الفرضية الرئيسة، التي تتمحور عليها الصفحات الآتية تقول: إن الذات الإنسانية، الفردية – النوعية، محددة بذات ثانية مقابلة لها، أو إن الـ أنا محددة بـ أنا ثانية مقابلة، (بالمفرد والجمع)؛ ومحددة، في الوقت نفسه، بموضوع ذاتيتها الأصلية، أي بموضوع فاعليتها – انفعاليتها، الذي يجعل منها ذاتاً مشاركة في الوجود وفي إنتاج العالم. ما يعني أن للذات الفردية مصدرين، يحددان معنى فرديتها: الأول أخلاقي هو المجتمع والدولة والجماعة الإنسانية؛ والثاني فيزيقي، هو الطبيعة.
الهوُّيَّة هي نقيض الذات، على وجه التضاد والتنافي.
يبدو أن مفهوم الهوية يفرض نفسه، وينزلق على اللسان والقلم في سياقات مختلفة، لشيوعه وكثرة تداوله. وقد صار مفهوماً أثيراً لدى المحافظين والمجددين، ولا سيما المشتغلين منهم بالفلسفة أو الفكر النظري[1]. والغالب أن ينظر إليه هؤلاء وإولئك على أنه مفهوم بسيط، وحربائي، يكتسب دلالته من السياق الذي يُستعمل فيه، كل مرة، كالسياق الإثني أو الديني أو المذهبي أو الجهوي أو الجنسي .. إلخ؛ وأن مرجعه اللغوي هو ضمير الغائب/ـة (هو / هي) والغائبين والغائبات (هم / هنَّ)، ما يعيِّن له، في الخطاب، وظيفة تصنيفية ذات بعد معياري، إيجابي أو سلبي، ضمني أو صريح؛ على اعتبار المتكلم هو من له حق الكلام، وحق الحكم، وحق التصنيف (وبالتأنيث والجمع)؛ وعلى اعتبار الغائب/ـة محكوم فيه/ـا: له/ـا أو عليه/ـا، ما يجعله/ـا في منزلة الموضوع: موضوع الحكم والتصنيف، وموضوع الإرادة والسلطة، وموضوع الفعل والعمل؛ لأن ضمير الشخص الثالث، المفرد الغائب والمفردة الغائبة يدل على الأشياء والأحياء من نبات وحيوان وبشر. وإذ يندر أن يتكلم الكتاب والمفكرون على الهوية، ويقصدون هوياتهم وعصبياتهم، لم يكتسب نقد الهوية مشروعية أخلاقية، حتى اليوم؛ الهووية القومية والدينية والمذهبية الطائفية والجنسية عيب في الغائب والغائبين، بل في المغيَّب والمغيَّبين، أو المغرَّبين من ساحة الوعي، وبالتأنيث. فلعل غاية النقد هي إدانة الغائب والغائبة والغائبين والغائبات وتبرير عداوتهم وإغراء السلطات المعنية بهم، لا مواجهة الحقيقة وتحرير الذات.
فلعل النقد الذي لا ينطلق من نقد الذات، ولا يستند إلى معايير مقبولة من الجميع، ولا سيما من قبل الذين ننقدهم/ـن، فكرياً أو ثقافياً أو سياسياً، هو أقرب إلى الاغتياب والنميمة والوشاية. مقبولية المعايير صراحة أو ضمناً هي الضمانة الموضوعية، المعرفية والأخلاقية، لنجاعة النقد وجدواه، والحيلولة دون تحوله إلى سجال وتلاسن، واستحضار ضغائن الماضي لخوض “معارك” الحاضر.
للهوية باعتبارها تحديداً وتعييناً للفرد والجماعة والمجتمع والدولة ثلاثة مستويات: أولها التحديد الموضوعي، والثاني هو التحديد الذاتي، والثالث هو التحديد المنطقي (المعرفي) المشترك بين الموضوعي والذاتي، ولكن دلالته تختلف من حيث إحالته على الفكر وقابليته للنمو والتطور، في حال التحديد الموضوعي، ومن حيث إحالته على الأيديولوجيا وجموده وثباته، في حال التحديد الذاتي.
بتحليل مفهوم الهوية، بموشور الاغتراب (ALIENATION)، يتبين أنه مفهوم مركَّب، يدل، في وقت واحد، على الهوية الأنطولوجية (الوجودية)، الفردية – النوعية – الجنسية (سقراط إنسان ذكر، هيباتيا إنسان أنثى). وهو تحديد موضوعي نهضت عليه العلوم الإنسانية والفلسفة والأداب والفنون والعقائد الدينية أيضاً. ويدل على الهوية الطبيعية (النسلية)، التي تسم العلاقات الأولية في البنى الطبيعية وشبه الطبيعية: الأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة، وتحدد علاقات القرابة والغرابة والمودة والنفور. وهي أساس البنى البطركية القائمة على حق القوة، لا على قوة الحق أو قوة القانون. وهو تحديد موضوعي أيضاَ. ويدل، في الوقت نفسه، على الهوية الإنتربولوجية: الإثنية والدينية والمذهبية، أي على العصبية اللتي تحمل إمكانات التعصب والتطرف والعنف، وهو تحديد ذاتي خالص. ويدل على الهوية الأيديولوجية (قومي، إسلامي، اشتراكي، ليبرالي .. إلخ)، وهو تحديد ذاتي خالص أيضاً، ينطوي على إمكان التطرف والتعصب والعنف. ويدل أخيراً على الهوية المنطقية، المعروفة لدى المناطقة بمبدأ الهوية (أ هي أ)، ومبدأ عدم التناقض، والثالث المرفوع، ومبدأ القياس. مبدأ الهوية المنطقي الصوري هو الذي يحمل إمكان الحتمية والركود أو الجمود، في أي من التحديدات السابقة، لأنه يدل على لحظة الإيجاب والإثبات والتوكيد، ويستبعد النفي أو السلب، وهما عاملا النمو والتغير والتطور.
من المؤكد أن الهوية الطبيعية تحمل إمكان التثبُّت في الطفولة وإمكان العجز والتواكل والحاجة إلى رعاية الآخرين وعنايتهم وعطفهم وحبهم، أي إنها تحمل إمكانات تسويغ التبعية والخضوع … وتحدد معنى الحب بالأخذ، لا بالعطاء، بالمنفعة، لا بالسعادة، بالتملك والاستحواذ، لا بالتبادل والعدل. وتحمل، بالمقابل، إمكانات النمو والتطور، على نحو ما نعرف من علم الوراثة وعلم الجينوم والعلوم المعرفية والنيروبيولوجية وغيرها.
غير أن الدلالة الأخيرة، المنطقية، هي التي تتوج المفهوم، وتضفي “العقلانية” على جميع دلالاته المشار إليها، ما يكشف عورة العقلانية، لا بصفتها أداتية وبراغماتية فحسب، بل بصفتها إثباتية توكيدية أو معرفة مبتورة، تستبعد النفي أو السلب الملازم للإثبات أنطولوجياً ومعرفياً وواقعياً. فهي، أي الهوية المنطقية، إذ تنفي، إنما تنفي كل ما ليس هي، وتستبعده وتقصيه. الهوية المنطقية، بجميع تقاليبها وتأويلاتها تتعالى على العاطفة والشعور، وتتعالى على الحرية، لأن وظيفتها وغايتها هي الضبط والتحديد والتقنين والتقعيد.
الأنا الهووي، (المتكلم/ـة)، الذي يصنِّف ويحكم، أو التي تصنِّف وتحكم، هو / هي الأنا الذي ينتمي أو التي تنتمي، لا الأنا الديكارتي، الذي يفكر في الشيء أو في الأمر، ويفكرُّه؛ وبالتأنيث. (هذا فارق جوهري، لا يجوز تفويته) ولا الـ أنا الذي يحب، والتي تحب، لغير المنفعة الأنانية والمصلحة العمياء. التصنيف، في هذا السياق، يعني التحديد الذاتي للمختلف والمخالف، بالتأنيث والجمع، أي اختزال الآخر المختلف والمخالف في هوية إنتربولوجية أو أيدولوجية. فإن من يصنِّف ويحكم لا يقول إلا ذاته؛ هذا هو المعنى الأدق للشوفينية والعنصرية والطائفية؛ “تكلَّم/ـي، لكي أراك” (سقراط).
الأنا، الذي يفكر، هو الأنا الذي يحب، لأن الحب، بصفته حرية واستقلالاً، وغيرية أخلاقية، هو شرط إمكان التفكير، وهو البعد الأخلاقي للمعرفة. الأنانية المفرطة، التي بلا غيرية، لا تفكر، فهي لا تحب، الأنانية المفرطة لا تحب، فهي لا تفكر، إنها تحكم فحسب. ذلكم هو الاستبداد. الأنانية المفرطة ذكية، مخاتلة، مراوغة، محتالة، منافقة حافطة ومحافظة (من الحفظ غيباً والتكرار الممجوج والعنعنة ..) وسلفية وأصولية … قل ما شئت، لكنها لا تفكر. الغيرية شرط إمكان التفكير الحر والمبدع.
الانتماء، بكل دلالاته، هو أساس التمييز الجنسي والجندري والإثني والديني والمذهبي وما شئتم، وهو أساس العنصرية. الذين يعرفون المواطنة بأنها انتماء إلى الوطن، على سبيل المثال، يخطئون الهدف. المواطنة مشاركة حرة ومبدعة في إنتاج الوطن كل يوم، لا مجرد انتماء عاطفي أو وجداني أو أيديولوجي. المشاركة لا تنفي الانتماء ولا تستبعده؛ اما الانتماء فيستبعد المشاركة وينفيها. الانتماء، كالإيمان، يستبعد المختلف والمخالف. ولا يخضع لأي معيار موضوعي، لأنه شأن من شؤون الوجدان الفردي والذاتية الخالصة، فلا فرق على الإطلاق بين الانتماء إلى الوطن والانتماء إلى العشيرة أو الطائفة أو الحزب العنصري ..
الأنا الديكارتي هو الفرد بصفته النوع الإنساني الكلي متعيناً هنا – الآن، صفته وميزته وامتيازه أنه يفكر، مثله في ذلك مثل جميع أفراد النوع والجنس، على اعتبار “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس”، حسب ديكارت. المشاركة في العقل، على قدم المساواة، هي مشاركة في الإنسانية، على قدم المساواة، ومشاركة في الوطن، على قدم المساواة. هذا كان مبدأ الحداثة، وهذا ما يؤسس المواطنة المتساوية، ومعنى الوطنية. الـ أنا، الذي يفكر، هو ضمير الكينونة الناتجة – الصائرة، المتحققة – الممكنة، على الدوام.
إذا كانت الهوية النسلية تحمل إمكان التثبُّت في الطفولة، وإمكان الاتكال والتواكل والاعتماد غير المتبادل، بالتلازم، فهي تحمل إمكان الاغتراب الذاتي، على نحو مؤكد، لأنها أنانية، تضع الغرابة (عكس القرابة) في موضع الغيرية أو بدلاً منها، أي إنها لا تعرف الغيرية، التي هي شرط إمكان التواصل وإمكان الألفة والمودة وإمكان المعرفة وإمكان الحب، ولا تعترف بها. الاغتراب، هنا، يعني تماهي الأفراد والعائلة الممتدة أو العشيرة أو الطائفة أو الملة .. العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو “الأمة” تصير هي ذات الفرد المغتربة وكيانه المغترب، لأن ذاته وكيانه كانا قد ذابا وتبددا في سديم العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو “الأمة”. الآخر المختلف والأخرى المختلفة غريبان عني بقدر ما أنا غريب عنهمـا، لا تربطنا رابطة ولا يجمعنا جامع، علاقتي بهمـا ذات بعد واحد، خصومة أو عداوة أو تدافع، أو منفعة آنية عابرة وذات اتجاه واحد، تحدده نسبة القوى وطبيعة السلطة المؤسسة عليها؛ هي علاقة مباشرة، غير موسَّطة بين هويتين متكارهتين كراهية لا تضر الآخر / الأخرى، بل تضرني أنا وحدي، تثلم إنسانيتي ومجتمعيتي ووطنيتي، وتنمي الأنانية والكراهية في ذاتي.
لنقل إن إمكان التواصل والتفاصل، إمكان التجاذب والتنابذ، إمكان الحب والكره، مؤسس في الغريزة المشتركة بين الإنسان والحيوان؛ وعي العلاقة بالنوع هو الذي يؤنسنها؛ وعي حقيقة أن الفرد هو النوع متعيناً، وأن النوع هو الفرد مجرداً، هو ما يؤنسن الغريزة. أما الهوية الإنتربولوجية فهي اغتراب كلي ناجز، أساسه اغتراب الفرد عن النوع والجنس، أو اغتراب الوجود عن الماهية. هذه الهوية الإنتربولوجية هي مبعث التفاصل الاجتماعي، هي العقبة الكأداء في طريق تشكل مجتمع، بقدر ما هي عقبة كأداء في طريق تشكل الذات الفردية؛ إذ الهوية الإنتربولوجية الجمعية – الفردية والذات الفردية – الجمعية متناقضتان تناقضاً مطلقاً. الهوية تحجر على الذات، تحول دون نموهاً، تكسبها صلابة وخشونة وفظاظة وحسدأ ولؤماً. ذلك لأن الهوية استاتيكية والذات ديناميكة؛ الأولى تعطل الثانية، الثانية تحرر الأولى؛ التناقض المطلق الذي أشرنا إليه هو تناقض التعطيل والتحرير، تناقض الأنانية والحب.
الـ أنا أفكر غير الـ أنا أنتمي، غير الأنا المؤمن/ـة، هذا في المبدأ؛ لكن الغالب أن يكون الأنا أفكر منتمياً، مؤمناً، والأنا أنتمي مفكراً (يفكر)، لذلك تلاحظ في أقوال الناس عامة وأفعالهم إما غلبة التفكير على الإيمان، (إيمان يلابسه شك)، وإما غلبة الإيمان على التفكير، (تعصب)، وإما تعايش الإيمان والتفكير وتساكنهما، (تلفيق)، وهذا الأخير هو الأغلب والأعم، على الأرجح.
نحن إذاً بإزاء ثلات حالات مختلفة من الاغتراب الذاتي، أولاها، وهي حالة القلَّة، ويمكن القول إنها حالة “النخبة” أو حالة الإنتلجنتسيا. تليها حالة المتشددين والمتشددات، ثم حالة الأكثرية “الرمادية”، حالة التوفيق والتلفيق. هذا يشير إلى إمكان تجاوز الاغتراب الذاتي وتخطيه إيجابياً، بحق الاقتراع العام، كما لاحظ ماركس. ولكن حق الاقتراع العام، لم يهبط من السماء، ولم ينبثق، كالفطر، من الأرض، بل نشأ في التاريخ وانبثق منه. فهو لم يكن ممكناً لولا ظهور الفرد على مسرح التاريخ الحديث، على خلفية الأفكار والرؤى والاتجاهات الإنسية، أو الإنسانية، التي أرست مبدأ تساوي البشر في الكرامة الإنسانية. ثم تعيَّن ذلك مساواةً في الحقوق والالتزامات القانونية، ثم في تساوي النساء والرجال. وقد ترسخ هذا المبدأ في منظومة حقوق الإنسان والمواطن.
غير أن المساواة في الحقوق لم تعنِ، وهي لا تعني اليوم، تكافؤ الأفراد في المكانة أو المنزلة، وفي الأهلية والجدارة، بحكم التفاوت الاجتماعي، وآليات توزيع الثروة والسلطة؛ ولم تكن تعني، وهي لا تعني اليوم، تكافؤ المعاني والقيم، أي تكافؤ الثقافات المختلفة والمتباينة، في القيمة الروحية. نعتقد أن هذا التكافؤ شرط لازم لإمكان التماسك الاجتماعي وترسيخ الديمقراطية، وشرط لازم للسلام الشامل، الذي حلم به كنت. لعل عدم تكافؤ المعاني والقيم مضافاً إلى عدم التكافؤ بين تحسُّن العالم وتحسُّن الإنسان، بسبب التبادل غير المتكافئ بين الأفراد والجماعات والأمم والشعوب والدول، من الأسباب الرئيسة لانحسار المبادئ والقيم الديمقراطية وانفلات العنف.
نحن مخيرون ومخيرات دوماً بين الذاتية والفردية والإنسانية والمجتمعية والوطنية والأمن والسلام والرفاهية والسعادة، وبين العائلية والعشائرية والمذهبية والإثنية والعقيدة والتدافع والنزاع والحرب والتضحية في سبيل “العشيرة والعقيدة والغنيمة”، بتعبير الجابري. هذان الخياران الرئيسان هما خطان في المعرفة والفكر والثقافة والسياسة والأخلاق، وخطان في الحياة، وليس من حق أحد أن يفرض شيئاً على غيره، حتى السعادة. الخط الأول هو خط الوجدان؛ والثاني هو خط الإيمان. تتأسس الهوية على الإيمان، وهو اقتناع تام، تصديق تام وتكذيب تام، قبول تام ورفض تام؛ الإيمان هو الأنانية مزينةً بورود، كالتي تزين التوابيت والمقابر؛ الإيمان أنانيٌّ، والأنانية إيمانية. أما الذات فتتأسس على المعرفة – العمل والفاعلية – الانفعالية الحية والحب، الحب الشامل، أي على الغيرية؛ إذ المعرفة والعمل والفاعلية الانفعالية الحية والحب هي الغيرية ظاهرةً ومحسوسة، هي قوام الغيرية ونصابها وعمادها. لا معرفة ممكنة بلا الغير المختلف والمخالف ولا عمل ولا فاعلية ولا حب. الإيمان لا يحتاج إلى غير، يحتاج إلى إله أرضي أو سماوي فقط.
في مجتمع معافى، يكون النوع الإنساني (الإنسانية) هو ما يتوسط العلاقة بين الذات الفردية وغيرها المختلف؛ ويكون الغير المختلف، (الآخر المختلف والأخرى المختلفة، بل الأنا الثانية)، هو من يتوسَّط العلاقة بين الفرد وذاته، أي بين الفرد والنوع. فهم هذا التوسط وإدراك أهميته، وتعميمه، بالتربية والتعليم والثقافة والإعلام، خطوة أولى ضرورية أو لازمة لأنسنة العلاقة بين الأفراد، ولا سيما بين الذكور والإناث، وبين النساء والرجال، وتأسيس مبدأ التكافؤ والتساوي في الحقوق والالتزامات. هذا مغزى قولنا، في سياق آخر، إن الإنسانية أو الإنسية هي أساس الوطنية وأفقها. الإنسانية هي جوهر العلاقة بين أي مواطن/ـة ونظيره/ـا. التساوي في الإنسانية هو أساس التساوي في الحقوق والالتزامات، أساس التساوي في المواطنة والوطنية. الاغتراب هو أن تتوسط الطائفة المذهبية أو الجماعة الإثنية أو الجنس .. بين فرد وآخر. فتصير الطائفة المذهبية أو الجماعة الإثنية هي ماهية الفرد وجوهره، هي ذاته وكيانه، لا واحدة من تعييناته أو محمولاته. لا تصير الطائفة الدينية، أو الجماعة الإثنية (القومية)، هي ذات الفرد وكيانه، إلا لأن ذاته وكيانه كانا قد تبددا في سديم الطائفة أو الإثنية، بل لأنه هو نفسه كان قد بدد ذاته وكيانه في سديمهما. الطائفة أو الإثنية تحيا في الطائفي والقومي، تتنفس برئتيه، بقدر ما تحيا به، وتتكلم بلسانه، حين يظن أنه يتكلم بلسانها، ويعرِّف نفسه بالضمير (نحن)، وحين يجتهد في نفي صفة الطائفية أو التعصب القومي عنه.
حتى في الحب الجنسي (إيروس) علاقة الرجل بالمرأة أو علاقة المرأة بالرجل، أو علاقة المرأة بالمرأة والرجل بالرجل، هي علاقة إنسانية قبل أن تكون ولكي تكون علاقة حب جنسي. الإنسانية هي الرافعة المعرفية – الأخلاقية، التي ارتقت بالجنس الطبيعي إلى حب جنسي إنساني. الإنسانية، بكل خصائصها، هي ما يتوسط أي علاقة بين شخصين، ولا سيما علاقة الحب.
الإنسانية خصائص مختلفة ومتناقضة، كالحب والأنانية والألفة والجفاء والمحبة والكره .. إلخ؛ لذك، لا نضفي على الكلمة أي دلالة قيمية أو أخلاقية تزيد على دلالتها اللغوية – المعرفية. الحب الشامل هو ما يمنح الإنسانية مضمونها الأخلاقي، الذي يسمو على العدالة.
الحب الإنساني الشامل، بالتعريف، هو انتصار الذات على الهوية، وانتصار الغيرية على الأنانية، وانتصار الفردية على القطيعية، وانتصار الحرية على التبعية والسلطات الشخصية، وانتصار المساواة على التمييز والتفاضل والتفاصل وانتصار المجتمع على الجماعة وانتصار المواطن/ـة على الرعية. هذه معان متواشجة، مترابطة أشد ما يكون الترابط، لعلها نظيمة فكرية – أخلاقية، تفويت أي واحد منها هو تفويت الكل: الغيرية شرط إمكان الفردية؛ والفردية شرط إمكان الحرية، والحرية شرط إمكان المساواة. المساواة والحرية هما قوام الفردية، بصفتها غيرية، أو لا تكون سوى أنانية نافية للغيرية والمساواة والحرية. وقد أشرنا إلى أن المساواة هي حد الحرية، الذي يحد من تطرفها، ويجعلها نسبية؛ وأن الحرية هي حد المساواة، الذي يحد من غلوِّها، ويجعلها نسبية. لكن من الأهمية بمكان التفريق بين الجماعة وبين المجتمع، ولا سيما لدى من يتماهى لديهم مفهوم الجماعة ومفهوم الأمة، إثنية كانت الجماعة أم دينية أو مذهبية. الجماعة نظيمة اجتماعية استاتيكية مغلقة (عائلة ممتدة، عشيرة، قوم، جماعة دينية – مذهبية ..) والمجتمع انتظام ديناميكي أو حيوي مفتوح على المستقبل، أي على الممكن، بمعنى النمو والتغير.
التعريف الانف للحب الشامل يدعو إلى تلمس معاني الحب وأشكال ممارسته في المجتمعات المغتربة عن إنسانيتها، والذوات الصائر هويات ميتة، ونقدها. المجتمعات المغتربة عن إنسانيتها، ليست متأخرة بسبب هذا الاغتراب فقط، بل هي مجتمعات يابسة جافة خشنة متحجرة …
الاغتراب الذاتي هو، بالضبط، كون العلاقات الاجتماعية والإنسانية علاقات بين محمولات، بين هويات مختلفة ومتخالفة ومتنابذة، لا علاقات بين ذوات حرة ومستقلة، متساوية في الكرامة الإنسانية والأهلية والجدارة والاستحقاق. تماهي الأفراد ومحمولاتهم الإثنية – الدينية – المذهبية أو الطائفية المتنابذة لا يدل على التفكك الاجتماعي فقط، بل يدل على ركود الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية نفسها، وجمودها، حتى لتبدو حركة المجتمع أقرب إلى تدافع أو تنابذ كتل بشرية متجانسة، صماء، تدور كل منها حول شمسها الخاصة.
قد يعترض علينا معترض بقوله لا توجد ذات بلا هوية؛ نقول له أجل، ولكن ثمة هوية نرثها، وهوية نصنعها أو نبتكرها، ثمة هوية صُنعت لنا وفرضتها علينا سلطة بيداغوجية وثقافية مذهبية وسياسية .. وهوية نصنعها بأنفسها، بحيث تناسب ذواتنا، التي نختارها، وتوائمها. هذه الأخيرة هي نتاج الفاعلية الحية والعمل والإنتاج الاجتماعي، في ظل تقسيم العمل وتوزيع عوامل الإنتاج المادي والروحي، ونتاج توزيع الثروة المادية والروحية، وتوزيع السلطة، بين الفئات الاجتماعية وفي داخل كل منها. هذا يعني أن ثمة هوية هي تحديد ذاتي ثابت ونهائي للفرد والجماهة، وهوية هي تحديد موضوعي مفتوح على الممكن، تحديد أونطولوجي وتحديد وضعي من إنتاج الفرد الحي هنا – الآن، والمجتمع الحي هنا الآن. الاختلاف الرئيس بين الهوية الموروثة والهوية المبتكرة يكمن في استاتيكية الأولى وجمودها، وديناميكية الثانية وقابليتها للنمو والتغير، تبعاً لنمو الذات، ونمو الفردية، ونمو الرابطة / الروابط الإنسانية والاجتماعية والوطنية، بالتلازم الضروري. ثمة إذاً هوية تختارنا، وتشكلنا، كما تشاء، في حدود “حريتها، ومقدراتها؛ وهوية نختارها نحن، ونشكلها كما نشاء، في حدود حريتنا ومقدراتنا. وما من شك في أن الذات تتأسس على وعي العلاقة بين الفرد والنوع، على نحو ما يتعين النوع والجنس في آخرين مختلفين وأخريات مختلفات. هذه العلاقة، نعني علاقة الفرد بالنوع، هي علاقة الفرد بذاته، وماهيته أو كينونته الجوهرية. وهي علاقة موسَّطة بآخر / أخرى، بل بذات ثانية، مثلما العلاقة بين الأفراد موسَّطة بالنوع.
الذات مغروزة في الكينونة، بخلاف الهوية؛ ذلك أن الكينونة ناتجة وصائرة، نتوجها هو انتقالها أو تحولها من القوة إلى الفعل، من فضاء الإمكان والاحتمال إلى فضاء العالم المعيش، أو فضاء الواقع؛ وصيرها أو صيرورتها هي تحولها وتغيرها الدائمان، حتى يوافيها الموت، مثل إمكان أو احتمال تحول البيضة الملقحة إلى جنين، والجنين إلى خديج، والخديج إلى طفل، ثم إلى صبي فشاب فرجل فكهل فشيخ، وبالتأنيث. الكينونة والصيرورة احتماليتان، ثمة كون ممكن وكينونة ممكنة، للكائن نفسه، في كل لحظة. الذات محكومة بمبدأ الاحتمال أو الإمكان، ومبدأ الكون والفساد، ومبدأ الحياة والموت، الهوية لا هي كائنة ولا هي صائرة، لأنها كينونة زائفة، بل لأنها تزييف الكينونة؛ هي مجرد تحديد ذاتي للفرد والجماعة، بل للجماعة والفرد، يمكن الرجوع عنه، بخلاف الكينونة تماماً؛ هذي لا يمكن الرجوع عنها بإرادة ذاتية، وصيرورتها ليست عكوساً. الصَّيْر ذهاب إلى المستقبل وذهاب فيه. الهوية ضد الكينونة، نقيض الكينونة، ضد الذات ونقيض الذات. الكينونة والذات وجود أفرادي، متعين، متزمِّن – متمكِّن؛ الزمان والمكان هما وجها الكينونة ونسيج الذات. الهوية لا زمكانية. هي مجرد وهم؛ العرقُ (الإثنوس) هو مثالها الأبرز. لأن الهوية مجرد وهم جمعي، تحيل على زمان تصوري ومكان تصوري لخيال مريض، أو على زمن ميثي (أسطوري)، بلا مكان، أو مستقل عن المكان، هو زمن البدايات، الذي يعاد تحيينه باطراد. زمان الكينونة مكان سائل؛ ومكانها زمان جامد، بتعبير ابن باجة.
تتأتي مخاطر الهوية على توازن شخصية الفرد، وتماسك المجتمع، من طابعها الذاتي المطلق أولاً، ومن طابعها الستاتيكي ثانياً، وطابعها الجمعي (القطيعي)، النافي للفردية ثالثاً، وطابعها الماضوي وحكاياتها أو سردياتها النافية للتاريخ والتاريخية رابعاً، وطابعها الأصولي أو الأصولوي الحامل جرثومة التعصب والعنف خامساً، ومن تجانسيتها النافية للاختلاف، و”التجانس هو الموت”، بلغة جورج طرابيشي، سادساً، ومن وظيفتها التمييزية، التفاضلية والتفاصلية، أخيراً.
الهوية، بما هي تحديد ذاتي، تتوارثه الجماعات، ويُفرض على الأفراد. أما الذات فهي الكينونة الجوهرية للفرد؛ يصح في تحديدها أنها الفرد الذي إذا نطق إنما ينطق، في كل مرة، عن حاله؛ فلا ينطق بشيء إلا إذا كان هو ذلك الشيء؛ وإذا أمسك عن الكلام عبرت معاملته عن حاله، وكانت ناطقة به”[2]. ويعبر عنها قول العامة: كل إناء ينضح بما فيه. الذات كالأرض، تتفاوت في خصوبتها، ولا يخرج منها إلا ما يُزرع فيها. وهي مفارقة للغرائز والنزوات الطبيعية، مع عنصر طبيعي غير مرفوع. تمتاز الذات من الهوية في كونها قابلة لـ “الفناء” في غيرها؛ إذ فناؤها في غيرها هو وجودها في ذاتها، فلا يُعبَّر عن حقيقتها إلا بالضمير نحن؛ إذ الغيرُ (على إطلاق اللفظ، بالمفرد والجمع) هو / هم / هنَّ قوام الذات ونصابها وعمادها؛ فهي حضور الغائبين والغائبات، وتناغم المختلفين والمختلفات. فإن حضور الغير في الذات هو شرط إمكان حضورها بينهم/ـن، وفي ذات كل منهم/ـن.
استقلال الوجدان وحرية الضمير شرطان لازمان لإمكان الحب، مؤسسان أنطولوجياً على استقلال الإنسان عن الطبيعة[3]، ولا يخرجان عن شروط هذا الاستقلال، بصفته عملية جارية، لا تتوقف ولا تنتهي، إلا بفناء النوع؛ إذ كل معرفة جديدة، هي شكل من أشكال الاستقلال عن الطبيعة ودرجة من درجاته، وشكل من أشكال الاستقلال عن المجتمع والدولة وعن السائد والمألوف ودرجة من درجاته. استقلال الوجدان الفردي، عن الوجدان الجمعي والوعي الجمعي والحس المشترك أو “العقل السليم” يشبه استقلال القانون عن الظاهرات، على الصعيد الفيزيقي، واستقلال القيمة عن المنتَجات، على صعيد الاقتصاد السياسي، واستقلال الدستور والقانون، عن العلاقات الاجتماعية – الإنسانية السائدة هنا – الآن[4]، على الصعيد الحقوقي. إنه استقلال من أجل الوحدة، في كل مرة.
ومن البدهي أن فكرة الاستقلال، تتضمن الحرية، وتعني ولادة الذات، ولادة الفرد الإنساني، على نحو ما نعرِّفه بأنه فرد – نوع، أنثى – ذكر، متناه – لامتناه، فاعل – منفعل، خالق لأفعاله وأقواله ومسؤول عنها. فلعل ما يميز الإنسان من سائر الكائنات الحية هو هذا الاستقلال عن الطبيعة، ثم معرفة الأنواع والكليات، التي عصمت الإنسان من اختزال الوجود في مجرد أشياء مفردة قائمة بذاتها، واختزال المعرفة في الإدراك الحسي.
ندعي أن معرفة الأنواع والكليات أو الماهيات لا تغلق أي سؤال، ما دام من يسأل هو الفرد الحي هنا – الآن، الفرد الممكن في مجتمع ممكن ودولة ممكنة وجماعة إنسانية ممكنة وطبيعة ممكنة، ولسنا مؤهلين للحكم في ترتيب كرونولوجي. لعل معرفة الكليات والماهيات تطرح نوعاً جديداً من الأسئلة توجه التفكير إلى الأعماق، أي إلى الكون الميكروي، لا إلى التأمل في الكون الماكروي. ولعل الحب والنفور، الحب واللاحب، هما قطبا الكينونة؛ ولعل إمكانات التجاذب والتنابذ بين الأفراد محكومة بهذا المعطى الوجودي، أي بإمكان الحب وإمكان اللاحب، إلى جانب معطيات أخرى، ذهنية – نفسية ومعرفية وثقافية. فإن الانجذاب إلى شخص أو أشخاص قد يخفي انتباذ شخص آخر أو أشخاص آخرين. ولسنا على يقين من كون التجاذب أو التنابذ هو الذي يترجم نفسياً إلى “اختيار”؛ إذ للاختيار أثر مهم، أن لم يكن حاسماً في ذلك؛ فاختيار الأشخاص، الذين نحبهم واللاتي نحبهـن، واستبعاد آخرين وأخريات لا نحبهم/ـن هما شكلان، إيجابي وسلبي، من أشكال “اختيار” ذواتنا. وضعنا كلمة اختيار بين حاصرتين للإشارة إلى أنْ لا اختيار خارج نطاق الضرورة، التي تضعها الحرية وتنفيها، في الوقت ذاته، أو خارج نطاق الضرورة الكامنة خلف المصادفة، التي تسم غير قليل من العلاقات الإنسانية، ولا سيما علاقات الحب واللاحب. لذلك نعتبر الحب ظاهرة اجتماعية محايثة للكينونة.
- – يراجع، على سبيل المثال، فتحي المسكيني، في “الحرية والهوية، نحو أنوار جديدة”، جداول، بيروت، 2011. و”الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة الـ نحن”، دار الطبيعة، بيروت، 2001. ↑
- – استقينا هذا المعنى من كامل محمد محمد عويضة، ابن باجة الفيلسوف الخلاق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، ص 17، بتصرف. ↑
- – علاوة على الاستقلال الفيزيائي، كاستقلال الجنين عن جسد أمه، وهو شرط إمكان المعرفة، ننظر إلى الاستقلال عن الطبيعة على أنه نتاج عملية تاريخية هي تحويل خصائص الطبيعة وخصائص المجتمع والدولة .. إلى معرفة هي شرط إمكان العمل والإنتاج الاجتماعي والتواصل الإنساني، تنتظم في أنساق شتى هي ثروة الذات الفاعلة – المنفعلة، بل هي قوام الذات. بهذه العملية تصير الطبيعة إنسانية والإنسانية طبيعة في الفرد – النوع، الفاعل/ـة – المنفعل/ـة، وكذلك يصير المجتمع إنسانياً والإنسانية رابطة اجتماعية. لإيضاح هذا المعنى نضرب النقود مثالاً، إذ هي القيم التبادلية لمنتجات العمل مستقلةً عن قوامها الفيزيقي. يراجع كارل ماركس في الغروندريسه، ترجمة عصام خفاجي. الذات التي قوامها خصائص الطبيعة والمجتمع والدولة هي الجسد المنسوج من “معرفة حية”، أو معرفة متعضية، ولا شيء غير ذلك. بهذا يكون الروح أو تكون لغزاً محلولاً. ↑
- – بسطنا هذه المعاني بالتفصيل في كتابنا :اغتراب الإنسان وتغريبة، تأملات في أصل الدين والملكية الخاصة والسلطة واضطهاد النسان. ↑