تحاول هذه المقاربة إعادة التفكير في البنى والعلاقات الاجتماعية والسياسية، والممارسات القائمة بالفعل، وما تولده من ممكنات، أي في ما يقوله الناس ويقومون به، وما يخضعون له ويواجهونه، وما يستبد بهم وما يرغبون فيه، وما يسبغونه على أعمالهم من معان وقيم. فمن المهم البحث في مواقع الأفراد ومنظوراتهم ومراتبهم، وشروط حياتهم، وعلاقاتهم المتبادلة، وما تنطوي عليه من الرغبة والمنفعة ومن إرادة المعرفة وإرادة القوة وإرادة السلطة، (وكذلك مواقع الجماعات، التقليدية والمحدثة، وعلاقاتها المتبادلة، بما هي “أفراد” المجتمع الكلي، أي المجتمع الكبير). وتحاول، من ثم، تقصي الحدث، في فرادته وندرته وصيغته التصادفية، وفي ماديته وأشكال التعبير عنه، بما هو نتاج عدد معروف ومفترض من العوامل، وعدد آخر غير معروف، وعدد معروف ومفترض من الفاعلات والفاعلين وعدد آخر غير معروف، ومن البديهي أن غير المعروف يؤكد محدودية المعروف وينفي يقينيته. المهم هو مساءلة الوقائع والتحولات التاريخية الجارية، بما هي محصلة غير نهائية للعلاقات المتبادلة بين الأفراد، وبين جماعات تنفرد كل منها بما تعده تعبيراً عن خصوصيتها وهويتها.
الظاهرة التي لا يخطئها النظر، اليوم، هي انقسام السوريين قسمين متقابلين: السلطة ومن يوالونها، من مختلف الفئات الاجتماعية، والمعارضة ومن يوالونها، من مختلف الفئات الاجتماعية، على اختلاف في النسب. تتدرج أشكال الموالاة والمعارضة من المشاركة في الأعمال القتالية الجارية والجرائم التي ترتكب وأعمال الثأر والانتقام وتبريرها وتسويغها .. إلى السجالات الكلامية والخصومات الشخصية، وتبادل التهم، إلى الانحياز الصامت خوفاً أو حرجاً أو اتقاء. ولا يخلو أن تمر خطوط الفصل بين “المعسكرين” في الأسر والعائلات، علاوة على العشائر والجماعات الإثنية والمذهبية. لذلك رأينا أن انقساماً بهذا العمق يصعب تفسيره، إلا بتشكل مجتمعين متخارجين تخارجاً مؤسساً في تخارج المجتمع و”الدولة” من جهة وتخارج الحرية والسلطة من جهة أخرى، ومعوقات الانتقال من الرعوية إلى المواطنة، في النتيجة. بل لعله مؤسس في تشظي الذات الفردية والجمعية، المبتورة أساساً، أو الذكورية.
يطلق الباحث اسم المجتمع الحكومي على المجتمع الموازي للمجتمع الأهلي أو التقليدي، المعروف في البحوث الاجتماعية ببنيته البطركية، بتعبير هشام شرابي، وبأنه يقوم على علاقات القرابة والنسب والموالاة والانتساب والتكافل والتناصر المحدودين بحدود الجماعات المتحاجزة، وتحالفاتها المتغيرة، وتراتب قيمي (هيرارشي) يتدرج من الأدنى إلى الأعلى أو العكس، وفق رؤية كوسمولوجية للكون ضاربة في القدم، ولكل درجة قيمة في ذاتها، لا تتعلق بالدور والوظيفة ومدى الإسهام في حياة المجتمع المادية والروحية وفي رأس المال الاجتماعي. ويتجنب البحث مصطلح مجتمع الدولة أو المجتمع المدولن، لأن الدولة عندنا مُستغرَقة في السلطة، لا العكس، ولهذه الأخيرة طابع شخصي خالص ومركزي صارم. والحالة السورية شاهد عياني على أن السلطة يمكن أن تصنع الأفراد الذين يفترض أنهم يصنعونها، ويمكن أن تنسق بنى المجتمع بما يعمق سيطرتها ويديمها. وكلمة الحكومة، في النص، والنسبة إليها: الحكومي، تتعدى دلالتُها المعنى التقني (الوزارة)، فتدل على شكل خاص من أشكال “الدولة” أو شكل خاص من أشكال الحكم، مختلف عن نموذج الدولة الحديثة، ونظام خاص مختلف عن النظم السياسية المعاصرة، على الرغم من بعض وجوه الشبه التي توحي بها المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمنظمات الشعبية بصفتها أدوات السلطة لاختراق بنى المجتمع والسيطرة على مختلف مجالات النشاط الاجتماعي. فالنظام، من هذه الزاوية، يبدي وجوهاً مختلفة ومتناقضة: ديمقراطية ليبرالية، وديمقراطية شعبية، ودكتاتورية، واستبدادية محدثة أو سلطانية محدثة أو تسلطية، لا يستنفد في أي منها. ولم يكن ممكناً أن يكون النظام على هذا النحو من التركيب لو لم يكن المجتمع كذلك. فالنظام، في نهاية المطاف، هو طريقة الأفراد والجماعات في تنظيم حياتهم العامة أو النوعية. ولكن لأي نظام قدرة ما على التكيف مع الوقائع المستجدة، وعلى إعادة إنتاج ذاته، ما لم تكن نسبة القوى الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية كافية لتعديله أو تغييره.
قسمة المجتمع مجتمعين: مجتمع حكومي ومجتمع تقليدي، يمكن أن تكون ساذجة ومضللة إذا لم تُبنَ على آليات الاصطفاء والتهميش في كل منهما، ليظهر من تحت الانقسام العمودي أو من خلفه انقسام آخر، أفقي، يعين صفتين سياسيتين متناقضتنين: مجتمع متسيد ومجتمع خاضع، وثقافتين: ثقافة متسيدة وثقافة خاضعة، وأخلاقيتين: مجتمع ظالم ومجتمع مظلوم، واقتصاديتين: مجتمع غني وميسور ومجتمع فقير، بلغ فقر فئات واسعه منه حد الجوع. والمجتمعان إلى ذلك متنثِّران داخلياً تنثُّراً يحمل إمكانات انفجارهما معاً، وقد بدأت ترتسم الملامح الأولية لإمكانية الانفجار. والسؤال اليوم هو عن نوع الروابط التي لا تزال تعوق الانفجار أو تؤجله، وهي روابط واهية على كل حال. نفترض أن ثمة نوعين فقط من هذه الروابط: النوع الأول ثقافي، والثاني مادي، وكلاهما نفعيان، بالمعنى الأناني، اللااجتماعي واللاإنساني للمنفعة، بحيث تغدو الثقافة والمنفعة المادية متعادلتين في القيمة، وتتبادلان المواقع، وتغذي كل منها الأخرى وتتغذى منها. ما يحيل على أوضاع أقرب إلى الغريزة أو “حالة الطبيعة”، التي وصفها هوبز، منها إلى الاجتماع الإنساني. من المرجح أن الحالة الطبيعية وما أنتجته من أوهام ورؤى أسطورية لا تزال ثاوية في خافية الأفراد والجماعات في صيغة لا وعي جمعي. وأن “طريقة التفكير البدائية والقياسية القديمة، التي لا تزال حية …، هي التي تبعث لنا الصور السلفية القديمة. ليس الأمر أبداً تمثيلات موروثة، ولكنه بنى ولادية تستقطب المسار الذهني في بعض الاتجاهات. وإننا لمجبرون في ضوء وقائع كهذه أن نفترض ونقبل بأن اللاوعي لا يحتفظ بمواد شخصية فقط، بل بعوامل لا شخصية أيضاً، هي عوامل جماعية على شكل مجموعات موروثة ونماذج بدئية. .. إن اللاوعي يحتوي، في طبقاته العميقة، مواد جماعية حية وفاعلة نسبياً[2]“
مما يجعل الصورة أكثر تعقيداً تداخل المجتمعين من جوانب محددة: ثقافية ومادية، وتخارجهما من جوانب أخرى: سياسية وأخلاقية، بحيث يبدو الوضع مواراً وملتبساً، بحكم حركة التجاذب والتنابذ التي لا تفتر، والتي تعيد تعيين مواقع الأفراد والجماعات في كل منهما. وتبدو لنا هذه الحركة أسرع وأكثر قسوة ووحشية، في ظل الأزمة الراهنة، مما تكون عليه عادة في ظروف الاستقرار النسبي. هذان التداخل والتخارج، في المشهد الكلي، يخفيان واقعة أكثر تعقيداً هي تعدد الهويات والعصبيات، الذي يعبر عنه “تعدد الثقافات الأحادية” (سن، 2009، ص 158)[3]، والذي يوصف تدليساً بأنه “تعددية ثقافية”، وعنوان للتسامح والعيش المشترك، لا تشبهه سوى “التعددية السياسية”، أو الحزبية، التي تجسدها الجبهة الوطنية التقدمية، التي يقودها حزب البعث العربي الاشتراكي.
وإذ لا يعدم أي باحث وجود صفات مشتركة مع بعض الدول والأنظمة، أو مع بعض المجتمعات، فإن البناء على وجوه الشبه يؤدي دوماً إلى تفويت الأوضاع الخاصة وفرادتها، وإخفائها في ظلال نموذج صوري، على أنها استثناء. والاستثناء لا يؤكد القاعدة، كما هو شائع، بل ينقضها جزئياً أو كلياً، وهو الواقع الفعلي على طرفي أي نموذج صوري أو تصوري، يغلب أن يكون كمياً أو إحصائياً، أو مؤسساً على رؤية كمية يمكن أن تكون خادعة.
فلا يكفي وصف المجتمع السوري (قبل انفجاره) من خلال تحسن الخدمات الصحية والتعليمية والسكن والاتصالات والمواصلات، أو من خلال المؤشرات الاقتصادية أو السكانية أو المشاركة السياسية … إلخ، وهي حقائق عينية قابلة للقياس والتكميم، من دون البحث في القيمة التي أضافها هذا التحسن والتطور إلى رأس المال الاجتماعي والرمزي، وكيف انعكست على حالة الإنسان السوري، من حيث التمكن الكياني للأفراد نساء ورجالاً، ومدى تمتعهم بالحقوق المدنية والسياسية، ومدى العدالة في توزيع الثروة والسلطة والمعرفة والثقافة، ومدى التغير في العلاقات الاجتماعية والسياسية .. ومدى إسهام هذا التحسن في حل المشكلات الاجتماعية السياسية المزمنة، كالتحاجز الاجتماعي والتوترات التي تولدها العلاقات المتبادلة بين الجماعات الإثنية والمذهبية، أي مدى إسهامها في الاندماج الاجتماعي وإنتاج فضاء عام مشترك بين جميع أفراد المجتمع وفئاته على قدم المساواة، واستيلاد المواطِنة الحرة والمواطن الحر بدلاً من الرعية التابع والتابعة والخاضع والخاضعة.
أجل، ثمة علاقة ارتباط بين تحسن الخدمات الصحية وبين زيادة عدد السكان، وثمة علاقة ارتباط بين التوسع الأفقي في التعليم وبين التنمية البشرية والاقتصادية، وثمة علاقة بين التوسع في الإنشاء والتعمير وتحسن شروط السكن والمواصلات والاتصالات وبين تغير نمط الحياة .. ولكن الخطأ والوهم في قراءة هذه المؤشرات ينبعان من إضفاء قيم مطلقة عليها من جهة، ومن إهمال طابعها القطاعي من جهة ثانية، ومن افتقارها إلى الحدود الدنيا من العدالة في توزيع الموارد المادية والثقافية بين الفئات الاجتماعية والمناطق أو المحافظات من جهة ثالثة، ومن إغفال طبيعة الفئات المستفيدة منها بصورة أساسية، وغض النظر عن تدني نوعيتها وطبيعة المؤسسات التي تقوم بإنتاجها و / أو توزيعها أخيراً. هذه الأخطاء أو الأوهام أنتجت لدى الكثيرين منا وهم “التقدم” و”المكتسبات الشعبية”، ناهيك عن وهم الحداثة والعلمانية وما شئت من أوهام. نفترض، في هذا السياق أن ما نسميه المجتمع الحكومي هو المستفيد الأساسي منها، من دون أن ننفي استفادة المهمشين النسبية. ونرى، إلى ذلك، أنها من العوامل الأساسية لتشكل المجتمع الحكومي.
انقسام المجتمع مجتمعين ليس طارئاً ولا سطحياً، بل نتيجة موضوعية لعلاقة التخارج بين المجتمع والدولة، واحتكار السلطة، وعمليات الاصطفاء والتهميش في كل منها، ما يدفع إلى القول إن المؤسسات الحكومية عامة والمؤسسات الثقافية خاصة ليست مؤسسات الدولة فقط، بل هي مؤسسات للدولة، التي غدت هي ذاتها مجتمع المحظوظين وأشباه المحظوظين، في ظل الاندماج الحاصل بين بوادر المجتمع المدني والمجتمع السياسي، واتساع دوائر الأميين والملمين والفقراء والمهمشين من سكان المدن والحواضر والأرياف، الذين باتوا خارج الحياة الثقافية، وفقاً لتعريف الثقافة بصفتها منظومة الأفكار والتصورات والمعتقدات والقيم والعلوم والآداب والفنون، التي تعمل المؤسسات الثقافية، الحكومية وغير الحكومية، على إنتاجها وإعادة إنتاجها و / أو توزيعها، بأشكالها المادية وغير المادية، وفقاً لرؤية كل منها والأهداف التي تنشدها والوسائل التي تتوسلها والأساليب التي تنتهجها. وتتمحور هذه المنظومة حول الذات والتراث واللغة والتاريخ والمنهج والتعبير، منظوراً إليها إما بدلالة الماضي وإما في أفق العصر.. يمكن تبين هذه النتيجة من دراسة المستفيدين بالفعل من الموارد والمنتجات الثقافية ومواقعهم الاجتماعية وأعدادهم ومستوى تعليمهم ونسبتهم إلى عدد السكان.
نعتقد أن أي دراسة لهذا الجانب ستكون نتائجها مخيبة للآمال، ولا سيما أن 77,9% من السكان ممن هم فوق الخامسة عشرة، سويتهم التعليمية لا تتعدى الشهادة الإعدادية، حسب إحصاء 2010 [4]. إذا أضفنا إليهم نسبة الحاصلات والحاصلين على شهادة ثانوية فقط، أي 12,6%، (بحكم تدني مستوى التعليم ونوعيته)، تغدو نسبة الأميين والملمين وأشباه المتعلمين 90,5% فلمن تؤسَّس المؤسسات ولمن تشاد الصروح الثقافية؟ هذا يعني أن الرؤية الثقافية للسلطة، كرؤيتها السياسية، كانت ولا تزال مجافية لمبدأ العدالة ومبدأ المواطنة، الذي يتضمن الحرية والمساواة والمشاركة.
في ضوء الظاهرة المشار إليها، تقوم هذه المقاربة على افتراض وجود مجتمعين متمايزين ومتناقضين، أحدهما كان يعيش في الظل وينمو بفعل قوانينه الخاصة. هذا المجتمع الذي كان يعيش في الظل لا هو المجتمع الأهلي التقليدي بتمامه، ولا هو المجتمع المدني، ولا المجتمع الحكومي[5]، الذي تحاول هذه المقاربة تعيين حدوده واستشفاف خصائصه، بل هو شكل خاص من أشكال الحياة الاجتماعية فائق التركيب والتعقيد أنتجه تاريخ سورية بعد الحرب العالمية الثانية، وازداد تعمقاً منذ ستينات القرن الماضي، مع التحول التدريجي للنظام السياسي إلى نظام تسلطي[6]. ما يعني أن هذا الانقسام الذي نفترضه يضيف تعقيدات جديدة إلى بنية المجتمع السوري الفائق التعقيد والتركيب، ولا يستنفده وصفاً وتحليلاً. فكل وصف هو تحديد وتقليص قد يؤدي إلى اختزال وتنميط، ولا سيما أن المجتمع السوري مجتمع فتي يتسم بحيوية وديناميكية كانتا في أساس التحولات البنيانية، التي شهدها منذ الاستقلال حتى يومنا، ومجاله السياسي حديث النشأة شهد هو الآخر تحولات عميقة، يمكن استجلاؤها من تحليل “الأزمة” الراهنة رجوعاً.
إن ما نصفه بمجتمع الظل هو المجتمع المنبوذ من الفضاء العام، سواء بصفته فضاء تسيطر عليه السلطة، أو بصفته فضاء ذكورياً، أو بصفته فضاء إثنياً ذا بعد إسلامي، حسب نص الدستور على أفضلية الشريعة الإسلامية حين عدّها مصدراً رئيسيا للتشريع إضافة إلى دين رئيس الدولة الإسلام ، وأفراده، على العموم، مجردات ومجردون من مقومات القوة الكيانية. فقد أدى نظام الامتيازات والزبانة السياسية والتبادلية الاجتماعية إلى حضور ما لرموز المجتمع الأهلي التقليدي وأعيانه في الفضاء العام، ولكنه حضور مقيد ومضبوط، كان يخدم في توسيع قاعدة السلطة، وفق آلية الاحتواء والتهميش، وتحويل البنى التقليدية إلى بنى موازية لبنى السلطة. يتجلى هذا الحضور في تعيين القيادات الحزبية والنقابية وقيادات المنظمات الشعبية وتشكيل الوزارات وآليات الترشيح للمجالس المحلية ومجلس الشعب وغيرها.
وإلى ذلك، نفترض أن الثورة السلمية (الشابة)، التي أُجهضت، والحرب الدائرة اليوم ظاهرتان مختلفتان؛ الأولى تعبر عن إرادة الحرية، والثانية تعبر عن إرادة السلطة والصراع عليها، لذلك يصعب الجزم بتحول الأولى إلى الثانية، إذ كانت العوامل المختلفة والمتعالقة لكل من الظاهرتين المستقلتين والمتعالقتين، تعتمل تحت سطح الواقع. فالإشكالية، في أعمق مستوياتها هي إشكالية العلاقة بين إرادة الحرية وإرادة السلطة. والإرادتان كلتاهما من خصائص الإنسان، أياً كان موقعه الاجتماعي أو السياسي، وأياً كان مستوى وعيه وثقافته. الفرق بين إرادة الحرية وإرادة السلطة أو بين الثورة السلمية والحرب، على ما بينهما من التباس وتداخل، يعزز فرضية الانقسام الشاقولي بين مجتمعين، موضوع هذه المقاربة، ويطرح إمكانية رؤية جديدة للثورة السلمية، ويكشف عن آليات تشكل الثورة المضادة وشروط إمكانها. ولا مراء في أن إرادة الحرية أججت إرادة السلطة لدى المجتمعين كليهما، وإرادة السلطة، في أوضاعنا، هي إرادة الحرب، ما دامت السلطة لم تؤخذ إلا بالقوة العسكرية، منذ الاستقلال حتى يومنا، باستثناء تجربة ما بين عامي 1954 – 1958.
أولاد الحكومة
نالت سوريا استقلالها عام1946 ، وغدت “دولة” أو كياناً سياسياً، يشبه الدولة، من بعض الوجوه، قبل أن يتشكل السوريون أمة وشعباً؛ أو مجتمعاً مدنياً، يتوفر على قوة ذاتية تمكنه من إنتاج نفسه مجتمعاً سياسياً حديثاً[7]. فاختلط مفهوم الدولة بمفهوم السلطة أو الحكومة، ومفهوم السيادة بمفهوم السياسة، وغدت “الحكومة”، التي ورثت الإدارة الاستعمارية أو “الدولة الكولونيالية”، عَلَمَاً على السيادة الوطنية، والسلطة السياسية، والإدارة المدنية، ونواة لمجتمع جديد موازٍ للمجتمع التقليدي (بالمفرد والجمع). آية ذلك أن الناس كانوا يسمون من يعمل في أي دائرة أو مؤسسة من دوائر “الدولة” الناشئة ومؤسساتها “ابن حكومة”، وهو تعبير عن مكانة مرموقة يتبوؤها من واتاه الحظ بعضوية هذا المجتمع الناشئ والمحظوظ، ولو كان شاباً فقيراً غراً سيق إلى الخدمة الإلزامية في الجيش، وتطوع في صفوفه، أو في قوى الأمن الداخلي. هذه المكانة، التي تملأ صاحبها بشعور من الزهو بالنفس، وتمنحه قوة ونفوذاً تتناسبان وموقعه في المجتمع الجديد، تجاور، ولو عن بعد، مكانة الوجيه التقليدي، وتطاولها. فأضحى الوجيه التقليدي مضطراً أن يعزز وجاهته ونفوذه بعلاقة ما بأحد أجهزة السلطة الحكومية أو أشخاصها، بدءاً من رئيس مخفر أو مدير ناحية أو منطقة أو محافظ أو وزير أو ضابط في الجيش أو المخابرات .. وكان المعلم والمدرس وأستاذ الجامعة يمثل الوجه الثقافي لابن الحكومة، الذي سينافس الشيخ أو رجل الدين، مثلما سيتنافس المثقف والفقيه، ويتبادلان الأدوار. وكان العامة يطلقون على المعلم اسم “الخطيب” أو “الشيخ” إشارة إلى أن العلم والتعليم كانا مقصورين على المؤسسة الدينية، وأن للقراءة والكتابة بعداً سحرياً ومقدساً في “مجتمعات الكتاب”[8] حسب تعبير محمد أركون.
وكان لانضواء الأفراد في المؤسسات والوظائف الحكومية عدة معان من أبرزها: 1 – الانتقال من الوسط التقليدي أو البيئة التقليدية الراكدة المحكومة بالعرف والعادة إلى بيئة جديدة تنظمها قوانين وضعية وثقافة قانونية وخبرة إدارية، وانتقال الريفيين من هؤلاء إلى الحواضر الزراعية والمدن. 2 – حيازة كل واحد من هؤلاء سلطة مادية ومعنوية تتناسب وموقعه في المؤسسة أو الإدارة المدنية أو العسكرية والأمنية. 3 – تغير نمط الحياة وتحسن سويتها. 4 – نشوء علاقات داخلية جديدة، أفقية وعمودية، ستشكل بمرور الوقت قوام المجتمع الجديد، وتحدد علاقاته بالمجتمع التقليدي. 5 – الراحة التي توفرها الأعمال المكتبية، وتقلقها إرادة السلطة وهواجس الارتقاء، باستثناء المؤسستين العسكرية والأمنية، اللتين تعملان على تحفيز إرادة القوة وتوجيهها. 6 – الامتثال لمنطق التسلسل الوظيفي والتراتب الإداري، المقرون بالطموح. ويمكن القول إن إرادة السلطة وإرادة القوة خاصيتان أساسيتان للمجتمع الجديد، تتكاملان وتتبادلان المواقع، وتتغلبان على إرادة الحرية، وسيكون لاتحادهما أثر عميق في تحديد معنى السياسة ومعنى السلطة وإستراتيجياتها وآليات عملها، وقد يفسر الانقسام الحاصل اليوم.
من طبيعة السلطة أنها تميل دوماً إلى التوسع والشمول والسيطرة على الفضاء الاجتماعي برمته، إذا لم تواجه مقاومة من المجتمع المدني، الذي يميل بطبيعته إلى الحرية والاستقلال، ويتحلى أفراده بالشعور بالمسؤولية الملازمة للحرية. أما في البلدان المتأخرة والتي عاشت تجربة الاستعمار الحديث و”تحررت” من سيطرته المباشرة، فإن توسُّع السلطة لا يواجه مقاومة تذكر، إما بسبب الاستجابة السلبية لخطابها “الوطني” و”التحرري”، وإما بسبب الطموح إلى الارتقاء الاجتماعي، من طريق الالتحاق بها والاندماج في عالمها، وإما بسبب العزوف واللامبالاة المعززين بالفقر والجهل والأمية، علاوة على رهبة السلطة والخوف المزمن من بطشها، وهذه كلها تعبر عن ضعف أو فتور في إرادة الحرية، التي استنفدت في مقولة “التحرر من الاستعمار”. وهو ضعف تمتد جذوره إلى نسيان الذات الفردية، أي إلى “الغيرية الجذرية”، التي تعني ذوبان الأفراد في البنى والتشكيلات ما قبل الوطنية، وضعف، إن لم نقل عدم الشعور بالمسؤولية .. فلم تلبث السلطة إلا قليلاً حتى اخترقت الفضاءات الاجتماعية الخاصة، ثم سيطرت عليها سيطرة تامة، من دون أن تكون فضاء عاماً، ولا سيما بعد استيلاء العسكر على السلطة عام 1963، وانطلاق سيرورة توسُّع المجتمع الموازي، تبعاً لتوسُّع أجهزة السلطة وتوسُّع نفوذها وتعدد أدوات سيطرتها. ولم يقتصر دور العسكر في السلطة على مرحلة البعث بل سبقت ذلك محاولات باكرة لاختراق الفضاء العام منذ الانقلابات العسكرية الأولى ابتداءً من 1949 وخاصة تجربة الشيشكلي وتحويله البلاد إلى النظام الرئاسي وفرض التنظيم السياسي الواحد. دون إغفال مرحلة “الجمهورية العربية المتحدة” ونظامها البوليسي والشمولي التي شهدت تضخّماً هائلاً في الجسم البيروقراطي والأمني للدولة/ المجتمع الموازي، ما أسفر عن عدة نتائج حاسمة من أهمها:
1 – تهميش المجتمعات المحلية، التقليدية، وانكفاؤها، واكتفاؤها بإنتاج معاشها الكفافي، وفقاً لتطور الحاجات، واجترار موروثها الثقافي، على أنه قوام هويتها، والسور الذي يحميها.
2 – انقلاب الأدوار والوظائف الاجتماعية، بصيرورة الأبناء آباء رمزيين لآبائهم، والمجتمع الحكومي الناشئ أباً رمزياً للمجتمع التقليدي؛ ما أنتج تنازعاً خفياً على السلطة الاجتماعية والسياسية والثقافية بين مجتمع بازغ وآخر مهدد بالتهميش والإهمال، ولن يكون سوى مادة مطاوعة وموضوع هامد لسلطة الأول، وقد غدا متغولاً فائق القدرة. وقد عبر بعضهم عن ذلك بمقولة “صراع الأجيال”، التي راجت في خمسينات القرن الماضي.
3 – اندماج جنين المجتمع المدني الناشئ، (مجتمع الأعمال الخاصة)، بحكم نوع من تطور رأسمالي هامشي ومبتور، بجنين المجتمع السياسي الناشئ، (الوظائف العامة)، بحيث تختفي الفروق بينهما، وتتغير خصائصهما معاً، ولا سيما بعد عمليات التأميم أو المصادرة، إذ غدا (المسؤولون غير المسؤولين إلا أمام رأس السلطة) رجال أعمال ومتعهدين ومقاولين وسماسرة، أو شركاء لهؤلاء، ورجال الأعمال والمتعهدون والمقاولون والسماسرة ذوي سلطة وأهل حل وعقد، إما بحكم المصاهرات والشراكات، وإما بحكم الرشاوى والهدايا والتقدمات، علاوة على صيرورة السلطة مصدراً للثروة والقوة والجاه. ومن البديهي أن تتولد من ذلك فنون من الفساد تتنامى، وتتنامى أكلافها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية باطراد.
4 – تجسُّد مبدأ القوة والغلبة، الذي تقوم عليه السلطة الاجتماعية والسياسية، في مؤسستين: عسكرية وأمنية، متضامنتين، صارتا الأكثر حداثة تقنية والأكثر تنظيماً وانضباطاً من سائر المؤسسات الحكومية، والأكثر نفوذاً في المجتمع الحكومي البازغ، الذي سيعيد تشكيل جنين المجتمع المدني وجنين المجتمع السياسي في بنية تسلطية متمحورة على السلطة الشخصية، أو سلطة الشخص الطبيعي والأشخاص الطبيعيين، بدلاً من سلطة القانون.
5 – إعادة تشكيل الفضاء الرمزي تلفيقياً وتعسفياً، وفق إحداثيات “اشتراكية قومية”، جعلت منه فضاء خاصاً بالمجتمع الموازي ومفروضاً على الجماعات التقليدية بقوة السلطة وأدواتها الإعلامية والثقافية المنسَّقة أمنياً، ما دفع بالثقافة التقليدية لكل منها، أو برأسمالها الرمزي المتراكم تاريخياً، إلى الظل، ليعاد إنتاجه هناك، على أنه الشكل الوحيد المتبقي للدفاع عن الذات الجمعية، إثنية كانت أم مذهبية. ومن البديهي أن يضيق مجال الحرية، الضرورية للمعرفة (الذاتية) المستقلة والفكر الحر، كلما اتسع مجال السلطة. فقد كان “الفكر القومي الاشتراكي” سلطة رمزية وحاجزاً بين مجتمعين في الداخل، وحاجزاً يحول دون التواصل الثقافي مع الخارج معززاً بسور إعلامي أشبه بأسوار السجون، فبتنا إزاء ثقافة سجينة وثقافة هجينة.
فإذ غدت الحرية مخارجة لبنى المجتمع الجديد ومؤسساته، ومخارجة، بالقدر نفسه لبنى المجتمع التقليدي، ومخارجة للسلطة جملةً، كان لا بد أن تنشطر الثقافة شطرين: تقليدي يعيد إنتاج الأصولية، بصفتها منظومة / منظومات إقصاء، وحكومي ينتج منظومته الخاصة تلفيقياً، أو تطفلياً، وينصِّبها حاكمة على سائر المنظومات الفكرية والمرجعيات الثقافية، تحت عنوانات الثورية والتقدمية والالتزام، وحاكمة على المثقفين. إزاء هذه الوضعية، لم يعد أمام المفكرين والأدباء والفنانين، أو المثقفين الأحرار، سوى الهجرة أو العزلة والانكفاء، تجنباً لضغوط المجتمع التقليدي وثقافته من جهة، وضغوط المجتمع الحكومي وثقافته من الجهة المقابلة، تحت طائلة التكفير والتخوين، أو التماس أساليب التعمية والتورية والمراوغة والرمز والإشارة، تحت طائلة المساءلة أو المنع. لذلك يبدو من الصعب الحديث عن “دور المثقف” السوري وأثر الثقافة في المجتمع خارج هذه الحيثية.
6 – توسع ظاهرة التطفُّل الملازمة لعدم الشعور بالمسؤولية. فأولاد الحكومة هم أطفالها غير المنتجين، تتولى إعالتهم، وتقرر أرزاقهم، وفق المراتب التي ينتمون إليها، وتؤدبهم وتكافئ المجدين منهم. ومن البديهي أن يكون فيهم مدللون أنانيون وجشعون، ومتمردون، وفاسدون ومحتالون ومنحرفون، ومتفوقون ومتسلطون .. وأن يكون معظمهم “أولاداً عاقلين” ومطيعين، ولكن الأهم أنهم أطفال اجتماعياً وثقافياً وسياسياً متثبتون في الطفولة، لا يستغنون عن ثديي أمهم (العشيرة والطائفة) وحماية أبيهم (السلطة و”الأب القائد”). وبالجملة يمكن وصف المجتمع الحكومي بأنه متطفل على ثروات البلاد واقتصادها وأموالها وثقافتها، وعديم المسؤولية. ويعبر عن ذلك بأن السلطة غدت مصدراً للثروة والقوة والجاه.
7 – الترهيب الشامل والمستمر، (ويقابلهما بالطبع ترغيب شامل ومستمر)، لا لأفراد المجتمع غير الحكومي وجماعاته فقط، بل لأفراد المجتمع الحكومي نفسه وتنظيماته، على اعتبار هذا المجتمع بنية بطركية جديدة ونظامه نظام سلطاني جديد، يتقاطعان في الخصائص العامة مع المجتمع البطركي القديم، ونظامه السلطاني القديم، من حيث تسييس المتعالي وتأليه السياسي[9]، وتعيين مبادئ الحق والأخلاق وفق مشيئة السياسي المؤلَّه، وتعقُّب المناوئين والمارقين و”الأعداء الموضوعيين”، من الموالين وغير الموالين.
الشمول يعني تدخل السلطة في جميع مجالات الحياة الخاصة والعامة، وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصلحة السلطة وأهدافها. والاستمرار يعني أن السلطة موجودة دوماً، وتولد مقاومة[10] متعددة الأشكال، فلا بد لها أن تزيد قدرتها على الترغيب والترهيب باطراد، فهي لا تطابق نفسها في كل ما كانت عليه قبل حين، مثلها مثل مجتمعها، والمجتمع الذي هو موضوع لتسلطها.
8 – تعميم الخوف: في وضع صار معه “كل مواطن مدان وتحت الطلب”، بتعبير الطيب التيزيني، أيقظ الترهيب الشامل والمستمر غريزة الخوف الطبيعية، لدى الأفراد والجماعات والأحزاب والمنظمات، وعزز محتواها البدائي، أي الخوف من الآخر، المختلف، والغريب، والخوف من الاختلاف، فأعاد الاعتبار للتضامنيات التقليدية والعَصَبَات والعصبيات، على أنها بنى متجانسة وملاجئ وملاذات تدرأ الخوف عن أفرادها أو تهدهده، مع أن هذه التضامنيات كانت قد اختُرقت أيما اختراق، وكان اللجوء إليها أشبه باللجوء إلى وهم، إلى أن خرج بعضها على السلطة المركزية جزئياً أو كلياً، في السنوات السابقة على الثورة. وعلى ذلك يمكن أن نصف المجتمع الحكومي بأنه مجتمع الخوف وثقافته ثقافة الخوف من الاختلاف ومواجهته بجميع الوسائل والأساليب. الخوف من الآخر المختلف، على صعيد السلطة ومجتمعها، هو في واقع الحال خوف من “العدو الموضوعي” المتربص بهما، أي الخوف من الشعب، ومعادله وقناعه الخطابي أو الأيديولوجي هو الإمبريالية والصهيونية. لذلك يوصف كل من ينتقد المجتمع الحكومي وسلطته وسلطانه أو يحتج عليه بأنه عميل للإمبريالية والصهيونية. الخوف من الاختلاف هو خوف من الحرية؛ لأن الاختلاف علة الحرية أو أساسها وشكل ممارستها. لذلك يحرص المجتمع الحكومي على أن يكون متجانساً فكرياً وأيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً، ينقي حقله من “الأعشاب الضارة” بين الحين والحين.
التباسات الهوية
تمنح الحكومة أولادها وبناتها “هوية حكومية” أو سلطوية، يجري استدماجها استيهامياً، على أنها هوية وطنية، بل قومية، كتلك التي تمنحها لمواطنيها دولة حديثة متجادلة مع المجتمع المدني الحديث، وقائمة على مبدأ المواطنة، بثلاثة أركانها: المساواة والحرية والمشاركة. فالكيان السوري، الذي لم يرق إلى مجتمع سياسي، أي إلى دولة وطنية حديثة، لم يبلور هوية وطنية سورية تكتسب مضامينها من الحياة في فضاء عام مشترك بين جميع المواطنات والمواطنين وجميع الفئات الاجتماعية. والهوية القومية العربية، أو الهوية الإسلامية ليست نتاج تسييس العروبة أو تسييس الدين فقط، بل نتاج تحيين طقوسي للحظة تدشينية، هي لحظة انبثاق الأمة العربية أو الإسلامية من الكلمة، فلا تحضر هذه الهوية إلا في الطقوس الدينية، القومية أو الإسلامية. لذلك تمتاز “الهوية الحكومية” من الهويات العائلية والعشائرية والإثنية والمذهبية والجهوية .. التي تقتسم الفضاء الاجتماعي الكلي أو تتنازعه، وتتصل بها من جوانب عدة، في الوقت نفسه، بسب ثبات الروابط الأولية وقوتها، وثبات المرجعيات الثقافية التقليدية وقوتها، على الرغم من تطور أساليب الحياة المادية ووسائلها. فثمة بنية ثقافية تاريخية، تلغى تاريخيتها، بإعادة إنتاجها وتحيينها مرة تلو مرة، تهيمن على الأفراد والجماعات، بصور مختلفة، “هيمنة ناعمة”، بتعبير بورديو[11]، هي امتداد لسيطرة السلطة المباشرة، بحكم العلاقة الجدلية بين الثقافة والسلطة أو بين المعرفة والسلطة. فما من سلطة تتمكن من السيطرة المادية المباشرة على أجساد المحكومين من دون الهيمنة على عقولهم وضمائرهم. كأن السلطة تنفي بالفعل ثنوية الجسد والروح، من دون أن تعي ذلك، في حين تقوم ثقافتها على فصل الروح عن الجسد وتمييزها منه.
ثبات الروابط الأولية ومرجعياتها الثقافية، التي تشكل الهوية الفردية والجمعية، وقوتها تموِّهان واقع تغيُّر قواعد السلطة وانقلاب الأدوار والوظائف الاجتماعية، بل تخفيانها. فالهيمنة الرمزية “الناعمة” تعيد بعض التوازن للسلطة الأبوية، أو البطريركية التقليدية، وهو ما يفسر افتخار الآباء بأولادهم وبناتهم من المجتمع الموازي، مادام الأولاد والبنات مذعنين ومذعنات للهيمنة الرمزية، التي تعبر عنها الثقافة التقليدية، بالمعنى الواسع للثقافة. لعل هذا مما يفسر ثقفنة التعارضات الاجتماعية ونزاع الهويات أو النزاعات الهووية، بوجه عام، والتعارض بين المجتمع التقليدي / المجتمعات التقليدية وبين المجتمع الموازي بوجه خاص.
العامل الكاشف أو المحدد لهذه الثقفنة هو الموقف من العلمانية، مفهومة على أنها “مناهضة للدين”، ومعرَّفة ببرانيتها، مهما اختلفت أشكال التعبير عن هذا الموقف. والدين، الذي يوضع عمداً في مقابل العلمانية، بقصد اختزالها وطمس محتواها المعرفي والأخلاقي والسياسي، نموذج معياري، حسب المتكلمة والمتكلم، لا يتعلق بالإيمان الفردي والطقوس الجمعية وممارسة العبادات، بل هو رمز لمنظومة متكاملة من الأفكار والتصورات والعقائد أو الإيمانات والمعارف، معجونة بالأعراف والعادات والتقاليد، فكل انحراف عن أي عنصر من عناصر هذه المنظومة يُفَسَر على أنه انحراف عن الدين وخروج عن جادة الصواب ومكارم الأخلاق. فإن ثقفنة التعارضات الاجتماعية هي ما ستعيد إنتاج المثقف الأصولي الساخط، وتعيد للشيخ والفقيه دورهما ومكانتهما في المجتمع الظل، وتؤدي إلى تشكل مرجعية / مرجعيات سلفية وأصولية تتغذى على السخط المكتوم، في أوساط الفقراء والمهمشين والمنبوذين، وتتقوى به.
من البديهي أن تختلف الأفكار والتصورات والعادات والتقاليد في المجتمع الحكومي، باختلاف العلاقات التي تنسجه، عنها في المجتمع التقليدي. لذلك يوصف المجتمع الحكومي تعسفاً بالعلمانية، فتُطوَّب العلمانية للمجتمع الحكومي وسلطاته المستبدة، على أنها هويته وهويتها. إذ يكفي اختلاف هذا المجتمع، بخصائصه الحكومية، عن المجتمع التقليدي، الذي رمزه الدين، لكي يوصف بالعلمانية. العلمانية هنا مجرد علامة فارقة، علامة اختلاف، أو انحراف عن المثال، أو النموذج المثالي، لا يهم أحداً أن يبحث في مضمونها وتاريخها وتاريخيتها وعلاقتها بالدولة الوطنية ومبدأ المواطنة، فضلاً عن محتواها المعرفي والأخلاقي.
العلمانية، شأنها شأن الديمقراطية، وثيقة الصلة بالوطنية، وهذه، كما نفهمها، انتماء عميق إلى الدولة الوطنية، يعلو على جميع الانتماءات الفرعية، من دون أن يلغيها، إلا على الصعيد السياسي، على نحو ما أشار كارل ماركس إلى “الإلغاء السياسي للدين” و”الإلغاء السياسي للملكية الخاصة”[12]، لدى معالجته للمسألة اليهودية. وهي منظومة حقوق مدنية وسياسية وحريات شخصية وعامة، قبل أن تكون، ولكي تكون، قيمة أخلاقية وعاطفة ذاتية. ندعي ادعاء أن الوطنية في خطاب السلطة والمعارضة لا تحيل إلا على القيمة الأخلاقية والعاطفة الذاتية، لذلك تتهم كل منهما الأخرى باللاوطنية، والأفراد يفعلون ذلك أيضاً، إذ تمنح كل منهن نفسها ويمنح كل منهم نفسه حق الحكم والتصنيف وإخراج الأخرى المختلفة والآخر والمختلف من دائرة الوطنية، ما يحيل على الجذر الإبستيمولجي المشترك بين التكفير والتخوين. لذلك نعتقد أن التباس معنى العلمانية ناتج من التباس معنى الوطنية واختزالها إلى مجرد قيمة أخلاقية، وتنسيبها: الوطني هو من يشبهني ويوافقني ويواليني وينصرني، وأن عدم الاتفاق على معنى الوطنية قرينة على الهوة الفاصلة بين المجتمعين وبين الجماعات أو المجتمعات الصغيرة المغلقة، وإشارة إلى وعورة الطريق إلى تحقيقها وصعوبته، فالأمر لا يتعلق بانفعالات عارضة، بل بمبادئ إبستمولوجية وأخلاقية تحكم الفكر والسلوك.
النتائج المشار إليها وغيرها حكمت، في اعتقادنا، التعارضات الاجتماعية وآليات الصراع الاجتماعي والسياسي، وجعلت من الأخير مجرد صراع على السلطة والثروة، أقرب ما يكون إلى الحرب، التي تسفر دوماً عن غالب ومغلوب، وتعيد في كل مرة إنتاج “المجتمع البطركي الجديد”. سلسلة الانقلابات ومحاولات الانقلاب العسكرية، ومحاولات التمرد، التي شهدتها البلاد بين عامي 1949 و 1984 (نحو عشرة انقلابات عسكرية ومحاولات انقلاب) خير دليل على هذه النتائج. ولعلها تساعد في فهم الأحداث المأساوية الجارية اليوم، وتكشف عن جذور هذا اللامقعول واللاأخلاقي واللاإنساني، مما يضع مقولات المجتمع والشعب والدولة والأمة والوطن والوطنية والمواطنة تحت السؤال.
ثمة انقسام شاقولي أو عمودي بين “مجتمع تقليدي مركب”، تعبر عنه العصبيات – الهويات الإثنية والعشائرية والمذهبية، وأشكال التكافل التقليدية، والجمعيات الأهلية ذات الطابع المذهبي، وقد تحول بعضها إلى حركات سياسية، ذات رؤى وأهداف مذهبية، كجماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي .. والجماعات السلفية، وبين مجتمع حكومي يصفه بعضنا أو يخصه بالحداثة والعلمانية. وكان لهذا الانقسام أثر سلبي في مصير الحداثة والعلمانية، إذ اقترنتا، في أذهان الكثرة بمجتمع “الدولة”، لا بدولة المجتمع، أو بشعب “الدولة”، لا بدولة الشعب، من جهة، ولأن الانقسام بين التقليد والحداثة، وبين التيوقراطية والعلمانية، كان انقساماً عمودياً، في حين يفترض أن يكون أفقياً، يمنح التعارضات الاجتماعية محتوى جديداً، ويفتح إمكانات النمو والتغيير الاجتماعيين بمشاركة جميع فئات المجتمع، ما أضفى على الحداثة والعلمانية طابعاً حكومياً، (استبدادياً)، في الواقع، وأيديولوجياً، في الأذهان، لا ينفصل عن أيديولوجية السلطة أو خطابها، ولا يزال السجال بين الحداثويين والتقليدويين وبين العلمانيين والتيوقراطيين تعبيراً عن هذا الانشقاق العمودي، المضاف إلى الانقسامات العمودية الأخرى، التي تحول دون نمو المجتمع المدني وتشكل دولة وطنية حديثة، تحمل إمكانات التحول إلى دولة ديمقراطية. لقد تحولت الحداثة والعلمانية، عندنا، بالفعل، إلى علامتين حكوميتين موسومتين بالتسلط والاستبداد، فضلاً عن طابعهما التلفيقي أو الهجين.
بعض المفاهيم، كالحداثة والإنسية والعلمانية والديمقراطية والذاتية، وغيرها، تشبه الأنوثة، أو الماء الذي يرمز لها، ويتلون بلون الإناء، أي إنها تتوفر على قدر كبير من اللاتحديد أو اللاتعيُّن أو اللاتشكل، إلا بحسب الإناء، أو البيئة الطبيعية والاجتماعية السياسية والثقافية والأخلاقية، ولذلك يناهضها الفحول مناهضة تمنحهم طابعاً حربائياً وحربوياً، فإن نقد الحداثة والعلمانية لا معنى له إن لم يكن نقداً لمجتمع بعينه، أو لما هو مشترك ومتشابه بين بعض المجتمعات الحديثة، كالمركزية الإثنية الصائرة مركزية قومية متعالية، والسلطة الذكورية، والعلاقات الرأسمالية المتوحشة، وتنسيب الثقافة وحقوق الإنسان وافتراق المصالح عن المبادئ … إلخ
عقدة الشرعية ومعنى السيادة
ما كان للمجتمع الحكومي الناشئ، والذي سيصير تحكمياً، أن يعيد إنتاج المجتمع الأبوي أو البطركي لولا “عقدة الشرعية”، إذ كل جديد يفتقر إلى الشرعية في نظر المجتمع التقليدي، فلا يُنظَر إليه إلا بصفته خروجاً على المألوف والمتعارف عليه، المدعم بقوة “الرأي العام”، فكان لا بد للمجتمع الحكومي من منازعة المجتمع التقليدي في ميدانه الثقافي أو رأسماله الرمزي، والسعي إلى احتكار هذا الميدان وتسنم ما يسميه محمد أركون ذروة المشروعية أو “ذروة السيادة العليا”[13]، ويحظى بالشرعية، التي تخفي شرعية القوة والغلبة. إن عقدة الشرعية هي أساس التلفيق في الفكر والمكر في السياسة وأساس النزعة الشعبوية وخطابها العروبي الإسلاموي، بما هو “نظام ثقافي للإبعاد والإقصاء”[14]؛ وأساس نزوع المعلم إلى أن يكون معلماً وشيخاً، ونزوع المثقف إلى أن يكون مثقفاً وفقيهاً، ونزوع السياسي إلى استقطاب المرجعيات المذهبية، والحيلولة دون ظهور من يعارضه باسم المذهب أو العقيدة، التي يتبناها، دينية كانت العقيدة أم غير دينية، أو باسم الدين، فلا يسمح بوجود أي مرجعية عقدية خارج حدود سيطرته أو يمكن أن تخرج عنها.
مطلب الشرعية وتسنم ذروة السيادة، اللذين كانا هاجس السلطة منذ 1963، يفسران، إلى جانب غريزة الخوف من الآخر والمختلف ومن الاختلاف، يفسران إعادة إنتاج العصبية / العصبيات الإثنية والمذهبية، أو الإثنية – المذهبية، بحكم تلازمهما، واستدماجها في عصبية موسعة: إثنية أو مذهبية، في المجتمع الجديد، أو المجتمع الموازي، وإعادة إنتاج الثقافة التقليدية، وتطعيمها بثقافة المستعمر، أو إعادة إنتاج ثقافة المستعمِر في إهاب ما يسمى “الثقافة القومية”، و”الهوية القومية” و”الهوية الإسلامية”، ويكشف عن هشاشة الحداثة وقشريتها، ويفسر من ثم إعادة إنتاج أوهام المركزية الإثنية المؤسسة على وهم مركزية الإنسان في الكون والمركزية الذكورية. لذلك لا يزال يُنظر إلى نقد الثقافة التقليدية والقيم التقليدية، من قبل المجتمعيْن، على أنه مروق وخروج، وافتراء على “هوية الأمة”، “يوهن نفسيتها”، وكذلك نقد السلطة السياسية. ولا يخلو أن يكون نقد السياسة ونقد السلطة من قبيل الحنين إلى عصر ذهبي، أو التلويح باستعادة “حق” تاريخي ضائع انطلاقاً من تعريف أيديولوجي خاص للأمة والدولة والمجتمع، ينطلق غالباً من خلفية إثنية – مذهبية أو من عصبية بعينها، كما هي حالنا اليوم.
إذا صح أن المجتمع الموازي مجتمع بطركي جديد أو محدث، حسب تحليلات هشام شرابي وآخرين، وأن نظامه السياسي نظام سلطاني جديد أو محدث، وهو ما ذهب إليه كثيرون من المفكرين والباحثين، فإن صفته الرئيسة أنه نظام مركزي، بل شديد المركزية؛ مركزه “السلطان” السيد الجديد، والأب، والأخ الأكبر والقائد الرمز، وبطل الحرب والسلام .. وعَصَبته الضيقة، التي هي نواة “العصبية الموسعة”، أو المركَّبة، بتعبير محمد عابد الجابري[15]، يتوقف تماسك الثانية على طابع العلاقات بين عَصَباتها الفرعية، وما تصيبه أو تحظى به كل منها من مكاسب وامتيازات، أو بما تتعرض له من إقصاء وتهميش، بحكم تلازم آليتي الاحتواء والإقصاء وتكاملهما في النظم السلطانية. والمركزية هنا مركزية إثنية – مذهبية، لا تنفك عن المركزية الذكورية.
وما من شك في أن أولاد الحكومة فئات متراتبة هرمياً، على نحو مواز للتراتبية الاجتماعية، الهيرارشية، التي تسمو صعوداً إلى مقام السيادة العليا. لكن البنوَّة للحكومة هي القاسم المشترك بينهم جميعاً، ولا سيما على صعيد العلامات (الزي والموضة واللغة الفصحى (التفاصح) والمعلومات الحديثة والمصطلحات الأجنبية ..) والقيم وأنماط السلوك. وعبارة ابن الحكومة تعني الانتساب إلى أب رمزي رفيع المقام، يبز الأب البيولوجي، ويجعل منه ابناً لابنه، خاصة إذا كان الأخير من يمنح الأسرة (العائلة) مكانة لائقة، ويتولى الإنفاق عليها كلياً أو جزئياً، لقد تغيرت قواعد السلطة بالفعل، بل انقلبت رأساً على عقب، ولكن مثلما يتغير لون الحرباء بانتقالها من مكان تَرِب إلى مكان معشوشب أو العكس، أو مثلما تبدل الأفعى ثوبها. أي إن المجتمع الحكومي الجديد نسخة محدَّثة عن المجتمع البطركي التقليدي، لكنه متبطل ومتطفل وعديم المسؤولية ومتوحش إلى حد كبير، وعلاقاته محكومة بمنطق السيادة والتبعية والأمر والطاعة.
لعبة الأمل والوهم
أولاد الحكومة نسل رمزي يمكن مقارنة معدل خصوبته، جراء تضخم الأجهزة الإدارية والخدمية والإنتاجية والعسكرية والأمنية، بمعدل الخصوبة الاجتماعية، خاصة إذا أضفنا إليه طلاب المدارس والمعاهد والجامعات الرسمية والبعثات العلمية، الذين تتولى السلطة تربيتهم وتعليمهم، وغرس ولاء معين في نفوسهم. فالنظام التعليمي أداة من أدوات السيطرة المادية والهيمنة الرمزية، (خاصة بعد إنشاء منظمة طلائع البعث ومنظمتي اتحاد الشبيبة واتحاد الطلبة، وإدخال مادتي التربية العسكرية والتربية القومية في المناهج، إلى جانب التربية الدينية، فضلاً عن السيطرة على النقابات، وغيرها مما يفترض أنها منظمات المجتمع المدني، وتسييسها).
فالنظام التعليمي والمؤسسات التعليمية وسياسة الاستيعاب تتوفر على آليتين متناقضتين: آلية استتباع واحتواء، وآلية نبذ وتهميش. ومدة الدراسة، التي يدخل فيها الأولاد والبنات والشباب والشابات لعبة الأمل والوهم، هي مدة انتظار واحد من مصيرين: إما الاندماج في الجهاز الحكومي والمجتمع الحكومي، وإما الانتباذ منه إلى عالم البطالة والهامشية أو إلى الهجرة. وبين المندمجين والمنبوذين والمهمشين فئة محظوظة من أبناء الأغنياء القدامى والجدد، الذين يتجهون إلى القطاعات الخاصة، وينعمون بمكاسب السلطة من خلال الزبانة السياسية والتبادلة الاجتماعية.
على صعيد الأعمال الخاصة، التي أممت، في ستينات القرن الماضي، حدث مثل هذا الانقلاب الاجتماعي، إذ تحولت العاملات والعاملين بأجر في المعامل والمصانع والمؤسسات المؤممة إلى موظفات وموظفين لدى الدولة، ودخلوا في لعبة الأمل والوهم، في رحاب “النظام الاشتراكي” ووعوده السخية، ولا بأس أن يتحولوا إلى مناضلات ومناضلين، بدلاً من مجرد أعضاء في نقاباتهم. ثم اعتُمِدت صفة عاملة وعامل في “قانون العاملين الموحد”، لتشمل الموظفين والموظفات في الإدارة والعاملين والعاملات في مجالات الإنتاج والخدمات، وهي تعبير عن عملية تسوية (كتسوية الأرض) أو عن مساواة مطلقة، تنفي الاختلافات والفروق بين الأفراد وبين الوظائف والأدوار، وبين الرجال والنساء[16]. نحن إذاً إزاء بنوة مزدوجة، بيولوجية ورمزية متعارضتان، وأبوة مزدوجة، بيولوجية ورمزية متعارضتان، إلا حين يكون الأب البيولوجي ذا مكانة اجتماعية مرموقة، فيتكامل النَّسَبان، ولا يتعارضان، في حين يغدو النسب الرمزي ذا وظيفة تعويضة في البيئات الشعبية الفقيرة. (كثيرون خرجوا إلى عالم السلطة ومجتمع الحكومة من حضيض المجتمع التقليدي، وكان التنويه بعصاميتهم، أو زهوهم بها، ينطويان غالباً على تذكيرهم بالحضيض الذي خرجوا منه، وعلى تذكره).
أنتجت هذه الوضعية المركبة تحولاً في القيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية، ونشأ نوع من “تبادلية اجتماعية” مجنسنة؛ ولهذه الصفة دلالة عميقة تشير إلى ذكورية المجتمع الحكومي وأنثوية المجتمع التقليدي في نظره؛ سلطة الأول على الثاني شكل اجتماعي سياسي وثقافي لسلطة الذكور على الإناث. فالعائلات الميسورة ذات الحسب والنسب لم تعد تتأبى من مصاهرة الموظفين المرموقين من أبناء الفقراء ومتوسطي الحال، وهؤلاء باتوا في حاجة إلى تدعيم مكانتهم الجديدة بمصاهرة هذه العائلات، فصارت خطوط التقسيم الاجتماعي أكثر تداخلاً وتعقيداً، لا تجدي في وصفها “ترسيمات عمومية”، ولا تنتج من هذا الوصف نتائج صحيحة، في الغالب من الأحيان. ولعل هذه واحدة من مشكلات “التحليل الطبقي” لدى اليسار التقليدي. فلا يمكن التوصل إلى تصور صحيح لعالم كالعالم الاجتماعي، الذي يختص بإنتاج ما لا حصر له من تصورات عن نفسه، إذا لم يُفرَد مكان مناسب لوجهات نظر أفراد الفئات التي تتعرض للبؤس الخاص والتهميش، في المهن التي مهمتها معالجة البؤس العام أو الكلام عنه، كالمهن العلمية، مع كل التشويهات المتصلة بخصوصية وجهات النظر الفردية[17]“، وعدم مطابقة التعبير للمعبر عنه، إذ تجدنا دوماً في المساحة الفاصلة بين التجربة الشخصية والتعبير عنها، إضافة إلى أثر الحجاب أو القناع النفسي في الإظهار والإخفاء.
التبادلية الاجتماعية، المقرونة بالزبانة السياسية ونظام الامتيازات، هي تبادلية قيمية أو رمزية، صارت المرأة بموجبها إحدى الوسائل، التي تعبر عن رأس المال الاجتماعي والرمزي وتوزيعه وتداوله؛ فكثيراً ما ينتج من هذا التبادل تحالفات سياسية وشراكات اقتصادية. فإن أي حديث عن تشكل القوى الاجتماعية لا يلحظ أثر النساء في عملية / عمليات التشكل يظل بعيداً عن الواقع إن لم يكن مجافياً له، وإن كان هذا الأثر ناجماً عن مشاركتهن السلبية نسبياً في هذه العمليات. فمن غير المنطقي إبراز المشاركة الإيجابية للرجال وطمس مشاركة النساء، وإن تكن سلبية في الأغلب والأعم ، لأن الأولى لا تكون من غير الثانية، والعكس صحيح.
لا تنم هذه الوضعية على انفتاح وتسامح، أو على امحاء الحدود الثقافية بين الفئات الاجتماعية والجماعات الإثنية والمذهبية، كما هي الحال في المجتمعات المدنية المتقدمة، بل تتحدد بكونها رديفاً للزبانة السياسية، ومظهراً خادعاً من مظاهر “الحداثة”. فإدراج المرأة في رأس المال المادي والرمزي (الشراكات والتحالفات) إمعان في تشييئها، يسير جنباً إلى جنب مع خطاب تحرير المرأة وخطاب المساواة. فالمرأة المسلَّعة والصائرة وسيلة تبادل اجتماعي، والتي تُهيأ لذلك، هي التي تتظاهر، في الغالب، بأنها المرأة المتمدنة والمتحررة والمساوية للرجل. يمكن ملاحظة ذلك في عروض أو استعراضات التمدن والحداثة التي تقوم بها (سيدات المجتمع الحكومي وبناتهن) من زوجات الموظفين المدنيين المرموقين، وزوجات ضباط الجيش والأمن والشرطة، بمن فيهم الضباط الصغار وصف الضباط أيضاً، وبناتهم، على ما بينهن من تفاوت، وغالبيتهن من أصول ريفية فقيرة. ولا تخلو هذه العروض من لمحات كاريكاتورية، كالمبالغة في التأنق والتبرج وزيادة الأصباغ التي تخفي الجهل أو الأمية، وتستر آثار التمييز والعنف اللذين يتعرضن لهما. “التمدن” و”الحداثة” صفتنان مقرونتان بالمجتمع الحكومي الناشئ والمتمفصل (فيزيائياً) مع أرباب المهن الحرة والمهن العلمية، ومتعايشتان مع القيم التقليدية، مع بعض تراخ في المعايير والقيم.
يقيم بيير بورديو تقابلاً لافتاً للنظر بين عملية إنتاج الثروة المادية وإعادة إنتاجها، وبين عملية إنتاج رأس المال الرمزي وإعادة إنتاجه، فإذا كان الأول يقوم على تحويل المواد إلى سلع تتعين قيمها بالتبادل في السوق، وهي مجال الذكور، فإن الثاني يقوم على تحويل النساء وعناصر أخرى إلى منتجات (سلع) تتعين قيمها بالتبادل الرمزي بين الذكور، في سوق الزواج (هذه الحسناء تساوي كرماً). على أن سوق الزواج الأحادي مجال ذكوري لتبادل القيم الرمزية ومراكمتها (الحسب والنسب والشرف والجاه والمكانة) وما تعينه من قوى وما يقترن بها من حقوق وسلطات دائمة على الأفراد، لا تنفصل عن أشكال الهيمنة الإثنية والمذهبية واللغوية والثقافية المستندة على رأسمال رمزي منتوج ومتراكم تاريخياً. إن عملية إنتاج رأس المال الرمزي وإعادة إنتاجه لا تقوم إلا بإسهام النساء فيها، لا بصفتهن منتَجات، فقط، بل بصفتهن منتِجات استدمجن الهيمنة الرمزية الذكورية في أجسادهن ومعارفهن. ومن ثم فإن النساء قيم يتعين حفظها بمنأى عن الإهانة والريبة، إذ توظف في مبادلات يمكن أن تنتج تحالفات، أي رأس مال اجتماعي، وحلفاء مهيبين، أي رأس مال رمزي. ومن ثم فإن عفة المرأة وسمعتها إجراء تميمي للسمعة الذكورية، ومن ثم لرأس المال الرمزي للذرية. فشرف الأخوة والآباء المدفوعين، كالأزواج، إلى يقظة متغطرسة، بل بارانووية، هو شكل للمصلحة مفهوم جيداً. إن استراتيجيات الخصوبة، من طريق الزواج، والإستراتيجيات التربوية والاقتصادية وإستراتيجيات الميراث تتجه كلها نحو انتقال السلطات والامتيازات الموروثة، وهي من ثم إستراتيجيات ذكورية بامتياز[18].
التوسع المطرد في المجتمع الحكومي وزيادة حدة التفاوت بين مراتبه جعل قشرة التمدن والحداثة أرق وأكثر هشاشة، حتى لتكاد تقتصر على المحاكاة والتقليد في المسكن والملبس والمأكل والمشرب، واستعمال التقنيات الحديثة، وما تقتضيه من مظاهر “التحرر”، التي تبدو جلية في عالم النساء “المحظوظات” من المجتمع المهيب والمحظوظ، وفي العالم المستهام لنظيراتهن البائسات من المنبوذات والمهمشات، كالعاملات في المؤسسات الإنتاجية والخدمية، والموظفات والمعلمات والمدرسات ذوات الدخل المتواضع، واللاتي ترافقهن أعباء العمل إلى بيوتهن، وتقضم أوقاتهن، ولا سيما اللاتي يتعين عليهن الإنفاق على أسرهن كلياً أو جزئياً. يمكن التحقق من ذلك بدراسة ظاهرة التذمر الشائعة بين هؤلاء المنبوذات والمهمشات، والتي تكشف عن هشاشة، إن لم نقل عن زيف، المساواة الحقوقية. فما كان للتمايز الجنسي أن يظل شديد الوطأة على النساء في المجتمع الحكومي “المحدث” لو لم تكن شبكة علاقاته مجنوسة على النحو الذي أشرنا إليه، أي الذي تلعب فيه المرأة دور السلعة، ووسيلة التبادل، فضلاً عن كونها موضوعاً للسلطة، وموضوعاً للرغبة.
لعل سبر أغوار هذا العالم الحكومي “الحديث” الموازي للعالم التقليدي وكشف علاقاتهما المتبادلة يلقي ضوءاً على آليات تشكل المجتمع الكلي، ومعدل انحرافه عن المجتمع التقليدي، من جهة، وعن “المجتمع المدني”، الحديث من الجهة المقابلة، ويساعد في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، على نحو مختلف عن الترسيمات العمومية، كالفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر) والماركسية والبنيوية والوظيفية .. ويعيِّن الدلالات الفعلية العميقة لـ “الفضاء العام” و”الرأي العام” و”الحس المشترك”، في ظل ضمور فكرة العمومية أو تنسيبها إثنياً ومذهبياً، ويبين خطوط الفصل بين الفضاء العام والفضاءات الخاصة، وآليات النبذ والجذب، التي يولدها التراتب الوظيفي والزبانة السياسية والتبادلية الاجتماعية، وأشكال الولاء التقليدية.
أولاد الحكومة الذين صاروا “أعضاء” في مجتمع مهيب ومحظوظ، يقع في أعلى المجال الكلي أو العام، يتشارك فيه أبناء الفئات الوسطى والدنيا، بالقدر الذي يشعرهم بتدني مكانتهم، ويدمغهم بدمغة “الأصول” التي خرجوا منها، مع أنه يكفل لهم نوعاً من المساواة الصورية في المراتب التي ينتمون إليها، ضمن البنية التراتبية للسلطة، التي لم تعد تمت لمفهوم البيروقراطية وحكم القانون بأي صلة منذ عام 1958.
هذا النوع من المساواة المجاورة لللامساواة والخاضعة لها هو ما يمنح “المساواة” دلالاتها المتناقضة، الواعية وغير الواعية في أذهان هؤلاء: الأعلى لا يعترف بالمساواة، المنصوص عليها في الدستور والقانون، والأدنى لا يعيشها، إلا توهماً. والأمر في الحالين لا يتعلق بالفروق الفردية، بل بنسق العلاقات القائمة على مبدأ الولاءات الشخصية والعائلية والعشائرية والمذهبية .. والامتيازات المقابلة لها. يمكن القول إن ولادة “أولاد الحكومة” أضافت لامساواة مركبة إلى اللامساواة الاجتماعية التي هي قوام المجتمع التقليدي. إذ غدا أولاد الحكومة، بوجه عام، والنافذون منهم بوجه خاص، أعلى منزلة من سواهم، في المتوسط، وتحولوا بمرور الزمن إلى “طبقة” مهيبة ومحظوظة، وصار التمايز واضحاً في البيوت وأثاثها، كما في الملبس والمأكل والمشرب والاهتمامات والعادات الجديدة والتنافس في المظاهر. ولكن اللامساواة في الفضاء الحكومي، التي لا تتعلق بالفروق الفردية والكفايات الثقافية والعلمية والمهنية والخبرات العملية، تولد عملية نبذ وتهميش تتمفصل مع عمليات النبذ الاجتماعي التي يولدها التفاوت في الثروة والمكانة، فتتشكل كتلة اجتماعية من المنبوذين، أي من مهمشي المجتمع التقليدي ومهمشي مجتمع الحكومة، تتنامى باطراد[19] وتعيش على الوهم والأمل، ولا سيما أولئك الذي ينبذهم النظام التعليمي والمؤسسات التعليمية، جراء انفصال التنمية الاقتصادية عن التنمية البشرية وغياب مفهوم التنمية الإنسانية.
على أن فكرة “التنمية الاقتصادية” فكرة خادعة، في أوضاعنا، لأن الاقتصاد هو بالأحرى اقتصاد السلطة من جانب، واقتصاد حرب (على المجتمع) من جانب آخر. والتنمية البشرية تعني تأهيل الأفراد لمقتضيات السلطة وتحقيق أهدافها الخاصة، أي إعدادهم ليكونوا أدوات السلطة وموضوعها في الوقت نفسه، ومناضلين في سبيل بعث الأمة العربية “وتحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية”، أي أن يكونوا جنوداً في الحرب على المجتمع المهمش، الذي تُخشى غوائله باستمرار، ويصنف على أنه “العدو الموضوعي”، على الرغم من جميع مظاهر الولاء والتأييد، وجنوداً في الحرب على مهمشي المجتمع الحكومي نفسه، وهو ما يفسر تفشي ظاهرة الوشاية وتضخم جيش المخبرين، ثم كتائب البعث وجيش الدفاع الوطني أو الشبيحة.
لعل اقتصاد السلطة واقتصاد الحرب، بالمعنى الواسع لكل منها، والمتضمن الاقتصاد الرمزي، في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والأخلاق، مما يفسر ثورة الجزء المستنير من مهمشات المجتمع الحكومي ومهمشيه ومنبوذاته ومنبوذيه، ولا سيما الشابات والشباب اللواتي خرجن والذين خرجوا من دوامة “الوهم والأمل”[20]، وسئمن وسئموا تغول اللامعقول، وفظاظة القمع والتنكيل والازدراء، والاستهتار بالكرامة الإنسانية والاستهانة بالحياة، و”انتظار غودو”، أو الإصلاح الذي لا يأتي، ويفسر تشكك أولاء وهؤلاء بالمعارضة “السياسية”، بل الحزبية والعقائدية، وانفضاضهن وانفضاضهم عنها، بحسبانها الوجه الآخر للسلطة ذاتها.
وفق هذه الحيثية يمكن تعريف المعارضة الحزبية[21]، التقليدوية الجديدة، بتعبير ياسين الحافظ، بأنها الجزء المهمش والمنبوذ من المجتمع الحكومي والمتشبث بحكوميته، وأحقيته في الحكم. وهذا ما يفسر غربتها عن المجتمع التقليدي أو الشعبي الهاجع والمستباح، الذي خرجت منه وخرجت عليه. لذلك نجدها، وقد استدمجت منطق السلطة ذاته في وعيها وممارستها، تستقوي، دونما جدوى، بعصبياتها الفرعية وروابطها الأولية. فالهوة التي تعمقت بين المجتمعين: الحكومي و”الشعبي” باتت أوسع من أن يردمها خطاب شعبوي مغشوش، وشعارات ليبرالية وديمقراطية براقة، لا أساس لها في الفكر والسياسة والأخلاق.
بنات الحكومة
لا يستطيع المجتمع الحكومي أن يكون مجتمع ذكور صرفاً، لأنه في حاجة إلى ما يعرِّف به ذاته ويثبت ذكورته؛ فالذكورة المعنوية التي يمارسها أولاد الحكومة في هذا المجتمع السلطاني، على الذكور الأدنى منزلة، وفق جدلية “الشيخ والمريد”[22] والمتبوع والتابع، لا تشبع حاجة أي منهم إلى إثبات الذات. النساء فقط يشعرن الرجال برجولتهم. والتنافس على السلطة وفق الرؤية الكمية للعبة الديمقراطية يحتاج إلى حشد ما يمكن حشده من الأصوات، والنساء كم مهمل يمكن توظيفه بالوعد، الوعد بالتحرر والمساواة. لذلك كان لا بد لهذا “المجتمع” أن يتبنى شعار “تحرير المرأة” وفقاً لحاجته ومصلحته، إلى جانب شعار المساواة، وهذه، أي المساواة لا تعني شيئاً آخر أكثر من المساواة الملتبسة والمعلَّقة، التي يعيشها أفراده في المراتب الوظيفية. فلا نظن أن ضغط المجتمع المدني والحركة النسوية السورية كان وراء تأسيس الاتحاد العام النسائي بالمرسوم التشريعي رقم 121 تاريخ 26/8/1967 والذي ألغي وحل محله القانون رقم 33 لسنة 1975 ثم عدل بالمرسوم التشريعي رقم 3 تاريخ 5/2/1984، بل السعي إلى السيطرة على جميع القوى الاجتماعية، وإدماج النساء في المجتمع الحكومي مناضلات في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية. ومع ذلك امتازت نساء المجتمع الحكومي على نظيراتهن من المجتمع الأهلي، وكان هذا الامتياز مكافأة تغني عن الحرية والاستقلال واستعادة الأنوثة الأصيلة والاعتداد بها.
واجه تعليم البنات صداً وممانعة أكثر من عملهن، ولا سيما في الأوساط الفقيرة عموماً والريفية منها خصوصاً. أحد الأسباب المعلنة لهذين الصد والممانعة، إضافة إلى العجز عن تحمل نفقات التعليم، هو الخشية من المكاتبة، وهذه مؤثلة في التراث وفي الثقافة السائدة، إذ يُنظر إلى الكتابة على أنها وسيلة تواصل يمكنها أن تخترق الحدود والأسوار المضروبة على النساء، وتفت في عضد السلطة البطركية، فضلاً على كونها امتيازاً ذكورياً يتصل بالمقدس. هذه الخشية تشير بوضوح إلى الخلفية الجنسية للموقف من تعليم المرأة وعملها، وتكشف عن الدلالات الاجتماعية والثقافية للجنس، وعن واقع أن العلاقات الاجتماعية علاقات مجنسنة في الأساس. حتى الموقف من الزواج المقدس لدى مختلف الجماعات البشرية مشحون بدلالات تحتاج إلى تحليل، فالعائلات لا تظهر غالباً أي شكل من أشكال الفرح أو البهجة لتزويج البنت، بخلاف مظاهر الفرح والبهجة لتزويج الولد. (في بعض البيئات السورية يتوارى أخوة العروس البالغون عن الأنظار خجلاً من تزويج أختهم، مما يفصح عن كثير من الدلالات الاجتماعية للفعل الجنسي الحاضر بقوة في الزواج، ويشير إلى التعيُّب به). وإذ تخطب البنت من أبيها أو أخيها أو ولي أمرها فإنما يخطب الحسب والنسب، ويراد “القرب” من أهلها وعائلتها أو عشيرتها، وتحتل المزايا الاجتماعية والأخلاقية المرتبة الأولى في اختيار الزوجات والموافقة على الأزواج.
لم يطل الزمن حتى رفع الحظر الاجتماعي والثقافي عن تعليم البنات، وإن ببطء وتعثر، ودخلت المرأة في المجتمع الحكومي، وإن من أبوابه الضيقة، وأسهمت مجانية التعليم الأساسي أكثر من إلزاميته في زيادة أعداد المتعلمات والموظفات والعاملات بأجر، فخرجت المرأة من المجالات الخاصة إلى ما يفترض أنه مجال عام. ولكن ذلك ألقى على عاتقها تبعات مضاعفة، وأخضعها لشروط هذا المجال الذكوري والمتوحش.
تشارك المرأة في المجتمع الحكومي بالقدر الذي يشعرها بأنها امرأة، أقل قيمة وأدنى منزلة، أو بالقدر الذي يُشعر الرجل بسلطته وتفوقه وامتيازه، خاصة عندما تكون المشاركة مشاركة في العطالة الاجتماعية والسياسية، كما كانت الحال على مدى عقود. ففي حال العطالة لا تبرز الفروق الفردية، ولا تختبر الكفايات المعرفية والفكرية والعلمية والمهارات العملية؛ بل لعل هذه الحال تبرز الصفات السلبية أكثر فأكثر، فتحدث نوعاً من قلب للقيم الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، كالذي وصفه عبد الرحمن الكواكبي أدق وصف، بقوله” “نحن ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات، ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفنا الانقياد ولو إلى المهالك، ألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث في العموميات فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفراً، وحب الوطن جنوناً”[23]. ما يعني أن مراحل الركود والاستنقاع تتشابه في خصائصها العامة، وأن هذا الانقلاب في القيم يسري على النساء وعلى الرجال التابعين والخاضعين ضرورة أو اختياراً، سواء بالقوة أو بالاقتناع.
قبل الخاتمة
ما كان ممكناُ للمجتمع الموازي، الذي سميناه المجتمع الحكومي أن يتشكل لولا عدد من العوامل الرئيسة التي تطلق سيرورة تشكل المجتمع المدني، هذه العوامل هي:
1 – سيطرة السلطة (التي احتلت الدولة) على عملية تقسيم العمل الاجتماعي أو التقسيم الاجتماعي للعمل، الذي ينظم المجتمع تلقائياً، وعلى عملية الإنتاج الاجتماعي من طريق التأميم والمصادرة. فإن تقسيم العمل، وهو المعنى العميق لكون المجتمع من إنتاج نفسه، هو ما يعين الفئات المهنية والطبقات الاجتماعية والانتظامات المهنية (النقابات) والأحزاب السياسية. السيطرة على عملية الإنتاج الاجتماعي تعني السيطرة على الإنتاج والتوزيع والتبادل والتداول والاستهلاك، أي السيطرة على جميع مفاصل الحياة الاجتماعية وفضاءاتها.
2 – سيطرة السلطة على عملية “الاصطفاء الاجتماعي”، أي على عملية تشكل الأطر (النخب) الاجتماعية والثقافية والسياسية، والقيادات المحلية والوطنية بإحلال مبدأ الولاء، الذي يكافأ بالامتياز، محل تكافؤ الفرص وتساوي الشروط، ومحل مبدأ التافس في الكفايات المعرفية والعلمية والأخلاقية .. ما مهد السبيل لتسلط رعاع الريف وحثالة المدن وأدى إلى تمادي الفساد الإداري والسياسي والمالي والأخلاقي ونمو الظاهرة الجماهيرية، وتشكل جيش من المخبرين هو الشكل العياني لسيطرة السلطة على حيوات الأفراد وانتهاك حرياتهم وهدر حقوقهم.
3 – سيطرة السلطة على عملية تشكل الجمعيات والنوادي والنقابات وتسييس ما كان قائماً منها وإنشاء منظمات ونقابات جديدة بمراسيم حكومية، كاتحاد الشبية واتحاد الطلاب واتحاد العمال والاتحاد النسائي واتحاد الكتاب ..
4 – سيطرة السلطة على الحقل السياسي كله وقمع المعارضة
5 – بناء الدستور وتكييف القوانين مع هذه السيطرة الشاملة، التي جعلت النظام أشبه ما يكون بالنظام النازي أو الفاشي أو الستاليني.
خاتمة
على هذه الخلفية، هل يمكن افتراض أن الثورة السلمية، التي فجرها شباب سوريا وشاباتها، كانت ثوة الجزء المهمش من المجتمع الحكومي، غير المتشبث بحكوميته، والذي ينشد الحرية، أي إنها ثورة من داخل المجتمع الحكومي نفسه؟ وأن هذه الثورة، التي هزت أركان السلطة، أخرجت المجتمع التقليدي أو الجماعات التقليدية، من الظل، وبعثت الحياة في أوصاله وأوصالها، فخرج ينشد الكرامة، والكرامة عنوان ثورات كثيرة قادتها قوى تقليدية؟ وأن ثورة الحرية بادرها مجتمعها المحظوظ والممتاز بالعنف من لحظاتها الأولى، ونجح في الإجهاز عليها، فتراجع من تبقى من ناشطاتها وناشطيها إلى الصفوف الخلفية، ثم إلى العمل الإغاثي والإعلامي، فانطلقت حرب تقودها الجماعات التقليدية وتشكيلاتها المقاتلة وشريحة غير قليلة ممن أطلق عليهم مصطفى حجازي اسم “شباب الظل”[24] الذين حرموا من التعليم وفرص العمل اللائق.
لعلنا، في غمار الحرب الدائرة، إزاء مجتمع يثأر لنفسه من غدر أولاده وبناته به. إذا كان الأمر كذلك، فمن البديهي أن تستخدم الجماعات التقليدية كل ما تبقى لها من أسلحة، وكل ما يمكن أن يمدها بالقوة، بعد أن خذلتها الأحزاب السياسية كافة، وكذلك النقابات والتنظيمات “الشعبية” الأخرى، (أي بعد أن خذلها أولادها وبناتها). ومن أكثر هذه الأسلحة مضاء العصبيات العشائرية والإثنية والمذهبية. يبدو أنه من الصعب أن نفهم الحرب الدائرة إلا بصفتها حرباً على المجتمع الذي خرج من الظل، فهي من ثم “صراع على السلطة” بين مجتمعين، يدفع بها كل منهما إلى نهاياتها القصوى. وهو ما يفسر مستوى التوحش في جميع تفاصيلها، ويلقي ضوءاً على أسباب انشقاق من انشقوا عن المجتمع الحكومي، الذي لا يزال يبدي غير قليل من التماسك، ويبين بجلاء أن اختلاف ما تُسمَّى أو تسمي نفسها “معارضة سياسية” أو ائتلافها فاقدان للمعنى والقيمة، إلا بقدر ما هما صدى لاختلاف القوى الفاعلة على الأرض، واختلاف إستراتيجياتها، أو ائتلافها، فضلاً عن اختلاف القوى الإقليمية والدولية أو ائتلافها. وما من شك في أن ضعف المعارضة (السياسية) وتناثرها وتخثرها نتيجة عقود من القمع والاضطهاد، ..
ودفعاً لأي سوء فهم أو سوء تفاهم، تجدر الإشارة إلى أن ما يبدو أنه مساواة في الحكم على السلطة والمعارضة[25] مؤسس على كونهما قوتين متحاربتين مادياً وخطابياً، في الوضع الراهن، تستقوي كل منهما بالخارج، في صراعهما على السلطة، لا على كونهما قوتين سياسيتين متعارضتين جدلياً، أي إنه مؤسس على إدانة الحرب، من المبدأ والمنطق، فالحرب هي الحرب مهما قيل أو يقال في وصفها، وإدانة للسياسة سواء بصفتها امتداداً للحرب بوسائل أخرى، حسب كلوزفيتز، أو بصفتها حرباً، حسب ميشيل فوكو، أو لأنها لم تنتج إلا مسوخاً، حسب إدغار موران، من أجل سياسة هي إدارة تشاركية للشؤون العامة، وتنافس سلمي على السلطة، لترشيد هذه الإدارة وتحسينها باطِّراد، وإعادة الاعتبار للعلاقة الجدلية بين الحرية والسلطة، فما من سلطة لا تنتج هي ذاتها مقاومة أو معارضة من داخل بنيتها ومن خارجها.
فبعد أن تشتعل نار الحرب وتنتشر لا يعود مهماً من الذي أشعلها، ومن الذي قتل أكثر ودمر أكثر واستباح أكثر، إلا على صعيد تحديد المسؤوليات القانونية والأخلاقية ومن يحددها، مع أن جميع القرائن تدل على أن السلطة الحاكمة هي التي أشعلتها وأضرمت أوارها. ومن البديهي أن كل حرب تنتج سرديتين أو حكايتين كبريين متناقضتين وسرديات فرعية مختلفة ومتخالفة، تغدو كلها موئلاً للأحكام وتوزيع المسؤوليات وإعادة إنتاج عوامل الحرب. ما يهمنا أن عوامل الحرب وبواعثها كانت ثاوية في ثنايا النظام الاجتماعي والسياسي والثقافة السائدة، وكذلك عوامل الثورة السلمية، ثورة الشابات والشباب إذا كان الأمر كذلك، فإن أحكام القيمة على السلطة والمعارضة تغدو أمراً نافلاً وخارج الموضوع، إن لم تكن تكريساً لثنوية الخير والشر والحق والباطل والوطنية والخيانة.
أخيراً، ليس بوسعنا استخلاص نتائج واستشراف ممكنات واقتراح حلول ومخارج من أزمة جارية، وتتعمق باطراد، ومفتوحة على المجهول، وتولد نوعاً من اللايقين، يتمادى باطراد أيضاً، ويوجه الذهن نحو المعاني الكامنة أو “الحقائق” المبعثرة في الحوادث الفردية والوقائع اليومية، وفي آلام الأفراد وأحزانهم، وفي ما يفعلون وما يقولون .. ومن الترف أن يقال شيء عن آمالهم، غير الأمل الشاحب في البقاء أحياء، وانتظار أن تقوم الحياة بواجباتها.
-
– كتب هذا النص أواخر عام 2011، من أجل فهم الثورة السورية ↑
-
– كارل يونغ، جدلية الأنا واللاوعي، ترجمة نبيل محسن، دار الحوار، اللاذقية، سوريا، 1997، ص 28. ↑
-
– أمارتيا سن … ↑
-
– المكتب المركزي للإحصاء، إحصاءات 2010. ↑
-
– هذه الصفات سمات يمكن العثور على ارتساماتها في المجتمع السوري، الذي هو في حالة تشكل دائمة. ↑
-
– تناولنا البنية التسلطية للنظام السوري بالتحليل في، “خلفية السياسات،، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، 2013. ↑
-
– راجع/ي، نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سورية، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة، الطبعة الإلكترونية الأولى (بإشراف المؤلف)، 2006، ص 23. وقد تطرق لهذه الفكرة مايكل. ه . فان دوزن، ونقلها عنه فاندام، وأعدنا صوغها، وأضفنا إليها. ↑
-
– محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية، 1995، ص 57. ↑
-
– راجع/ي، كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد، قراءة في نظام الاداب السلطانية، دار الطليعة، بيروت، 1999، ص 147 وما بعدها. ↑
-
– راجع/ي، ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع المدني، ترجمة الزواوي بغورة، دار الطليعة، بيروت، 2003، ص 12 وما بعدها. ↑
-
– بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط3 ، 2007، ص 14. ↑
-
– راجع/ راجعي، كارل ماركس، في المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الطليعة بيروت. (الاقتباس من الذاكرة) ↑
-
– محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، والمركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1996، ص 18. ومحمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، لافوميك، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، بلا تاريخ، ص 8 -9. ↑
-
– محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، المصدر السابق، ص 38. ↑
-
– محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1994، ص 255 – 256. ↑
-
– ظل قانون الموظفين شغالاً إلى جانب قانون العالمين الموححد، مع إمكانية انتقال الموظف من أحدهما إلى الآخر. ↑
-
– بيير بوردو، بؤس العالم، الجزء الأول، ترجمة محمد صبح، مراجعة وتقديم فيصل دراج، دار كنعان، دمشق، 2010، ص 20. ↑
-
– بيير بورديو، المصدر السابق، ص 77، بتصرف. ↑
-
– يلاحظ أن كثرة ممن يتقاعدون من أولاد الحكومة يعودون إلى بيئاتهم التقليدية، وإلى شؤون دينهم، بعد أن اطمأنوا إلى شؤون دنياهم، بمن في ذلك كبار ضباط الجيش والأمن، ويتحولون إلى وجهاء محليين. ↑
-
– بيير بوردو، بؤس العالم، الجزء الثالث، ترجمة رنده بعث، مراجعة وتقديم فيصل دراج، دار كنعان، دمشق، 2010، ص 18 – 19. ↑
-
– يعرف السوريون أن الأحزاب العقائدية المعارضة هي انشقاقات الأحزاب والتنظيمات التقليدية المعروفة، ولكل منها نظيره في الجبهة الوطنية التقدمية، (باستثناء جماعة الأخوان المسلمين المحظورة وحزب العمل الشيوعي) وأن الفروق بينها في العقيدة، تكاد لا تذكر، فضلاً عن القاع المعرفي والأخلاقي المشترك. ↑
-
– راجع/ي، عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة يليه مقالة في النقد والتأويل، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المعرب، الطبعة الرابعة، 2010. ↑
-
– عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، نسخة إلكترونية http://hazemz.jeeran.com، ص 88. ↑
-
– راجع/ي، مصطفى حجازي، ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية، في مجلة الآخر، العدد الثاني، خريف 2011، ص 31 وما بعدها. ↑
-
– للوقوف على خلفيات المساواة في الحكم على السلطة والمعارضة، راجع/ي، جاد الكريم الجباعي، طريق إلى الديمقراطية، الريس للكتب والنشر، 2010. ودراسات أخرى منشورة على موقع سؤال التنوير، على الرابط: www.assuaal.net. ↑