لم يكن هناك في ملامح ذلك الشاب النحيل، ذي الوجه الأبيض المائل إلى الاصفرار والعينين الواسعتين، ما يشير إلى الدور الذي قيض له أن يلعبه طيلة نحو من أربعة عقود في الحياة الفكرية والسياسية السورية والعربية. فقد كلفته إدارة مدرسة التجهيز الثانوية في مدينة اللاذقية بتدريس الصف العاشر الأدبي لغة مونتسكيو وميرابو. عندما دخل إلى الصف، ألقى علينا التحية، ثم عرفنا بنفسه، ومسح السبورة، على غير عادة بقية الأساتذة، طلب منا أن نقف بالتتابع ونعرفه بأسمائنا، التي دونها في دفتر صغير، قبل أن يخبرنا أنه من اللاذقية، وقد درس علم النفس والتربية في جامعة بروكسل، ويعدنا بالتعاون معنا لتحسين فرنسيتنا، مقابل مساعدتنا له على تحسين أدائه كمدرس.
تركت طريقة الأستاذ الشاب أثرا إيجابيا في صفنا، وشعر حتى المشاغبون من التلامذة أن الأستاذ الجديد والنحيل، الذي لا يفصله فارق عمري كبير عنهم، قريب منهم. حين استفسرنا عنه خلال الأيام الاولى لتدريسنا، فهمنا أن وراء الإهاب النحيل مناضلا عنيدا لا يشق له غبار، شارك في ثورة فلاحي منطقة الميزوجورنو الإيطالية الجنوبية، ولعب دورا قياديا في الثورة الصينية، بل وأعجب الرفيق خالد بكداش أيما اعجاب بثقافته، وأقره على جزء كبير منها. هذه المعلومات وزعت صفنا على فئتين: ثلاثة تلامذة شيوعيين أعجبوا به سياسيا، ونيف وعشرون تلميذا أعجبوا به إنسانيا. منذ ذلك اللقاء الأول، أخذ تلامذة صفنا ينتظرون درس اللغة الفرنسية الصباحي بشوق، ويعتبرون مدرسها واحدا منهم، وعاملوه كصديق كثيرا ما طلبوا رأيه في شؤونهم الذراسية والخاصة، بل ورفعوا ” الكلفة ” بينهم وبينه، دون أن يتخلوا عن احترامهم له وإعجابهم به، هو الذي ينتمي إلى بيئة تشبه بيئتهم ودأب على استقبالهم في بيته وعاملهم كزملاء وأصدقاء، واعتبروه واحدا منهم .
عاد الرفيق الياس إلى اللاذقية في ظرف تاريخي خاص، وسط انفجار ما صار يعرف، بتصنيفات السوفييت اللاحقة، بـ “الحركة القومية العربية “، وما أحدثته من “إرباك” في نظرة الحزب الشيوعي السوري إلى دوره في العملية الثورية، وإلى هوية هذه العملية نفسها، التي كان يراها بمنظار سوفييتي /ستاليني يجعلها ثورية، وبهذا المعنى التالي جزءا لا يتجزأ من المعسكر السوفييتي، بقدر ما ترفع رايات ماركسية، وتنضوي فيه وتعترف بقيادة موسكو للثورة العالمية، وإلا اعتبرت تابعة للنظام الاستعماري، الذي صارت بلدانه تسمى “البلدان الإمبريالية أو بلدان الاستعمار الجديد “، في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي، بعد التدخل الأجنبي في الكونغو واغتيال لومومبا.
لم تكن الناصرية جزءا من الثورة الشيوعية، كما لم يكن بالإمكان اعتبارها فصيلا في الثورة الرأسمالية المضادة أو حركة تابعة للبلدان الإمبريالية، مع أن الحزب أفاد من غموض الموقف السوفييتي منها كي يتلاعب بهذه الفكرة، ويروجها لبعض الوقت، بحجة استحالة وجود ثورة قومية يمكن أن تكون في الوقت نفسه حقبة لها خصائص مستقلة، نابعة منها وقائمة بذاتها، يصح أن تعامل كمرحلة ديمقراطية ثورية تضمر إمكانية القطع مع الرأسمالية من النمط الدولي السائد، أي الغربي، وتاليا إمكانية أن تكون لديها مداخل ما إلى نظام مختلط منفتح على الاشتراكية كنظام ذي سمات خاصة، مغايرة من بعض الوجوه المهمة لسمات النظام السوفييتي. وزاد من بلبلة الحزب مقولة اعتمدتها الستالينية ترى أن للفكرة القومية وظيفة خطيرة تتجسد في إضعاف وتشويش الاصطفافات الطبقية وتغيب المشروع الاشتراكي الثوري، المعبر الوحيد الممكن عن مصالح العمال والفلاحين، الذي يستبدل بانتماء رأسمالي الهوية معاد للطبقة العاملة كحامل للثورة البروليتارية ولمشروعها التاريخي، الذي تجب حمايته بالتصدي للانحراف القومي الذي يسوق نفسه كمشروع ثوري بديل، وبفضحه وإسقاطه.
لكن خطوات عديدة، إستراتيجية، اتخذتها القيادة الناصرية، أدت إلى تقويض التصور الثنائي الحد، القائم على قسم العالم إلى معسكرين لا مجال لخروج أي بلد من أحدهما وانتمائه إلى انماط جديدة من الخيارات وتاليا الاستقلالية السياسية النسبية: من هذه الخطوات، اشتباك الناصرية المبكر مع الاستعمار البريطاني ثم الأمريكي، ومقاومتها الضارية لاحلافهما العسكرية التي أرادت تطويق الاتحاد السوفييتي واختراق المعسكر الاشتراكي، وفتحها باب المسألة الاجتماعية من خلال الإصلاح الزراعي، واعتمادها نمطا من التنمية يعتمد أساسا على الدولة ودورها الاقتصادي، وانخراطها في معركة كسر عظم مع النظام العربي التابع للغرب، وشراؤها السلاح من روسيا، واعترافها المبكر بالصين الشعبية، وتأميمها قناة السويس وما أعقبه من انهيار إستراتيجية شرقي السويس البريطانية، والحرب التي شنتها بريطانيا وفرنسا ضد مصر عام ١٩٥٦، بعد تأميم القناة والشروع في برنامج تنموي واسع النطاق ارتكز في قسم كبير منه على التعاون مع السوفييت، جسده بصورة خاصة بناء السد العالي، وما صحبه من ابتعاد مصر عن العالم الرأسمالي، وقيام كتلة عربية قلصت تبعيتها للغرب واستقلت نسبيا عنه في خياراتها الخارجية وعلاقاتها الدولية، ارتكزت على محور مصري/ سوري مؤثر في البلدان المجاورة له، وخطير على إسرائيل، فضلا عن التحول المتعاظم نحو التعاون في قضايا متزايدة مع السوفييت، عقب قيام مصر بالمشاركة في تأسيس كتلة دولية جديدة سميت كتلة “الحياد الإيجابي وعدم الانحياز” شاركها في تأسيسها هند جواهر لال نهرو الصديقة لموسكو، وصين ماوتسي تونج وشو إن لاي الشيوعية.
هذه التطورات بلبلت المخطط الكوني والتصور النظري الستاليني، لذلك قابلتها موسكو بالتحفظ والبرود، وترجمها الحزب الشيوعي السوري إلى نقد عنيف رأى فيها محاولات إمبريالية ذكية هدفها قطع الطريق علي الثورة الاشتراكية، من خلال إجراءات لها ظاهر ثوري وباطن رجعي، أو معاد للثورة على الصعيد الاجتماعي، ومعاد للسوفييت بحجة الحياد في الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، أو بين معسكر الحرية والتقدم السوفييتي ومعسكر الإمبريالية والعدوان الأميركي.
أربكت الثورة القومية السوفييت والحزب الشيوعي السوري، وطرحت عليهم أسئلة ما لبثت خطواتها أن أحدثت تبدلا في نظرة موسكو، رأى فيها وضعا انتقاليا تختلط فيه خيارات وطنية / محلية ودولية تحتمها سمة عصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، لذلك تمتزج فيها مكونات من نظام معاد للامبريالية يزيد تعاونه مع السوفييت دور ووزن عناصره التقدمية، بينما تكبحه طبيعته القومية ويبقيه مفتوحا على هويته الرأسمالية العميقة. هذه النظرة، التي رأت الناصرية من خلال دورها في الصراع ضد الإمبريالية، بحوامله التي تبعد مصر عن الرأسمالية كنظام كوني، تطورت فيما بعد إلى أن جعلت النظام الناصري لا رأسماليا، ترجح عناصر بنيته المتناقضة تطوره نحو الاشتراكية، بقدر ما ينجح في كبح مكوناته الرأسمالية، ويتبنى أشكالا غير رأسمالية، أو حتى اشتراكية من تنظيم العمل وتوزيع الدخل وممارسة السلطة. بالمقابل، مال الحزب إلى رؤية الثورة القومية انطلاقا من ثنائية اشتراكي / رأسمالي، ومن حتمية أن تكون اشتراكية كي تكون تقدمية وثورية، لذلك وضع عديدا من خطواتها، بما فيها تأميم قناة السويس، خارج استراتيجية السوفييت الكونية وصراعاتها ضد الغرب الإمبريالي، وحكم عليها انطلاقا من درجة انفكاكها عن الرأسمالية بوصفها توضع الإمبريالية الداخلي في مصر، واعتبرها مشروعا يعطل الثورة الاشتراكية، إن لم يكن معاديا لها في جوهره. هذا الموقف عبر عن رفض الحزب رؤية الثورة القومية بدلالاتها الذاتية كمشروع انفكاك عن الاستعمار والإمبريالية، له ممكنات غير رأسمالية تجعل منه مشروعا تحرريا تاريخيا، يمكن أن يؤسس دولة / أمة حديثة سيكون تخلقها تطورا تاريخيا فائق الأهمية بالنسبة لجميع دول العالم ولمعسكرية المتصارعين.
رجع موقف الحزب إلى تمسكه بنظرية تجاه الثورة لها حدان لا ثالث لهما: أولهما الحد البرجوازي/ الإمبريالي، وثانيهما الحد العمالي / البروليتاري المتحالف مع الفلاحين. هذه النظرة شحنت الحزب بكره أعمى لما كان يسميه باحتقار “البرجوازية الصغيرة”، وهي فئات منخلعة اقتصاديا وغير متعينة اجتماعيا، لا تنتمي لاي من الطبقتين المتصارعتين، ويستحيل أن تنتمي بالتالي إلى المشروع الاشتراكي، والسبب: عملية الفرز الدائمة التي تتعرض لها، وتنزل بقطاعات كبيرة منها إلى صفوف البروليتاريا، بينما ترفع أعدادا قليلة من شرائحها العليا إلى صف البرجوازية، الأمر الذي يجعلها طبقة يسهل التلاعب بها وأخذها إلى الصف المعادي للثورة، الذي إذا ارتبط بالرأسمالية في طور تفسخها، السابق لسقوطها الوشيك، أنتج الفاشية كآخر محاولة لانقاذها، وللقضاء على فرص وقوع ثورة اشتراكية في المجتمع، مثلما حدث في ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية.
ـ ما ان وصل الياس إلى سورية، حتى طرح ثلاثة مسائل رئيسة، هي:
ـ ليست الثورة القومية الديمقراطية عماء لا هوية له، بل هي ثورة قائمة بذاتها، ليست رأسمالية أو اشتراكية، مع أنها تضمر مكونات من النظامين. لكن خصوصيتها تمكن في قدرتها على التحول إلي رافعة للثورة الاشتراكية في واقع يفتقر إلي قوة عمالية بوسعها إنجاز ثورة اشتراكية صرفة، وقوة برجوازية تستطيع إنجاز ثورة رأسمالية خالصة، بينما تتيح لها معركتها من أجل الاستقلال والوحدة، والخروج من دائرة التأخر والتبعية فرص ابتعاد متزايد عن النظام الرأسمالي في صيغته الإمبريالية، في حال وفر المعسكر الاشتراكي والحزب الشيوعي لها ما هي بحاجة إليه من تحالف استراتيجي ينهض على خطط وبرامج ثورية، في النظرية كما في الممارسة، ومن وعي ثوري ورؤية عملية تجنبها النزعة التجريبية والخيارات العشوائية، وتوفر لها الدعم المادي الضروري لتنمية متمحورة على الذات، تنطلق من مفردات واقعها المتأخر، وتساعدها على تجاوز نقاط ضعفه ومشكلاته الكثيرة، إلى جانب دعم سياسي / عسكري يحميها من الإمبريالية المنفلتة حقا من عقالها، كما أثبتت مأساة الكونغو ولومومبا. أما السؤال المهم، في هذا السياق، فهو: هل الحزب الشيوعي السوري، ببنيته القائمة وسياسته وقيادته، قادر على لعب هذا الدور التاريخي، الذي يفترض أنه منوط به؟ في الصين، قال الياس في أكثر من نص، عمل الحزب الشيوعي بكامل قدراته من أجل إجبار التيار القومي الحاكم، أي الكومنتاتغ، على فتح حوار شامل معه، وبنى استراتيجيته على حقيقة أن الجماهير الصينية منخرطة بكثافة في هذا التيار، بينما يمتلك هو النظرية الأكثر ثورية وتقدما، التي إن حملتها هذه الجماهير تصبح قوة مادية، كما قال ماركس، وبما أن السبيل الوحيدة إلى ذلك هي فك الشعب عن الكومنتانغ وربطه بالحزب الشيوعي، وليس هناك من طريقة لتحقيق هذا الانفكاك دون حوار ومصالحه بينه وبين الحزب الشيوعي، قد تبنى الشيوعيون استراتيجية الحوار بين عامي ١٩٢١ و ١٩٢٧، رغم ما تعرضوا له من سحق وابادة. عام ١٩٢٧، نجا ماو تسي تونج وقلة من رفاقه من إحدى حملات الإبادة، لذلك قطعوا مع خط الحزب وبدؤوا حرب العصابات ضد الكومنتانج، بيد أنهم استعادوا خط التعاون مع الكومنتانغ بمجرد أن وطئت أقدام أول جندي ياباني أرض منشوريا. في سورية، لم يعمل الحزب الشيوعي لفتح حوار مع الناصرية بل عمل كل ما هو ضروري لإغلاق أى باب للحوار معها، رغم أنه حاور جميع أنواع البرجوازيات المحلية تحت ذريعة أنها وطنية، وأن إنضاج الوضع البرجوازي وتسريعه بالتعاون معها هو شرط موضوعي وتاليا حتمي لثورة البروليتاريا، التي يجب الابتعاد عنها والاحجام عن القيام بها أو طرحها ما دامت الطبقة العاملة لم تصبح بروليتارية ولم تتأهل بعد لإنجازها باسم المجتمع، وقبل أن يصير الحزب الشيوعي قوة شعبية قادرة على قيادتها، باعتباره حزبا للعمال وجماهير الفلاحين الفقراء والمتوسطين. بدخول الفكرة القومية إلى ساحة العمل السياسي السوري والعربي، وبما أحدثته من إعادة توزيع واصطفاف للقوى الاجتماعية، سياسيا وطبقيا، في ظل شخصية عبر الناصر الكارزمية والجماهيرية، وما أثارته من بلبلة في علاقات الشعب مع الحزب الشيوعي وفي صفوفه، وسببته من انقلاب في خطته الثورية، التي قامت على اعتبار المسألة القومية محلولة في الثورة الاشتراكية، وها هي الناصرية تجعلها مرحلة ثورية كاملة ومستقلة عنها، يفضي التركيز عليها إلى تأجيلها وطيها في سياقات ليست ثورية ولا مصلحة للطبقة العاملة بها، تجعل الاشتراكية تابعا لما ليس منها، وتحل محل النمو البرجوازي كاولوية تؤسس لنمو الخيار الاشتراكي إشكالية تلفيقية يصعب السيطرة عليها، تقع خارج الترسيمة الثورية، لن تكون نتائجها إيجابية بالنسبة للحزب الشيوعي والثورة الاشتراكية، ولن تخدم أحدا غير الإمبريالية والبرجوازية غير الوطنية، التابعة لها والمعادية للشعب، التي ستتبنى اللغة القومية وستستخدمها ضد التقدم والتحرر. بهذه الرؤية، انقطعت إمكانية التواصل التفاعلي والإيجابي مع الحركة القومية على جسر طابعهما الديمقراطي، ودخل العالم العربي في صراع خطير النتائج بين الحركة القومية كما تجسدت في الناصرية، والحركة الشيوعية كما عبر عنها حزبها الشيوعي / اللبناني .
٢ـ هل الحزب الشيوعي مؤهل حقا للقيام بثورة اشتراكية في سورية؟ وهل يملك مؤونة نظرية، وخطط عملية، واستراتيجية ثورية متأصلة في نفوس أعضائه وقطاعات واسعة من الشعب، بوسعه تحريكها ودفعها للقيام بثورة تقول الرؤية الستالينية إنها لن تكون غير عنيفة وتاليا مسلحة، ولن تنجح دون تحالف بين العمال والفلاحين، وستترتب على تغير تدريجي وحثيث في موازين القوى مع البرجوازية ودولتها، يتم في حمأة صراع طبقي وسياسي شديد الاحتدام إلى أن يحاصر حلف العمال الفلاحين النظام كما تحاصر قلعة، ثم يقتحمها ويحتلها في اللحظة المناسبة، مثلما حدث في ثورة اكتوبر الاشتراكية السوفييتية؟ وهل يمكن للحزب تحقيق ذلك بقيادته السلطوية، البكداشية، وبرافعة العمالية الهامشية ضمن مجتمع سورية الانتقالي، الذي لم تتبلور فيه بعد طبقة عاملة متماسكة ومتحلقة حول مشروع بروليتاري لها وللمجتمع، ويفتقر إلى طبقة برجوازية أنجزت ثورة ثقافية معادية للإقطاع وللفكر التقليدي /الغيبي، أمسكت باعادة إنتاج المجتمع وبمفاصل السلطة، وبالوعي الاجتماعي، مجتمع تلعب الطبقة الوسطى بتبايناتها المتنوعة جدا الدور الأكبر في سياساته وثقافته، حتى بالنسبة لعالم العمل فيه؟ أخيرا، إذا كانت السياسات الطبقية تضعف النضال الوطني والقومي ضد الاستعمار وفي سبيل الاستقلال، ما جدوى التمسك بمشروع اشتراكي، تجعله وهميا بنى الحزب الداخلية وعزلته الاجتماعية، وضعفه العددي، وتهافت قيادته، وطبقوية رؤاه وطبيعة خططه التكتيكية البعيدة عن أي استراتيجية تطبيقية أو عامة، وتخلفه عن متابعة التطور الاشتراكي الدولي عامة والسوفييتي خاصة، وغرقه في ترسيمة ثورية تتجاهل تبعية البرجوازية المحلية للرأسمالية الدولية، واستحالة أن تكون الوطنية بين فصائلها هي المقررة والمسيطرة، وبالتالي مستقلية وثورية في طابعها وآليات عملها وأهدافها، ومعادية سياسيا واجتماعيا لحاضنتها الكونية: رأسمالية البلدان الإمبريالية، نسغها الذي تتغذى منه وتعيش على فتات صفقاته كبرجوازية كومبرادورية / سمسارية أساسا وغالبا، لا حول لها ولا قوة لها اقتصاديا، تخاف المجتمع وترفض الحرية كمبدأ وكقانون، وترتبط بالأيديولوجيات والفئات المذهبية عقائديا، فليس رهان الحزب على ثوريتها غير سراب خادع، يتوطن في منظومة أوهام غريبة عن واقع الحزب والشعب، الذي يبقيه هامشيا وقليل الاتصال بحاجات ومطالب الجماهير، عاجزا عن أي فعل ثوري حقيقي أو محتمل.
٣ـ فضلا عن كل ما سبق قوله، ليس الحزب الشيوعي مزامنا لعصره السوفييتي والاشتراكي العالمي، الذي بدأ بمبارحة الستالينية عام ١٩٥٤، وقام بخطوة حاسمة في هذا الاتجاه عام ١٩٥٦. لقد بقي الحزب الشيوعي السوري ستالينيا، وتمسك باطروحات العصر الستاليني المعادية لأي حراك يخرج عن تصوراتها، والتي ترفض وجود حلقات وسيطة للتطور تقع خارج نظرية مراحلها الخمس، التي لا تعرف أية اختلاطات، ولا تملك أية مواقف نظرية وعملية واضحة حيالها، في حين تخلو حياة الحزب الداخلية من أية بنية وأية علاقات دمقراطية، وتقوم على عبادة الفرد، وازدراء العقل، وعصمة الستالينية، التي تخطت اللينينية وماركسية ماركس وإنغلز، وأغرقت نفسها في نزعات أفقدتها القدرة على المبادرة وطابع العمل الثوري الاستباقي، ولم يعد لها من وظيفة غير إدامة أوضاع تجاوزها الواقع، ووضع لا عقلاني أسقط من حسابه الفكر كاداة ثورية تسهم في تغييره، تشطب الفرد ودوره وتحتقر وتهمش المثقفين وأصحاب الرأي، فلا عجب أن من يدخل إلى الحزب الشيوعي كان يخرج من المجتمع والسياسة في آن معا، بدل أن ينخرط فيهما بكل قواه وقدراته، كما كان الياس يقول ساخرا .
بدأ تمرد الياس على سياسات وقيادات الحزب انطلاقا من وعي لينيني كان قد اكتسبه في بلجيكا، ولم يجد شيئا منه في الحزب، بل وجد عكسه، وتعرف إلى ما بلغه تشويه مقولاته من أبعاد لا علاقة لها بالثورة أو الماركسية. وكان الياس قد تعلم عند لينين أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تكون صافية، وأن من ينتظر ثورة اشتراكية صافية يضيع وقته، لذلك يستحيل في حالات معينة بلوغ الثورة دون أسبقية المدخل الديمقراطي، وتستحيل في حالات أخرى الثورة الديمقراطية دون ثورة اشتراكية تتولى إنجاز مهامها باعتبارها جزءا تكوينيا منها، تنجح كثورة اشتراكية بقدر ما تنجح في تحقيق طابعها الديمقراطي، الذي غالبا ما تكون مهامه مستقلة عن مهامها او متداخلة معها. وعلى الجملة، فإن الثورة لا تحدث دون تمازج وتراكب وجهيها الديمقراطي والاشتراكي، علما بأن وجهها الديمقراطي، الذي يمكن أن يكون قومي الرافعة والهوية، وهو يكون جزءا تكوينيا منها حتى إن كانت ثورة بروليتارية، فإن عرف الحزب كيف يبلور ويشبك التوسطات بين الثورة القومية الديمقراطية العربية، وبين مآلها الاشتراكي، يصير تدريجيا حزب الثورتين المتراكبتين: الديمقراطية والاشتراكية، أي حزب الثورة الاشتراكية التي يتوقف نجاحها على حل مهامها الديمقراطية، مهما اختلف طابعها وتباينت مفرداتهما. في زمن الإمبريالية، أي الرأسمالية عالمية الطابع، المتجاوزة لأية حدود والنافية غالبا لمصالح الدولة الوطنية التي تأسست في مستعمراتها السابقة، ليس، ولن يكون، هناك ثورة ديمقراطية مفصولة عن أفقها الاشتراكي، وثورة اشتراكية مستقلة عن مهامها ومداخلها الديمقراطية. أما نظرية إنضاج البرجوازية كي تعد المجتمع طبقيا للثورة عليها، فهي أسخف ما أنتجه الزمن الستاليني من نظريات سخيفة، وأسوأ ما تبناه الحزب الشيوعي السوري كاستراتيجية ثورية.
بعد اعوام قليلة من عودته إلى سورية وانخراطه في العمل الحزبي. طالب الياس بحياة حزبية تستند إلى نظام داخلي، ديمقراطي ومفتوح على تطور الفكر الاشتراكي، وطالب باستقلال الحزب عن الخارج، وبإحلال الممارسات النضالية محل عبادة الفرد، وبعقد مؤتمر يحضره اعضاء منتخبون من القواعد، وبوضع أسس تحدد علاقات الحزبيين بعضهم ببعض، وتكفل حقوقهم وتسمي واجباتهم، وقال بضرورة التخلي عن الستالينية في فكر الشيوعيين وممارساتهم، وإنتاج خط سياسي ينطلق من واقع سورية والعرب، وطموحات شعبها وأمته، وبالتخلي عن مجمل الخط المعتمد حزبيا باعتباره خطا غير ماركسي او ثوري، مقطوع الصلة بالواقع وبمهام الشيوعيين الحقيقية، وطالب أخيرا بفتح جريدة الحزب أمام تعدد الاجتهادات والقراءات، وباحياء اللينينية باعتبارها ماركسية عصر الإمبريالية، وفكر وتراث الحركة الشيوعية، وبإعادة إنتاج الحزب في حاضنة الصراع الاجتماعي الوطني / القومي، عوض إخراجه من أي صراع سياسي وثوري، وزجه في عراكات شخصية وبرلمانية لا تغني ولا تسمن، بديلها مصالحته مع الثورة القومية الديمقراطية وحواره الإيجابي مع قائدها: جمال عبد الناصر، وعارض بقوة نهج الحزب، الذي تكتك مع الجميع دون تمييز، وعمل لاختلاق حركة قومية تقدمية في مواجهة الناصرية: الحركة القومية التي اتهمها بأنها الأقل ثورية والأكثر محافظة، حتى بعد معركة السويس وحربها ومعركة السد العالي.
قبل طرده من الحزب عام ١٩٥٦، لفت الياس الأنظار إلى أن إلغاء الحرية من حياة الحزب وعلافاته لم يحدث لدواع يتطلبها الالتزام، لأن الالتزام إما أن تكون الحرية منبعه، أو أن امتثالا وانصياعا قهريين ينفيان القدرة علي الالتزام الطوعي، الذي تقوم عليه الاحزاب. ومارس انتقادا علنيا لواقع الحزب وسياسات وحسابات قيادته، ودعا إلى بناء استراتيجية ضاربة كان قد وضع لمسات متفرقة منها في كتاباته، انطلقت من حتمية تعريب الماركسية سبيلا إلى نزع الستالينية، وإعادة إنتاج رهاناتها الأصلية، التي يتوقف نجاحها على انغراسها في الحاضنة الوطنية والقومية، وعلى جعلها أداة العرب في معركة الخروج من دائرة التأخر المجتمعي والتبعثر القومي، ومن بقايا النظام الاستعماري، والطغيان السلطاني، والأدلجة التي تحتجز الواقع في إهاب يشوه فكره وما يقتضيه تحرره من ممارسة إنسانية، بالعودة الى ماركس فكريا / معرفيا، ولينين خططيا واستراتيجيا، على أن تستعيد ماركسية العرب هويتها كنظرية تعين الشروط الواقعية للتحرر البشري، انطلاقا من حرية إنسان يتيح له وعيه ونضاله صنعها بيديه، ومن وضع الحزب ككيان تنظيمي سياسي / مجتمعي في خدمته، بدل أن توضع حريته في خدمة أي شيء خارجها أو يتعارض معها، على أن ينهض التحرر الإنساني من أسس راسخة اولها: إعطاء المواطن، أي الإنسان المشخص، حرية مقدسة لا يجوز انتهاكها، كانت الثورة الفرنسية قد منحتها للانسان بصفته مواطنا مجردا لا وجود واقعيا له. وثانيها الغاء استغلال الإنسان للإنسان تحت أية صيغة. وثالثها: تحرير الإنسان من أي قسر خارجي، أكان قسر السلطة أم قسر الحاجة، باعتباره فردا في مجتمع هو حاصل جمع أفراده الأحرار والمنتجين.
هذا المشروع، الذي شاركه العمل عليه استاذنا الراحل ياسين الحافظ، كان قد مر في مرحلة أولى مارس خلالها نقدا جذريا للواقع من كافة جوانبه، سواء كان واقع الحزب الشيوعي وأيديولوجيته الستالينية المحلية والدولية، أم نقد النظام السياسي والدولة، أم نقد المجتمع، أم نقد واقع العرب التاريخي ومعوقات نموه من واقع ما قبل مجتمعي على صعيد الاقطار / ما قبل أموي على الصعيد القومي إلى واقع وطني / أموي، تستحيل إقامته دون كتلة تاريخية قومية ووطنية جديدة، هي الكتلة التي جلبتها الناصرية إلى السياسة بمعناها الحديث نسبيا، بعد خروجها منها طيلة ألف عام، وصار من واجب الثوريين تزويدها بوعي مطابق لحاجاتها الراهنة والمستقبلية، المتجاوزة لراهنها والتي ستأخدها إلى واقع بديل، تتحد فيه كأمة لتنجز تشاركية إنسانية مدخلها الديمقراطية بما هي حرية كل فرد فيها، ونظام حق وقانون يتيح لجماهيرها الواعية والمنظمة المشاركة الحرة في تقرير شؤونها العامة والخاصة.
من أجل هذا الهدف، أبرز الياس محطات بعينها لدى ماركس، وركز بصورة خاصة على مواقفه من المسألة القومية في ألمانيا وإيرلندا، وعلى حرب الفلاحين، وشرح تكون الأمم الحديثة في سياقه الثوري والتقدمي، وعرج على ما كتبه ماركس في إحدى رسائله عن الوحدة الألمانية، حين قال:” إن بسمارك ينجز جزءا من مهامنا “، ورد على نظرية ستالين التي اعتبرت الأمة نتاج عصر الرأسمالية الصاعدة وابنة السوق، وذكر بما قاله لينين حول حق الأمم في تقرير مصيرها، وحول ثورية الشرق القومي بالمقارنة مع الغرب الاستعماري، وأكد على ثورية الحركة القومية العربية، التي يجب أن تنصب استراتيجية الحركة الشيوعية على التفاعل الإيجابي معها، لتصير جزءا من مستقبلها الاشتراكي وتتمكن من حل مهامها في إطاره، وتنجح في إخراج الأمة العربية من التجزئة والتأخر، وفي تخطيهما ثوريا، لأنها بغير ذلك قد تنتكس إلى حال أشد سوءا من وضعهما السابق للثورة القومية الديمقراطية، التي ستبلور برنامجها وتجند ممكناتها البشرية والسياسية خارج إطارهما وفي الصراع معهما، وستقرن تقدمها الذاتي بثورتها ضد السيطرة الإمبريالية، بحيث يغني أحدهما الآخر بالتقابل، ويحولها إنضاجها المتزايد إلى فرع رئيس في ثورة اشتراكية عالمية متعددة التيارات ضد الرأسمالية كنظام كوني، ستنفتح أمامه بصور متنوعة أبواب التقدم الاشتراكي على الصعيد الدولي ـ السوفييتي ـ والمحلي ـ الحراك الشيوعي الثوري ـ وينمي جوانبه المجتمعية بالتفاعل مع طابعه القومي، بحيث يضفي عليه سمة اشتراكية تتبلور أكثر فأكثر من خلال التحولات في قياداتها الخاصة وقيادات الحراك الشيوعي الثوري، والتشابكات التفاعلية في برامجهما، التي تجعل للثورة القومية كثورة ديمقراطية مآلا واحدا هو الاشتراكية، وللاشتراكية مهمة رئيسة هي تأطيرها بما هي مستقبلها.
هذا الفهم أوجب التخلي عن مفاهيم ماركسية ارتبطت بتحليل المجتمعات الرأسمالية المتطورة وانقسامها إلى طبقتين كبيرتين متناقضتين هما: البروليتاريا والبرجوازية وما بينهما من شرائح وفئات بينية رقيقة نسبيا تتعين ببنيتهما وصراعاتهما، التي ستستبدل بعد نجاح الثورة دكتاتورية البرجوازية بديكتاتورية البروليتاريا. تخلى الياس عن هذا التصور، كما تخلى عن فهم إنغلز للدولة باعتبارها أداة الطبقة المالكة والمسيطرة ضد طبقات المجتمع الأخرى، وتخلى أيضا عن اعتبار الثورة الاشتراكية أولوية لمجتمعاتنا غير البروليتارية / ما دون البرجوازية، ودرس التكوينات والأشكال الانتقالية التي تعتبر مداخل تقود إليها، ورآها في مركب معقد ومتشابك من مهام ديمقراطية قومية، تتصل بإقامة مجال وطني مستقل في البلدان العربية القائمة، يتشابك في الإطار القومي ويأخذ أكثر فأكثر شكل حركة قومية موحدة حاملها الجماهير التي يجب أن تربطها الحركة الشيوعية المحلية والدولية بالماركسية على جسر اللينينية، دون أن يفضي حراكها الفوق وطني بالضرورة إلى القضاء على الكيانات الدولوية القائمة، التي ستقوم الوحدة باعتبارها وحدتها ككيانات هدفها الرئيس تجاوز التأخر التاريخي للعرب، ما كان منه اجتماعيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو سياسيا، وربط كفاحه ضد السيطرة الإمبريالية بنضاله من أجل الاشتراكية، فإن غدا هذا الصراع جزءا من صراع المعسكر الاشتراكي ضد الرأسمالية على المستوى الدولي، وتعاظم دور الفكر الماركسي في الداخل، وتشابكت وتكاملت نضالات وخطط الثورة الديمقراطية مع مثيلتها لدى الأحزاب الشيوعية، تدامجت الثورتان الديمقراطية والاشتراكية وغدتا ثورة واحدة تنجز مهامها متكاملة، وإن كانت متباينة، ووجدت خطة لينين في الثورة ترجمتها العربية، التي لن تكون ثورة بروليتارية ومسلحة، وقد لا تكون بقيادة ينفرد بها الحزب الشيوعي، بالنظر إلى انخراط فئات مجتمعية متنوعة في الثورة الديمقراطية القومية، وإلى دورها القيادي والفاعل طيلة فترة تحقق الثورة الديمقراطية للثورة، وتزايد تداخلها مع مستقبلها الاشتراكي، الذي يتجاوزها لكنه لا يتحقق إلا بقدر ما تحل مهامها بنجاح. عندنا، لن تكون الثورة عملا انقلابيا نوعيا يتم بضربة واحدة، بل ستستمر لفترة طويلة تتحول الثورة خلالها الى ثورة اشتراكية بحامل قومي ديمقراطي، بعد أن كانت قومية بحامل شعبي معاد للامبريالية.
في هذه الحقبة من نضاله، اتخذ الياس مرقص موقفا مناهضا إلى أبعد حد للشطط القومي، الذي قوض الثورة كفعل تاريخي ديمقراطي / اشتراكي مركب، وحولها إلى حركة حزبية أو سلطوية احتجزها داخل بلده، وحال دون أن تتخطاه او تتجاوزه إلى المجال القومي، الذي وقع عمليا الغاؤه بحجة أنه رجعي وغير قومي، وهو شطط اكتسح الساحة السياسية بعد انقلابي البعث في العراق وسورية عام ١٩٦٣، مثلته سياساتهما التي اعتمدت المزايدات الاجتماعية لكبح الرافعة الثورية والديمقراطية التي مثلتها المسألة القومية، وما ترتب على ذلك، بمرور الوقت، من معارك قوضت المجال القومي والوطني، وشوهت معركتهما ضد التأخر والتجزئة، والإمبريالية والصهيونية ونقتلها إلى داخل هذين المجالين، مع ما نتج عن ذلك من تبدل بنيوي في واقع العرب، ومن معارك حزبية الأهداف سياسوية الهوية، جلبت لهم، ولكل بلد من بلدانهم، كوارث أخرجت أطرافها المتصارعة من الزمن القومي الديمقراطي، وأدخلتهم في ثورة مضادة قومية لم تبق شيئا على حاله في الصعيدين الوحدوي / الديمقراطي، والمجتمعي / العدالي.
وكان الياس قد أخذ يرى ثمار معركته من أجل إحياء اللينينية وتقويض الستالينية في الوعي الماركسي، بعد انصرافه لتأليف كتب أظهرت حجم التناقض والقطيعة بين اللينينية والستالينية، وطبقت نهج الأولى على واقع وسياسات الأحزاب الشيوعية والقضايا العربية. وبما أن تهافت الستالينية في تجسيداتها الدولية والمحلية صار ملموسا أكثر فأكثر في وعي النخب الثقافية والسياسية، التي تعرفت على ماركسية الياس ومواقفها من مسائل طرحت نفسها على العرب في كثير من حقول الفكر والممارسة، فقد انصرف، في مرحلة تالية، إلى مواجهة أخرى استهدفت ما اعتقد أن جهوده ضد الستالينية وأحزابها قد حفزت تبلوره، هو التيار اليساري / الطفولي (بالاحرى اليسراوي) الذي انتشر بسرعة في ساحة أخذت معظم حركاتها السياسية، وخاصة منها البرجوازية الصغيرة، تنسب نفسها إلى الماركسية، خال أتباعها أن رطانتها اليسارية ستكون مطابقة للواقع ومعبرة عن حاجاته، بقدر ما تضع انحيازاتها الفئوية والطبقوية في مواجهة الأمة والثورة القومية/ الديمقراطية، وتفصل المعركة ضد الإمبريالية والصهيونية عن المعركة ضد التأخر والتجزئة، وترى، كالبعث، أن العرب أمة كتلية مسطحة، غير مبنينة وغير تاريخية. إذا كان الياس قد رأى في الستالينية ظاهرة تتخطى توضعاتها الحزب الشيوعي السوري، وأصدر كتابا عن “تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية” كان الأول باللغة العربية، وكان قد كشف تجذر مواقفها في سياسات الاتحاد السوفييتي، وخاصة تجاه قضية فلسطين، وإذا كان قد بين مواقف بعض الأحزاب الشيوعية الأوروبية من ظواهر متنوعة، كالظاهرة الاستعمارية، ومواقفها من الثورة والحرب، ونشر كتبا ووثائق عن سياساتها تجاه البلدان العربية عامة، وسياسة الحزب الشيوعي الفرنسي تجاه الجزائر خاصة، فإنه نقل الآن معركته إلى الجهة الأخرى: إلى النزعة اليسراوية، التي لم تقل شططا وخطرا في رأيه عن الستالينية، أو كانت ستالينية مقلوبة وليست البديل المطلوب لها، لذلك وضعت المنظومة الفكرية اللينينية أشباهها تحت حيثية “النزعة الاقتصادية الإمبريالية”، التي تدرج جميع مسائل السياسة تحت رؤى طبقوية، وترى في الصراعات ظواهر طبقية وحسب، تلغي كلية الواقع وجوانبه الأخرى، وتقلصه إلى بعد طبقي هو بعده الوحيد أو الغالب، الذي يستنفده ويعبر تعبيرا كاملا عنه، وتتعين به هويته ومفرداته، فلا مسألة قومية أو ديمقراطية أو فكرية أو سياسية تتخطى بعدها الطبقي، إن اعترفت اليسراوية لها بمثل هذا البعد، الذي يصير بعدها الاجتماعي وبالتالي الفكري / المنطقي الوحيد.
وبالفعل، بدأ الياس معركة سياسية/ فكرية ضد الجائحة اليسارية، وتناولها كممارسة سياسية وكنظرة أيديولوجية، دون أن يوقف نضاله ضد الفكر القومي المضاد، الذي رأى فيه انحرافا معرفيا خطير النتائج على ثورة العرب الديمقراطية، ونخبوية مناهضة لحاملها الوطني/ الأموي ولخياره الوحدوي. وكان قد وضع خطة للرد على مفكرين قوميين منهم ساطع الحصري وزكي الارسوزي وميشيل عفلق، وبعد أن أنجز الجزء الأول من مشروعه “نقد الفكر القومي”، الذي كرسه لساطع الحصري، انصرف عنه إلى نقد ممارسات البعث، التي اعتبرها تجسيدا لنزعة يسراوية تلغي المسألة القومية، وتبطل الثورة القومية الديمقراطية وتستبدلها بحركة حزبية / سلطوية، هي من أسوأ ما أنتجته النزعة القطرية التي لطالما أدانها البعث وادعى أنه ضدها، كما تبطل، في نظر الياس، فرص تنامي وتراكب الثورتين، وتقضي على البعد الاشتراكي للثورة الديمقراطية العربية، لذلك نقلت معاركها إلى داخل الصف القومي، وركزتها تحديدا على جمال عبد الناصر، وتمسكت بمواصلتها رغم ما ترتب عليها من ارتداد جلي عن النمو الإنساني والعقلاني والديمقراطي، الذي كان في طور الحدوث، وقام على سياسة حاملها التاريخي أمة شرعت تحقق مشروعها التاريخي بفضل ما فيها من اختلاف وتعدد، في إطار صراع يتخطى أي طبقة أو حزب أو فئة، موجه ضد التخلف والتجزئة قبل أن يكون موجها ضد الإمبريالية والاحتلال الصهيوني لفلسطين، التي اعتبر الياس قضيتها جزءا من قضية أكبر هي العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والقضية الإنسانية، لن يخدمها من يتنكر لإطارها هذا أو يضعها خارجه. وجه البعث جهوده ضد الناصرية، ووضع نفسه خارج المرحلة القومية العربية بما هي مرحلة جماهيرية،عامية وعوامية، وديمقراطية بالمعنى اللينيني، لكونها حركت المجتمع الريفي المهمش، وأخرجت السياسة من احتجازها كنضالات يمارسها القطاع الحديث من المجتمع، وأدخلت المجتمع القديم في سورية ولبنان والعراق ومصر … الخ لاول مرة إلى حلبة السياسة … علما بأنها ليست من صنع حزب أو ناد، وأن مكوناتها عروبية وإسلامية واشتراكية وتقدمية، وأنها جماهيرية بالمعنى الإيجابي والجيد للكلمة، وأن الجماهير هي ـ كما يقول الياس في مذكراته التي أنقل هذا النص حرفيا منها ـ الكتل الشعبية الكبرى زائد فكرة التقدم القومية، مع رفض المعنى التقليدي المتعارف عليه لدى السوريين للقومية، التي تعني نفي الأقطار، كما روج البعث منذ تأسيسه. بعد استيلائه على السلطة، بدأ البعث يساوي بين قضية فلسطين والمسألة القومية، ووضع الوحدة تحت هذه الحيثية واعتبرها ثانوية وخارج مهام الثورة، دون أن يتوقف عن استخدامها في صراعه ضد عبد الناصر، حتى أن أحدهم (فيصل بدوي) قال بعد عام ١٩٦٣: “سنثير قضية تحرير فلسطين، وخلي صاحبك الحج عبد الناصر يبقى بعيد “(ص ١٠٧) . في هذه الأثناء، كان السوفييت يقولون: “عندما تنتصر الحركة الوطنية، فإنها تنقسم بين قيادة برجوازية وطنية وبين حزب الطبقة العاملة”، وبالنظر إلى أن البعث كان قد شكل كتائب عمالية مسلحة، ورفع شعار الاشتراكية العلمية، وأجرى إصلاحا زراعيا أكثر راديكالية من إصلاح مصر، وأمم الشركات الخاصة وحتى الصغيرة جدا منها، ورفع راية الحرب ضد الإمبريالية، وأطلق على نفسه لقب “النظام التقدمي” المتحالف مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وأسس “جبهة وطنية تقدمية” من أعمدتها الحزب البكداشي، فقد مال السوفييت إليه على حساب عبد الناصر، بينما كانت المزاودة تنصب افخاخها له، وقد قال الياس في مذكراته حول موقف البعث: “المزاودة جاءتنا بالخراب، خربنا الموقف من إسرائيل وقضية فلسطين، وخربنا الاتجاه نحو الديمقراطية، واقمنا سجونا وانخرطنا في انقسامات عربية لا طائل منها، وساهمنا في تسليط نظام نهب لا نهاية له علينا”. لنتذكر الآن عائد هذه السياسة من حزيران ـ تدمير الأمة ـ إلى يومنا الحالي ـ تدمير شعوبها وبلدانها ـ.
اذا كانت المرحلة الأولى من نضال الياس قد واجهت سياسات وأيديولوجيات الستالينية وتنظيماتها السياسية والدولوية، وركزت الثانية على تعريب الماركسية وما ترتب عليه من صراع واسع ويومي ضد مدارس فكرية متنوعة كالمدرسة اليسراوية / الطبقوية في بعديها العربي والفلسطيني، والمدرسة القومية الحزبوية في تجلياتها المختلفة، وخاصة منها مدرسة البعث، التي اعتبرها معادية للثورة القومية الديمقراطية ولبعدها العدالي، فضلا عن استعادة اللينينية كنهج وممارسة ثورية قيل إنها “ماركسية عصر الامبريالية”، فإن المرحلة الثالثة والأخيرة من جهوده انصبت على رد الاعتبار للماركسية والدفاع عن جدارتها الفكرية والمعرفية وراهنيتها. حدث هذا عقب انهيار المعسكر الاشتراكي، الذي اعتبره قسم كبير من الشيوعيين السابقين انهيارا للماركسية، ورأى هو فيه مناسبة لإعادة قراءتها في السياق الفكري / التاريخي الذي أنجبها. وقد كانت المرحلة الأولى سياسية / فكرية، والثانية فكرية/ نظرية (الماركسية في عصرنا وترجمات كثيرة)، أما الثالثة فصارت فلسفية ( المنهج الجدلي والمنهج الوضعي، نقد العقلانية العربية، المذكرات).
بما أن الدكتور احمد برقاوي، استاذ الفلسفة المتخصص سيتولى عرض الجانب الفلسفي في فكر الياس وعمله، فإنني سأكتفي بايراد مقتطفات من أقواله المختلفة، تبين بعض الأسس التي اعتمدها في صراعه الفكري ومواقفه المعرفية وممارساته .
يقول الياس في مذكراته:
ـ توجهي الاستراتيجي هو: وحدة القومية العربية مع الجماهير الأهلية مع حقيقة الماركسية / اللينينية.
ـ يكمن خطأ العقل العربي في أنه إذا آمن بمبدأ، فإن هذا المبدأ يكف عن أن يكون مشكلة أو معضلة، بينما تكمن إحدى نقاط القوة في الفكر الأوروبي في أنهم مسألوا المبادئ، أي حولوها بصورة دائمة إلى مسائل، فصار الله عندهم مبدأ، وبالتالي مسألة دائمة تحتمل أجوبة كثيرة . وفي حين يغلب الانقسام بين قبول الدنيا ورفضها على الثقافة العربية الإسلامية والمنظومة الأيديولوجية الخاصة بها، وكذلك اعتبار العالم شيئا منحطا، وأننا نذهب بعد موتنا إلى الجنة، فإن العقل، الذي حكم أوروبا في العصور الحديثة، هو عقل تحسيني، ينظر إلى التاريخ باعتباره سيرورة تقدم وارتقاء متدرجين. علينا أن نتعارك دائما مع المباديء بصفتها مسائل تتطلب أجوبة وحلولا جيلا بعد جيل، مع معاودات دائمة.
ـ سقطت موسكو ككعبة. الآن صار الضمير هو الكعبة الوحيدة، وهو يتطلب أن نكون تابعين لمبدأ أعلى، ولا نكون تابعين لأى شيء عداه، لأن المنطق الضميري المجرد يقول لي أن مسعاي لا يجوز أن ينصب على صنع فردوس أرضي، لأن الفردوس لا يصنع على الأرض. والعقل قائم على أن الدنيا لا تتحول إلى سماء، والأرض لا يمكن أن تصير جنة، وأنها قابلة للتحسين، ومطلوب من الإنسان أن لا يتحول إلى ملاك، بل أن يتحسن ويحسن العالم، لأن أعظم ثورة في التاريخ ليست غير درجة واحدة على سلمه.
ـ ليست المزايدات اليسارية غير عقل اللاعقل، أي نفي العقل. منطقية الفكر هي ذروة الحقيقة وليست الحقيقة هي الإدراك الحسي، وقد تبنت اليسراوية الماركسية كي لا تقرأها. تحكم سلوك الأحزاب والحركات السياسية قوانين كثيرا ما لا تعيها. وقد لعب الافتقار إلى الوعي دورا كبيرا في تمكين قوانين ستالين من هزيمتنا. كما أن الوعي لا يعني التسخين والاحتدام، بل هو عكسهما.
ـ هناك من لا يدركون أن المعرفة تبدأ بفصل المفاهيم ووضعها بعضها مقابل بعضها الآخر، ليصير ممكنا دراسة علاقاتها. يستخدم الثوريون مقولة الطبيعة ليرفضوا مقولة التاريخ، والماركسية عكس ذلك.
ـ الخطر الأول الذي يهدد الثورة يكمن في تسلط فكرة الهدف على فكرة الواقع. ليس التناقض الكبير بين المادة والوعي، بل بين الواقع والهدف. يقع العقل الثوري في الخراب، حين يعبر عن رغباته وكأنها الواقع. وللعلم، فالواقع ليس مادة، إن له بنية ومنطق أاسباب ونتائج وسببيه: إنه ذات.
ـ ليست الدولة اداة طبقة ضد طبقة، إنها المجتمع السياسي، وهي رديف العام، لذلك لا تريد ولا تستطيع أن تكون طبقة وحسب، والدولة المستبدة طبقيا ليست دولة، كما أن الدولة ليست مجرد سلطة فقط. لن تنجح الدولة الديمقراطية ما لم تمهد لها دولة حق وقانون، والاشتراكية تعني العدالة الاجتماعية، وهي الملكية للجميع وليست إلغاء ملكية الجميع … قال روسو: الثمار للجميع والأرض ليست لاحد. لا يا سيدي، الأرض أيضا يجب أن تكون للجميع.
ـ تنفي النزعة الذاتية الواقع وتعتقد أن الخصم لن يفعل إلا ما يريده صاحبها. وقد تم عندنا إلغاء الحقوق باسم الواجبات، ثم ألغيت الواجبات وتحولت إلى إكراهات، كما خلطنا الحقوق بالأخلاق بحيث الغينا الحقوق باسم الأخلاق ثم الغينا الأخلاق والحقوق وكل شيء يتصل بهما. أما حقوق الإنسان فهي أولا حقوق الفرد حيال الدولة والمجتمع والأمة والجماعة. يأتي القمع والاستبداد والاضطهاد من السلطة، ولا يمكن أن يأتي من الشعب، كما أن السلطة لا تهبط من السماء.
ـ لا حقوق سياسية دون حقوق مدنية، ولا يجوز أن تلغي الحريات السياسية الحريات المدنية. ولا يجوز أن يكون هناك إرادة لأحد إلا في إطار الحرية الشامل. نحن بحاجة الى جمعيات مدنية تدافع عن حقوق الناس حتى في الكفر، دون أن تكون مؤيدة له.
ـ الديمقراطية مفهوم كبير جدا، وهي أساس كل ما يجب أن نفعله وأهم مفهوم يجب أن نضعه في أذهاننا، والتحول إلى الديمقراطية يتوقف على المثقفين والنخب وعلى الثقافة، وعلى وجود أحزاب متنوعة، وهي تعني القبول بمبدأ حقوق الإنسان، كما أنها تصور للعالم، وفلسفة، وطريقة في العقيدة والفطرة، وإذا كان هدفي المعرفي هو تركيب لوحة الواقع حسب الديالكتيك، فان هذه العملية تحتاج، بين أمور أخرى، إلى تعدد الأصوات والزوايا، أي إلى الديمقراطية، التي تتيح لنا رؤية الواقع من جميع زواياه. أخيرا، الديمقراطية نظرة إلى الوجود والواقع، والأول متعدد ومختلف.
ـ نقل القرن الثامن عشر الفكر والمعرفة من فكرة الأشياء الى فكرة الصيرورات، واختصر القول بمبدأ مهم هو: لا تغيير بلا اختلاف، ولا اصطفاء إلا لما هو مختلف، وبكلمات أخرى: دون اختلاف لا اصطفاء ولا انتخاب.
ـ تصالح الماركسية الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة، وتعني الانتقال من المجتمع المدني إلى المجتمع الإنساني، أو إلى الإنسانية التشاركية، وتتيح قدرا كافيا من التطابق بين أفعال الإنسان ونتائجها. واليوم، لا بد من إعادة النظر في لينين بمقارنته مع ماركس. للواقع مستوى إعلى من مستوى الحق، الذي عليه أن يرتقي اليه.
ـ نحن بعيدون عن الفلسفة والفكر الفلسفي، وعن الدين ومفردات عصر النهضة، وليس لدينا فكر ديني مسيطر، مشكلتنا أنه ليس لدينا فكر ديني، وأن المسألة الدينية خنقت وهمشت وحلت محلها المسألة الطائفية . كما تكونت المنظومة الأيديولوجية الإسلامية باستبعاد عدد من المقولات والأطروحات الواردة في القرآن الكريم: أس العقيدة الإسلامية وأساسها، منها مقولة النفس، التي لا توجد، ولا يمكن أن توجد، عقيدة إسلامية حقة دون فكرتها، المربوطة بالله برابطة متبادلة حدها الآخر الإنسان، والنفس خلقها الله وليس الأب والأم، وهي الأنا، والروح والنفس أخوان، لذلك الله هو النفس التي لي، هو نفسي، وهو أنا، والنفس فردية لا جماعية ولا وراثية، وهي موطن الحرية والمسؤولية والإيمان والكفر، وهي أمارة بالسوء، لذلك أعلن النبي بعد فتح مكة انتهاء الجهاد الأصغر وبدء الجهاد الأكبر، الجهاد ضد النفس، رغم أن المسلمين صاروا غالبين. بتغييب النفس وتغليب الجماعة على الفرد ساد هاجس الفرقة، وظهرت أيديولوجية انحدار تراجعت معها فكرة القانون ومكانة البشر خلال الأعوام الألف الماضية. أما الفكر العربي الحديث فقد تمسك بفكرة الثورة كي يستغني عن فكرة التقدم، التي تتضمن التغيير، علما بأنه ليس كل تغيير تقدما، لكن فكرة التطور تتضمن فكرة التغيير، بالشيء وهويته، وليس فقط مجرد التغيير الكمي.
ـ لسنا نحن الخير وغيرنا الشر. ويجب أن ننتهي من القاموس الوثني المؤلف من خانتين: إله الخير والنور وربما القوة والفحولة، وإله الشر والظلام وربما العنصر الأنثوي، وأن نضع في الخانة الاولى: شعب، جماهير، اشتراكية، أمة، وفي الثانية: الرأسمالية والإمبريالية والاستعار والإقطاعية والعبودية … الخ.
ـ من الحماقة الاعتقاد بوجود علوم وضعية إيجابية دون علوم معيارية / قيمية. الفكر هو سمة العقل، وهو سلاحنا الوحيد. أما المبدأ الأول في الاجتماع البشري فهو الاختلاف، والمبدأ الثاني هو اختلاف الاختلاف.
ـ الفلسفة المسيحية ابنة الغرب، واللاهوت ابن االشرق. عندنا، لا يوجد لاهوت، هناك فقه حل محله وألغى الفلسفة أو انتصر عليها وهزم علم الكلام ( واصل ابن عطاء، والمعتزلة) . من غير الجائز إعطاء رجال الدين حق إرسال االناس إلى النار وهم في الحياة، وأن يختصروا حياة الإنسان بالانتقال من نار الدنيا الى نار جهنم، أو أن يجعلوا نار الدنيا إشفاقا عليه وتطهيرا له من ذنوبه وانحرافاته كي يتخلص من النار الأبدية.
ـ العدالة هي حد بين الحرية والمساواة، والتاريخ العربي / الإسلامي لا يعرف مقولة الحرية، بل مقولة العدالة، التي تصبح مجرد مساواة دون الحرية، الصفة التي ينفرد بها الإنسان وحده.
ـ لا بد من الاشتراكية كتطلع بشري وضرورة راهنة تبحث البشرية عنها، لأنها لا يمكن أن تستمر خمسين عاما أخرى في ظل نظام الحضارة الرأسمالية / البرجوازية. أما فشل النظام الاشتراكي، فهو كارثة للجنس البشري، الذي بلغ في نهاية القرن العشرين أكبر مفترق طرق في تاريخه، فإما أن يكون بعده أو لا يكون، بما أن التحولات التي تواجهها البشرية اليوم هي أكبر من جميع تحولاتها السابقة.
هذه بعض المحددات المنهجية والفكرية التي ضبطت تفكير الياس مرقص، وهي مزيج من استخلاصات أملتها تجربته الشخصية والتاريخية، ومن جهد فكري خاص حدد اتجاهه حيال الأحداث والفاعلين السياسيين أحزابا وتجمعات ودولا.
في النهاية، لا بد من التعريج ببعض الجمل على طريقة منهجية طالب الياس باعتمادها في التعامل مع الواقع، تتخطى الثقافة إلى ما كان يسميه ” الفكرية”، وهي نهج يضم مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، التي تعالج واقع البشر وفاعلياتهم الهادفة إلى إدراكه وتغييره، ويرتبط في الوقت نفسه بالمنهج الجدلي بتفرعاته التطبيقية المتنوعة باعتباره أقرب المناهج إلى العلم وضعيا ومعياريا، دون أن يهمل ظرفية ثقافة عصره وارتباطه بمسائله المتحركة. هذه الكلية الفكرية / المعرفية، اعتبرها الياس معرفة شاملة وعليا، تنضبط بها مختلف أوجه الفكر والممارسة البشرية، وتضعها في سياق يوحد مكوناتها دون أن يبطل تنوعها أو يهمله. ومع أنه من الصعب عرض مفهوم جديد لم يبلوره صاحبه أو يقدم له صياغات نظرية وتطبيقية تشرحه، فإنه تحدث مرارا عنه، واسماه ” الفكرية “. كان الياس يرى في الماركسية والهيجليه نماذج ناحجة للفكرية، تفسر منهجيا وموضوعاتيا مناشط البشر المادية والروحية. وكان يرى أنها يجب أن تكون عصية على خطرين:
ـ الادلجة، التي كان يرى لها بعدين: واحد استباقي / نقدي يدرك الواقع القائم ويرسم بديلا استشرافيا له، تستعين الثورة به لحشد الشعب حول اهدافها، التي يجب أن تنال ثقته وتأييده، وتقنعه بالانخراط في حراك هدفه تحقيق ما تعد به، وبعد آخر كبحي / تعويقي يحول التمسك به دون تغيير النموذج الذي أقامته الثورة انطلاقا منها، كايديولوجية احتجزت الواقع الجديد الذي أقامته، واقعها هي، وتحولت بمرور الزمن إلى ضرب من قيد على الفكر الذي يتجاوزها والواقع الذي يتخطاها، ويضعها أمام مفارقة لا حل لها عندها هي التالية: لئن كانت في مرحلتها الأولى أداة تغيير للواقع القائم، وقدمت صورة لواقع جديد رسمت صورته وعودها، فإن مرحلتها االتالية تجعل منها قيدا على تطور واقع متحرك بثبات لا يستطيع أي فكر أو تنظيم وقفه، يخرجها تناميه عن الخدمة، مع كل تبدل يشهده، ويجعلها تتقادم جزءا بعد آخر، إلى أن يصير التخلي عنها شرط التقدم نحو آفاق ليست مسجلة فيها. كان الياس يتحدث عن الأيديولوجيا بالمعنى الأول، باعتبارها منظومة تستبق في تصوراتها ووعودها الواقع القائم، وتحفز على الثورة ضده، والعمل لبناء واقع بديل له.
ـ الاستخدام الوظيفي، الذي رأى في الستالينية شكلا تطبيقيا له ناهض الماركسية من داخل منظومتها، واستخدم مفرداتها رغم أنه لم يخالفها على طول الخط وكان خارجها، إلا أنه نجح في تحويلها عن طبيعتها الأصيلة إلى هوية بديلة هي نقيضها، حولتها إلى أيديولوجية وظيفية وضعت في خدمة ما كرس ماركس نظريته للقضاء عليه: ألا وهو السلطة الإكراهية، التي أكلت حريات الناس وألغت مبدأ المواطنة، وبدل أن تنقل مجتمعها من طور المدنية البرجوازية إلى طور المدنية التشاركية أو الإنسانية، انحدرت به إلى درك إقطاعي محدث جعله أشبه بمعسكر اعتقال.
في تصوره، الذي كثيرا ما سمعته منه، تنطبع الثقافة بمعناها السائد بالصفتين، فهي أيديولوجية ووظيفية، بينما ستمارس بنية الفكرية المتجلية في شمولها قدرا من الرقابة الذاتية والحرية يتيح لها أن تكون نقدية بلا تحفظ أو حدود، بما في ذلك حيال قضاياها ومكوناتها ومنهاجها، بحيث تكتفي من الأيديولوجية بطورها الأول، النقدي، ومن الثقافة بوظيفيتها التي تخدم هذا الطور وحده، وتقوض طورها الآخر، الكبحي، الذي يصير محافظا ثم رجعيا وأخيرا معاديا للثورة، وينجح فعلا في القضاء عليها، كما حدث في الاتحاد السوفييتي.
هذه هي وصية الياس، كما افهمها. إنها الدعوة الى نمط من الفكر والمعرفة يحافظ على وظيفته كحافز للتقدم البشري، عصي على التحول إلى أيديولوجية أداتية تستخدمها سلطة (فردية أو مجتمعية أو دولوية) ترفض دولة الحق والقانون ومآلها الدمقراطي، وتقلبها إلى سلطة قمعية وعنيفة، ترتكز على تكوينات ما قبل دولوية / ما قبل مجتمعية، كالستالينية والأسدية.