هذا الحوار المنشور على حلقات هو حوار أجراه جاد الكريم الجباعي مع إلياس مرقص، ونشره في كتاب (حوار العمر) الصادر عن دار حوران. وهنا القسم الثاني من الفصل الأول (نقد الكلمات وتحرير المفاهيم والمقولات). لقراءة الحلقات بالترتيب انظر أسفل النص.
ما هي الفلسفة المادية؟ لقد اصطلح الفلاسفة، أو بعض الفلاسفة، واصطلح الأساتذة المدرسون والكتب أو كثير من الكتب على تقسيم الفلاسفة إلى ماديين ومثاليين[1](7)، ولسوء حظنا أن الرفيق لينين أولاً ـ ولم يعد النظر صراحة في ذلك ـ والرفيق ستالين ثانياً، والشراح بعد ذلك أعلنوا تبعيتهم لهذا التقسيم الذي عُدَّ أساساً للفلسفة، فإذا أردت أن تدرس فلسفة الصين أو فلسفة الهند، وتترك أوروبا، يجب أن تقسمها إلى مادية ومثالية. أنا أقول هذه حماقة. وكذلك إذا أردت أن تدرس فلسفة اليونان فإن أهم شيء أن تقول ماديين ومثاليين، في رأيي هذه حماقة. قطعاً هذه الحماقة تخف كثيراً في وقت معين من التاريخ. لينين وستالين اعتمدا على إنجلز وشوها إنجلز. فعندما يقول إنجلز المعسكران الرئيسان فإنه يعني أن في تاريخ الفلسفة، لمرحلة معينة طويلة نسبياً، كان هذان المعسكران رئيسين، هذه هي المسألة الفلسفية الكبرى أو العليا. أريد هنا أن أعيد النظر في هذه المسألة وأتساءل: إلى أي مدى هذا الكلام منقول عن الكتب البورجوازية؟ يا أخي إذا كانت الفلسفة البورجوازية (لا نملك تسمية أفضل) والجامعية الغربية اعتمدت هذه التسمية فليس من الضروري أن نعتمدها لنزايد عليهم. لماذا؟ لأننا في مشروع تحويل العالم انركبنا بالمادية.
هنا أقول: لا. يجب أن نحول العالم لفكرة، لهدف. أوهمتنا الستالينية أن “المادية” تعني الواقعية الأكيدة وتبين اليوم (بعد البيريسترويكا) أن هذه أكذوبة. اكتشفنا أن أبعد الناس عن الواقعية هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية (المادية)[2](8). لو تساءلنا: هل جبال الهمالايا في الهند أهم وأخطر أم أوهام الناس وأفكارهم؟ إجابتي المتواضعة أنني لا أعرف، يجب أن أدرس الموضوع. الماركسية لا تلزمني بجواب معين. قد يقول أحدهم جبال الهمالايا واقع وأوهام الناس وأفكارهم ليست واقعاً ويكون “مادياً”. على من نضحك؟! يمكن اليوم إزالة جبال الهمالايا بقنبلة ذرية، ولكن الأصعب هو إزالة أوهام الناس وأفكارهم. ما هي أوهام الناس؟ أوهام الناس هي أفكار الناس أيضاً، يجب أن أفهم ماذا وراء أفكار الناس. ثم لماذا أعتقد بأن أفكار الناس أوهام وأفكاري ليست أوهاماً؟ هذه قضية واسعة وشائكة. لينين هو الذي اخترع مصطلح “المادية الديالكتيكية” وليس ماركس أو إنجلز. وفي رأيي أن لينين أخطأ وتحايل على الموضوع. هنا أيضاً ثمة مسألة ترجمة، في مقال للينين عنوانه “عشرة أسئلة للمحاضر” يرد بها لينين على محاضر “محرِّف” قال: لماذا لا تقول أن ماركس وإنجلز وصفا Calfia مذهبهما بالمادية الديالكتيكية؟ قال وصفا Calfia ولم يقل سمّيا. الوصف غير التسمية. ثمة فرق بين أن تصف الشيء وأن تسميه. أن تسمي الشيء يعني أن تعطيه اسماً، عنواناً بصورة نهائية. إذا سألتني ما هي صفات مذهب ماركس؟ فإنني أقول: مادي، مادياني، واقعي، ديالكتيكي، ثوري، عقلاني[3](9)… وتستطيع أن تضيف أوصافاً كثيرة وهو، أي ماركس، يوافقك على كل هذه الأوصاف. وإذا أضفت أوصافاً أكثر قد يطمئن ماركس أن الناس لن ينركبوا بوصف واحد. وإذا بستالين يقول: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. وجئنا نحن العرب وترجمنا Materialism بالمادية ولم نقل الماديانية فأصبح لدينا المذهب مادياً. تصور كيف نقول عن مذهب فكري، نظري أنه مذهب مادي، ونقول عن الطاولة وغيرها من الأشياء أنها مادية. في الفرنسية مثلاً الأمر مختلف تقول عن المذهب Materialist وعن الطاولة والكرسي Material. وأكثر من ذلك يبدو أن ماركس لم يصف مذهبه قط بالمادية التاريخية إنما قال عنه التصور المادي للتاريخ، التصور أو المفهمة الماديانية للتاريخ. وضع كلمة التصور أو المفهمة ليذكرنا بأن هذا فكر، وليذكرنا أنه، أي ماركس، وأفلاطون أخوة في الفكر. أما ستالين فهو خارج الفكر، والماركسي العادي يقول لك: نحن ماديون أي نحن موجودون مثل الطاولة والكرسي. ما أحلى هذا الوجود، الطاولة التي تنتهي وتحترق نمنحها الخلود. قيمة الطاولة ليست في ذاتها، بل في الشغل البشري والطابع الاجتماعي، إنها تقوم بدلالة الإنسان والمجتمع. (الإنسان مقياس القيم.ج). يبدو أن مثلنا الأعلى في الوجود بات وجود الأشياء وعناصر الطبيعة. ما هذا الكلام؟!.
أوري أرغون له كتاب جميل عن الماركسية وكتاب جميل آخر عن البوذية، (الهيْلَميون) العرب لا يتصورون شيئاً كهذا، لا تركب في ذهنهم قضية كهذه، وألف قضية من هذا النوع. أوري أرغون يقول ـ إن لم تخني الذاكرة ـ: كارل ماركس تردد بين الماديانية الجدلية والواقعية الجدلية. وريمون أرون يقول: إن مذهب ماركس ومذهب هيغل كلاهما مذهب منطق الواقع. هذا إعلان أن الواقع غير هدفي، غير رغبتي، ثمة واقع له منطق، هذا المنطق معطى وأكثر بكثير من معطى. كون الواقع معطى مباشراً يعني أنه كرسي وطاولة وجبل وواد.. لكن الأكسجين ليس معطى مباشراً تطلبت معرفته عملاً علمياً وتعباً. الإحساس مباشر، الإدراك ليس كذلك ولكن عند تحليل الإدراك تجد فيه عنصر الإحساس الذي هو استجابة عصبية. الواقع ليس ما نحسه، الواقع لـه منطق، ومنطقه غير منطقي أو منطقك أو منطق ستالين أو منطق حزب كذا ودولة كذا. كلمة ماديانية تعني هذا الأمر ويجب أن تعني هذا الأمر وهذا شيء عظيم.
قرأت مؤخراً أن كارل ماركس سخر من المادية، سخر من الكلمة والوصف ورأى أن المادية مذهب موليشوت وبوخنر وفوكت، أي المادية المبتذلة. في رسالة من ماركس إلى إنجلز يطلب فيها منه أن يكتب مقالة بتوقيعه دعاية لكتاب رأس المال، وينشرها في مجلة فوكت أو موليشوت، يقول فيها أن كتاب رأس المال مادياني لكي تفرح تلك الجماعة. وهكذا يتضح أن موقف ماركس كان سلبياً من مصطلح الماديانية. وتؤكد ذلك الأطروحات حول فيورباخ حيث يصف مذهبه بالماديانية قائلاً: إن الماديانية السابقة كلها بما فيها ماديانية فيورباخ لم تعرف الواقع أو الموضوع إلا على أنه موضوع وموضوع للرؤية والتأمل، ولم تنظر إليه من وجهة نظر عمل الإنسان ولم تنظر إليه (بصفته) ذاتياً (نشاطاً إنسانياً)[4](10) وأن هذا الجانب الأخير، الذاتية، والعمل البشري، قد بسطته وأنمته المثالية وهذه مأثرتها. وفي أطروحة أخرى عن فيورباخ يقول ماركس: إن وجهة نظر المادية السابقة هي المجتمع المدني، أما وجهة نظر الماديانية الجديدة (أي ماديانية ماركس وإنجلز) هي المجتمع الإنساني أو الإنسانية الاجتماعية. وكأنه هنا يسمي مذهبه الماديانية الجديدة في معارضة الماديانية القديمة[5](11). ويجب ألا ننسى عداء ماركس للعناوين فقد أكد أكثر من مرة أنه “ليس ماركسياً”. وإذا سألت ماركس عن رأي الماركسية في الفن الهندي سيقول: مدهش هذا السؤال. سلني عن رأيي، وإن قلت له ما رأيك، قد يقول: لا أعرف، أو يقول لك رأيي كذا وكذا. الغريب عندنا أن كل واحد يقول لك الماركسية تقول كذا وكذا والماركسية تقول كذا.. يجب أن نغير هذه الطريقة في الكلام، أو تجد من يقول لك نحن العرب كذا وكذا. اليوم تطرح المسألة كذلك في الندوات، لقد قلت لهم ليتكلم كل واحد باسمه، ما لكم تتكلمون باسم أمة من خولكم حق تمثيلها؟[6](12).
ـ ما زال هناك كهنوت ماركسي.
# كهنوت ماركسي. هذا غير معقول. يا أخي! الكنيسة الكاثوليكية التي هي أعظم مؤسسة دينية في التاريخ تجد البابا فيها يذكر يوحنا وبطرس ومئة شاهد على مدى مئتي عام ويذكر التوراة إذا أراد أن يتكلم عن شيء. نحن ألغينا الدنيا واكتفينا بترديد قال لينين وقال ماركس، وننسى أن هناك شيئاً آخر في التاريخ. أقول ما الثمن الذي دفعناه نتيجة هذه “المادية”؟ في رأيي أن تعليم هذه “المادية” التي هي الماركسية كان تخفيضاً للفكر. نرى ذلك بوضوح في مبادئ ستالين، فإنه عندما يصل إلى المبدأ السادس من مبادئه السبعة تراه يقول: المادة، الطبيعة، الوجود، هي الأول والفكر والوعي هو الثاني، الفكر انعكاس المادة، الفكر هو انعكاس الواقع في دماغ الإنسان، الفكر نتاج الدماغ، نتاج المادة المنظمة.. عند ضم هذا الكلام بعضه إلى بعض نجده، عملياً، تخفيضاً للفكر وتعظيماً للمادة = الطبيعة، وخاصة المادة، المادة.. أما الفكر فهو مخفض. هنا لي ملاحظتان: أولاهما أننا لو عدنا إلى بداية كتاب ستالين، على امتداد طرحه للديالكتيك وحديثه عنه لم يتعامل إلا مع الطبيعة حتى ليتصور القارئ أن المادة ليست سوى الموضوعات الطبيعية وظاهرات الطبيعة وأغراض الطبيعة، في حين أن ما حولنا ليس سوى العمل البشري، المدن والأرياف والحقول والمزارع والغابات والسدود والمصانع.. كلها نتاجات عمل بشري خلاق ومتواصل. الفلسفة الستالينية قامت في البداية على إلغاء العمل الإنساني، ومن ثم، إلغاء الفكر الإنساني، خفض ستالين الشغل البشري، العمل الإنساني والفكر، خفضهما بالتلازم وراح يمتدح “الفكر الثوري” و”الفكر الطليعي” و”النظرية الطليعية”، باتت النظرية الثورية الطليعية قادرة على خلق مجتمع اشتراكي، وضن علينا أن يكون فكر النجار يصنع الطاولة وفكر الحذاء يصنع الحذاء، وأن عمل البشر المسلح بفكر الإنسان قد صنع المدن والقرى. الماديانية الستالينية المستندة إلى لينين وأحياناً من غير لينين حقّرت الفكر وخفضته.
المبدأ السابع عند ستالين يقول: المادية، بعكس المثالية، تؤمن بأن المعرفة ممكنة، وبأن معرفتنا لقوانين الطبيعة صحيحة ويقينية، وتؤمن بأن كانط وبقية المثاليين مخطئون وضالون. طبعاً هذا الكلام الذي أسنده ستالين إلى إنجلز مخالف لإنجلز نصاً وروحاً، وكله غلط. إنجلز لم يقل إن كانط مثالي ولم يقل إن المثاليين ينكرون إمكانية المعرفة، بل، على العكس، أكد أن المثاليين والماديين يؤكدون إمكانية المعرفة، والذين يطعنون في هذه الإمكانية قلائل وأعظمهم هو كانط. المعرفة التي تسقط في اليقينية المطلقة هذه حماقة. ومن المهم أن نلاحظ هنا على صعيد المصطلح، على صعيد المعجم أو قاموس المصطلحات، المفاتيح العائدة للماركسيين والتي سيستعملها الناس، أن ستالين رفع من شأن المعرفة والعلم والمعرفة العلمية وخفض من الفكر وحط من شأنه، واسمحوا لي أن أقول: هذا الموقف يكرره ألتوسير ويكرره ربما محمد عابد الجابري، تكرره ندوات العرب: المعرفة، معرفة، علم، عقل.. أنا أريد الفكر. الفكر هو المقولة العميقة الواسعة، فكر أفلاطون وفكر النجار، أفلاطون والنجار أخوة ماركس ولينين معهم[7](13)، الفكر شغل المزارع والفلاح والعالم الكبير، شغل كل إنسان، شغل العالم الكبير وعالم الرياضيات وغرامشي معهم.. هذا قاموس واضح جداً، صادق جلال العظم ليس معهم أي إنه وأمثاله مغرمون بالمعرفة والعلم والعقل، أما الفكر والذهن والذكاء هذا القاموس الذي في رأس الإنسان ما هو؟ هذا الذي قبل أن توجد الفلسفة والعلوم. الإنسان اخترع بيتاً وقرية ودجن الحيوان واستنبت الحنطة.. واخترع الدولاب.. ونستطيع القول إن العالم المدني الذي نحن فيه هو من إنتاج الفكر الإنساني. إن ثمة تناغماً بين الستالينية والمنظومة الثقافية والأيديولوجية العربية الإسلامية الشرقية كل منهما يعزز الآخر. إن تسعة أعشار الناس عندنا، ومنهم مثقفون يعادلون أو يماثلون بين مقولة العالم ومقولة الطبيعة. مرة قال لي صديق عزيز جداً: العالم يعني الطبيعة، فقلت له: والله الطبيعة مفهوم واسع وضيق، العالم اثنان. فيورباخ البعيد عن الديالكتيك وعن التاريخية التقط هذه النقطة وأمسك بها ولينين سجلها عنه، إن العالم اثنان: العالم الطبيعي والعالم المدني، والعالم المدني كله من صنع الإنسان: الزراعة وتربية الحيوان والمدن والجامعات ودور العبادة وثقب طبقة الأوزون ومرض السيدا والحرب والسلم.. هذا هو العالم المدني، هذا صنع بني آدم، ليس من صنعهم الواعي أي أنهم قبل 500 سنة لم يكونوا يعرفون إلى أين سيصل التطور، فلولا الوعي الإنساني لم يوجد الشغل ولم يوجد شيء. ولعله يحق لي أن أعتز أنني في مناقشتي مع ساطع الحصري ذكرت مقولة الشغل عند ماركس وتفريقه بين شغل الإنسان وشغل النحلة. تستطيع النحلة أن تصنع خلية لا يستطيع أن يصنع مثلها أفضل مهندس معماري، لكن أسوأ مهندس معماري يمتاز على النحلة بأنه يصنع الخلية في رأسه أولاً. ولنكمل الكلام: المنتوج مسبق الوجود مثالياً في مخيلة الشغّيل. ويمكن أن نقول، مؤقتاً، إن الفكر، ولا سيما إذا عنينا فعاليات الفهم والاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب، والتجريب بمعنى العزل العادي، الفكر مشترك بين الإنسان والقرد، والمصطلح الذي لا يصح على الحيوان، ويصح على الإنسان فقط هو مصطلح الوعي أوبالأصح الوجدان والضمير والوعي. بمَ يمتاز الوعي؟ بأنه يحمل فكرة المستقبل. يوجد مستقبل أي يوجد ماض وحاضر. الوعي خاص بالإنسان، خاصية الإنسان. بتعبير آخر الفكر الإنساني فكر اختراعي. فإلى أي مدى نحن العرب مؤمنون بفكرة الإبداع. خصصت مجلة الوحدة أحد أعدادها للإبداع، فكانت المسألة الأساسية المطروحة أن الله وحده هو خالق الأمتين (العالمين الطبيعي والمدني). لنتناقش بصراحة، يا جماعة إذا كنتم تؤمنون بهذا حقاً فلا بأس، ولكن ما معنى أن الإنسان خليفة الله، كيف هو خليفته؟ هنا ينفتح النقاش. أما نحن فنؤمن بالإبداع أي إننا نؤمن بأن هناك شيئاً جديداً على الدوام. إذا لم يكن الأمر كذلك فما معنى الحديث الذي لا ينقطع عن الحداثة والتحديث؟ نحن على ما يبدو نحب الحديث ولا نحب الجديد أو فكرة الجديد. لقد باتت فكرة الحداثة والحديث توحي لي بالحدث، بالحادثة، بالمصادفة، مع أن كلمة جديد في العربية أخت كلمة Oregenal. إن تاريخ 5000 سنة وراءنا هو تاريخ الانوجاد، انوجاد العالم المدني، تاريخ نتوج هذه الأشياء والعالم المدني من شغل البشر ومن فعالية البشر. الماركسية الستالينية لعنت هذا كله. هذا تجده عند ماركس وكانط وفيخته وهيغل وعند ديكارت، وستراه عند بيركلي أيضاً، لكنك تراه في الذروة عند كانط وفيخته وهيغل زمن الثورة الفرنسية.
أعود فأقول: من ضرب ضرب ومن هرب هرب، نقول بعد وقوع الواقعة: لنكن واقعيين. الجريمة المتأتية عن الماديانية هي إلغاء الفكر أو تخفيضه لمصلحة المادة، والحزب والنظرية، ولمصلحة الطبيعة والعلم والعلمي، وعلم السوربون ولمصلحة الفقه.. كأن الماركسية اللينينية كفت عن كونها فكراً، فكراً قابلاً للخطأ والصواب. هذا لا يقبله نجار عاقل أو طبّاخة ماهرة. الطباخة حين تحضر الطعام تضيف إليه شيئاً من إبداعها.
أنتقل الآن من مقولة الفكر إلى مقولة الوعي التي رفعت لواءها ـ كما تعرفون ـ منذ عشرين سنة. ولا شك أن ما كنت أقوله قبل عشرين سنة أقل بكثير مما يمكن أن أقوله اليوم، ولو أنني أعتقد أنه لا توجد قطيعة في هذا المسار. في الفرنسية توجد كلمة واحدة هي (Conscince) وفي الإنكليزية توجد كلمتان (Conciousness و Conscience) Conscience هي الضمير الأخلاقي، وكذلك Conciousness هي الوعي النظري. في العربية عندنا ثلاث كلمات: الضمير والوجدان والوعي. أنا اقترحت أن يكون الوجدان مقابل الوجود كلمةً شاملة، ولها جانبان: الوعي النظري والضمير الأخلاقي. ولنرفع لواء الضمير الأخلاقي والوعي النظري عالياً. أكاد أقول هذه مهمتنا الدائمة التي لا يجوز أن يكون هناك مهمة أعلى منها استراتيجياً وتكتيكياً أيضاً. هذا هو مدخلنا إلى الناس (ومفتاح نفوسهم وعقولهم). (Conscience) الفرنسية تتضمن (Science)، علم، وعلم بالمعنى الواسع الرحب والمقصود بالعلم هنا ألا أنتظر السوربون أو الأزهر، العلم هو الوعي، منذ بدأت البشرية ترقى من الحيوانية قبل آلاف السنين أخذ يتكون وعي غير حيواني. هذه مسيرة طويلة جداً، وبالمفهوم الهيغلي كذلك. يجب أن نأخذ حذرنا. اتفقنا أنا وأبو هيثم (ياسين الحافظ) مع العروي (عبد الله العروي) واختلفنا معه. العروي قال جملة شهيرة: أصول الماركسية عند الماركسيين، منابع الماركسية عند الماركسيين. كلنا نؤيد هذا، ولكن إيانا أن نفهم أن الفلاسفة أعداء بعضهم لبعض، الواقع ليس كذلك. يجب أن نمسك بالقواسم المشتركة بين جميع الفلاسفة. إن لهم موّالهم فوق إدراك عامة الناس. وعندما تقول إن المتصوفة والباطنيين لهم موالهم الأعلى من إدراك عامة الناس أقول مرحى لهم، أنا معهم، وهذا ليس احتقاراً لعامة الناس وليس سراً باطنياً. يعجبني من الباطنيين واحد في أوروبا قال: الحقيقة لا تخفي نفسها، الحقيقة تقف في الساحة وتقول للجمهور هذه أنا. الحقيقة ليست قلعة شامخة ومحصنة كي نرتفع إلى مستواها، ولكن علينا أن لا نخفّضها. كل الباطنية التي تعني التقية كذب ونفاق.
- (7) قسمة الفلاسفة إلى ماديين ومثاليين لا تجوز إلا في المسألة الفلسفية الأولى، مسألة أيهما أولاً المادة أو الوعي، المادة أم الروح والفكر.. التعارض بين المادوي والمثالي في هذه المسألة فقط تعارض مطلق، كما يقول ماركس، أما في ما عدا ذلك فالتعارض نسبي والقسمة زائفة أو أيديولوجية ما أن تتجاوز هذه القسمة المسألة الفلسفية الأولى أو تتعداها. وما أن نتعدى هذه المسألة حتى نغدو أمام المسألة الفلسفية الكبرى المشتركة بين هؤلاء وأولئك أعني مسألة العلاقة بين الذات والموضوع، بين الفكر والواقع، بين الإنسان والعالم. في هذه المسألة تتعدد زوايا النظر وتختلف الرؤى والأفكار وكلها مشروعة ومسوغة عقلياً، وهذان التعدد والاختلاف هما مصدر الغنى والتنوع في الفكر البشري وفي العمل البشري. ↑
- (8) لعله يريد هنا أن الإرادوية المقترنة بالنظر إلى المجتمع على أنه “مادة” وموضوع للإرادة الثورية هي نقيض الواقعية. لا سيما أن الإرادوية تستند إلى مرجعية أيديولوجية تحمل غالباً تصوراً وهمياً وإيهامياً عن الواقع يسوغ سياسات السلطة وأفعال القادة وأعمالهم، وتحمل على الانطلاق من الهدف إلى الواقع، من دون مساءلة الذات ونقد الهدف. لا شك أن عملية تحويل العالم هدف مسوغ أخلاقياً، ولكن، في أي اتجاه؟ في اتجاه دكتاتورية الحزب وإقامة دولة الامتيازات والفساد، أم في اتجاه جعل العالم إنسانياً. كان ماركس يتحدث عن نهاية الفلسفة بجعل العالم فلسفياً أي بجعل قيم الخير والحق والجمال التي حملتها الفلسفة واقعاً محققاً. وكان يتحدث كذلك عن نهاية الدين بجعل القيم التي حملها الدين كالمحبة والرحمة والإخاء والعدل ⇐ ⇐والمساواة.. واقعاً فعلياً، أي بدحض أوهام الواقع وجعله لا يحتاج إلى أوهام. فقط حين يتحرر الإنسان ذاتياً وموضوعياً لا يعود في حاجة إلى أوهام، لا يعود في حاجة إلى خلاص وهمي. ↑
- (9) في العربية، وغيرها من اللغات، تتعدد الصفات للموصوف الواحد. فالوصف أو النعت تعيين، حد وفرق. وكل تعيين هو نفي. والشيء المعيَّن هو الذي اكتملت تعييناته (صفاته ونعوته) وحدوده التي تميزه من غيره وتربطه به وفق مبدأ المجموعات. فحين أصف طاولتي بأنها مستطيلة أنفي عنها التربيع والتدوير، وحين أصفها بأنها خشبية أميزها من الطاولات المعدنية أو البلاستيكية، وحين أصفها بأنها مصنوعة من خشب السنديان أميزها من الطاولات المصنوعة من أنواع الخشب الأخرى، إلى آخر ما هنالك من الصفات والتعيينات. وفي⇐ ⇐ العربية، وغيرها، تتعدد الأحوال، ويتعدد خبر المبتدأ، ولذلك صلة وثيقة بالمنطق منطق الواقع مجموعة الطاولات الخشبية عامة، وإلى مجموعة الطاولات المصنوعة من خشب السنديان عامة..إلخ. إذ كل واحدة من صفاتها تربطها بجميع العناصر الأخرى المشابهة والمماثلة، فالاختلاف قائم في التشابه والتماثل لا ينفك عنهما ولا يقوم من دونهما. وقل مثل ذلك في كل شيء وفي كل فرد. وربما الأهم من ذلك كله أن الموصوف لا يستنفد في الصفة. هذه بداية المعرفة. ↑
- (10) بما أن هذه الأحاديث اعتمدت على الذاكرة فقط، فإن الأطروحة الأولى حول فيورباخ تقول: إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها، بما فيها مادية فيورباخ، هي أن الشيء (Gegnestand)، الواقع، الحساسية لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع (Objekt) أو بشكل تأمل (Anschavung) لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة النظر الذاتية، ونجم عن ذلك أن الجانب العملي، بخلاف المادية، إنما طورته المثالية لكن فقط⇐ ⇐ بشكل تجريدي، لأن المثالية لا تعرف، بطبيعة الحال، النشاط الواقعي الحسي كما هو. وفيورباخ يريد الموضوعات الحسية التي تتميز في الحقيقة عن الموضوعات الفكرية، ولكنه لا ينظر إلى النشاط الإنساني نفسه بوصفه نشاطاً واقعياً (Gegenstandliche). ولهذا لم يعتبر في كتابه “جوهر المسيحية” شيئاً إنسانياً حقاً إلا النشاط النظري، في حين أنه لم ينظر إلى النشاط العملي ولم يحدده إلا من حيث شكله التجاري الوسخ، ولهذا لا يدرك أهمية النشاط “الثوري” النقدي العملي. (إنجلز ـ لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكيةالألمانية ـ دار التقدم ـ موسكو ص66). ولا يخفى على القارئ أن الترجمة إلى العربية ملتبسة هنا أيضاً، لكن الشاهد في هذه الأطروحة أن النشاط الإنساني النشاط الفكري هو نشاط واقعي. ↑
- (11) تقول الأطروحة العاشرة حول فيورباخ: إن وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع “المدني”؛ ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع الإنساني، أو الإنسانية التي تتسم بطابع اجتماعي. (المصدر السابق نفسه ص69). ↑
- (12) أجل في الخطاب العربي السياسي والثقافي على السواء تسمع دائماً نحن العرب فعلنا كذا وكذا في الماضي أو نحن العرب نريد كذا وكذا اليوم. أولاً ليس هناك “نحن” من دون أنا⇐ ⇐ والأنا أبدأ لأنها تحيل على الواقع العياني واقع التعدد والاختلاف والتعارض. ثانياً عرب اليوم ليسوا عرب الأمس، عرب اليوم لم يفتحوا الهند والسند والأندلس.. لم يبنوا امبراطورية مترامية الأطراف. عرب اليوم عربان يتخبطون في ليل التأخر والهزيمة. وعرب اليوم ليسوا كذلك الذين أطلقوا محاولة النهضة الأولى، بل هم أولادهم وأحفادهم. قلما يتحدث الخطاب العربي عن عرب اليوم بل يتحدث عن أمة عربية ومجتمع عربي بالمفرد ولا يقبل المتحدث أن تكون الأمة والمجتمع على نحو مختلف عن الصورة التي في ذهنه عنهما. ↑
- (13) أفلاطون وماركس والنجار والحرفي والزارع والصانع أخوة في الفكر. لعل هذه الأخوة في الفكر، لعل هذا الاشتراك في الفكر يمت بصلة للديمقراطية، إن لم أقل إنه جذرها المعرفي. الإنسان خطّاء والفكر ليس منزهاً ولا معصوماً. البشر متماثلون في الفكر، وفي⇐ ⇐قابلية الخطأ والصواب، ذلكم هو الأساس المعرفي للديمقراطية باعتقادي.. الاعتراف بإمكانية خطأ الذات هو الضمانة الأساسية لقبول الآخر والاعتراف بحقه في الكلام وباحتمال أن يكون محقاً في رأيه. يبدو لي أن إعلاء شأن الفكر وإقامة الحد على “اليقين العلمي” وعلى “النظرية العلمية” (ما أكثر الذين يعرفون الماركسية بأنها نظرية علمية) وعلى معصومية العلم هو إعلاء لشأن الإنسان وحرية الفرد وتوكيد العلاقة بين الفكر والعمل، بين الفكر والواقع، بين الوعي والوجود. فالعمل البشري فكر متحقق بالفعل وفكره عمل موجود بالقوة لا يتحقق بالفعل إلا بتضافره مع قوة العمل ومادته وأدواته وغايته التي هي تلبية حاجة بشرية اجتماعية. واعتراف بعدم وجود حقيقة ناجزة ونهائية، ونزع لطابع العصمة والقداسة عن الأفكار والنظريات والأيديولوجيات والقادة والأحزاب..إلخ وإعلاء شأن الفكر إعلاء لشأن الإبداع واعتراف بأنه أي الإبداع قسمة مشتركة بين البشر. فكل عامل في حقل من الحقول أو ميدان من الميادين يتوفر على إمكانية الإبداع أو ملكة الإبداع والأسرة والمجتمع والدولة هي التي ترعى هذه الملكات وتتعهدها بالتربية بشرط أن تعترف الأسرة والمجتمع والدولة بحرية الفكر وقيمة الإبداع وذلك بأن تعترف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بقيمة الفرد وحريته وبحقوق الأفراد المتساوية بغض النظر عن الفروق كائنة ما كانت. وأن تعترف بأن الأعراف والقونين والتشريعات والشرائع توجد من أجل الإنسان ولا يوجد الإنسان من أجلها. ثم إن أخوة ماركس وأفلاطون والنجار والحرفي.. تعني أن كلاً منهم يقوم بعمل ضروري للآخرين، بوظيفة اجتماعية ضرورية. إن ذلك التماثل يؤسس هذا الاختلاف. ↑
ترتيب مواد كتاب (حوار العمر)
-
مقدمة كتاب حوار العمر
-
الثنائيات الفلسفية
-
المادية والفلسفة المادية
-
مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي
-
الإيمان والإيمان الديني، أو الإيمان الحسي والإيمان العقلي
-
المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق
-
المادية والمثالية
-
الاستلاب والاغتراب
-
الانحطاط. النهضة. عبد الناصر والناصرية
-
الحرية هي وعي الضرورة والاختيار
-
قاموس دلالي – تاريخي
-
سمو الدولة