Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

الياس مرقص حياته، مسار عمله، وفكره السياسي

 

 لا يخامرني شكّ في أن التصدي لعرض سيرة حياة الياس مرقص، ومسار عمل إضافة إلى استعراض تجربته السياسية وفكره السياسي، رغم متعته، ليس أمرًا يسيرًا على الإطلاق؛ ذلك أن الرجل عاش حياة عمل وجهاد لم تنقطع، امتدّت من مطلع خمسينات القرن الماضي حتى مطلع تسعيناته، ترك لنا من خلالها إرثًا غنيًا في تجربته السياسية، وفي فكره السياسي الذي ما زال في جوانب كثيرة منه راهنًا، وفي إطلالاته الفلسفية التي شغلته في السنوات الأخيرة من حياته، على وجه خاص. إضافة إلى أنه عاش حياة صاخبة في عالم كان صاخبًا أيضًا، في سورية، وفي الوطن العربي، والعالم.
أولًا: ترجمة شخصية موجزة
نشأ الياس مرقص في اللاذقية في عائلة من المعلمين، في مناخ ثقافي حقيقي يعرف معنى التواضع، يؤمن بنسبية الدنيا، وبالتسامح، وبمبدأ الوجدان ضميرًا ووعيًا، وبالأخلاق عملًا وتعاملًا مع البشر. حصل على البكالوريا (القسم الأول العلمي في عام 1945) من مدرسة الفرير و (القسم الثاني: فرع الفلسفة في عام 1946)، وعلى شهادة مرشح في العلوم الاجتماعية وإجازة في العلوم البيداغوجية (التربوية والتعليمية) في عام 1952 من جامعة بروكسل الحرّة. يقول الياس إن السنة الأولى من دراسته الجامعية 1946- 1947، بشكل خاص، خدمته كثيرًا في عمله اللاحق بفضل موادّ كتاريخ الفلسفة والمنطق الحديث والرياضيات العامة وموادّ تاريخ “المجتمع والمؤسسات”. وكان يؤكد باستمرار أنه ظلّ يتابع بعض الكتب المدرسية الجيدة في مستوى الإعدادي والثانوي ويتخذها مصدرًا أو مرجعًا في ثقافته وفي عمله.
قضى معظم عمره في التعليم (1952- 1979). هذه الوظيفة كانت مصدر رزقه ومعيشته، وقد وجد فيها متعة رغم أنف كلّ شيء كما يقول. أدّى خدمة العلم (1953- 1955)، وهي التي عرّفته على ياسين الحافظ، واستمرّت بعد ذلك صداقتهما وعلاقتهما الوثيقة ربع قرن من الزمن، حتى وفاة ياسين. كان بين الرجلين مشترك أو هوية من روح ومبادىء ومسائل، كما كان يحلو لالياس أن يصف هذه العلاقة.
بدأت علاقته بالحزب الشيوعي السوري إبّان فترة دراسته في بلجيكا، واستمرّ ارتباطه به بعد عودته إلى الوطن حتى العام 1956، حيث طُرد منه في ذلك التاريخ، مع آخرين، لنقده المستمرّ للأوضاع التي كانت تسود الحزب آنذاك ولمطالبته بالديمقراطية وبالمؤتمرات الحزبية. وعبّأت قيادة الحزب، في ذلك الوقت، أعضاءه ضدّ الياس الذي صار في نظرها عميلًا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية. ولوحق بعد طرده بصورة فظيعة وصلت إلى حدّ الاعتداء العلني والأذى الجسدي.
ومع ذلك، لم يكن يعتبر عدم انخراطه في الحياة الحزبية أمرًا ينصح به الآخرين، على العكس من ذلك، كان يرى أنه لا سبيل إلى تقدم الحركة السياسية من دون أحزاب. وبسبب حرصه على تطور الحركة السياسية وارتقائها لم يتوقف عن التفاعل معها وعن الإسهام في إغنائها، سواء في دراساته أو مناقشاته الحيّة والمباشرة مع العديد من أطرافها.
أسهم في إنشاء مجلة الواقع الفصلية، الفكرية الثقافية، في بيروت 1980- 1982، وفي إنشاء مجلة الوحدة الشهرية التي صدرت عن “المجلس القومي للثقافة العربية” في باريس 1984.
لسنا بحاجة لتعداد الكتب التي ألّفها أو تلك التي ترجمها. لكنّ بعض “مؤلفاته” هي أيضًا مقالات منشورة في مجلات: في دراسات عربية، في مجموعتين بعنوان في الفكر السياسي (مع ياسين الحافظ وعبد الكريم زهور وجمال أتاسي، صدرتا عن دار دمشق 1963)، في الفكر الاستراتيجي العربي، إضافة إلى مجلّتي الواقع والوحدة وغيرهما. ومنها إسهامات في ندوات فكرية منشورة. ومقدّمات طويلة أو قصيرة وشروح وتعليقات على كثير من الكتب التي ترجمها ونشرها، وأزعم أن هذه المقدّمات كانت، في معظمها، تفوق في أهميتها النصّ المترجم ذاته. وقد نكون في حاجة إلى من يشتغل على هذه المقدّمات التي تحتاج إلى دراسة مستقلّة بذاتها.
مسار عمله:
كثيرون من الذين اهتموا بالياس مرقص، أو كتبوا عنه ودرسوه، يميلون إلى تمييز طورين اثنين في مجموع عمله وفي مساره: طور أول يمتدّ من منتصف الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، وهو الطور الذي كتب فيه معظم مؤلفاته المعروفة، إضافة إلى ترجمات مهمة أيضًا؛ وطور ثانٍ يمتدّ من منتصف السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات، وهو الطور الذي اتّسم أكثر بالانكباب على الترجمة، واستأثرت فيه الفلسفة بالحيّز الأكبر من نشاطاته وجهوده. غير أن الياس، في اختزال مجموع عمله ومساره، يميل إلى تمييز ثلاث لحظات بالمعنى المنطقي للكلمة:
اللحظة الأولى، وهي اللحظة التي كانت تحت تأثير أمرين اثنين: أولًا، تحت تأثير المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (1956)، والمسألة النظرية والعملية التي دشّنها باعتبار أن الثورة الاشتراكية هي ضرورة ووعي، هي لزوم وخيار، وهي الخيار الوحيد من وجهة نظر الإنسان وتاريخه ومصائره إزاء أكبر مفترق في تاريخ النوع، وباعتبار أن هذه المعرفة، الواجبة والمسؤولة، ترتكز، بحسب الياس، على مبدأ الجوّانية أو “لحظة الذاتية المطلقة” (كما يقول هيغل) التي لا تقبل كعبة مادية والتي تصير في عنصر الفكر المفكّر، لحظة الـ “أنا أفكر” (الديكارتية)، منطلقًا وقاعدة لمعرفة الواقع أو العالم مع مبدأ المراجعة البدهي والمسؤول سعيًا دائمًا إلى الحقّ والحقيقة. هذا أولًا، وثانيًا، تحت تأثير القومية العربية التحررية (حوالي سنة 1955)، وارتقاء النضال السياسي العربي من المستوى الليبرالي إلى المستوى الشعبي والديمقراطي، اتساع نطاقه وتعمّق جذوره، تسيّس الملايين أو عشرات الملايين من الناس، نزولهم إلى الشارع في يوم واحد من الخليج إلى المحيط في المناسبات القومية (سنة 1955، وسنة 1956، وقد استمرّت هذه الحال فيما بعد : 1958، 1961، 1963، 1967 الخ..)، واستنادًا إلى ما كان قد كوّنه الرجل من ثقافة ماركسية كافية، كان يرى أن مسألة المستقبل كبيرة جدًا، وأنه إذا لم يتوفّر الوعي المطلوب، فسينهار كلّ شيء عربياً وعالمياً. هنا صارت القضية مسألة فكرية نظرية إيديولوجية أولاً، وتاريخية واستراتيجية أكثر من أيّ وقت مضى. وكان قد قال في أوائل 1958، بضرورة دمج، أو جمع، أو توحيد، الحقيقة الكلية للماركسية والحقيقة العيانية والمنظورة للنضال العربي، هذا ضد حكاية “التطبيق”. أصبح سؤاله ما هي الماركسية؟ وكان جوابه: مرشد للعمل، ومرشد للنظر، لمعرفة الواقع. كانت الأمور على ما يكفي من الوضوح في وعيه منذ تلك السنوات. في تلك الحقبة الأولى، جابه بتأنٍّ الماركسية الستالينية السائدة، المحلية وغير المحلية، في المستويين النظري السياسي والنظري العام بوجه الإجمال. لم يتراجع جوهريًا عن شيء مما كتب، باستثناء نقطتين يقول إنه تخطاهما في كتاباته اللاحقة، وكان يشير إليهما في أحاديثه مرارًا . هاتان النقطتان يُمكن بسطهما فيما يلي: إن مؤلّفه الوحيد الذي نال طبعتين اثنتين هو “الماركسية في عصرنا” كتبه في سنة 1964، وطُبع في أواخر العام المذكور، ثم طُبع مرة ثانية بعد حرب حزيران 1967. هذا الكتاب الأشهر تجاريًا، هو، ربما، الكتاب الذي لم ينل رضاه تمامًا كما كان يقول. لكن أصدقاء له كانوا يخطّئونه، وبحق، انطلاقًا من كون هذا الكتاب يتضمّن عرضًا تعليميًا جيدًا، منهجيًا، يسدّ ثغرات كثيرة، يُعطي معرفة يجهلها القارىء العربي (وربما ما زالت ضرورية اليوم).
لكن الياس يظلّ عند رأيه أن في هذا الكتاب خطأين اثنين هما باختصار:
1- حكم “يساري” أو “إدانة يسارية” لمجرى السياسة الشيوعية الفرنسية (1936- 1937) في موضوع “الجبهة الشعبية والسلطة”، رغم أنه قرأ بعد تلك السنة (1965)، أو بعد 1970، ما يبرّر رأيه استناداً إلى مذكرات شخص فرنسي حزبي مهمّ. لهذا، فانه كان يُفضّل أو يميل إلى “تعليق الحكم” في هذه النقطة على الأقلّ.
2- في المستوى النظري الفلسفي، يُقرّ بأنه ذهب إلى ما مفاده إلغاء اللحظة الثالثة “نفي النفي” من الجدل أو الديالكتيك. وهذا بالطبع اتجاه باطل كما كان يقول. لقد أشار مرارًا إلى أنه أحسن صنعًا باسترجاعه مقولة النفي آنذاك، لكن أيضًا: بدون “نفي النفي” لا ديالكتيك.
لكن، لا بأس من الإشارة هنا إلى أن الياس قد ذهب في مراجعته هذه إلى أبعد من ذلك بكثير فيما بعد. فلقد أشار في الحوار الذي أجراه معه الأستاذ جاد الكريم الجباعي في نهاية عام 1990، أي قبل وفاته بقليل، ولم يأخذ طريقه إلى النشر إلا في عام 1999، إلى أحقيّة الطرح الذي كان قائمًا منذ أواخر الخمسينات، إلى مسألة المرحليّة، إلى سنّ طريق عربي، مرحليّة عربية لا تكون نسخة من المرحليّة السوفياتية اللينينية الستالينية، ولا نسخة من المرحليّة الماوتسي تونغية، ولا المرحليّة الستالينية المادية البكداشية؛ وإلى بداية التخلص منذ 1958 من قصة (التعاقب): الثورة الديمقراطية البرجوازية أولاً ثم الثورة البروليتارية الاشتراكية، أو الثورة الوطنية الديمقراطية ثم الثورة البروليتارية الاشتراكية. ويقول “منذ 1958 قمت بنقض هذا الرأي الشائع، وبعد ذلك تخبطّت، أي قلت كلامًا صحيحًا وكلامًا غير صحيح، وهذا شيء طبيعي لا أخجل منه ولا أخاف.. فالثورة الوطنية الديمقراطية التي طرحناها، والثورة الديمقراطية البرجوازية كما طرحها ياسين الحافظ، والثورة القومية الديمقراطية التي طرحها ياسين في السبعينيات، هي طرح متقدم. ومع ذلك فكلّ هذه الطروحات ناقصة، لأنه يجب أن نأخذ بمقولة التأخّر على نحو أغنى مما طرحه ياسين، نُريد أن نعطي فكرنا النظري ما تستحقّه الجذور الروحية، الجذور الثقافية العامة” ، وينبغي أن “نؤكد علم الأخلاق وعلم الجمال والمنطق والتاريخ وسائر العلوم القيميّة المعياريّة ضدّ الوضعانيّة العربية الدارجة”.
في هذه الحقبة هذه التي نعرض لها، وفي عام 1966، صدر كتاب (نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري). في هذا الكتاب بيّن أن الأمة ليست أقنومًا منبثقًا عن اللغة. تابع ساطع الحصري على أرضه ذاتها تفصيليًا وبدقّة، عرض الأمثلة التي عرضها (يوغوسلافيا، بلجيكا، سويسرا، والولايات المتحدة). بيّن ما هو التاريخ الأوروبي في حيثيّة الأمة والوحدة، وتابع مسائل النهضة العربية والفكر القومي، وراء الحصري. أدان المثالية الطبيعية أو الجوهرية الطبيعية (الأمم تصعد وتهبط وكأنها ظاهرة من ظاهرات الطبيعة)، وأدان على طول الخط (الماركسية الاقتصادية)، هذه الجوهرية المقابلة.
اللحظة الثانية، وهي التي أخذت مداها في عام 1970. في هذا العام أصدر الياس سلسلة من المؤلفات. وهو يختزل تلك اللحظة الثانية في المعادلة التالية: “الاقتصادية” ليست الماركسية، بل شبحها الملازم، ظلّها الطبيعي وكاريكاتيرها القبيح. في تلك اللحظة أبرز شيئًا مهملًا في تاريخ لينين: نضاله ضد “الاقتصادوية الإمبريالية” أو اليسراوية الاقتصادوية العامة في صفّ الماركسية الثورية، سنة 1916، و”حول” تلك السنة. وقام بتعرية “الاقتصادية” بما هي تجريد وتضخيم لمستوى “علاقات الإنتاج” (الطبقات، صراع الطبقات) و”الأيديولوجيا”، مع التضحية بالباقي، وإلغاء أو تذويب المسألة القومية بحجّة أننا في عصر متقدّم، ثوري عام.
يبدو واضحاً أن كتاب ( الماركسية والشرق ) الذي صدر في عام 1968، وهو مؤلف ضخم يربو على سبعمائة صفحة، هو المدخل الموضوعي إلى هذه اللحظة الثانية.
يقول الأستاذ أنطون مقدسي في ندوة (الياس مرقص والفكر القومي) التي انعقدت في عام 1992 في مدينة اللاذقية: “سؤال الياس مرقص كما أستخلصه من كتبه هو: ما الذي يقول لنا اليوم ماركس نحن أبناء النصف الثاني من القرن العشرين؟”.
في هذا الكتاب ( الماركسية والشرق)، يُجيب الياس عن هذا السؤال بما يلي: “لا تصطنعوا تاريخًا ماضيًا، بل اصنعوا المستقبل، مع شعبكم وشعوب العالم. إن مجتمعكم ليس في القرن العشرين مجتمعًا “آسيويًا” راكدًا، ولا مجتمعًا برجوازيًا قوميًا (ولا روسيا1914)، بل هو مجتمع مستعمر ونصف مستعمر ونصف إقطاعي شرقي، ومجتمع متخلّف متحرّك، ملغوم ومتفجّر. وبقدر ما تفهمون هذه الحركة الانفجارية تستطيعون أن تتقدّموا .. وإذا أعمتكم الصيغ ” الماركسية ” عن فهم هذه الحركة – الذي يتضمن فهم مجتمعكم وخلفيته الآسيوية أو شبه الآسيوية، ليس في تجريدها (أي في أسلوب الإنتاج) بل في تشخيصها العياني (أي البداوة، الطوائف، المذاهب، الأقليات القومية وشبه القومية.. الخ)، فإنكم لن تتقدموا ولن تساعدوا على التقدم، وستذهب تضحياتكم سدى، وسيختلط ضرركم ونفعكم، وقد يعوق ضررُكم نفعكم. ضعوا الإمبريالية في مركز الاهتمام، وتفهموا علاقاتها الواقعية في الوطن العربي والعالم .. افتحوا أعينكم على أنكم (في عام 1968) لستم أمام “قوانين التاريخ الموضوعية” (التي لستم سدنتها)، بل في غمار صراع رهيب ضد الإمبريالية والصهيونية (وحلفائهما المحليين) الذين قد لا يعرفون “قوانين التاريخ الموضوعية” ولكنهم يعرفون ما هي القوى الموضوعية وما هي نقاط الضعف، ويعرفون ماذا يريدون وماذا هم فاعلون: التجزئة، التجزئة المتعاظمة، في الأرقام الاقتصادية الموضوعية، والواقع السياسي للقوى والتيارات، سحق وتفتّت وتفتيت الحركة الشعبية، ضياع المثقفين الثوريين، والقبول بـ “ديناميكيّتكم الثورية” المشوّهة – القاصرة التي ليست في أحد وجوهها سوى امتداد لانعدام ديناميكيّة التقدم والنمو …” .
مناظرات 1916 السياسية التي ارتكزت على الجهد الفلسفي الكبير الذي بذله لينين في السنوات 1914– 1916 .. و”الماركسية ضد الاقتصادوية”، كان لا بدّ لها من أن تقود الياس إلى موقع ثالث، إلى اللحظة الثالثة في مجموع عمله وفي مساره: “الجدل ضد الوضعويّة”.
اللحظة الثالثة: إذا كانت قضية الوعي والنظرية عمومًا قد احتلّت موقع الصدارة في عمله، فقد باتت قضية الفلسفة بشكل خاص شاغله الأول في هذه اللحظة. في الحقيقة، لم يكن الياس راضيًا في هذه الحقبة، لا عن الوعي العربي من جهة، ولا عن الوعي الماركسي من جهة ثانية. لقد باتت قضية الوعي والتعليم والثقافة العامة كبيرة جدًا لديه، ورأى أن وعينا بعيد عن المفهومية والواقعية، وهو أقرب إلى الشيئية والرمزية. قسم مما كتبه في هذه اللحظة قد نُشر، وقسم لم يُنشر، وقسم مازال في الدروج مع الأسف: مشاريع ومسوّدات …
إذن هذه هي اللحظات الثلاث في مجموع عمل الياس وفي مساره. ونوجز الأمر بالقول إنه، ابتداء من عام 1956، شرع بإنشاء خطّ آخر. درس انتقاديًا تاريخ الأحزاب الشيوعية المحلية. كشف غرقها في استراتجية ثورة ديمقراطية مزعومة، غير ديمقراطية، ذيليّتها، موقفها من الوحدة العربية ومن قضية فلسطين. انتقد نظرية ستالين في المسألة القومية، وبيّن سير تعمّق وتعميق التجزئة العربية على يد الإمبريالية، وأن الوحدة العربية لا يُمكن أن تأتي من التطوّر الموضوعي للاقتصادات العربية، وأنها الطريق الذي لا غنى عنه لتحرير البترول العربي وفلسطين العربية.
انتقد الفكر القومي وكشف حدوده وعجزه عن تحقيق المهام القومية. اعتبر دائمًا أن إنشاء الفكر الماركسي العربي، أو استنباط قراءة عربية للماركسية، يمرّ بالدرجة الأولى عبر تفنيد الأفكار والخطوط المناهضة للماركسية داخل صف القوى المنادية بالماركسية. والأفكار الماركسية المزيّفة كانت حتى أمس قريب هي، بالدرجة الأولى، أفكار الستالينية اليمينية وانحطاطها البكداشي. ومن جهة ثانية، عبر دحض التيارات التي تستّرت بأقنعة جديدة “يسارية” على أساس “الاشتراكية” القطرية وجملها عن “الحرب الثورية” مع حرصها الدائم على ضرب حركة الجماهير وتعويق الوحدة العربية.
لقد خاض الياس نضالًا فكريّا دؤوبّا ضدّ من جعلوا من المفهوم بديلًا عن الواقع، ومن نظرية التاريخ بديلًا عن علم التاريخ، ومن منهج العلم بعيدًا عن موضوعه، ومن مذهب صراع الطبقات بديلًا عن الصراعات الواقعية الطبقية والقومية والسياسية، ومن لفظ “الثورة” بديلًا عن الثورة الاجتماعية الحقيقية.
خاض منذ بداية السبعينيات سجالات هامة مع التيارات الفكرية والسياسية التي لها وجود فاعل ومؤثر في الفضاء العربي، خاصة في المشرق العربي وسورية. وشكلت هذه السجالات تراثًا بالغ الأهمية في الفكر السياسي العربي.
فبعد سجاله مع الفكر القومي في منتصف الستينيات، دخل منذ بداية السبعينيات في سجالات مع الخطوط المناهضة للماركسية داخل صف القوى المنادية بالماركسية، كما جرت الإشارة إليه قبل قليل. دخل في مناظرة طويلة مع (بسّام طيبي) حول الماركسية والمسألة القومية في كتابه الموسوم بهذا العنوان (1970)، ودخل في سجال مع الحزب الشيوعي اللبناني في مؤلفه الضخم (الماركسية اللينينية والتطور العالمي والعربي في برنامج الحزب الشيوعي اللبناني وفي نقدنا لهذا البرنامج) (أيضاً 1970)، وذلك بعد المؤتمر المهمّ لهذا الحزب الذي انعقد في عام 1968، والذي سار شوطًا لا بأس به في كشف وفضح وتقليص الخطّ السابق الستاليني الذي فرضه “الأمين العام” السوري.
ودخل في سجال مع المقاومة الفلسطينية والتيارات التي تسترت بأقنعة جديدة “يسارية” في كتابيه (عفوية النظرية في العمل الفدائي– أيضًا 1970) و (المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن– 1971)، وهو الكتاب الذي مُنع من التداول في سورية في ذلك الوقت.
ودخل في سجال مهمّ مع الحزب الشيوعي السوري الذي كانت له معه وقفات امتدّت على ثلاث محطات: 1971، 1973، و1978.
سجاله مع الحزب الشيوعي السوري
سأقتصر هنا على إشارات سريعة للسّجال الذي جرى مع (الحزب الشيوعي السوري) في محطتيه الأوليين 1971 و 1973؛ لكنني سأتطرّق بشيء من التفصيل للخطوط العامة للحوار الذي جرى مع (الحزب الشيوعي السوري– المكتب السياسي) في عام 1978، نظرًا لكون الوقائع والمسائل التي تناولها هذا الحوار ليست معمّمة.. ولكونها ما زالت مسائل راهنة .
المحطة الأولى 1971:
من المعروف أن المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري الذي انعقد في أوائل حزيران من عام 1969، اتخذ قرارًا بتكليف اللجنة المركزية التي انبثقت عنه بوضع مشروع برنامج سياسي للحزب، على أن يُنجز هذا المشروع خلال سنة من تاريخ هذا القرار. وبالفعل وُضع هذا المشروع بين حزيران 1969 وأوائل حزيران 1970، وبحثته اللجنة المركزية في اجتماعها الذي انعقد في أوائل حزيران، 1970 وقرّرت طرحه على المناقشة العامة داخل الحزب. وقد قضى هذا القرار بطرح هذا المشروع على هيئات الحزب وأعضائه حصرًا وبعدم تسريبه إلى أيّ كان خارج دائرة الحزب، نظرًا للأزمة العميقة التي كانت تلفّه في ذلك الوقت. لكن المشروع تسرّب إلى الياس. ويعود الأمر لصاحب هذه السطور في هذا التسريب.
قرّر الياس على الفور كتابة سلسلة من المقالات حول هذا المشروع، مغفلة التوقيع. وبالفعل نشرت مجلة “دراسات عربية” أربع مقالات طويلة، الثلاث الأولى منها مغفلة التوقيع في الأعداد رقم 7، 8، 9 (أيار/ مايو، حزيران/ يونيو، وتموز/ يوليو 1971)، لكننا فوجئنا بأن المقال الرابع الذي نُشر في العدد 11 (أيلول/ سبتمبر 1971) قد ذُيّل باسم الياس. وقد فهمنا فيما بعد، كما ذكر الياس، أن ناجي علوش الذي كانت تربطه علاقة بدار الطليعة، وبالمجلة التي تصدر عنها، قد لعب دورًا واضحًا ومقصودًا في الكشف عن هوية صاحب هذه المقالات.
من الجدير بالذكر أن ناجي علوش كان في ذلك الوقت واحدًا من الذين تولّوا القيام بشنّ هجوم لاذع على الياس، خاصة بعد صدور كتابه “المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن” (نيسان/ أبريل 1971)، بسبب نقده تيار اليسار الجديد وتعرية جمله عن “الحرب الثورية” وسجاله مع المقاومة الفلسطينية ومنظوراتها حول “حرب التحرير الشعبية” التي شكلت في حينه غطاءً لكلّ الدول والأنظمة الهاربة من موضوع الصراع مع إسرائيل، في حين ركّزت هجومها على مصر وعلى عبد الناصر الذي رأت فيه “الشيطان الرجيم” الذي يعمل لتصفية القضية الفلسطينية عبر مؤامرة الحلّ السلمي الموهوم.
في كتابه الآنف الذكر، قال الياس: “لن تكون هنالك حرب شعبية تُحرّر فلسطين: سيكون هنالك حرب نظامية وجبهة شرقية ونموّ عربي ووحدة عربية، أو سيكون هنالك لا أقول (سلام) و (حلّ سلمي) بل مزيد من التدهور والهزائم”. .
في العدد رقم 10 (1971) من مجلة دراسات عربية (أي مباشرة قبل العدد الذي نشر المقال الأخير من سلسلة مقالات الياس حول “مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوري”، وهو المقال الذي جرى تذييله باسمه) مقال لناجي علوش بعنوان: “المقاومة: مواقع نقدها والهجوم عليها” يقول فيه: ..”تتعرض المقاومة لمؤامرة سحق وتصفية (لفتح الطريق أمام الحلول الاستسلامية).. وهي ذات شقّين: عسكري، تقوم به السلطات الأردنية تساندها أوساط عربية معادية للثورة (المقصود مصر)، وتدعمها وتُخطّط لها الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة؛ وسياسي إيديولوجي، لتصفية فكرة حرب التحرير الشعبية .. وشاء الكاتب “الماركسي” الياس مرقص أن يزجّ بنفسه في هذه المعركة، وأن يحمل لواء قيادتها.. لقد اختار الياس ألا يكون مع الجماهير، مع انتفاضاتها وحركاتها السياسية والمسلّحة، إنه نظريًا ضدّ كل ما هو قائم – ما عدا الناصرية – ومع نشوء حزب ماركسي – لينيني عربي، وطني جدًا، ثوري جدًا، لا يأتيه النقد لا من بين يديه ولا من بين رجليه، ولأنه حزبه الموهوم الماركسي– اللينيني العربي، لن يكون ما دام هو مُنظرّه ووكيله، وما دامت هذه الأفكار أساس دعوته” (هنا يشير الكاتب في حاشية له إلى اعتقاده أن هذا الحزب قائم في ذات “حزب العمال الثوري المجيد، ولكن.. يتبنّى هذا الحزب خطّ الياس مرقص في كل المجالات”، ثم يُضيف ملحوظة يقول فيها، وبسرور واضح، إنه: “أثناء طبع هذا المقال علمت أن حزب العمال الثوري أصدر كراسًا يُعلن فيه اختلافه مع الناصرية وانفصاله نهائيًا عنها”.
في “ندوة الياس مرقص والفكر القومي” التي نظّمها (المجلس القومي للثقافة العربية) في اللاذقية (آذار/ مارس 1992)، قال الأستاذ ناجي علوش في كلمته التأبينية: “.. إن الياس برز في وقت كانت الحياة العربية تخضع فيه لسياسات التراجع والتقلّب والتشويه والاستسلام والجمود.. ولم يخضع الياس أو يتقلّب، أو يتنازل عن الخطّ العلمي لخطوط الدعاوى السياسية التي تتراوح بين اليسار الطفولي والجمود المُغرق.. والانتهازية المفرطة” و”لقد اختلف الياس مع المقاومة الفلسطينية في أيام سطوتها، لا لأنه لم يكن مع تحرير فلسطين، بل لأنه كان يرى أن تحرير فلسطين، يمرّ عبر الوحدة والإرادة القومية، ولأنه كان يرى أن أية محاولة لا تأخذ الوضع القومي والموقف القومي والإرادة القومية بعين الاعتبار ستكون مجرد فقاعات زائلة.. وها هي الوقائع تسنده فيما ذهب إليه، بغضّ النظر عن أية خلافات في التفاصيل والاجتهادات” .
هذا موقف كريم من الأستاذ ناجي علوش بعد أكثر من عشرين عامًا أوصلتنا إلى المغطس الذي كنّا قد صرنا فيه.
على كلّ، كان للمقالات التي نشرها الياس حول “مشروع البرنامج السياسي” لـ (لحزب الشيوعي السوري) في ذلك الوقت، دور كبير انعكس في حيوية النقاش الذي كان دائرًا حول هذا المشروع في أوساط الحزب، لكن الجوّ أصبح مسمومًا في بعض أوساطه بعد أن جرى الكشف عن هوية صاحب هذه المقالات.
المحطّة الثانية 1972:
الأزمة التي كانت تتفاعل في الحزب الشيوعي السوري طوال سنوات الستينيات، أخذت معالمها تتضح إثر انعقاد مؤتمره الثالث في حزيران 1969. كانت أزمة عامة وشاملة. الخلافات التي برزت شملت المسائل كافة: في الفكر والسياسة والتنظيم، وتجلّت في مسائل الوضع السوري، وفي المسألة القومية (الوحدة العربية وفلسطين)، وفي مسائل في الوضع الدولي.
مفاعيل هذه الأزمة، أخذت تدفع الأمور نحو التفجّر، خاصة بعد تعميم اللجنة المركزية “مشروع البرنامج السياسي” على أوساط الحزب في حزيران 1970. كان واضحًا من صيغة “المشروع”، ومن لغته أيضًا، أنه كان محكومًا بتسوية ما بين طرفيه. وكان واضحًا أن الطرف المجدّد تمكن من طرح أفكاره وتوجهاته في المسائل المهمة الكبرى (الوحدة العربية وقضية فلسطين) وفي مسائل أخرى أيضًا.
بعد وصول الأوضاع إلى حافة التفجر، دُعي وفد من الحزب يمثل تياريه إلى موسكو للقاء مع “الرفاق الكبار”، من “الساسة” و “العلماء”، لمناقشة المسائل التي طرحها (المشروع) . لم يتمخّض هذا اللقاء عن اتفاق بين طرفيه المتخالفين، وبالتالي، لم تلبث الأمور أن وصلت إلى النتيجة المحتومة بعد قليل من عودة الوفد: الانشقاق الكبير الذي جرى في نيسان من عام 1972.
بعد فترة وجيزة من هذا الانشقاق، جرى نشر وتعميم (الملاحظات) التي أبداها “الرفاق الكبار” بصدد (المشروع)، وبصدد مسائل الخلاف الأخرى كافة. كانت هذه (الملاحظات) موضوع المحطة الثانية من سجال الياس مع الحزب في كتابه الموسوم بعنوان (الماركسية السوفياتية والقضايا العربية المعاصرة) الذي صدر في عام 1973. في الحقيقة لم يكن سجالًا مع الحزب بقدر ما كان سجالًا مع الستالينية العالمية وتجليّاتها البكداشية المحلية. وقد استأثرت المسائل القومية الكبرى (الأمة، الوحدة العربية، قضية فلسطين) بالحيّز الأكبر من هذا السجال، إلى جانب المسائل الأخرى المثارة. وبعيدًا عن الخوض في تفاصيل السجال، فقد اعتُبر هذا الكتاب، بحقّ، إضافة هامة في الفكر السياسي العربي.
المحطة الثالثة 1973- 1978:
في هذه المحطة، وعبر هذه السنوات، جرى حوار بين (الياس) و (الحزب الشيوعي السوري– المكتب السياسي)، أحد الجناحين اللذين تمخّض عنهما الانشقاق الكبير الذي شهده الحزب في عام 1972. وكانت هنالك أكثر من لحظة في هذا الحوار.
لم يعد الأمر سجالًا. تحوّل السجال إلى حوار، وارتقى الحوار إلى مستوى التفاعل الحيّ والمباشر. أخذ ينبني رويدًا رويدًا على أرضية مشتركة. انوجدت روح ومسائل مشتركة أيضًا من خلال بسط كثير من القضايا التي كانت مُثارة منذ ذلك الوقت.
تكثّف هذا الحوار عام 1978 عشيّة المؤتمر الخامس للحزب الذي كان يجري التحضير له، والذي انعقد نهاية ذلك العام وأقرّ موضوعاته المعروفة. إذن، كان الحوار في ذلك العام حول مسوّدة (مشروع الموضوعات) الذي كان يجري إعداده، وقد أخذ، أكثر من أي وقت مضى، طابعًا نظريًا مجردًا، وأخذ طابعاً عمليًا أيضًا.
سأتوقف عند هذه المحطة بشيء من الإسهاب لأسباب عديدة: يعود أولها إلى كون هذا الحوار أخذ في البداية طابعًا ضيقًا وشفهيًا ومباشرًا، ويعود ثانيها إلى أن الرجل لم يكن يريد لهذا الحوار أن يضيع، فعمد في وقت لاحق إلى توثيقه في أوراق زادت على أربعين صفحة من الحجم الكبير، ويعود ثالثها إلى أن المسائل التي أثيرت فيه ما زالت في معظمها، وبعد مرور قرابة ربع قرن عليها، مسائل راهنة؛ وأخيرًا لأن هذا الحوار قد أصبح ملكًا للتاريخ.
وبطبيعة الحال، تعتمد النصوص التالية على التوثيق الذي قام به الياس في الصفحات الأربعين المشار إليها أعلاه.
المسائل، موضوع الحوار، إذن، كانت كثيرة ومتشعبة. لكنني سأحاول هنا عرض أبرز الآراء والأفكار التي طرحها الرجل تحت العناوين الآتية:
أولًا: حول الاستقلال ومفهوم الاستقلال
يقول الياس إن “الاستقلال” ولفظ “الاستقلال” الذي كان يؤكد مرارًا وتكرارًا في (المشروع) المذكور، لا يعني الاستقلال. ذلك أنه ليس ثمة استقلال بدون خطّ مستقلّ، وليس هنالك من مبرّر، واقعيًا، للاستقلال إذا لم يكن استقلال خطّ. وهو، أي الاستقلال، ليس مسألة محض تنظيمية أو حقوقية.
الاستقلال، إذن، استقلال خط. وهو ضرورة مطلقة للمعرفة الموضوعية التي هي، بدورها، ضرورة مطلقة للعمل، خصوصًا لعملنا في ظرفنا القائم: عالميًا، عربيًا، وسوريًا. الجهل، قطعًا، عقبة دون الاستقلال، ولكن الاستقلال شرط للخروج من الجهل، لبناء معرفة تتكامل، وتَصوّر ينبني وينمو ويمتلئ.
والاستقلال مستويات، أو وجوه لا يمشي بعضها بدون البعض الآخر: الاستقلال، بما هو (وجدان، وعي، وضمير)، هو استقلال الإنسان، الفرد – الشخص، الحزب، الشعب، الأمة الخ. الاستقلال هو نقيض التبعية. والمقصود بالتبعية، ليس فقط لجهة أو طرف ما، وإنما مجموع التبعيات.
العضوية في الحزب ليست تبعية. من يدخل إلى الحزب لا يترك وجدانه ( عقله، وعيه، وضميره) على الباب. هو يدخل، أي الذي يدخل: ذاته، وجدانه. بدون ذلك الحزب يعني صفرًا، عدمًا. هذا طريق طويل. طويل وشاقّ. لكن لا بدّ منه، ولا بدّ من تَصوّر أساسي له.
ثانيًا: في اللغة (لغة السياسة)
اللسان الإنساني الموجود يحمل مشكلة، إشكالًا، التباسًا، وخطرًا. ذلك أنه تكونت لدينا منذ عشرات السنين “لغة خاصة”، تدريجياً تدهورت، صارت كأنها رمزية، دينية، باطنية، لغة سكرانين: مسيرة ظافرة، قطع أو فقرات تُكرَّر، تدخل في الوثائق إجباريًا، مصطلحات إجبارية بمناسبة وبغير مناسبة. وباتت لغة شانتاج مع أنفسنا. نرى مفاهيمنا– كلماتنا مباشرة في الواقع. بسبب هذه المباشرية، وبسبب ما سبق، كلماتنا لا تلبس الواقع، نقع في لغة الكذب. عباراتنا تنفصل عن قناعاتنا، ولكنها تلتقي مع عبارات ومصطلحات وطرق كلام جهات متنوعة: إذاعة، تلفزيون، صحافة، رابطات وروابط، منظمات حالية وقادمة. نهاجم “البيروقراطية”، “البرجوازية”، “البرجوازية الصغيرة”، “الرأسمالية”، “الإمبريالية” الخ. الإذاعة غير بعيدة عن معظم ذلك. لكن يجب أن نفكّر: لعلّ هذه اللغة، كلّها، هي سبب في الركود، اليأس، الضياع، لعل هذه اللغة هي التي تضيّعنا. يمكن، ويجب، أن نعتمد “لغة” أقرب إلى الشعب والى الواقع. لغة لا تُدخل “البرجوازية” و”البرجوازية الصغيرة” على الطالع والنازل.
ثالثًا: حول تجربة الحركة الشيوعية
قدّم الياس في مناسبات عدة قراءات نقدية معروفة لواقع وتجربة الحركة الشيوعية العالمية. ورأى، خاصة بعد الانقسام الكبير في الحزب الشيوعي السوري الذي جرى في بداية السبعينيات، أن سادة هذه الحركة لم يشاؤوا القبول بـ/ أو اكتشاف حقيقة أن الوحدة ممكنة مع الاختلاف، أن كليهما ضروريان، أن المجتمع البشري ليس قطيعًا، أن الشيوعيين لا يحتاجون إلى أية كعبة، أن هذه هي مصلحتهم ومصلحة الشعوب أولًا وحقّ هذه الشعوب على الآخرين. وأوضح كيف أنهم، عمليًا، في زمن ستالين، حذفوا مقولة التناقض (ونظريًا أقصوها وأنزلوها وخفّضوها) في تَصوّرهم للتجربة وللواقع. وكما يقول في كتاب نقد العقلانية، الستالينية حذفت الأفراد “لصالح” المجتمع والجماهير. ستالين منذ كتابه الأول (اشتراكية أم فوضوية) قال: شعار الفوضوية هو “كل شيء للفرد” وشعار الاشتراكية هو “كل شيء للجمهور” ، (وهذا يناقض بالطبع نص وروح خاتمة الفصل الثاني من البيان الشيوعي التي ذهبت إلى أنه “في مكان المجتمع البرجوازي القديم، مع طبقاته وتنافياته أو تناحراته الطبقية، يظهر تشارك فيه يكون التطور الحر لكلّ واحد (النصّ الإنكليزي: لكلّ فرد) هو شرط التطور الحرّ للمجموع. هذا الانحراف، هذا الحذف أو التقليص، وهذا الكبت للتناقض، للمقولة الفلسفية الأولى، ينفي الحياة والحركة المجدية إلى الأمام، و”التناقض المكبوت والمسفوح يثأر لنفسه في شكل انفجار أو انفجارات” .
ومن المعروف أن الياس ظلّ حتى أواخر حياته يؤكد قناعته بأن “(السياسة الاقتصادية الجديدة) في عشرينيات القرن الماضي، كانت في نظر لينين مشروعًا تمدينيًا شاملًا ينفذ إلى كلّ قرية وبيت، كانت مشروعًا تاريخيًا مديدًا نحو المجتمع الاشتراكي، طريقًا نهائيًا. بهذا المعنى، ستالين حوّلها إلى تراجع تكتيكي من أجل التقاط الأنفاس والانقضاض من جديد.” .
رابعًا: التجربة العربية الماضية
من المعلوم أن هناك خطابًا ساد في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وبصورة خاصة بعد هزيمة حزيران 1967، لدى منظمات اليسار، الماركسية وسواها، في سوريا وحولها، يقول إن الثورة سقطت بسبب البرجوازية الصغيرة، سقطت لأنها لم تكن ثورية يسارية كما يجب، أو لأن الطبقة العاملة لم تكن تقودها. يقول الياس: كان من الممكن أن نقيم (أي في أحزابنا) تصورنا للمستقبل وخطتنا على هذا الأساس. ومن الممكن أيضًا، إضافة إلى ما سبق، أن نتحدث عن “العرب” و”التجربة العربية” و”البرجوازية الصغيرة” ..الخ ويكون المفهوم أو المعني أو المقصود مصر وعبد الناصر، ونحن هنا، في سوريا، في مغطس خطير وبالغ الأهمية في سير التجربة الماضية كلها أيضًا. لكن، هذا ليس خطًا فحسب، بل ويبني (بسرعة) الطريق المسدود، ويجعلنا تحت حكم هذا الجموح الثوري البروليتاري الماركسي الذي كان سائدًا في ذلك الوقت. نسخر من القومية العربية التحررية”، نخجل من تلك الحقبة، من تلك المرحلة في تاريخ بلادنا وشعبنا وأمتنا (في حين أن هذه الحقبة هي مرحلة عربية فعلًا وغيرها لا يستحق كلمة “مرحلة”)، وننسى أو نجهل أو نتجاهل نقطة تفوّقها الهائلة: تحرّك ملايين وعشرات الملايين من البشر، من الكادحين وغيرهم، من العمال والبرجوازيين والفلاحين والعساكر والبدو ورجال الدين والطلّاب والمومسات .. الخ، نجهل أو نتجاهل ظهور أو صعود الذات القومية والذات الشعبية تسيّس أوّل وأوّلي لملايين من البشر. وهذه نقطة تفوق بالمقارنة مع ما آلت إليه الأمور بعد ذلك، والآن، بعد ذلك مباشرة صعود موجة “اليسار” الكبرى، ونزول وانتكاس لشعب. طلاق بين موجة اليسار الكبرى وغالبية الشعب المعطّل.
كان الياس يرى أنه ينبغي علينا (في أحزابنا) أن نخلص ونتخلّص من الـ “بعد ذلك”، وأن نعود ونعقد الصلة التي قطعوها مع “ذلك”، مع زمن صعود الذات، أن نردّ الاعتبار للمرحلة العظيمة فعلًا. وردّ الاعتبار هذا، شرط لنقد التجربة، المرحلة، بشكل صحيح ومجدٍ وفاعل. لكن الشرط، أي ردّ الاعتبار، ينبغي أن يكون سابقًا على المشروط، أي النقد، خاصة في حالتنا الذهنية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وهو شرط أيضًا للاستقلال عن جميع الذين يجب أن نستقلّ عنهم، في سورية وغيرها، وللاندماج مع الشعب والتاريخ. وبحسب رأي الياس أنه بعد ردّ الاعتبار هذا (أي الشرط)، يمكن أن ندخل في (المشروط) أيّ في نقد التجربة ونقد عبد الناصر الذي يجب أن يطال ما يلي:
الأيديولوجيا ( وهذا نقد يطال عبد الناصر ورفاقه وأيديولوجيا القومية العربية .. الخ)
الانجرار في أيار 1967، والاستعداد الشعبي والقومي للسير والوقوع في الفخ: يعني عدم تثقيف الناس في اتجاه ضرب من المزاودة، عدم صراحة وصدق، أو نقص صراحة وصدق، وكذب إذاعي.
وهم وباطل القومية – الاشتراكية: وهنا يُشير الياس إلى أن خطيئة عبد الناصر في هذه المسألة أنه كان لا يجوز أن يُسمى باسم (اشتراكية) لا واقع مصر في ذلك الوقت ولا حتى الذي كان يُعمل وُيراد مباشرة وقريبًا في مصر. بمعنى آخر، لا ينبغي أن ننتقد عبد الناصر لأنه لم يُقم (اشتراكية)، بل لأنه كان يقول إنه يقيمها (لأن هذا القول شيء مهمّ ومؤثر).
لكن يجب أن نفهم أيضاً أننا هنا (أي في تجربة عبد الناصر واستيقاظ ملايين من الناس) أمام نمو الذات، أمام النمو الذاتي للذات. ومن الصعب أن نتصور أن أمور الفكر والوعي، ونموهما، كان يمكن أن تسير على نحو آخر من حيث الجوهر ( هذا الفهم ضروري من أجل المستقبل، من أجل تصورنا وخطنا وطريق شعبنا إلى المستقبل).
لكن، في مسألة الديمقراطية، الحريات، المباحث، التعذيب .. الخ هنا تنبغي الإدانة. لكن، هنا أيضًا يجب أن نعي شيئًا مهمًا وعمليًا تمامًا: حين يَشجب الشيوعيون، والإخوان المسلمون أيضًا، اضطهاد وتعذيب عبد الناصر لهم، فإنهم يشجبون الأمر لهم هم فيما يخصّهم. هذا نعرفه ويعرفه معظم الناس، يعونه، أو على الأقل يُحسّون به، يكمن في شعورهم القويّ وفي باطنهم الفاعل (والمحقّ). وحين يخرج رجل من سجون عبد الناصر ويكتب لنا كتابًا طويلًا ومهمًا (الأقدام العارية – طاهر عبد الحكيم) عن أهوال المعتقل، التعذيب، الموت، الإهانات .. الخ، من المفيد أولًا أن يُصفّي الحساب الديمقراطي مع ذاته وجماعته وأيديولوجيته، وذلك من باب الصدق، خدمة الحقيقة، وعي الناس (خدمة المستقبل، تثمير التجربة، الاستفادة من الثمن المدفوع). فهل ما يدينه الرجل هو أن خصمه الحاكم (عبد الناصر والأجهزة) قد اضطهد جماعته أو حزبه أو جبهته، أم ما يدينه هو اضطهاد الإنسان، قمع الحرية، رفض حقوق الإنسان، الاستهتار بالقانون؟ في الحالة الثانية، عليه أولًا أن يعلن براءته من هذه الأمور جميعًا حين ترتكبها جماعته في العالم الكبير والصغير، عليه أن يعي وأن يعلن أهمية القضية الديمقراطية والحقّية والقانونية مجرّدة، وأن يتبنّى حقوق الإنسان مجرّدة (لا حقوق جماعة دون الإنسان)، وأن يخدم السعي البشري الارتقائي. وفي هذا، ليسوا كثيرين أولئك الذين يستطيعون أن يبيعوا عبد الناصر حرية وديمقراطية.
بالمقابل، يُشير الياس إلى أن الزعم الذي يحمله بعض “الناصريين”، والذي مفاده أن ” الأجهزة” كانت هي المسؤولة، فهو ليس زعمًا باطلًا (الأجهزة تتخطّى دومًا، لكن الرئيس مسؤول دومًا)، بل هو هروب، إخلاء القضية والمسألة، حذفها كهدف.
إذن يجب:
إدانة مظاهر الاستبداد والبوليسية في تجربة الدول الاشتراكية، وتثقيف الناس بحقائق تاريخ هذه التجربة.
تربية الناس، وأنفسنا أيضًا، ضدّ الاستبداد والاضطهاد والتعذيب، مع الحرية والإنسان و(حقوق الإنسان).
على الصعيد النظري (التاريخ) والسياسي والأخلاقي: هذه مسألة كبيرة ومعقدة وشائكة.
خامسًا: أزمة الشرق الأوسط
في تحليلات الياس لأزمة الشرق الأوسط وللصراع العربي– الإسرائيلي، كان ينظر إلى المسألة عبر مفتاحين اثنين: الأول قبل حزيران 1967، والثاني بعد ذلك التاريخ.
قبل حزيران 1967: كان جوهر خطّ السياسة الأميركية قيادة العرب إلى فخّ حزيران 1967 ومساعدة انقيادهم، وذلك بأدوات عربية “ثورية” سورية، فلسطينية، عراقية الخ.. ذات سيكولوجيا وأيديولوجيا مهووسة، وفي بعض الحالات نوايا مدروسة وواعية وخطّ تهوير لا يعي نفسه كخطّ تهوير. الهدف المحدّد كان: عبد الناصر.. وأيضًا الجبهة السورية. وتَمزّق تلقائي بعد ذلك.
بعد حزيران 1967: خطّ أميركا الجوهري واحد، ثابت. وهو عكس التصوّر الذي ساد في صفوف اليسار والثوار والتقدميين جميعًا تقريبًا. خطّ أميركا: تأجيل حلّ أزمة الشرق الأوسط إلى أجل غير مسمّى، إلى ما لانهاية، وحسب، وهو المفتاح إلى تدهور العرب، تمزّق، تعفّن، يأس، تفاعلات، ومسيرة انحدار لا حدّ لها ولا قرار.
السوفيات كان همّهم الظاهر في مواقفهم وخطّهم وفي المقالات: بقاء “الأنظمة التقدمية” و”الصداقة العربية- السوفياتية”، وكلمات أخرى.
إذن خطّ أميركا بعد 1967: تأجيل حلّ أزمة الشرق الأوسط إلى ما لا نهاية، وسياسة السوفيات موضوعيًا لم تكن تعمل ضدّ هذا الخطّ، وغالبية باقي اليسار ظلّت تؤكد باستمرار أن الحلّ السلمي الرجيم سيأتي بعد شهر أو في الربيع القادم. هكذا مرارًا، شهريًا، سنة بعد سنة.
خطّ أميركا بعد 1967: تأجيل حلّ أزمة الشرق الأوسط إلى ما لا نهاية التي هي نهاية العرب. التأجيل مفتاح التدهور.
الآن، ما دام هناك من لا يزال يؤمن بأن كلّ ما وقع في الوطن العربي، وفي المشرق العربي بخاصة، (أي في مصر: الانقلاب الساداتي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعاشي، وفي سوريا: تحوّل إلى نوع من الرأسمالية النهّابة غير المحدودة، والامتهان الخ ..، وفي العراق: مجازر وحروب ورشوة وفساد الخ ..، وفي شبه جزيرة العرب: أيّ نموّ إنتاج أو نهب أو تصدير البترول منذ 1967 بمقدار ستة أضعاف أو أكثر، وفي لبنان، وبين سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل: حرب أهلية طويلة، موت، مجازر، انهيار، ضياع، دينية وطائفية ومذهبية، وفي فلسطين، أيّ قيام أكثر من مئة مستوطنة في الضفة الغربية، وكذلك مستوطنات أخرى في قطاع غزة، عدا عن المستوطنات في الجولان الخ..) أن كلّ ما وقع ما هو إلا وسائل من أجل الهدف الفظيع الذي هو الحل السلمي، يمكن أن نقول إننا لسنا أبدًا بخير. فعلًا الأزمة أزمة الشرق الأوسط تمامًا، أزمة انهيار الأمة العربية وكلّ بلد عربي.
سادسًا: سورية الراهنة والمستقبل
في تعليقه على موضوعة “في سبيل نظام وطني ديمقراطي” من مسودة “مشروع الموضوعات” المشار إليه أعلاه، يؤكد الياس في نظرته وتحليله للواقع السوري أنه من الحماقة أن نرى المخابرات وأن لا نرى النقابات وأيديولوجيتها وكلاميتها و”المنظمات الشعبية” عمومًا و”الجبهة الوطنية التقدمية”. هؤلاء ليسوا جزءًا تافهًا من الصورة، إنهم في صميم وجوهر مقولة “سوريا التقدمية الاشتراكية”.
يجب أن نفهم وأن نقول للشعب (وأولًا لأنفسنا ولجميع النزيهين الضالّين أو الضائعين من الذين يرفعون لافتة الماركسية على وجه الخصوص) إنه إذا لم نخلص من الأيديولوجيا والطريقة التي سادت في صفّنا وسلطنت في عقولنا وعلى ألسنتنا، فلن يقوم تحرك جدّيّ طويل وشاقّ وظافر (شعبي وظافر) ضدّ ما يُخطّط لمستقبلنا.
وفي تصوّره لمسيرة الأمور القادمة، وفي سعينا إلى/ ونضالنا “في سبيل نظام وطني ديمقراطي”، كان يؤكد أن مسيرة سورية (والعرب في المشرق) تهبط، تنحدر. وكان يرى أن المستقبل (الذي أصبح بمعنى ما راهنًا الآن) سيسير موضوعيًا بين قطبين، احتمالين، نظريين محدّدين: القطب النظري الأول، استمرار الانحدار سنوات وسنوات، وربما عشرات السنين، تمزّق، يأس .. الخ، مع وجود واستمرار وجود “جبهة وطنية تقدمية” تحت جناح الحزب القائد؛ القطب النظري الثاني، بعد انحدار إضافي أو ضياع إضافي، وبعد انحسار الضياع والكذب الأيديولوجي الثوري، بداية نهوض، تحرك شعبي يبدأ من طبقة ما أو فئة أو فئات ما لا على التعيين، ثم .. تَكوّن “جبهة وطنية ديمقراطية” برجوازية الطابع والأهداف، وقيام حكم برجوازي وطني ديمقراطي أو ليبرالي.
كان الياس ينظر إلى هذا القطب النظري الثاني على أنه مهمّ جدًا. وواقعيًا، التاريخ سيسير في مكان ما بين القطبين النظريين. وكان يؤكد أن تمسّكنا، في مستوى النظر الأساسي والمعرفة الأساسية، بالقطب الثاني ضروري جدًا. ذلك أن القطب الثاني النظري مفتاح للسير الواقعي بين القطبين، بل مفتاح القطب الثاني نفسه إن صحّ القول.
وعلى سبيل المثال، حين كان ماو تسي تونغ في الأساس الدائم ( 1928– 1930 وبعدها حتى الخمسينات) يتمسّك بـ “البرجوازية الوطنية”، لم يكن ذلك حبًا بهؤلاء الـ 5%، بل حبًا بالآخرين، بالشعب، وحرصًا على تقدّم الشعب، وعلى ديناميكية نموّ وتقدّم الوعي والذات والعمل. وحين، نحن، نبقى مع أو عند “الكدحاء”، فنبقى وسنبقى إلى ما لا نهاية، وسنتحوّل أكثر، نحن والشعب والكادحون، إلى “موجود” كما الحجارة موجودة. وهذا حصل: نبقى وندور في حلقة وننزل. واقعيًا وعمليًا: القطب الأول (الكدحاوي) ليس احتمالًا وليس طريقًا. هو مسيرة التدهور والانحدار ذاتها (التي نحن فيها) مسيرة الانحدار إلى ما لا نهاية.
إذن “في سبيل نظام وطني ديمقراطي” يعني:
أ– نظام : أيّ دولة، قانون، معقولية، موضوعية.
ب– وطني : أي وطن، وشعب (لا طوائف، عشائر، ولا ذرّات وتذرّر، لا قطيع، بل شعب، مجتمع بشري– فرد، شخص). عدم نهب، عدم نهب داخلي ومن الخارج، وضوح في علاقات الوطن مع الدنيا.
ج– ديمقراطي: حريات عامة، قانون، صحافة، نقابات، أحزاب، بلديات، دولة حقوق. دولة لا مافيات.
إذن يجب أن يكون واضحاً أن صيغة “في سبيل نظام وطني ديمقراطي” لا تتضمّن مبدئيًا لا اشتراكية ولا، مبدئيًا أيضًا، مشاركة طبقة عاملة في الحكم، ولا “طريق تطور لا رأسمالي”.
والمضمون الاقتصادي المبدئي: نظام رأسمالي، قريب قدر الإمكان (لا من الاشتراكية)، بل من نموذج “الرأسمالية الخالصة”، أيّ: شغل (زراعة، صناعة .. الخ) وعلاقات استثمار برجوازية ( ربّ عمل وعامل، أجر وربح: في الصناعة وفي الزراعة). خلاص من السرقة، من الرشوة والفساد الجوهري، اقتصاد حرّ مبدئيًا في القطب النظري الثاني.
وكتعبير سياسي: حرية صراع بين أجر وربح، بين عامل وربّ عمل، شرط لإيقاف نهب القيمة غبر المحدود بواسطة تضخّم نقدي وارتفاع أسعار. النظام الحالي وأمثاله في الدنيا يكفلون عملية نهب فضل القيمة غير المحدود. هنا، النقابية السياسية والنقابات القائمة تقوم بوظيفة “مخابرات – أيديولوجيا” في هذا المخطّط الإمبريالي الجهنّمي. إذن، لا بد من فضح هذا الدور. ولابد من أن نلحظ في هذا السياق أمرين اثنين: أولهما أن التضحية المطلوبة من جماهير الشعب بحجة الوطن وضرورة التنمية والدفاع تذهب إلى جيوب طبقة الحكام والأعوان والسماسرة والكومبرادور، وتظهر مباشرة في مستوى معيشتهم الخيالي، هذا عدا المال المنهوب الذي يوضع في مصارف الغرب. وثانيهما أن جماهير الشعب ليست معترضة على “البيروقراطية”، بل على بيروقراطية غير نظيفة وغير فعّالة. مرحليًا، الجماهير تفهم وتقتنع بمبدأ وجود ووجوب وجود بيروقراطية، إذن ذات امتيازات، ذات رواتب، ذات مستوى معاشي أعلى من جمهور الشعب، لكن امتيازات قانونية، واضحة وصريحة. ومقابل ذلك تُحاسب، تُحاكم وتُعاقب على اللصوصية. إذن، بيروقراطية فعّالة تخدم الدولة والأمة (وتطبّق القانون)، لا المصالح الخصوصية لأفراد وشلل الباشوات الجدد وزلمهم.
الدولة تسقط بسقوط القانون. والحكومات والشركات الإمبريالية تساعد، حسيًا في الواقع، هذا الإسقاط للقانون والدولة. هي تريد عالمًا من الخدم، عالمًا سوادًا قطيعًا من الغنم مع ذئاب.
وكما يقول في (نقد العقلانية): “على العرب أن يتدبّروا حاضرهم ومستقبلهم: ديمقراطيتهم، اجتماعهم، وحدتهم القومية، إنتاجهم، رفاهم، سيطرة القانون والمنطق، إزاحة الكلِبْتوقراطية (حكم اللصوص، قالها فرنسيون عن بعض دول العالم الثالث، اخترعوها على غرارkleptomaniee : هوس السرقة، وهو مرض خاص بالأغنياء غير المحتاجين)”. .
إذن جبهة وطنية ديمقراطية تعني :
أ– جبهة طبقات طبعًا، ولكن لا ينبغي أن نعتبر أن الطبقات مكوّنة، مبلورة، جاهزة. ومن المناسب أن يكون كلامنا، حتى في الوثائق النظرية، ليس فقط عن طبقات، بل عن فئات، عن حرف ومهن وأعمال، أي لغة حية، واقعية، تُمسك الوقائع والواقع وتطوره، وتترك جزئيًا الطبقات وتَبلورَها للتطور والتاريخ.
ب– لا يمكن أن نصدر قرارًا ينصّ على أن الجبهة بقيادة “كذا”. التاريخ والكفاح والشعب وطبقاته، هم الذين يوكلون وينتدبون. والمجتمع والشعب هو الفاعل الأخير الوحيد.
أخيرًا، أريد أن أختم بالقول الذي كان أثيرًا لدى الياس، والذي فحواه أنه ينتمي إلى مدرسة الفلاسفة، مدرسة “الأميين”. وأكبر الأميين في تاريخ الفكر النظري: سقراط وديكارت وكنط وهيغل وآدم سميث وماركس وباخ وبيتهوفن.. فهم مع “الأميين”، مع البشر. الوعي العربي الحاضر لا يحب “الأميين”، وهذا ما يجب إصلاحه أولًا ودائمًا.

  • استند المرحوم عبد الله هوشة في هذا العرض، بصورة رئيسة، على محاضرة ألقاها في “منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي” في دمشق أواخر عام 2002، غير أن المحاضرة لم تُنشر، كما لم تُعمّم في الملفّات التي كان يُصدرها المنتدى عن نشاطاته.

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

1 Comments

  1. […] المصدر: موقع جمعية الياس مرقص للثقافة والتنوير […]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية