Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق

,

هذا الحوار المنشور على حلقات هو حوار أجراه جاد الكريم الجباعي مع إلياس مرقص، ونشره في كتاب (حوار العمر) الصادر عن دار حوران. وهنا القسم التاسع والأخير من الفصل الأول (نقد الكلمات وتحرير المفاهيم والمقولات). لقراءة الحلقات بالترتيب انظر أسفل النص.

سألتني عن الروح والدين، ثمة من يعتقد أن مقولة الروح ملك للدين، وأن الدين ملكه الشخصي. في ندوة تونس (عن العقلانية العربية واقع وآفاق 1987) كان المنتدون، بمن فيهم الإسلاميون يهربون من مقولة المطلق، ولا سيما الجناح العلماني. فمن جملة ما قاله سمير أمين إن الفكر الأوروبي ترك المطلق لمن يشاء، وأمسك بالنسبي. اعترضت على هذا الكلام ورأيت فيه غلطاً. قلت: إن الفكر الأوروبي القيادي من زمن أفلاطون وسقراط إلى اليوم لم يتخل عن فكرة المطلق، لم يترك الأزلي والمتعالي والكامل.. الفكر الأوروبي القيادي وظف المطلق والمتعالي والأزلي، بالمطلق أسس للنسبي وبالأزلي أسس للزمني والتاريخي. أخذ جميع المقولات الدينية هذه، وجعلها، مع كونها دينية، مقولات دنيوية وتاريخية وسياسية وعلمية. كل من يعرف شيئاً في الرياضيات يعرف العدد (π)، ويعرف أنه ناتج قسمة محيط الدائرة على قطرها، هذا العدد اسمه العدد المتعالي. وإذا كنت تعلم ابنك الفيزياء تجد أمامك قوانين تمدد الغازات، فتشرح لابنك أن قوانين تمدد الغازات لا تصح 100% على أي غاز معروف، بل تصح 100% على الغازات الكاملة أو المثالية. الإنكليز يقولون غاز مثالي، والفرنسيون يقولون غاز كامل، بمعنى أنه غاز خال تماماً من أي ذرة بالحالة المائعة أو السائلة. كذلك الصفر المطلق في الفيزياء. في رأيي أن عظمة أوروبا تكمن في كونها لم تتخل عن المطلق وعن المتعالي، بل عظمتها في أنها ثمرت المطلق والمتعالي. أما في منظومتنا الأيديولوجية والثقافية الحضارية التي هي حضارية أكثر منها ثقافية، في منظومتنا هذه لا توجد أية تسمية من هذا القبيل. فالمتعالي متعال وانتهينا. والمطلق مطلق ونضع نقطة. والأزلي أزلي ونضع نقطة. وتجدهم إلى اليوم يقولون: الحادث والقديم يكررون مصطلحات من 1200 سنة. يوم كنا صغاراً كنا نسمع هل العالم حادث أم قديم؟. القديم غير الأزلي. قديم من مليون سنة أو من مئةمليون سنة، ليس لهذا علاقة بالأزلي، الأزلي غير ذلك، يحسب بطريقة غير هذه. الأزلي يؤسس التاريخي والسرمدي يؤسس المتغير.

تحدثنا عن قصة “نقود لماريا”، ثمة كتاب هائل، رواية سوفييتية جميلة، عن معسكرات الاعتقال الرهيبة عام 1937، يصف فيها دوبروفسكي رئاسة المعتقل، خمسة أشخاص بينهم رفيقة واحدة. اسم الكتاب “كلية الأمور التي لا فائدة منها”، يقصد كلية الحقوق (ما معنى كلمة الحقوق وما فائدتها في دولة ليس فيها حقوق، دولة لا يتمتع فيها المواطنون بحقوقهم الطبيعية والمدنية والسياسية، بل ما معنى الدولة من دون فكرة الحق والحقوق؟ج). أحد المعتقلين خريج كلية الحقوق. يصف الكاتب أعضاء قيادة المعتقل بأنهم “أوادم” وناعمون ويلعبون الورق، ويمكن أن يناقشوا في الماركسية، وهم لا يعذبون بأيديهم، لأنهم قيادة والقيادة لا تعذب بيدها، بعد ذلك يقول عنهم: هؤلاء ليس عندهم المطلق. وأولاً بأول ليس عندهم فكرة المطلق الأخلاقي الذي هو جذر كل مطلق. اسمعوا يا ماركسيون! دوبروفسكي ليس مصراً على المطلق الأخلاقي بل يعده جذر كل مطلق. في الخليج قلت لهم: المطلق والنسبي ليسا شيئين، إنهما مفهومان وحدّان. ليس النسبي شيئاً والمطلق عفريت. المطلق حد يحد النسبي، ومن ليس عنده في فكره وفي روحه المطلق يحوِّل نسبية إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد. هذه هي قصة القرن العشرين والتجربة الاشتراكية بوجهها القبيح أكبر من كل تجاربنا. وذات مرة كنت أتحدث مع صديق من القوميين السوريين فقلت له نشكر الله أنكم لم تتسلموا الحكم، لو حصل ذلك كنتم ستقتلون الإخوان المسلمين والكتائب والشيوعيين، عملاء موسكو، والبعثيين العروبيين، وبعد ذلك تقتلون بعضكم بعضاً. وذلك بحكم برنامجكم وأيديولوجيتكم. ثم سألته هل تدافع اليوم عن حقوق الإنسان أم عن جماعتك؟ يجب أن تعرف ذلك. يجب أن تعلم أن كل حزب لا يدافع إلا عن نفسه. كتب أحد الشيوعيين كتاباً طويلاً عريضاً ضد عبد الناصر، خلاصته أن الشيوعيين وطنيون فلماذا يعتقلون ويعذبون؟ من دون أن يتساءل أو يستنكر لماذا يعتقل ويعذب وينفى غير الشيوعيين، والشيوعيون المعارضون في روسيا وفي بلدان كثيرة غير روسيا، حيثما تسلم الشيوعيون الحكم.

نحن نريد الديمقراطية للجميع، نريد حقوق الإنسان، ويجب أن ندين الأيديولوجيات الإنقلابية الهمجية هذه. ومنها الأيديولوجيات الإسلامية، والفكر الإسلامي الفاقد بحكم منطلقاته القدرة على تثمير المبادئ والمنطلقات الدينية الكبرى. المقولات والمنطلقات الدينية يجب أن تثمّر في الحياة البشرية، يجب أن تثمّر في التاريخ وفي التقدم، وقد قلت في تونس: أول المسائل، المسألة الدينية[1](23). عندنا وجدت المسألة الدينية ثم اختنقت، خنقت ثم تحولنا إلى انحطاط رهيب، إلى كاريكاتور اسمه المسألة المذهبية الطائفية. إذن هناك مسألة دينية أولاً فأنت تؤمن بالله و..و.. ولكن يجب أن تعرف ماذا يطلب منك الله ومن الجماعة. فهل يفرض عليك الله أن تعمل لإعادة إنتاج النموذج الراشدي أم أن الله أباح لك وأتاح لك أن تسعى إلى تقدم وإلى تحسن وإلى تجديد؟ وبعد ذلك هل تريد إعادة إنتاج عصر الراشدين من دون اغتيال ثلاثة خلفاء يا ترى؟ هل بمقدورك أن تضفي القدسية على جميع الصحابة من دون تأليه أي منهم؟ فبعد النبي انتقلت العصمة إلى الخلفاء (والأئمة.ج) وهكذا راح كل واحد ينقل العصمة إلى الحزب الإسلامي الذي يؤيده. لم تتفقوا على من هم القديسون. هذا كله حرام وعيب وغلط، إنكم تحولون الأوائل كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أوعمار بن ياسر أو أبو ذر الغفاري وغيرهم إلى طواقم، إلى أحزاب القرن العشرين، إنهم أبرياء منكم. هذا موضوع واسع جداً، ولكن يجب أن نقول: لكي ينتقل الدين إلى سياسة أعلى وأبعد مدى يجب أن يقف على رجليه (لا على رأسه.ج) ويتخلص من صفته المذهبية والطائفية ويكف عن التكفير ويبتعد عن السياسة المباشرة، ويعرف أن دوره الكبير والحقيقي هو في مسيرة تحسين الإنسان، وأن هذه وظيفته الأبدية، وأن لا يكون إزاء السلطة وإزاء الدولة لا في موقف المتآمر ولا في موقف لاحس الجزمة. رجل الدين هو من يستطيع أن يقول رأيه بلا خوف من الموت ومن دون أن يتآمر، وفي كل الظروف هذا هو المثل الأعلى لرجل الدين. رجل الدين هو الذي يستطيع أن يقف في الجامع ويقول، في أي بلد كان، يا سيادة الرئيس يوجد في البلد غلط في كذا وكذا، وهناك حريات تقمع وفقر يزداد.. ويكون مستعداً للاعتقال أو القتل أو أي شيء، من دون أن يتآمر ومن دون أن يكون مفتياً للسلطة المضادة. أي لا مفتي السلطان ولا مفتي السلطة المضادة، هذه هي وظيفة رجل الدين قائداً ورائداً، وللأسف يندر وجود هذا النموذج.

  1. (23) أجل كان عندنا ذات يوم المسألة الدينية، ثم خنقت مع سقوط المعتزلة، مع توقف حركة الفكر والحوار. وقد أسهم المعتزلة أنفسهم في ذلك، للأسف حين قبلوا اقتران الرأي والسيف. إذن إن ما خنق المسألة الدينية ومسائل الإيمان العقلي/ الروحي هو أولاً اقتران الرأي والسيف، وثانياً أن كل جماعة من جماعات المسلمين راحت تنظر إلى إسلامها على أنه الإسلام وتكفر الآخرين وتستحل دماءهم وأموالهم، ولأن المسلمين عامة كفوا عن الاعتراف بأن الإسلام ليس الدين، بل أحد الأديان فحسب، وحين ينظر إلى الجزء على أنه الكل تتحول المسألة الدينية إلى مجرد مسألة مذهبية، ويتحول الفكر الديني إلى أيديولوجية مذهبية (بالجمع). فمنذ سقوط المعتزلة حتى عصر النهضة الحديثة لم يعرف المناخ الثقافي العربي سوى أيديولوجيات مذهبية لا ترقى أي منها إلى مستوى الأيديولوجية الدينية. إن تشظي المجال السياسي الإسلامي مهد له وواكبه وخلفه تشظي الحقل الثقافي العربي منذ أكثر من ألف عام حتى يومنا.لا بد من الاعتراف اليوم أن كل دين هو دين بوجه عام ودين خاص في الوقت ذاته وأن إلغاء العام هو إلغاء الخاص بالضرورة فلا يعود هذا الخاص ديناً، بل مذهباً فحسب. المذهبية عقيدة تكفيرية والكفر والتكفير صنوان. ولا بد من الاعتراف بأن “المذاهب الإسلامية” كلها مذاهب المسلمين، وأن الإسلام ليس مجموع هذه المذاهب بل أكثر من ذلك بكثير، والأمر نفسه في المذاهب المسيحية. الاعتراف المبدئي والنهائي بأن ما يسمى المذاهب الإسلامية هي مذاهب المسلمين وأن الإسلام أكبر منها جميعاً وأن الدين أعم من الإسلام وأشمل، هذا الاعتراف يرسي أسساً جديدة للعلاقات الاجتماعية الإنسانية ويرقى بكل من مجتمعاتنا من حالة الملل والطوائف والجماعات المغلقة وأيديولوجياتها التكفيرية إلى حالة الأمة وحالة المجتمع المندمج قومياً واجتماعياً. {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} و{لو شاء ربك لجعلكم ملة واحدة}.. ولا إكراه في الدين.

ترتيب مواد كتاب (حوار العمر)

  1. مقدمة كتاب حوار العمر

  2. الثنائيات الفلسفية

  3. المادية والفلسفة المادية

  4. مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي

  5. الإيمان والإيمان الديني، أو الإيمان الحسي والإيمان العقلي

  6. المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق

  7. المادية والمثالية

  8. الاستلاب والاغتراب

  9. الانحطاط. النهضة. عبد الناصر والناصرية

  10. الحرية هي وعي الضرورة والاختيار

  11. قاموس دلالي – تاريخي

  12. سمو الدولة

مشاركة:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

2 Comments

  1. المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق .
    يتحدث عالم التاريخ و الأديان خزعل الماجدي عن مكونات الحضارة ال ١٤ و يوزعها بين ٧ عناصر مادية تقابلها ٧ عناصر غير مادية .ثم يضيف عنصر الأخلاق باعتباره المكون ال ١٥ و الضامن لحسن سلوك المكونات ال١٤ .
    قيل سابقا :”قد يقع الخاطر على الخاطر كما يقع الحافر على الحافر .”
    كما في العلوم النظرية يجري تأكيد اكتشافات الأوائل من قبل اللاحقين،و أيضا نشهد ذلك في العلوم الإنسانية.
    شكرا على مجهودكم المفيد في تبويب الأفكار الكبيرة في كتابكم “حوار العمر”.

  2. شكرا لكل من يقدم رايا قابلا للنقاش ويحرك المياه الراكدة في مستنقع الفكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Authors

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية

مقالات ذات صلة