هذا الحوار المنشور على حلقات هو حوار أجراه جاد الكريم الجباعي مع إلياس مرقص، ونشره في كتاب (حوار العمر) الصادر عن دار حوران. وهذا النص هما القسمان الأخيران من الفصل الخامس والأخير (إعادة إنتاج مقولات عصر النهضة وتعميقها). لقراءة الحلقات بالترتيب انظر أسفل النص.
في العصر اليساري، في عصر عبد الناصر وبعد عبد الناصر، في الستينات والسبعينات انتشر في صفوف اليسار موقف معاد للدولة ولفكرة الدولة ولمفهوم الدولة. هذا الموقف كان سيئاً وخطيراً. وإذا لم نفند هذا الموقف وندحضه ونحذفه فهو خطير وخطير. هناك أناس يقولون إن الدولة أكلت المجتمع عندنا، وفي رأيي أن السلطة والتسلط والاستبداد هي التي أكلت المجتمع. ويجب أن نميز الدولة من المجتمع بفكرة أخرى مفادها أن الدولة الحقة والحقيقية والحقوقية هي التي لديها الاستعداد، بموجب كيانها كله، أن تدافع عن مواطن، عن فرد إزاء الجماعة، وإزاء المجتمع، وإلا فإن المجتمع ينحط إلى جمهور والشعب ينحط إلى جمهور، ومن هنا يجب أن نؤيد فكرة سمو الدولة.
عند مناقشة التاريخ العربي الإسلامي، في ندوة القومية العربية والإسلام، قال كثير من التقدميين والإسلاميين التقدميين المعتزين بعروبتهم وإسلامهم وعلمانيتهم وتقدميتهم: إن الخلافة بحسب الإسلام منصب دنيوي ويفاخرون بأنه منصب دنيوي وشعبي ليس له الصفة الدينية، وتجد من يقول على العكس: إن مصيبة تاريخنا العربي الإسلامي وما قبل الإسلامي، أن الدولة كانت ذات صفة دينية. كنت أقول: لكي أفهم ماذا تقصدون يجب أن أعرف ما تقصدون بالصفة الدينية، فعندما يقول صادق جلال العظم: “نقد الفكر الديني” فإنني أعترض على المقولة وأريد أن أعرف ماذا يقصد بالديني، وبأن الدولة ذات صفة دينية وأن الخلافة والسلطة ذات صفة دينية. أنا أقول: بمعنى ما توجد صفة دينية في الخلافة. فكل خليفة كان يعلن التزامه الإسلام ويعطي امتيازاً للمسلمين على غير المسلمين، ويلتزم، إذا استطاع، نشر الإسلام في العالم.. ولكن هذه ليست زاويتي، فزاويتي مختلفة ومخالفة. في نظري أن المصيبة الرئيسية في التاريخ العربي الإسلامي، بصدد الخلافة، هي أن الخلافة لم يكن لها عملياً وفعلياً أي نوع من القدسية، بدءاً من عثمان بن عفان ومقتله وصولاً إلى مصطفى كمال أتاتورك. الخليفة، خليفة رسول الله كان يقتل ويستبدل به خليفة آخر، ثم يقتل وربما يمثل به ولا يعدم الفاعلون أو المتآمرون أن يجدوا شيخاً يفتي لهم بجواز قتله. منصب الخليفة لم يكن له عملياً أي نوع من القدسية ولا أي سمو ولا أي حرمة. في تاريخ فرنسا لم يكن الأمر كذلك على الأقل منذ القرن الثاني عشر إلى اليوم. الدولة والرئاسة لها درجة من القدسية والسمو، من المؤكد أن رئيس الدولة فوق المواطنين وفوق المصالح الخاصة، الدولة فوقي وفوق الجميع وكذلك القانون، هناك ارتباط بين القانون والدولة. ميتران فوقي ما دام رئيساً للجمهورية ـ هكذا يقول الفرنسي ـ ولكنه لا يعود كذلك عندما يترك الرئاسة.
هكذا يمكن تمييز المقولات الدينية دنيوياً وتاريخياً، حتى على صعيد العلوم، وقد تحدثنا عن مقولة الكامل ومقولة المتعالي ومقولة المطلق والأزلي التي هي مقولات دينية وصارت مقولات علمية وفلسفية على جسر اللاهوت: الصفر المطلق، العدد المتعالي ب= 22/7.. وهكذا دواليك. ليس صحيحاً أن أوروبا طلقت المطلق لصالح النسبي أو أن أوروبا تركت المطلق لمن يشاء، بالعكس أوروبا استطاعت أن تثمر المطلق، أن توظفه في الدنيا، في العالم، ومن أجل ارتقائية العالم والوجود الإنساني. هناك نوع من سير أبدي متابع ومساند سير صعودي وارتقائي. سمو الله والكائن الأعلى صار سمو القانون، القدسية الدينية انتقلت إلى الدولة. الملوك كانوا ينالون تقديساً من الأسقف أو البابا أو من كاهن صغير يمسحهم بالماء المقدس أو بالزيت ويصلي فوق رؤوسهم.
سألني الأخ عمر الحامدي مرة رأيي في الأستاذ حافظ الجمالي، ما هو رأيي في أفكاره، فقلت له: حافظ الجمالي صديقي، وقد كان دائماً يؤمن بأن الجوهر العربي عظيم، ولكن الواقع العربي فاسد، ويبدو أنه اكتشف أخيراً أن الجوهر فاسد والواقع فاسد. فسألني عمر الحامدي، وأنت ما رأيك؟ فقلت لـه: في رأيي الإشكالية كلها مغلوطة، لا يوجد جوهر عربي عظيم ولا جوهر عربي فاسد. إذا أردت أن أتكلم عن معدن أو عن الطينة أقول: إن جميع شعوب الأرض وجميع بني آدم من معدن واحد ومن طينة واحدة. وإن الفرق في اختلاف الحالات هو الفرق في التركيبات. لا جوهرنا عظيم ولا واقعنا فاسد. لنأخذ الأمور بهدوء. فعندما تؤمن بأن الجوهر عظيم والواقع فاسد سيصبح عملك كله ونَفَسك وسيكولوجيتك وروحيتك مقاتلة ومتشنجة لكي تجعل الواقع مطابقاً للجوهر، وهذه مشكلة لأنك تريد أن تجوهر الواقع. وهذا شكل خاص من مسألة الوحدة والانفصال. الأمة العربية هي الجوهر، الأمة العربية الواحدة هي الجوهر ومعركتنا الوحدوية، وليس عملنا الوحدوي، هي تحويل واقع الانفصال الفاسد إلى جوهر، أي تحويل الانفصال إلى وحدة. لقد مال تفكيرنا إلى عسكرة السياسة وعسكرة الحياة السياسية. هذا الميل موجود، سواء أكان مصدره تاريخنا السياسي والحضاري، أو الماركسية الستالينية والحركة الشيوعية العالمية، التي هي أكبر حركة في تاريخ البشرية وأعظم حركة وفيها أعظم الدروس والعبر والأخطاء. فليس عندنا اليوم سياسة بقدر ما عندنا من المصطلحات العسكرية. حتى كلمة صراع حولناها إلى نضال إذ فيها بداية عسكرية.
كثيرون لا يعترفون مثلاً أن الانتفاضة الفلسطينية، انتفاضة الحجارة برهنت على خطأ الأيديولوجية (الفداوية) الفدائية الحربية العسكرية. هذا الشكل من النضال أقرب إلى النضال التقليدي لشعوب أوروبا. الناس يتظاهرون ويقاومون السلطة بالمظاهرات والإضرابات. لقد نسينا المظاهرات والإضرابات وبتنا لا نعرف إلا الرصاص حتى عندما يصفون الانتفاضة يقولون سلاحها الحجارة، كأنها شكل من أشكال الكفاح المسلح، فأقنوم الكفاح المسلح ما زال ثاوياً في الوعي، وبات النضال مرتبطاً بالعنف، هذا من نتائج عسكرة السياسة التي جاءتنا من الستالينية ومن تاريخنا السياسي القديم أيضاً. السياسة تظهر كأنها حرب داخلية، وحرب في القصر، انقلاب، انقلاب في القصر وحرب في المدينة.. هذا كله يجعلنا دون مستوى السياسة. هناك دوماً مرحلة حرب ومرحلة سياسية نحن ما زلنا في مرحلة الحرب لم نفتح الباب إلى عالم السياسة وقفنا على عتبة السياسة مدة طويلة نحو ألف سنة وربما لا نريد أن ندخل إلى السياسة ونردد عبارة كلاوزفينس “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”، من دون وعي أن الحرب جزء من السياسة، في هذه الحال وليس الكل، الحرب فرع السياسة، السياسة أساس، الحرب محدودة، السياسة دائمة. بهذا الوعي كأننا لا نزال في ما قبل الحضارة. آن الأوان لنغير، ففي الوقت الذي نطالب فيه بدولة الحق والقانون فإننا نطالب قبل كل شيء بأن نرد الاعتبار لمفهوم الدولة، وأن ننشئ هذا المفهوم ونقيمه لأول مرة في تاريخنا ربما. وربما عصر النهضة عندنا قصّر في هذا الموضوع. أما اليوم فيجب أن نعمق هذا الموضوع. يجب أن نكون مع الدولة أولاً ومع مفهوم الدولة ثانياً ومع دولة الحق والقانون ثالثاً. هناك دولة يعني هناك قانون ومؤسسات وحقوق.
القانون يوضع بلغة النواهي وليس بلغة الأوامر الإيجابية: القانون يقول لك: لا تقتل لا تزن ولا تشهد زوراً. أو يقول: ممنوع أن تفعل كذا وكذا وما ليس ممنوعاً فهو مباح. كل ما لا يمنعه القانون مباح. إنه يضع الحدود بلغة النهي ويحدد الممنوعات والمحرمات والمخالفات. وبالمقابل يحدد القانون واجبات الدولة بلغة الأمر الإيجابي، بلغة الإيجاب وليس بلغة السلب والممنوع. إنه يحدد مهمات الدولة بكذا وكذا وما ليس محدداً فليس للدولة شأن فيه وليس لها الحق أن تتدخل فيه. القانون يحدد للدولة عامة وللسلطة التنفيذية خاصة ما يحق لها أن تفعله، وكل ما لم يحدد لها لا يحق لها أن تفعله وهو ممنوع عليها. ولذلك يقال: القانون الإنساني والديمقراطي والحضاري والمدني يحمي المواطن من الدولة بصفتها سلطة، وإذا لم تكن للدولة سلطة فليست دولة. ليس كل سلطة دولة ولكن الدولة سلطة حتماً، أنا لي سلطة على أولادي ولكني لست دولة أما الدولة فهي سلطة. أهم ما في منطق البشر ربما الجملة الإسمية، كيان جملة المبتدأ والخبر في جميع اللغات (في الفرنسية والانكليزية والألمانية.. يضعون فعل الكينونة أو فعل الكون، نحن في لغتنا لا نحتاج إلى ذلك) فلنتكلم بلغتنا ومفرداتنا. قلت: لعل أهم قضية في المنطق هي فلسفة المنطق مع الإنسان والعمل الإنساني والتفكير الإنساني هي مسألة كيان الجملة الإسمية: الوردة حمراء، الطقس بارد، فيثاغورث فيلسوف، أنا عربي. يجب أن نلاحظ مباشرة أن الخبر ليس مستنفذاً في المبتدأ. المبتدأ والخبر لا يستنفذ أي منهما الآخر الذي هو آخره، ومن ثم، في علم المحاكمة الشكلية الحدية القطعية في علم الثلاثية الأرسطوطيلية: إذا قلت: الإنسان فان سقراط إنسان إذن سقراط فان، فإن الأطروحة الأولى استغرقت المبتدأ في الخبر، وكذلك الأطروحة الثانية، لكي أصل إلى هدفي وإلى النتيجة والخاتمة مع الإغلاق. هذه المحاكمة موجهة وهادفة وتوصلني إلى النتيجة. وهذا العلم يسمى علم المحاكمة الشكلية. ولكن للحقيقة وجهاً آخر أيضاً عندما نعود إلى مسألة الفكر مع الواقع والمضامين. فعندما أقول سقراط إنسان. (نقطة) أكون قد وضعت نقطة لأستأنف، وضمرت أن الإنسان ليس فانياً فقط ولكنه يترك أثراً خلفه أيضاً. وبحسب الدين فإن النفس غير فانية.. وهكذا دواليك. وهكذا الوردة حمراء، نعم لكن الحمراء لا تستنفذ فكرة الوردة، هذا القميص أحمر وغلاف لاروس أحمر.. المنطق بالمعنى الكبير هو علم علاقات الدنيا المفتوح، علم عقالة الكون، إذن عندما قلت إن الدولة سلطة، فإن السلطة لم تستنفذ الدولة. الدولة ليست سلطة فقط، بل هي قانون وحقوق ومؤسسات. والدولة هي أيضاً المجتمع مع الفرق مثلما نقول آ هي ب مع الفرق بين آ وب. آ هي ب وليست ب. هذا هو المنطق عندما يكون ديالكتيكياً سواء عند هيغل أم عند أرسطو وأفلاطون. إن هذا هو الأساس الميتافيزيقي للمنطق الذي يجب أن نستوعبه. يجب أن نعطي المنطق الشكلي حقه ونعرف أنه المنطق الشكلي.
لو أن بالإمكان أن يقوم عندنا اليوم شيء كالناصرية، ناصرية جديدة، ينبغي أن نؤكد أهمية إعادة الاعتبار للعصر السابق للناصرية لمتابعة مسائل النهضة ومقولاتها، وأن نؤكد مبدأ الحق والقانون والحرية وليس فقط مبدأ التحرر السياسي، وأن نمسك أكثر فأكثر بفكرة الديمقراطية. وأن نهتم بفكرة التربية وأن نهتم بالتعليم وبالجامعات أكثر فأكثر. عبد الناصر طور جامعة الأزهر ـ هذا شيء مهم ـ لم أدرس هذا الملف المهم ولكني أعرف أنهم أنشؤوا كليات جديدة في الهندسة. من المهم والضروري أن يدرس في الأزهر تاريخ الأديان وأنثروبولوجيا الدين الذي يمكن أن نقول عنه إنه علم فويرباخ. الآن علم فويرباخ علم عظيم يمكن أن يقال عن فويرباخ إنه ملحد، ولكني على ثقة أن فويرباخ يدرس في كليات اللاهوت المسيحي. فويرباخ ربما أكبر عَلَم في الأنثروبولوجيا الدينية مثل أول وأكبر عَلَم في السوسيولوجيا الدينية أو علم الاجتماع الديني، أعني ابن خلدون. علم الاجتماع الديني يعني الدين مع المجتمع وفي المجتمع. الدين عند ابن خلدون منزل من الله، على الأقل الإسلام عنده منزل من الله، ولكن في الدنيا، منزل على البشر. والإسلام وغيره يكون دولة ويكون علاقات الناس ويصبح بين أيدي الناس يستفيدون منه وينتفعون به بالطريقة التي يرونها بحسب حاجاتهم، وبحسب الضرورات بخطئهم وصوابهم، بعجزهم وبجرهم. هذه مسألة مهمة في سوسيولوجيا الدين، علم الاجتماع الذي ينظر إلى الدين بصفته عاملاً في الدنيا، وعاملاً في المجتمع، مثل الجغرافيا مثل البيئة الجغرافية مثل المناخ ومثل تحصيل العيش أو النحلة والمعاش، مثل أدوات الإنتاج. في الأنثروبولوجيا الدينية لم يعد الدين مع المجتمع، بل أصبح الدين مع الإنسان. إن الإنسان بحاجاته وبخوفه من الموت واختراع فكرة الإلوهة، ثم فكرة إله واحد بالارتباط مع الإنسان. موقف فويرباخ هذا لا ينحل في الإلحاد أو الإيمان فحين يفسر فويرباخ كيف وصل الإنسان إلى فكرة الإله، فإن هذا لا يحسم مسألة وجود الله أوعدم وجوده، بل إنه يؤكد مركزية الإنسان واتخاذه منطلقاً لفهم النتاجات الإنسانية.
في ضوء ذلك اقترح أن يدخل علم اللاهوت إلى جامعاتنا ولا سيما إلى الأزهر، وكليات الشريعة، يجب إنشاء علم لاهوت إسلامي. فالمسلمون كانوا سباقين إلى إنشاء هذا العلم، ثم اختنق علم الإلهيات الإسلامي ولكنه ازدهر في الغرب. لا بد من علم لاهوت عقلي، تيولوجيا، والمفروض أن تكون هذه الوظيفة من أولى وظائف الأزهر. الفقه غير علم اللاهوت وغير علم الكلام، لعل أقرب شيء إلى علم اللاهوت في التاريخ العربي الإسلامي هو علم الكلام، وخاصة عند المعتزلة. إعادة إنتاج علم الكلام قد تكون بداية موفقة وجيدة لعلم اللاهوت الإسلامي. وهذا يفترض علم كلام بمعنى نقد الكلمات، غير علم النحو والصرف، ويفترض تحصيلاً فلسفياً حقيقياً. إذا قام الأزهر بهذه المهمة في المستقبل يكون قد وضع فعلاً حجر الأساس لبناء مهم جداً، وحاسم في مصير الأمة كلها. فلا يجوز أن يعيش العالم الإسلامي بدون علم لاهوت.
5 ـ الاستلاب الناجز هو نزع ملكية ناجز
ـ نقد عبد الناصر والناصرية، هذا النقد الذي وصفته بأنه راهن، وهو كذلك بالفعل، قادنا بالضرورة المنطقية، على ما أرى، إلى مسألة الديمقراطية. وهذه أي الديمقراطية لا تستنفذ في الحريات السياسية وفي كون الدولة معبرة عن الكلية الاجتماعية، فتراتبية المجتمع المدني وتعارضاته الملازمة ترتسم في السلطة التشريعية، مما يعني أن تعارض الدولة والمجتمع لا يزال قائماً، بل تحول إلى تعارض داخل الدولة نفسها، ومن ثم، فإن مشكلة الحرية لا تزال مطروحة ولم تحل. وأعتقد أن مشكلة الحرية تكمن في صلب المسألة الديمقراطية. فإذا كان لكفاح البشرية في تاريخها الطويل من معنى، فإن هذا المعنى هو النزوع إلى الحرية بمفهومها العام، ويمكنني القول إن الديمقراطية هي الصيغة التي تتخذها الحرية وعياً وممارسة في المجتمع والدولة، وأن لهذه الحرية سندين أحدهما أنطولوجي ينطلق من الفرد بصفته الإنسانية أولاً وبصفته الإنسان معيناً ثانياً، ومن ثم بصفاته الاجتماعية والسياسية والثقافية ثالثاً، وذلك تحت مقولة الفرق والاختلاف والمغايرة، وتحت مقولة الهوية في الوقت ذاته. والسند الثاني اجتماعي وأعني بالسند الاجتماعي مسألة الملكية وفكرة التملك، فالحرية في أحد أهم مضامينها ربما هي التملك بالمعنى العام للكلمة وبالمعنى الخاص أيضاً أي بمعنى الملكية، أي تملك العالم وامتلاك الشيء في الوقت ذاته. وقد غطيت في مداخلاتك الجانب الوجودي، ولكن ماذا عن الجانب الآخر، وفي اعتقادي أن الاستبداد في أحد وجوهه هو نزع الملكية والحيلولة دون تملك الإنسان ذاته وعالمه، فمسألة الحرية هي مسألة تاريخية وهي مسألة تاريخ البشر.
# هذا الذي تطرحه مهم جداً ومصيب جداً، وهذا في رأيي فتح، ولو أنه عند هيغل والماركسية غير الذي عند ماركس. أجل الإنسان بلا أي نوع من ملكية هو عبد أو دون العبد، وغير قادر على أي شيء فهو مملوك. الإنسان إما أن يكون مالكاً أو مملوكاً. وهذا الملف الذي تفتحه سيشمل فوراً الاتحاد السوفييتي والعالم الاشتراكي والعرب والعالم.
ـ لذلك أقول إن الحرية مشروع تاريخي ومفهوم تاريخي، وفتح هذا الملف يذهب إلى نفي التصور اليوتوبي أو الطوباوي عن الحرية وإلى عدم اختزالها شعاراً سياسياً.
# لنقل هنا نفي التصور اليوتوبي والفوضوي والفوري وبالتالي الفوراني والثوراني والشعاراتي. وأعتقد أنني في مقالتي عن مفهوم التقدم، المنشور في مجلة الوحدة قبل خمس سنوات تكلمت عن هذا الموضوع، يقول هيغل: التاريخ هو مسيرة نحو الحرية. وأنا أضيف التاريخ إذن هو تاريخ العبودية والشرط العبدي وتقليص العبودية ونمو الحرية، الحرية مآل، وهنا نؤكد التدرج ضد الثورانية. ونقول لا عقل بدون تدرج. نؤكد أن العقل لا يستنفد في مقولة التدرج، ولكنك إذا ألغيت مقولة التدرج وفكرة التدرج تكون قد ألغيت فكرة العقل أو حذفتها. لقد قلت لبعض المنتدين في تونس إن بعض الناس يتصورون الثورة اشتعال عود ثقاب. بحسب العلم، اشتعال عود الثقاب مسار وسيرورة وعملية ومنطق طويل. يمكن أن تشعل عود الثقاب وتؤخذ بالنار والنور، أما فهم هذه الظاهرة وتفسيرها ومعرفة آلية حدوثها فيحيل على فكرة المنطق فكرة العملي/ السيروري.
إن مسألة العبودية والحرية، مسألة المملوكية والحرية قائمة على إحداثيتين: هناك علاقة الإنسان بالإنسان بما فيها الطبقات واستغلال الإنسان للإنسان وحكم سلطة وسلطان وفقيه..إلخ. وهناك علاقة الإنسان بالطبيعة، إذا صح التعبير، ومسألة الإنتاج. إذا كنتم تظنون أن الإنسان الأول البدائي، المشاعي، كان حراً فاسمحوا لي أن أقول: الإنسان الأول كان دون العبد، أي أنه لم يكن ملكاً، بل مملوكاً، كان مملوكاً للفقر وموضوعاً للافتراس وتابعاً تبعية مطلقة لشروط البيئة الطبيعية المباشرة. كان يجني ثمار الطبيعة وعندما تنفد هذه الثمار يترك منطقته وينتقل إلى غيرها. الرفيق ستالين علمنا أن المشاعية البدائية انقرضت منذ خمسة آلاف سنة، هذا غير صحيح لأنك تجد المشاعية في ألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر. ودراسة كارل ماركس الشاب عن سرقة الحطب تتكلم عن البقية المشاعية، إذ يحق لأي شخص أن يأخذ من أخشاب الغابة وأن يجني العسل منها. وإن التطور الرأسمالي ونمو الملكية الخاصة الحارمة منع الإنسان من ذلك، أصبحت الغابة مملوكة. بل إن بقايا ما من المشاعية موجودة في بلادنا وليس من الضروري أن نزيل هذه البقايا. كما علمنا ستالين أن المشاعية نظام ملكية جماعية. الصحيح إنه نظام لا ملكية، الفرد غير مالك والجماعة أيضاً غير مالكة. الفرد والجماعة مملوكين للطبيعة والطبيعة معادية لم تتأنسن بعد رمزها النمر والقط البري والإنسان الآخر عدو والجماعة الأخرى عدوة. ستالين اعترف بأنه كان على القبيلة أن تقاتل جيرانها بصفتهم أعداءها.
ولا بد أن نضيف إلى هذا الملف أن من العيوب الكبيرة لنظرية ستالين وللشيوعية العالمية الستالينية أنها ارتكزت على شيء قديم قد زُيِّف، على أرسطو مزيف. معروف قول أرسطو أن الإنسان كائن اجتماعي. بعض الناس يتصورون أن الاجتماعية أصل عند الإنسان. أنا أقول: لا، الافتراسية هي الأصل والاجتماعية اكتساب. وقد كتبت في مقدمة كتاب “العبودية” لموريس لانجليه، وهي مقدمة طويلة، أن هناك فرقاً بين مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان. يمكن أن نقول إن بعض الحيوانات اجتماعية أو تعيش جماعات. الفرق بين مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان أن مجتمع الإنسان ابن التاريخ بخلاف مجتمع الحيوان الذي هو ابن الطبيعة. مجتمع الإنسان ابن التاريخ وليس ابن الطبيعة وينبغي ألا نتصور أن الاجتماعية أصلية وبديهية عند الإنسان. وينبغي ألا نحل هذا الموضوع لفظياً بالتمييز اللفظي بين مجتمع وجماعة.
في حديث مع ياسين الحافظ، قال ياسين لقد أعدت الاعتبار في وعيي للرأسمالية. فقلت لـه أنت متأخر في هذا الموضوع. أنا أعدت الاعتبار للإقطاعية، وظهر موقفي هذا في ندوة القومية والإسلام، فقد رأيت في الاقطاع الأوروبي ثورة صعدت بها أوروبا من البربرية إلى الاقطاعية، ومن العجمة والخواء إلى شكل وإعراب من أرض وضباب ومستنقعات وبرد وغابات وحيوانات مفترسة وقبائل سائبة ومتشاحنة إلى بلاد رعي وزرع وقرى ومدن، إن هذه أكبر ثورة، ثورة عالم، ثورة نشوء عالم متأخر أي جاء إلى الحضارة متأخراً وهذه ميزته، في حين نتباهى بالقدم والعراقة والأصل (لا تقل أصلي وفصلي أبداً..) هذا الأقدم جعلنا الأكثر تأخراً وخراباً. نعم نحن أقدم، نحن المتقدمون، لسوء الحظ، وهؤلاء هم المتأخرون، وهؤلاء هم أوروبا آخر قارة جاءت إلى الوجود قارةً بشرية اجتماعية، ولعل الوجود الأوروبي، في نظر الأوروبي، ليس بديهياً كما هو وجودنا في نظرنا: سوريا موجودة منذ ستة آلاف سنة ومصر كذلك، نحن نتصور أن الوجود والعيش والاقتصاد والحضارة هذا كله محرز تحت اسم العراقة. الفرنسي أو الألماني أو السويدي كان يمكن أن يقول لك في القرن الثاني عشر أو في القرن العاشر: أنظر هذه القرية لم تكن موجودة منذ مئة سنة أو هذه المدينة كانت أرضها مستنقعاً.
من الضروري أن نربط ما تهتم به وما تقوله عن الحرية بفكرة الإرادة ونرد لها الاعتبار. ونرجع إلى مقولة الخلق. التاريخ هو تاريخ الانوجاد، أي مجيء الأشياء إلى الوجود، تاريخ النتوج: نتوج فرنسا، نتوج ألمانيا نتوج الدنمرك والسويد.. كل هذه وغيرها نتجت وهي نتاج لعمل سابق طويل وطويل ولعمل في الحاضر لذلك هم أحياء. أنا موجود يعني أنني جئت إلى الوجود، وأجيء إلى الوجود كل يوم لأنني أستهلك الخبز واللحم وأتلقى أنواعاً من العناية وأستهلك منتوجات متنوعة. وهنا نقطة ضعف نظرية سمير أمين عن الرأسمالية الطرفية ونمط الإنتاج الخراجي. أي إن أوروبا هي في موقع الطرف أو الهامش في نمط الإنتاج الخراجي والاقتصاد الخراجي، فقد نسي مقولة النتوج ومسألة الإنتاج. الأوروبي منذ ألف سنة ينتج عيشه ككل إنسان على الكرة الأرضية ولكنه بإنتاجه عيشه قد أنتج من دون إرادته عالماً ووطناً وأمة ومدناً وقرى. أجدادنا أنتجوا ذلك منذ ستة آلاف سنة، ولهذا ربما نميل إلى عدم فهم فكرة الخلق المستمر. النتوج عملية مستمرة. والإنتاج لا يعني فقط أن المجتمع ينتج سلعاً، ولكنه أيضاً ينتج نفسه. من دون الاقتصاد لا يوجد مجتمع.
تحدثت عن إحداثيتين للحرية، لذلك لا يجب أن نكتفي بإحداثية الحرية والعدالة ونربطهما معاً أو ندمجهما معاً. ونقول إن التاريخ كله صراع بين الإنسان والإنسان أو كما يقول ستالين: علاقات الإنتاج وصراع الطبقات، فهذا غلط، وبهذا نقيم الثوروية والكدحانية والجماهيرية. في تاريخ الإنتاج هناك علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة، والحرية واقفة على العلاقتين. ولعلي هنا أثمن أطروحة عبد الناصر بأن الاشتراكية هي مجتمع الكفاية والعدل وفي ضوئها يمكن الحكم على التجربة السوفييتية التي لم تحقق شعار لكل إنسان بحسب طاقاته. طاقات كل إنسان، طاقات الأفراد وملايين الأفراد ثلاثة أرباعها معطلة، وإلا فليس هناك ما يمنعهم من بلوغ مستوى بلجيكا أو الولايات المتحدة، لم يحققوا شعار لكل بحسب عمله، فهناك مقابل كل عشرة عمال منتجين، أو يعملون بنشاط في عمل منتج عشرة آخرون لا يعملون أو لا يعملون في عمل منتج هؤلاء وهؤلاء يتقاضون الأجر نفسه. وعندما يتساوى الكسول والنشيط فلا بد أن تخسر الشركة أو المؤسسة. أما عندما تعطى الحوافز والمكافآت التشجيعية للنشطاء والمنتجين ويحاسب الكسالى والمهملون والمقصرون فإن الشركة تكسب والفقراء يكسبون والمجتمع كله يكسب. إن إلغاء التفاوت على هذا النحو حماقة وحماقة مطلقة. يمكن في مستقبل بعيد إلغاء التفاوت الاجتماعي ولكن لهذا الإلغاء شروطه وحدوده. لم أكن رافضاً من العتبة قول عبد الناصر عن إزالة الفوارق الطبقية أو تذويبها فإذا كان المقصود تخفيف هذه الفوارق وتقليصها فهذه فكرة صحيحة وهي جزء من المرحلية. المجتمع البشري سيكون فيه مساواة ويكون فيه تفاوت. أما اشتراكية الدولة أو شيوعية الدولة فهي كما وصفها ماركس مساواة الناس في العبودية. المساواة السوادية هي الاستبداد وأساس العاهل المستبد وأساس الاستبداد الشرقي.
هناك عبارتان لأكسي دوتوكفيل وهو أعظم من تحدث عن مسألة الحرية في عصر الديمقراطية وعصر الجماهير. العصر الليبرالي يعقبه العصر الديمقراطي ثم العصر الجماهيري عصر العوام والعمال والفلاحين. دوتوكفيل الذي عاش قبل ماركس وعاصره جزئياً هو ليبرالي وسليل نبلاء تحول إلى ديمقراطي وأعلن أن الديمقراطية قادمة لا محالة، وقال أيضاً: الديمقراطية ستحمل معها سلبيات، أي إن الجمهور والجماهير تحمل سوادية واستبدادية. العصر الجديد ليس بالضرورة العصر الأرقى. دوتوكفيل درس الحالة الأمريكية “الديمقراطية في أمريكا” ولاحظ أهمية دور الجمعيات والبلديات وتعدد الأديان والجماعات ورأى فيها جميعاً حواجز ضد السوادية والاستبداد والجماهيرية. وهناك جملة جميلة لتوكفيل جعلها ليوناردو شابيرو مدخلاً لكتابه تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي من لينين إلى ستالين، يقول توكفيل: من يبحث في الحرية عن شيء آخر غير الحرية ذاتها فمصيره إلى العبودية، وكأن الله كتب عليه العبودية. فإذا قلت نريد الحرية من أجل خبز الفقير ومن أجل العدالة أقول لك: أنت تريد خبز الفقير وربما العدالة ولكنك لا تريد الحرية ومصيرك محتوم إلى العبودية. ويقول دي توكفيل أيضاً ما معناه: من يريد الحرية فوراً إنما يبني العبودية. من يريد الحرية فوراً فإنه سيقتل الجميع في سبيل الحرية التي يريد. من يريد الحرية فوراً إنما يبني الاستبداد.
ربما كانت فكرة العدالة أقرب إلى أذهاننا من فكرة الحرية، هذا في تاريخنا وفي حاضرنا. والفكرة يمكن أن تصبح مثلاً أعلى وهمياً بدل أن تكون هدفاً فعلياً. يجب أن ندرك أن العدالة هي تركيب الحرية والمساواة. وضمانتها الديمقراطية، وأعتقد أننا بدأنا ندرك أهمية الديمقراطية، هذا الإدراك ضروري ومهم بشرط ألا نحذف الليبرالية، فإذا حذفنا الليبرالية فإننا سنعيد إنتاج الاستبداد ونحن ننادي بالديمقراطية. والليبرالية لا تستنفد في النظام الراسمالي الذي يجب أن نصر على نقده ونحافظ على نَفَسنا الاشتراكي مع نقد وعينا ونقد نَفَسنا ذاته، بل إن الليبرالية هي التي بنت وتبني حقوق الإنسان.
ترتيب مواد كتاب (حوار العمر)
-
مقدمة كتاب حوار العمر
-
الثنائيات الفلسفية
-
المادية والفلسفة المادية
-
مفهوم الشكل ومبدأ التشكل، الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي
-
الإيمان والإيمان الديني، أو الإيمان الحسي والإيمان العقلي
-
المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق
-
المادية والمثالية
-
الاستلاب والاغتراب
-
الانحطاط. النهضة. عبد الناصر والناصرية
-
الحرية هي وعي الضرورة والاختيار
-
قاموس دلالي – تاريخي
-
سمو الدولة