ليس من الصعب على أي متابع اليوم أن يدرك حجم المآسي التي تمر بها المجتمعات السورية شرقاً وغرباً: سواء في الخارج لأولئك الذين تلحفتهم آلام اللجوء في أصقاع الأرض أو في الداخل السوري بين المبعثرين تحت سلطات أصولية في الشمال السوري فرضت نفسها هناك بقوة الدعم الخارجي والفراغ السياسي والحداثي الداخلي، وتستبسل بالإسلام كمرجع أيديولوجي لتغطي به عورتها السياسية والإرهابية، وبين أولئك المبعثرين تحت سلطات إيران والبعث المفروضة أصلاً والتي ما زالت تتلحف بمقولات العروبة لتغطي بها عورتها الطائفية المقادة بأصوليات طهران. ربما يخال المرء وهو يرقب هاتين العورتين في الداخل السوري أن هناك هوة لا يمكن عبورها: بين تسلط إسلامي أصولي وبين تسلط بعثي قومي. بيد أن قراءة متأنية ستكشف أن هذه الهوة ما هي إلا القاع المريض نفسه الذي صعدت منه هاتان النظيمتان حيث يمتحان منه شرعية وجودهما: فلا يتعدى الفرق بينهما الفرق بين كوكا وبيبسي كولا. وبالفعل، فقد أثبتت سورية على مدار هذا التأزم أنها من بين أكثر بلاد المشرق التي لا تبرهن فحسب على الخلف التاريخي الذي أنتج البعث وأشقاءه من الأصوليين الإسلاميين، بل كذلك على وحدة هاتين البؤرتين، إنْ ثقافياً أو سوسيولوجياً، بصرف النظر عن الاختلافات الأيديولوجية السطحية بينهما.
لا شك، لم يأت تمدد الإسلام السياسي والجهادي في سورية من فراغ. فقد كانت هناك عمليات تاريخية متكاملة تضرب في عمق الواقع السوري، سواء على الصعيد الثقافي، المتقادم تاريخياً، أو السياسي المتعفن ديكتاتورياً (لا يمكن الفصل بين هذين الجانبين). إنّ من أهم ما أنتجته هذه العمليات هو الإفلاس الرهيب للأيديولوجيات العربية المتهالكة التي تشربها مثقفونا، وتحديداً الجانب القومي منها، في أنْ تقدم شيئاً لشعوبها. هكذا، فإنه ليس من المفاجئ أنّ صعود الإسلاموية في أزمنتنا قد سبقه وزامنه واقع مريض بعد أنْ حطت هذه الأيديولوجيات رحالها وأعلنت سقوطها نهائياً (بالطبع، لقد كانت، بالأصل متهالكة تاريخياً). هذا ما وجدناه بادياً للعيان بقوة في أكثر من بلد عربي منذ أنْ صرخت ثورة الياسمين بإسقاط مستبدّها، زين العابدين بن علي، وما توالى بعد ذلك في بلدان عربية أخرى، الأمر الذي مثلت به دمشق قمة التراجيديا.
كما أنّ القومية العربية نمت في بواكيرها في ظل الخراب في النصف الأول من القرن العشرين، وأنتجت لنا ثلةً من الديكتاتوريين السياسيين وأيديولوجيات توتاليتارية ثقافية، فكذلك الأمر ينطبق على الإسلاموية، والتي هي الأخرى لا تستطيع الصعود سوى من الخراب. بيد أنّ الأمر الذي يجب تسجيله في هذا السياق أنّه لا يمكن النظر إلى الإسلام السياسي بخطوطه العريضة في جانب منفصل عن الأدلوجة القومية العربية. وإذا كان من الصحيح تماماً ما أكد عليه باحثون أنّ الخطابات العربية بعمومها كان يتقاسمها الإسلاميون والقوميون، وأنّ كلاً من هذين الطرفين كانا يتناوبان في السيطرة على الواقع العربي، فإنه من الصحيح كذلك أنّ كلاً منهما كان يحمل في طياته الدفينة البنى التي يحملها الآخر.
والحال، إذا كانت الإسلاموية تختلف في تطلعاتها الأيديولوجية عما كانت تسعى إليه القومية العربية، إلا أنها في عمقها وتطلعها الكوني (Weltanschauung) كانت تحمل البنى الهيكلية نفسها في تأسيسها المعرفي والأقنومي الذي سمح للتيارات القومية أن تسود. وهذ بالفعل ما تجلى واضحاً منذ لحظات التأسيس الأولى لحزب البعث على يد ميشيل عفلق وزملائه والذي لم تكن إسلاميته تقلّ إسلاميةً عن تلك التي يمتلكها حسن البنا. وهذا ليس غريباً. ذلك أن الحالة القومية كانت هي الأخرى تستند في بارادايماتها العميقة على الهياكل الإسلاموية نفسها التي كانت تسيطر على الواقع الثقافي. فهي، كما يشدد باحثون، “نوع من الإحياء الديني”، كما هو الحال في الإحياء الأصولي. لهذا بتنا نشهد في كثير من الأحيان ظاهرتين متضافرتين: الأولى «قومنة الدين» (وتحديداً الإسلام) على أيادي رسل القومية. حيث يعد هذا الدين قوة دافعة من قوى البعث القومية، بل أصبح هو نفسه تعبيراً قومياً يعبر عن روح الأمة الموعودة، التي طال انتظار بعثها من رقاد مخيال الماضي. فأخذ هذا الدين صيغة قومية من الصعب الوقوف في وجهها؛ لأن مجرد معارضتها سيغدو معارضة للدين نفسه. هكذا لم يكن عفلق يرى في حدث ظهور الإسلام إلا كونه حدثاً قومياً. أما الظاهرة الأخرى، فهي إعادة «تديين القومية». فإذا كانت القومية في جوهرها روحية وأصولية كذلك كما شهده السياق المثالي الألماني، فإنه جرى إعادة شحنها بثيمات الإسلام في سياق العروبة. لهذا بات ينظر إلى الدين الإسلامي بالفعل على أنه مبعث روح القومية العربية. من هنا الصعوبة التي نجدها حينما نقرأ في الكثير من الأدبيات القومية ما إذا كانت تنطلق من أفواه قومية أم إسلاموية، تستبسل الدفاع عن تراث إسلامي متخيل، وبخطاب دفاعي ممجوج ضد الحداثة الغربية. الدفاع اليساري بنسخته القومية اليوم عن بشار الأسد، أو غيره من ديكتاتوريي العرب، ينطلق من نفس النظيمات والمنطلقات التي يدعي الأسد محاربتها والتي تحمل في أبعادها الهيلكية الروافع الإسلاموية كمناخ ثقافي لا يجب المساس به.
وعموماً، فإنه على مدار قرن كامل من الصراع بين القوميين والإسلاميين لم يجر درس الاستبطانات العميقة المتداخلة التي تسكن عمق خطاب هذين الطرفين. إننا نشير إلى هذه النقطة مجرد إشارة، لا على سبيل التعمق بها (وخاصة أنّ السياق لا يمكن أنْ يسعفنا بذلك)، بل على سبيل لفت الانتباه النقدي إلى مسألة نعاني منها اليوم مع صعود كل أشكال الشياطين في المشرق العربي والإيراني، سواء بأشكالها القومية أو الإسلاموية: كيف يتحول البعثي القومي إلى منافح طائفي وداعم لإسلاموية شيعية طائفية تقودها إيران، وكيف تدافع أقطاب من المعارضة المثقفة عن إسلاموية سنيّة أكثر من الإسلامويين أنفسهم؟ كيف لا يستطيع الكثير من المثقفين نقد الخلل في الشارع، والذي أدُّعي أنه هو الذي يقود دفة التغيير، وهو الشارع نفسه الذي أثبت فشل قبائل المثقفين أنفسهم؟ المسألة، لا شك، لا تقف عند هذا الحد: ما هي الاشتراكات الأنثروبولوجية العميقة التي تجمع بين هذا المثقف وبين الشارع، وبين هذين وبين الديكتاتور؟ لدينا مجموعة من البنى الهيكلية يشترك بها هؤلاء الأطراف الثلاثة؛ ومرة أخرى، إنها ثقافة الخراب.
ليس هناك في العالم العربي، بالمعنى السياسي للكلمة، وضع يمكن فيه دعوة المعارضات على أنها مرآة للسلطة (هذا الحال ينطبق على بلدان تُمارس فيها السياسة)، وهو الأمر الذي يصدق تماماً في سورية بأجلى صوره. لكن، إذا كان لا بد من القول أنّ المعارضة في العالم العربي هي مرآة السلطة، فهي مرآتها من حيث أنهما ينطلقان في إنتاج الأدلوجات وغيرها من قاعدة النظيمات المعرفية والقواعد المنهجية والسلوكية نفسها التي تمنهج الأخلاق، الفكر، الممارسة الخ، بالرغم أنهما يختلفان على السطح ببعض الأفكار الأيديولوجية. من هنا يمكن أنْ نفسر لماذا تصعد الإسلاموية من قاع السلطة السياسية (لننظر اليوم إلى بعث بشار الأسد كيف يعيد منذ عقد من الزمان إنتاج إسلاموية أصولية بمقاس البعث، لكن على طريقته)، وكيف صعدت أشكال أخرى من الإسلاموية من قاع المعارضة (والشارع المعارض السوري يبرهن على هذا تماماً اليوم)؛ وأيضاً يمكن أنْ نفسر لماذا تسود داخل الكثير من أطراف المعارضة ذهنيات توتاليتارية إقصائية تعيد استنساخ ما تقوم به البنى البعثية الحاكمة.
دمشق نفسها التي كانت في يوم ما يتغنى بها كقلب العروبة النابض الذي أنتج البعث ورؤوسه هي نفسها اليوم التي تنبض بكل ما أوتيت من قوة بأصوليات هائلة اجتذبت كل أنواع الأصوليات من كافة أصقاع الأرض. المشهد، لا شك، بالغ التعقيد؛ لهذا لا يمكن تقديم إجابات تاريخية شاملة. بيد أنّ النقطة التي نشدد عليها هي أنّ إعادة إنتاج الإسلاموية التي تشهدها سورية، وما يرافقها من الأشكال التوتاليتارية، هي نتاج عمليات تاريخية طويلة على مدار القرن الماضي، والتي أنتجت كذلك رؤوس البعث، بصرف النظر عن صراعهما الدموي، وهو صراع القط والفأر (ولا ينبغي أبداً التصديق أنّ الحروب بين الإسلاميين والقوميين كانت على الأيديولوجية بمقدار ما كانت على السلطة). وهو الأمر الذي يفسر تصلّبهما في عمق الخراب الثقافي، وبالتالي الثبات في إعادة إنتاج كل منهما للآخر من الرحم نفسه، طالما أنّ كلاً منهما يسكن في الرحم الثقافي للآخر. وما التأزم السوري اليوم سوى مرحلة من المراحل المهمة التي كشفت ما كان يجري في عمق ما أورثته بعض القبائل الأيديولوجية المثقفة والسلطوية ومعها كل القبائل الإسلاموية.