسط وجيد، مع “العلم” و”العلوم” وحامليها “النسبيين”؛ هذا الإيمان هو أبرز مظهر للوضعية الفكرية العربية، الوضعانية(24).

التحديدات والتعيينات السابقة للعقل والعقلانية، وغيرها بالطبع ، ستواجهنا في أشكال لفظية وفكرية مختلفة، ولسوف تنتظم في نسيج فكري متماسك على الرغم مما في أسلوب التعبير من استطراد، وتكرار، وانتقالات ذهنية تضمر روابط وعلاقات عقلية بين الأشياء والظاهرات والأشخاص والوقائع. وعليه فالعقلانية في فكر الياس مرقص ذات مستويين أحدهما يتعلق بالبنية الداخلية لفكره، ودرجة اتساق هذه البنية وتلاحمها، وطابع علاقاتها الداخلية، وبالكيفية التي تنتج بها المعرفة وتترابط المفاهيم والمقولات، وإلى أي مدى يحاكي ذلك الترابط والتعالق الواقع العياني أو يقاربه أو يطابقه. وبالقوة التي يتوفر عليها هذا الفكر للنفاذ إلى كثافة الواقع وتشابك الظاهرات وتغيرها المستمر، وبالراديكالية اللازمة لنزع طابع العصمة والقداسة عن الأشخاص والأفكار والمذاهب والمناهج والظاهرات .. والمحافظة على حقوق العقل وبسط سلطانه على سائر ميادين العمل والمعرفة. ويتعلق الثاني برؤيته إلى العقل والعقلانية، وما في هذه الرؤية من عمق وأصالة وشمول. مع ملاحظة أن هذين المستويين لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا بقدر ما يمكن فصل المنهج عن الرؤية. وبسبب عدم إمكانية قطع هذين المستويين أحدهما عن الآخر، خلافاً للنزعة الإبيستيمولوجية الرائجة، سأركز البحث في المستوى الثاني الذي يشكل المنهج قوامه وإيقاعه، ومنطقه الداخلي أي نبضه وروحه.

يرى الياس مرقص ان فكرة العقل في أشكال لفظية وفكرية مختلفة هي فكرة سيّدة، أو الفكرة السيّدة في تاريخ الفلسفة والعلم، على الأقل الفلسفة والعلم الغربيين .. اليوناني والعربي والأوروبي الوسيط والحديث والمعاصر. ولكن هذه الفكرة متنوعة (الفلسفة تنويعة كبيرة على العقل، سمفونية متناغمة ومتعارضة على لحن العقل). يوجد لفظياً اللوغوس logos والنوس nous ، والراسيو Rutio، Rsion ، الحس السليم أو الإدراك السليم الفهم البشري المشترك antendenent، verstand ، والعقل بمعنى هيغل على نحو خاص vernuvft. وتوجد أخوات، مقولات مشاركة على نحو أو آخر، مثلاً الروح، مثلاً المجتمع مثلاً الطبيعة مثلاً العالم، والوجود .. إلخ. لوغوس اليونانية تعني الكلام، تعني العقل إنها الكلمة والاسم والعقل والعلاقة والنسبة وفكرة التناسب والرياضة بالمعنى العالي .. منها كلمة لوجيقا logica المنطق. و”كل علم إنما هو منطق تطبيقي أو منطق مطبق (هيغل) “. ( 25) .. هيغل يعلن بقوة: إن العقل غير “العقل السليم” وإن العقل السليم هو مجموعة الأحكام المسبقة لعصر من العصور. كوبرنيك ذهب ضد العقل السليم، آينشتاين كذلك. الفلسفة ليست بتاتاً العقل السليم. الفلسفة اليونانة أنشدت لحن الحقيقة ضد الرأي Opinion . التمييز الذي أقامه هيغل بين العقل والفهم هو أساس أو قوام ديالكتيك هيغل. لقد اتخذ هيغل الشاب من العدد اللامتقايس، اللامعقول (2) مدخلاً إلى عقل أعلى إلىvernunft. يتخطى مستوى الفهم verstand. إن هذا اللامعقول هو العقل بالمعنى الأحق “يلاحظ القارئ بوضوح أن الياس مرقص ينطلق من مبدأ الهوية مع الفرق والتعارض حين يشير إلى مناطق العقل التي يقيمها منطق واحد هو المنطق العقلي أو العقل بالمعنى الأعلى والأبدأ والأشمل بالمعنى الهيغلي. فالمنطق يقيم مناطق يتوهج حضوره فيها كما لو كان كل واحد منها هو المنطق بامتياز. كما أن العقل اللوغوس هو الكلمة وكلمات اللغة، أي لغة على الإطلاق، تنتمي إلى الكلي، إلى الفكر. واللغة عامل الاجتماع البشري، عقل المجتمع. لذلك كان دائماً مع “علم الكلام” ضد “حب الكلام” وصف الكلام، وتقديس الكلام، وتوثينه. صحيح أن أفلاطون طرد الشعراء من جمهوريته، لكن مكللين بالزهور؛ لكن الفلسفة لم تستغن يوماً عن البيان والفصاحة والإعراب، لم تستغن عن الاستعارة. إن الفكر معرب يفك التداخل والاختلاط، يفك المتشاكل والمتشابه ويزيل الالتباس، كلمات اللغة هي أدوات العقل، المفاهيم والمقولات. الأسماء “قوانين العالم” والمفاهيم مفاتيح الكون. لذلك ينبغي دائماً نقد الكلمات، وتحطيم أوثان اللغة.

وشأنه شأن سائر الفلاسفة العقلانيين عارض مرقص “العقل السليم” بالعقل، وأخضع للشك والفحص والنقد سائر الأفكار. فلا تدخل الأفكار مملكته، أو منظومته الفكرية إلا بعد أن تقدم أوراق اعتمادها للعقل النقدي، الناظر والنافي. إن مبدأ الشك الديكارتي يتحول في فكر الياس مرقص إلى مبدأ النفي إلى قوة سلب دائمة من أجل مطابقة الفكر للواقع المتغيّر، ولكي يكون الفكر حقاً مرشداً بصيراً للممارسة. إن قوة النفي والسلب هذه المرتكزة إلى، والمنطلقة من المبدأ البسيط والعظيم في آن “أنا أفكر – أنا موجود” الذي يستعيده إلى ساحة الوعي هي أساس “الجهاد الأكبر” الجهاد ضد النفس الأمارة بالسوء، ضد أفكارها المسبقة، ونزواتها وأهوائها وجموحها وطموحها، وضد أوثانها وضلالاتها، وضد حقائقها الثابتة أيضاً. ضد الذات التي لا ترى نفسها في مرآة الآخر وبدلالته. ضد الأنا الأنانية وضد النحن الفارغة، ضد الجماعة التي لا ترى أن مشكلة فرد أو مجموعة أفراد منها هي مشكلتها أولاً، والتي لا تعي جدلية الظلم والقهر والاستعباد؛ فمن يستغل الآخرين ويضطهدهم لا يستطيع أن يكون حراً، ولا بشراً سوياً. وضد الذات، الأنا والنحن، التي ترى أنها الخير والطهارة والآخر هو الشر والنجاسة. وأن الذين يخالفونها في الرأي أو العقيدة ، أولهم عواطف مختلفة عن عواطفها، هم برابرة ومتوحشون .. ويمكن القول، بكثير من الثقة أن رؤية الياس مرقص للعقل والعقلانية هي رؤية ماركسية، هيغلية مع عنصر للصوفية مرفوع تماماً. لقد قرأ الياس مرقص الماركسية مسلحاً بالتراث النقدي الغربي (حسب رؤيته لمفهوم الغرب: اليونان والعرب والأوروبيون) قراءة غير متذهبة، وغير أيديولوجية. كما قرأ الليبرالية، والفلسفة الألمانية وخاصة كنط وهيغل قراءة ماركسية. هذه القراءة المزدوجة جعلته يطابق بين العقلانية والديالكتيك مأخوذاً في تطوره التاريخي من هيراقليط إلى ماركس مروراً بديكارت وكنط وهيغل والفلسفة المادية؛ وجعلته ينظر إلى الماركسية بوصفها فلسفة عقلانية أولاً وأن عقلانيتها وثوريتها في آن تكمنان في طابعها النقدي الذي هو ضمان تجديدها وتطويرها: “إن تصوّر ماركس وإنجلز ولينين تصوّر هادف وراهن، وإن الماركسية قبل أن تكون علم كذا وكيت هي منهج عمل ثوري جامع ومبادرة تاريخية كلية، في شروط محددة لواقع أو عالم هو بذاته ذات وحياة وعقل واقع ليس “مادة” بلا شكل، ويشكلها الثوري من رأسه، عالم ليس “موضوعاً مجرداً وميتا”، ليس “أشياء” مربوطة وتربط، ليس جلداً أو خشباً ولا آلة أو قطاراً ، إلخ بل هو موضوع / ذات sjit . حسب نظرية المعرفة، نظرية المعرفة المتطلعة إلى عمل بهذا الحجم / الثورة / ، إن الموضوعية، أو الموضوعية الحقيقية هي بالضبط الاعتراف بذات الموضوع وبذاتيته ضد ذاتية الرأس البشري فرداً أو جماعة أو حزباً أو أمة .. إلخ. هذا الاعتراف هو لحظة الصفر حامل اللانهاية، هو مبدأ التجرد والتجريد والمسح حامل مبدأ وحقيقة أن العالم، أن الواقع، أن كل واقع، بما أنه واقع، هو كل untout ، هو جملة totalite ، أي ليس قانوناً وليس مفهوماً وليس كلمة. والرأس derkopt هو الذي يؤسس هذا الاعتراف ويبني هذه المعرفة”.(26) ولعل نقده المبكر، والجذري للماركسية السوفييتية واعتباره الستالينية فلسفة غير ماركسية وضد الماركسية، وانتقاده الحاد والمتواصل لنسختها العربية، أو كاريكاتورها العربي، يكشف عن قراءته العقلانية للماركسية، ويكشف عن هذا العنصر العقلاني الذي كان ينمو ويتطور في وعيه وفكره على حساب العنصر الأيديولوجي. وقد تجلى ذلك على نحو خاص في سلسلة البحوث والمقالات التي كتبها في الأعداد الأولى من مجلة الوحدة، ومجلة الواقع، وفي المخطوطين المهمين اللذين ما يزالان ينتظران الطبع والنشر: “نقد الستالينية، أو نقد المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية” و “نقد ألتوسير”، فضلاً عن سائر مؤلفاته التي يغلب عليها طابع النقد / النفي الديالكتي، ولا سيما الكتابان اللذان نشرا بعيد وفاته: “المذهب الوضعي والمذهب الجدلي” و”نقد العقلانية العربية”.

في نظره، “للعقل معارضات كثيرة. والكلمة “عقل” تفهم وتتحدد بمعارضاتها بعلاقاتها في السياق، لكن السياق الأهم هو المعارضة، فثمة العقل إزاء الحس أو التجربة أو الخبرة، وإزاء التجربة العلمية التي هي امتداد مباشر للعقل وسلاح للفكر، وثمة العقل إزاء الشعور والشعر والعاطفة. العقل مع الفكر مع المنطق، والرياضة. والعقل إزاء “الخيال”، العقل هو نفسه خيال لكن ليس الخيال الحسي العجائبي الخرافي، بل هو الخيال مكتشف علاقات الأشياء عقل الكون … والعقل إزاء الشعر والشعور والعاطفة والخيال والحس … إلخ هذا لا يعني طرد هؤلاء، إقصاءهم، بل يعني إقامة معارضات محددة مفهومية، إنه جلاء أمور الروح أمور العمل والتملك. وهو يرى أن “ثمة في العصر الحديث “عقل ديكارتي” و”عقل هيغلي” و”عقل وضعاني”، وأن الثالث انحطاط الأول الكونتيون يتصورون أنهم تجاوزوا الأصلين أي العقلانية العظيمة والتجربية العظيمة، (الماديانية و المثالية)، دمجوا الأصلين في “العلمية” و”القانونية”، الوضعانية أسوأ عقل ممكن. وفي الحقيقة إنها على مستوى اللغة والخطاب ليست مع العقل، ولا مع الحقيقة، بل مع “العلمية”، ومع “الخصوصية”. والوضعانية تجد امتدادات نوعية في البراغماتية وسواها، وتتراكب مع تيار مناهضة العقل، وتيار “ما بعد الحداثة”. العقلانية المخصية تتبادل الأدوار مع اللاعقلانية.

إذن العقلانية هي عقل الكون، عقل الواقع بما هو واقع جدلي متغيّر ومتحرك، إمكاني واحتمالي، وتناقضي. إن “كون العقل هو عقل الكون”، أي عملية تعرف وتعقل مطردين، قوامها انبساط الروح الإنساني في العالم وفي التاريخ، بتوسُّط العمل والممارسة (البراكسيس)، واستعادة موضوعية العالم والتاريخ إلى الذات العاقلة والعارفة؛ ومن ثم، فإن العقلانية في نظره هي الفكرية أولاً، والواقعية ثانياً، بالتلازم الضروري. إن مقولة الواقعية في وعيه مؤسسة على مبدأ: “كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي”، وعلى مقولة هيغل المركزية: “مكر العقل” أو “مكر الله”، هذه المقولة التي تشكل ركيزة الموضوعية؛ مكر العقل ضد مكر البشر، منطق الواقع والتاريخ ضد حسابات الأفراد والأحزاب والدول والأمم، ونوايا الرجال العظام ودوافعهم الشخصية وأهدافهم؛ وعليه فإنه لم يكن يرى من معنى سيئ للمثالية سوى الذاتوية أو الإرادوية التي تخرج الواقع من الرأس. والموضوعية ليست بحال من الأحوال الحتمية والقدرية إلا بقدر ما تعنيان الضرورة، وقد أكد ذلك بقوله: “مازال عقلنا مشطوراً بين قطبين: عقل قاصر مع الضرورة والحتمية واليقين في جهة، وعشوائية الوجود مع الحظ والشعر في الجهة المقابلة والمناوئة. إن ثنائي الانتقاص والتسليم، الإرادة الجامحة والرضوخ الرثائي يرتبط بذلك، يغذيه ويتغذى منه”. وذلك لايعني أنه ينفي وجود حتمية وقدرية بمعنى الضرورة، لكن الحتمية والقدرية، والضرورة ليست فوق المعرفة، ولا قبل المعرفة أو بعدها. إن الحرية هي الضرورة المفهومة جيداً، وعي الضرورة. إن حد نقده للعقل العربي في هذه الحيثية موجه إلى كونه يتعامل مع الموضوع على أنه “مادة” ميتة، و”أشياء” هامدة، على أنه موضوع مجرد وميت، لا على أنه جملة حية، موضوع / ذات، إن “الواقع هو ذات وعقل وحياة”. كما أنه لم يكن ينفي العشوائية، والمصادفة والاحتمال والحظ، بل على العكس تماماً ، كان يضعها على مستوى المعرفة الإنسانية، فعشوائية الصغائر واقع قائم، يؤدي إلى قانونية، أو انتظامية الكبائر، حسب هيزنبرغ. والحظ كذلك واقع قائم، ولكن ثمة الحظ الميتافيزيقي، وثمة الاحتمالات والإمكانات وعلم الاحتمال، علم الزهر؛ منذ باسكال، لدينا طاولة الزهر ولعبة الزهر وليس لدينا “علم الزهر”. إن نقده للعقل العربي يتركز في كون هذا العقل أحادي النظرة لا يرى سوى وجه واحد: إما الحتمية والضرورة و”القانون” وإما العشوائية والفوضى والحظ الميتافيزيقي. إزاء هذا الانشطار في العقل العربي يضع تصوراً للعقلانية على أنها الحرية، وأولها حرية الفكر إنها اكتشاف منطق العالم، منطق الواقع بوساطة أو توسط الفكر العامل بالمفاهيم، وبأكثر المفاهيم تجريداً وشمولاً وكلية. لكن اكتشاف منطق الأشياء، منطق الواقع والعالم والكون والوجود .. يتوقف على العمل والإنتاج، على “بسط الشغل ونمو التحويل”. مقولات المنطق تكونت في رأس الإنسان بالارتباط مع نمو الفاعلية العملية التحويلية. (تحويل فاعلية الذات وخصائصها النوعية إلى موضوع خارجي مفارق). العمل يحمل مقولات الهوية (الثبات) ومقولة العلة والسبب، أسباب معينة تأتي بنتائج معينة هي نتائجها، لكي أحصل على نتيجة مرغوبة، لكي أوقع (أحقق) وأموضع هدفي الذاتي يجب أن أوفر الأسباب المناسبة (اللازمة والكافية) بحيث أجعل، في الواقع، خارج رأسي، هدفي الذاتي نتيجة للأسباب الموضوعية.

إن منتوجي المسبق الموجود في مخيلتي مثالياً (كلام ماركس، تعريفه للشغل البشري، مقارنته بين الإنسان والنحلة) والذي كان هدفاً فقط، صار موضوعاً فعلياً حقيقيا،ً إنه غرض. الشغل، العمل، تغريض. الغرض الذاتي = “هدف” يتحول إلى غرض مادي، “موضوع خارجي”؛ منطق الأشياء هذا يعني ويجب أن يعني النتوجية والاستنتاجية (نتج، استنتج، أنتج ) ثمة شراكة، ووحدة حال، بين العقل والعمل، بين اللوغوس والبراكسيس. (28).

يواجه القارئ، في فكر الياس مرقص، عناصر عقلانية مستمدة من الفلسفة اليونانية، والعربية / الإسلامية، والأوربية الوسيطة والحديثة والمعاصرة؛ وتواجهه، بوجه خاص، عناصر ديكارتية وكنطية وهيغلية وماركسية؛ لكنها بوصفها كذلك، لا تعدو كونها عناصر مختلفة ومتخالفة. أصالته وتفرده، وذاتيته، و”الذاتية هي الاستقلال مع الفكر، أو الفكر الحر المستقل، الذاتية هي الحرية ” تكمن في مواجهة هذه العناصر بعضها ببعض، ومحاكمة كل منها في محكمة الآخرين، وفي محكمة الواقع والتاريخ أي في محكمة العقل، وإعادة بنائها ودمجها في منظومة فكرية هي نسيج عقلي متماسك ومتلاحم منهجاً ورؤية. وليس ذلك فحسب، بل تكمن أصالته، وتفرده وذاتيته في إطلاله على المناطق المختلفة التي يقيمها المنطق: “الرياضيات، والفيزياء، والاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع .. إلخ” من خلال ثقافته الموسوعية وسعيه الدائب إلى “تثقيف عقله” والتقدم باستمرار في معرفة الحقيقة تبعاً للمنهج الذي اتخذه لنفسه في الفكر والعمل. وجعل كل واحد من هذه المناطق (جمع منطق) شاهداً على المناطق الأخرى، من أجل معرفة أوثق بالمنطق العقلي الكلي الشامل والحاكم على المناطق كافة بوصفها أجزاءه. ففي نظره المنطق العام، الديالكتيك هو الماهية الحقيقية لسائر المناطق وإلا فلا عقل ولا منطق. من هنا نستطيع أن نفهم معارضته الوضعانية بالعقلانية وهي أهم ما يميز تصوره للعقلانية والأدق معارضة الوضعانية بالديالكتيك، ومعارضة الليبرالية بالديمقراطية. ولعل جهده الفكري، تركز على إبراز العلاقة الواقعية العقلية، التاريخية، بين الفكر والعمل، بين الذات والموضوع بين الحرية والضرورة، بين المثالي والواقعي. وعلى جعل العقل يعمل بمفاهيم العام والخاص والفردي من أجل الخاص والفردي بوصفها الواقع الحقيقي، العياني، ومن هنا نستطيع أن نفهم اهتمامه بحقوق الإنسان، والمواطن بوصفها حقوق الفرد أولاً وأساساً، ويتضح لنا أن هذا الاهتمام السياسي يرتكز إلى جذر فلسفي عقلي لا يرى وجوداً فعلياً للإنسان إلا في الفرد، ولا يرى ماهية حقيقية للفرد إلا في الإنسان العام والكلي.

لقد انتمى الياس مرقص إلى الفلسفة كلها، إلى الفكر الإنساني كله، وإلى العمل الإنساني كله. هذا الانتماء الأصيل والنهائي شكل، من جهة مضمون انتمائه إلى أمته العربية انتماء إيجابياً تجسد في انخراطه في مشروع تقدمها ووحدتها وتحديثها وتجديد بناها، وأبرز على نحو واضح أن الهوية القومية لا تعني “الخصوصية” والانغلاق، ومجرد التمايز والاختلاف. “الهوية ليست خصوصية قومية، أو محلية، أو دينية، أو طبقية، أو حزبية .. الخ؛ بل هي رابطة مع الكون والعالم، مع الإنسان والتاريخ، كتقدم وكمسائل، رابطة محددة دائماً ومعينة، ومفتوحة على اللانهاية”. وعصمه، من جهة ثانية من التمذهب والتعصب. إن فكره الديالكتي، عقله الدياكتي مكنه أولاً من رؤية الفكر البشري في كليته ووحدته (الوحدة هوية التعدد والاختلاف والتعارض)، ومكنه ثانياً من التقاط عناصر العقلانية في نموها وتطورها الجدليين. فالماركسية، على سبيل المثال، لم تكن تنفصل في وعيه عن أصولها ومصادرها وعناصر تكوينها الضاربة جذورها عميقاً في الفكر البشري من هيراقليطس وديموقريطس وأفلاطون وأرسطو إلى كنط وهيغل وفويرباخ، وكل الفلسفة الكلاسيكية الألمانية والاقتصاد السياسي الإنكليزي والاشتراكية المثالية الفرنسية. والليبرالية في وعيه لم تكن سوى البذور العقلية التي سوف تصير الديمقراطية مع مفهوم الشعب، والطبقات وتعارضها في إطار المجتمع المدني، وهذه أي الديمقراطية ستكون النسغ الحي في الماركسية منهجياً وفلسفياً وسياسياً، وإلا سيكف التصور المادي الجدلي للتاريخ عن كونه كذلك.

إن رؤيته إلى وحدة الفكر البشري وجدلية تاريخه مظهر من مظاهر وعيه التاريخي أو التاريخاني (فالماركسية هي مدرسة التاريخانية – حسب عبد الله العروي – مدرسة للفكر التاريخاني والوعي التاريخي )، أو وعيه بالتاريخ بوصفه حركة الصيرورة والتقدم؛ التاريخ المؤسس على عقلانية الواقع وواقعية العقل. التاريخ، بوصفه ميدان الضرورة ومحكمة العقل، هو انبساط الروح الإنساني ونموه في العالم، وتوقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى، بالعمل الذي يؤنسن العالم شيئاً فشيئاً، ويرقى بالإنسان إلى مستوى الكلية الإنسانية شيئاً فشيئاً. الفلسفة التي انتمى إليها هذا الانتماء لا تقوم بالارتباط مع العلوم فقط، بل بالارتباط المباشر مع العمل الإنساني مع السياسة وقضايا الساعة، فلسفة هي نمو متدرج للحقيقة تقيم تماثل وتعادل الفكر والروح، الفكر – الروح – الوعي – السيكولوجي بتمامه وكماله، بما فيه الإدراك الحسي والعاطفة والشعور والخيال والإحساس..، وتقيم وحدة الكينونة والصيرورة، الذات والموضوع، الضرورة والحرية، المادية والديالكتيك. في رؤيتها ثمة الطبيعة والعالم، وفاعلية الإنسان الواعية الهادفة الخلاقة أي ثمة الذات والموضوع، والوعي هو وعي الموضوع، هو الوجود مدركاً، والحرية هي وعي الضرورة وموضوعية الإرادة وإمكانية الاختيار. الذات التي لا تتسلح بوعي مطابق للموضوع لا تحقق غايتها. لذلك فإن المثالية وهي الذاتوية والإرادوية تقابلها المادية التي هي الموضوعية والواقعية. (الثورية الحقة هي الواقعية الحقة والموضوعية الحقة). إن تحقيق الذاتية أي تحول الذاتي إلى موضوعي، تموضع الذاتي، مرهون دائماً باتخاذ موقف مادي، موضوعي، إنه تحقيق هوية الهدف (الذاتي) والنتيجة (الموضوعي). وفي رؤيته، العقلانية هي الفكرية مع مقولة الممارسة البراكسيس بوصفها وحدة العمل والمعرفة، التوتر والتنابذ بين المثالي والواقعي، تحول المثالي إلى واقعي، والواقعي إلى مثالي، وتقبع في أساس رؤيته الفلسفية التي دفعته إلى إعادة الاعتبار للمثالية الفلسفية، العقلانية، من أفلاطون إلى هيغل، ومن هيراقليطس إلى ماركس، في معارضة القسمة التبسيطية للفلاسفة إلى مثاليين وماديين، إلى معسكر الخير إزاء معسكر الشر، من دون أن تلغي أو تتجاهل بالطبع الفرق والاختلاف بين الفلاسفة في مسألة العلاقة بين الوعي والوجود، بين الفكر والواقع، بين الروح والمادة. التناقض بين المثالية والمادية تناقض مطلق، في هذه المسألة، المسألة الفلسفية الأولى فقط، أما في ما عدا ذلك فهو نسبي، بحسب إنغلز.

المثالية بالمعنى السيئ للكلمة مثاليتان: أولاهما تلك التي تضع العقل، الفكر، خارج “الصيرورة الموضوعية”.(30) والثانية هي الذاتوية والإرادوية، سواء لبست لبوس الماركسية أو الليبرالية أو غيرهما، وهي التي تخرج الواقع من رأسها “أو تظن أن أوهامها عن الواقع هي الواقع، وأن إرادتها هي التي تصنع التاريخ. هذه الإرادوية تنتج الاستبداد والفاشية “.

” الفكر قبض على الواقع بالمفاهيم بالأسماء، بالعام والكلي (هذه هي المثالية التي أعاد الياس مرقص إليها الاعتبار) ولاعلم إلا بالكليات؛ لكن الفرد هو وحده واقعي، وماهوي، وهو المعين تعييناً كاملاً. وحقيقة المعرفة، ومعيار عقلانيتها هي توافققها مع الواقع الموضوعي (مفهوم الواقع مختلف عن مفهوم الوضع القائم الستاتيكو ) على أن هذا التوافق لا يلغي التوتر والتنابذ بين المثالي والواقعي، بين الفكر والواقع، ذلك “لأن الطابع المزدوج لمعرفة الإنسان ( عام /خاص، أي إنه لا يعرف الخاص إلا بتوسط العام )، وإمكانية المثالية ( = الدين ) أمران معطيان سلفاً منذ أول تجريد ابتدائي” (31) إن معرفة المباشر، العياني، المفرد، بتوسط العام والكلي حاصلة فقط على قاعدة العمل الإنساني الذي هو فاعلية حية واعية وهادفة، وعليه يضع الياس مرقص ثلاثة مبادئ للعقل والعقلانية:

1 ـ ليس في الوجود، مقابل الفكر، شيئان متماثلان، متهاويان ومتساويان. كل الأشياء مختلفة (واقعية الفردي وكونه قائماًخارج الوعي ومستقلاً عنه). كل الأشياء مختلفة في الوجود، والفكر إدراك هويات المختلفات في كل الاتجاهات وإلى ما لانهاية. كل الأشياء مختلفة وكل الأشياء متشابهة (لا اختلاف بلا تشابه) متهاوية هكذا المبدأ ووظيفة الفكر فك التشابه وإعراب الأشكال. (في بداية علم الظاهرات ليس لدينا سوى الفكر مع الهوية إزاء الوجود مع الاختلاف).

2 ـ لا تغيُّر بلا التغاير، لا تغيّر بلا الاختلاف. اختلاف أفراد النوع أساس للتغير والتطور، شرط مطلق لظهور أنواع جديدة.

3 ـ لا تاريخ ولا تقدم بلا التفاوت. لولا التفاوت لما كان أي تقدم أي تاريخ، أي ارتقاء للبشرية. المجتمع البشري مجتمع الاختلاف والتفاوت، مجتمع الطبقات بالمعنى الواسع، الملكية وأضدادها، هكذا التاريخ أساسه وقوامه إنتاج البشر لوجودهم اجتماعياً. (32).

ويضع ثلاثة خيارات:

(1) ” أنا مع الجدلانية (الديالكتيك) ضد الوضعانية. مع هيغل ضد أوغست كونت. الجدلانية هي التي تنصف العقل الوضعي الإيجابي بإقامتها الحد عليه، بإدانتها من العتبة مذهبه وعقيدته ودينه؛ الجدلانية جدل النفي العامل بأكبر المجردات، المؤكد لفكرة التقدم الدائري”.

(2) مع الماركسية ضد الاقتصادوية شبهها وشبحها، مع الحق ضد “ابن عمه”، كل مؤلفات ماركس في الاقتصاد السياسي هي نقد الاقتصاد السياسي، وتحمل في عنوانها كلمة نقد.

(3) مع الديمقراطية ضد الليبرالوية. وحده الموقف الديمقراطي ينصف الموقف الليبرالي. الديمقراطية ليست فقط غاية ومبدأ، وأسلوب عمل وتنظيم، بل هي فلسفة، هي تصور للعالم (33)

إن تأسيس العقلانية في الفكر العربي يقتضي أولاً – حسب الياس مرقص- دراسة لمقولة “العقل” أو لمقولة “عقل” بدون الـ التعريف. وإبراز مقولة الفكر وتوابعها، ولا سيما “المفهوم “ومقولة “الشكل”؛ إذن الدخول في نقد الكلام وعلم الكلام ضد حب الكلام وصف الكلام. ويقتضي العودة إلى مبدأ أولي بسيط عقلي، قابل للبسط والإنماء في كافة الاتجاهات وإلى ما لانهاية، هذا المبدأ هو ” أنا أفكر – أنا موجود ” الذي يؤسس العقلانية على مفهوم الإنسان: الفرد والخاص والعام أو الكلي. الأنا التي قوامها الفكر والعمل، الذات كفاعلية واعية وهادفة وخلاقة إزاء الموضوع الذي هو موضوعها، من أجل مقولة الوعي والوعي المطابق بوصفه الوجود مدركاً. ويقتضي كذلك مجاهدة النفس ونبذ أوهامها ومسبقاتها، وكبح أهوائها ونزواتها وجموحها؛ هذا على صعيد الفرد والجماعة والطبقة والحزب والأمة.. “وحده الأنا مع الفكر، بدلاً من نحن ونحن مضادة مبهمتين يعطي كل أمر مكانه ويسيطر على الأمور بالعقل، ولا يدع جانباً يطغى ويتسلط. ويتقدم ويتحول في الفكر وبالفكر، يتساءل عن الأساسيات والمبادئ، يدحض فعلاً بالمعنى الهيغلي، وليس يرمي بقرف وحسرة واتهام، يدحض: يستوعب الحق الذي في الباطل، أو الحق الذي وراء الباطل. يجاهد بالأنا يصحح ذاته قبل الغير(34) الأنا أساس الـ نحن، الفردي أساس الخاص والعام، أساس الكلي الذي لا وجود له خارج الفرد. لذلك كما يكون الفرد والأفراد تكون الأمة.

وإذا كانت العقلانية تعيد الاعتبار للمثالية بمعنى الفكرية، فإنها بالأحرى تعيد الاعتبار لـ “المطلق” بوصفه حداً يحد النسبي. فليس ثمة نسبي بلا مطلق، وليس ثمة تقدم بدون المطلق. “ومن ليس عنده، في روحه وفي فكره المطلق، يحول نسبيَّه إلى مطلق وذلك هو الاستبداد”.

إن ذروة العقلانية في فكر الياس مرقص ورؤيته هي الديالكتيك الهيغلي / الماركسي، بل الديالكتيك في نموه وتطوره التاريخي من هيراقليط إلى ماركس، وفي كل نتاجه الفكري تتماثل أو تتهاوى العقلانية والديالكيك الذي هو المنطق ونظرية المعرفة، وهي ثلاثة أسماء لمسمى واحد، حسب لينين، لذلك يرى “أن على الفكر العربي، ولا سيما التقدمي، اليوم أن يختار اختيارا ً أولياً ونهائياً بين مذهبين: المذهب الوضعي والمذهب الجدلي” ثمة مذهبان اثنان أحدهما باطل. والمذهب هو “تصور وطريقة”. وهكذا يعارض المذهب الوضعي واستطالاته التجريبية والبراغماتية بالعقلانية أي بالديالكتيك. والمذهب الوضعي الذي يعارضه هو مذهب أوغست كونت، والقوميين العرب والماركسيين العرب، الثوريين الذين استهوتهم الجواهر والماهيات المجردة: “العالمية” و”الأممية” و”العولمة” ..، بدلاً من “الحقيقة”.

فإذا كان ثمة من يعتقد بشكل أو بآخر أن الماركسية هي الوضعية أو الإيجابية الحقيقية فهو مخطئ بالأساس. الماركسية الآتية من هيغل من الفلسفة الكلاسيكية الألمانية (كنط – فيشته، شيللنغ وهيغل) من آدم سميث، من الثورة الفرنسية، ومن الشيوعية الطوباوية، والمتمثلة في ماركس وإنجلز ولينين ( وبصرف النظر عن الماركسية الموجودة والواقعة والغالبة أو السائدة في دنيا السياسة والفكر الراهنة ) ليست هي الوضعوية المصححة أو العلموية الحقة، بل هي شيء آخر بالتمام، في الظرف الراهن يجب أن تفهم كـ: آنتي وضعوية. وبعد، إن أي محاولة جادة للتصدي لهذا اللامعقول الذي يفتك بأمتنا، حتى يكاد يزهق روحها، لا بد أن تتسلح بالعقلانية وأن تدمج فكر الياس مرقص في فكرها وعملها.

 

الهوامش والمراجع

(1) للتوسع في ذلك راجع: د. فؤاد مرسي – الرأسمالية تجدد نفسها – عالم المعرفة /147/.

(2) عبد الرحمن الكواكبي – طبائع الاسبتداد – ديوان النهضة – ص 48-49 .

(3) الوعي المباشر لحظة في نمو المعرفة، وسيرورة تطور الروح، حسب هيغل، لحظة ضرورية لكنها لاتستنفد الموضوع. إنها لحظة الفهم. فكل معرفة تبدأ بالحواس، ثم تنتقل إلى الفهم وتكتمل في العقل. هكذا كنط وهيغل وماركس ولينين..

(4) الوسوعة الفلسفية العربية- معهد الإنماء العربي – تحرير معن زيادة. ص 596 وما بعدها.

(5) محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي – مركز دراسات الوحدة العربية. ص18

(6) المصدر نفسه ص 19 – 20 .

(7) لينين – دفاتر عن الديالكتيك – ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة بيروت ص49

(8) رينيه ديكارت – مقالة الطريقة – ترجمة جميل صليبا – اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع ص70.

(9) المصدر السابق ص98.

(10) المصدر السابق ص30 – 35.

(11) المصدر نفسه ص 120.

(12) المصدر نفسه ص 122.

(13) عن محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي – ص 21.

(14) لينين – دفاتر عن الديالكتيك – دار الحقيقة – بيروت – ترجمة الياس مرقص والنص من مقدمته ص 80.

(15) المصدر نفسه ص 81.

(16) هيغل – علم ظهور العقل، ترجمة مصطفى صفوان – دار الطليعة بيروت – ص11.

(17) عبد الفتاح إمام – المنهج الجدلي عند هيغل – دار التنوير ص16.

(18) اعتمدت في عرض وجهة نظر هيغل على المصدر السابق: المنهج الجدلي عند هيغل.

(19) محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي – مصدر سابق ص23.

(20) جان هيبوليت – دراسات في ماركس وهيغل – ترجمة جورج صدقني،منشورات وزارة الثقافة 1971.ص9.

(21) المصدر نفسه ص122.

(22) إنجلز – لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية – دار التقدم – موسكو – ص 66 – 67.

(23) راجع. د. محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي – مصدر سابق – الصفحات 23- 24- 25

(24) الياس مرقص- المذهب الجدلي والمذهب الوضعي – بدون دار نشر- ص 26

(25) الياس مرقص “نقد العقلانية العربية” دار الحصاد، دمشق، ط 1، ص 11

(26) الياس مرقص _المذهب الجدلي والمذهب الوضعي _ مصدر سابق -ص 21

(27) الياس مرقص – العقلانية العربية م – مصدر سابق _ ص 206

(28) المصدر السابق

(29) ياسين الحافظ _ في المسألة القومية الديمقراطية_ دار الطليعة بيروت ص 6

(30) السيرورة الموضوعية _ حسب الياس مرقص _ مفهوم مركب من مفهومين أوليين المادية والديالكتيك حيث المفهوم _ المبدأ للمادية هو الكينونة أو الطبيعة أو المادة أ، الفيزيقي، المععطى الأول اي الموضوعي الذي يقابله الذاتي: الفكر، الروح، الوعي ، السيكولوجي أي المعطى الثاني . والمفهوم _ المبدأ للديالكتيك هو الصيرورة أو الحركة والتغير، النشوء والزوال . مفهوم الهوية والثبات و السكون تابع وخاضع لهذا المبدأ.

إذن وحدة المادية والديالكتيك هي وحدة الكينونة والصيرورة. أي السيرورة الموضوعية.

(31) روجيه غارودي _ فكر هيغل _ ترجمة وتقديم الياس مرقص ص 34-39

(32) الياس مرقص – العقلانية العربية م -ص 40 -46

(33) الياس مرقص-العقلانية العربية م – ص 9

(34) المصدر نفسه ص 228

(35) الياس مرقص – المذهب الجدلي والمذهب الوضعي _ مصدر سابق ص 9

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية