كتب ماركس في مخطوطات باريس لعام 1844: “لقد انطلقنا من مقدمات الاقتصاد السياسي، وتقبلنا لغته وقوانينه، وافترضنا الملكية الخاصة، والانفصال بين العمل ورأس المال والأرض، وبين الأجور وربح رأس المال وريع الأرض، كما افترضنا تقسيم العمل، والمنافسة، ومفهوم القيمة التبادلية .. إلخ. وعلى أساس الاقتصاد السياسي وبعباراته ذاتها، أوضحنا أن العامل يهبط إلى مستوى السلعة، وأنه يصبح في الحقيقة أتعس أنواع السلع، وأن تعاسته تتناسب تناسباً عكسياً مع قوة وحجم إنتاجه، وأن النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في بضعة أيد، وبالتالي عودة الاحتكار في شكل أبشع، وأخيراً إن التمييز بين الرأسمالي وصاحب ريع الأرض، تماماً كالتمييز بين فالح الأرض وعامل المصنع يختفي، وينقسم المجتمع كله إلى طبقتين: الملاك والعمال، الذين لا يملكون شيئاً”. (مخطوطات، 67)
افترض ماركس أن الفروق بين الرأسمالي ومالك الأرض تختفي، وتختفي معها بالضرورة المنطقية الصورية الفروقُ بين الفلاح وعامل المصنع، وينقسم المجتمع طبقتين متعارضتين. هذا الافتراض (النظري) يلغي الفروق الجوهرية بين منجزات الثورة الزراعية ومعطياتها، وبين منجزات الثورة الصناعية ومعطياتها، وبين النظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي، ويظهر القاسم المشترك بينهما، وهو الاستغلال (السرقة، بلغة المخطوطات). مفهوم الاستغلال لا يعيِّن أي فرق بين قوة العمل الصائرة ريعاً وقوة العمل الصائرة ربحاً. ولعل اقتباس مفهوم السرقة، بلا تحفظ، يشي بالبعد الوجداني الشخصي، أو بالبعد الذاتي، غير الموضوعي. وهذا ما كان ينبغي أن يطرح الشك في النتائج القريبة والبعيدة لهذا التقسيم المتعسف للمجتمع، أعني بالنتائج البعيدة مقوماتِ الرؤية الاشتراكية والشيوعية، التي كانت نسختها السوفييتية بالأحرى اشتراكية فلاحية.
لوضع الأمور في نصابها، من دون الافتئات على ماركس، يمكن القول: إن الصناعة قسمت “المجتمع الصناعي” طبقتين حديثتين متلازمتين ومتعارضتين جدلياً، كل منهما شرط وجود الأخرى، ولا تنتفي أي منهما إلا بانتفاء الأخرى؛ هما البورجوازية والبروليتاريا. وإن مفهوم “المجتمع الصناعي” مفهوم خاص، لا يطابق مفهوم المجتمع بدون أي وصف، ولا يطابق مفهوم المجتمع المدني، بما هو أعمال خاصة (صناعية وغير صناعية) وقوانين عامة، وفضاء عام (نوعي، إنساني) من الحرية، نواته المواطن الحر المستقل والمواطِنة الحرة المستقلة. وغني عن القول إن المواطن والمواطنة من طبيعة الدولة الحديثة، دولة المواطنة المتساوية، أو المجتمع السياسي، بصفته الوجه القانوني – السياسي – الأخلاقي للمجتمع المدني. المواطن يمكن أن يكون بورجوازياً أو عاملاً صناعياً أو تاجراً أو نادلاً أو معلماً أو طبيباً … إلخ، وبالتأنيث. من دون أن ننفي أن الصناعة هي المركبة التي تقود جميع العربات.
اختلاف الأفراد، في أي مجتمع، واختلاف مصالحهم وغاياتهم وشروط حياة كل منهم وأساليبهم في تحسين هذه الشروط .. هو علَّة النمو والتقدم والتغير والتطور، والعلة لا تنفصل عن المعلول، ولا تستقل عنه. واختلاف المجموعات والجماعات والفئات الاجتماعية مؤسس على اختلاف الأفراد ومحكوم به، لا العكس. فثمة مجازفة معرفية في الأحكام العامة على هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، على الرغم من القواسم المشتركة بين أفرادها، وهذه، أي القواسم المشتركة لا تنفي الاختلافات الكثيرة والمتفاوتة الشدة. أفراد الطبقة العاملة، على سبيل المثال مختلفون في قدراتهم ومهاراتهم وخبراتهم وكفاياتهم المعرفية والثقافة وأجورهم مختلفة وكذلك مستويات عيشهم … فالحياة العملية لا تعرف إجماع فئة اجتماعية على أي أمر وعلى أي شأن، لكي يسوغ الحديث عن “طبقة لذاتها”
ثم افترض ماركس أن “العامل يزداد فقراً كلما ازدادت الثروة، التي ينتجها، وكلما ازداد إنتاجه قوة ودرجة؛ يصبح سلعة أكثر رخصاً كلما زاد عدد السلع التي يخلقها؛ فمع القيمة المتزايدة لعالم الأشياء ينطلق في تناسب عكسي انخفاض قيمة البشر”. (مخطوطات 68) وهذا، في نظرنا، افتراض غير واقعي، سواء في زمن ماركس أو في الأزمنة اللاحقة، لأنه لا يقوم على دليل مستنبط من مقارنة أوضاع غير المالكين في زمن الإقطاع بأوضاعهم في زمن العمل الأجير، في المصانع. على أن ملاحظاتنا هذه لا تنفي واقع الاستغلال، في الحالين، بل تنفي تماثل الشروط التاريخية. النتيجة الختامية لهذه الافتراضات أن العمل (الأجير) لا ينتج سلعاً فحسب، بل ينتج ذاته، وينتج (يجعل) العاملَ سلعةً. القول إن العمل ينتج ذاته، وينتج .. إلخ لا يصح إلا بوصف العمل بأنه العمل المغترب بالتحديد، لا أي عمل. أجل العمل المغترب فقط ينتج ذاته، ويجعل من العامل سلعة، حين يصير العمل ثروةً لغير العامل، (لرب العمل) ورأسمالاً وسلطة خارجية تتحكم في المنتجين والمنتجات.
حين ينتج العمل الأجير سلعاً لرب العمل، يكون العمل المتبلور في السلع قد تحول إلى ثروة، يتمتع بها رب العمل، أو رأسمال (عمل متراكم) يستثمره. ويكون العمل الأجير قد تحول، في الوقت نفسه، إلى سلطة يمارسها رب العمل على العاملين والعاملات. أي إن العمل المتبلور في السلع يغترب، أو يصير غريباً عن العاملين والعاملات، ويصير قوة خارجية (سلطة) تتحكم فيهم/ـن. لكن ماذا عن العمل غير الأجير، كالعمل التطوعي والعمل التعاوني، على سبيل المثال، أو العمل لأجل الاكتفاء الذاتي والاستهلاك النهائي، لا لأجل التبادل والربح ومراكمة الثروة، وماذا عن العمل الذي لا ينتج قيمة تبادلية، كالعمل المنزلي وعمل المعلمين والقضاة والمحامين وأمثالهم؟ نعتقد أن النتائج السلبية التي تمخضت عنها الماركسية في الواقع المعيش نجمت عن مثل هذه الأحكام المطلقة، التي شكلت وعي الشيوعيين، حين تحققت الماركسية نفسها أو تموضعت، سياسةً عامة، أو سلطة اشتراكية أو شيوعية. ونعتقد أن الأحكام العامة نفسها تنم على كره مقيت يُعبَّر عنه بـ “الصراع الطبقي”، بعد رسوخ فكرة أن المجتمع ينقسم إلى طبقتين متعاديتين، ليس غير. أو إلى مستغلين بكسر الغين (أشرار) ومستغلين بفتحها، (أخيار)، وإلى حاكمين أشرار ومحكومين أخيار. هذه رؤية ثنوية (مانوية) تعادمية وعدمية، وذات أصول دينية، لا تمت إلى الديالكتيك، منطق الحياة والنمو والتقدم بأي صلة.
من جانب آخر، التعارض بين طبقتين فقط، (هنا البروليتايا والبورجوازية)، وفق هذه الافتراضات، هو (وحده) محرك التاريخ، أو هو معنى “المادية التاريخية”، وهو معنى اختزالي، يلغي أدوار فئات اجتماعية أخرى تملأ الفضاء الاجتماعي الفاصل بين هاتين الطبقتين الحديثتين، حداثةَ الثورة الصناعية والمجتمع الصناعي. نعني الفئات الموصوفة بالبورجوازية الصغيرة، (العاملة في مختلف المهن التجارية والزراعية والخدمية والعلمية والتعليمية والإدارية .. إلخ)، وهي أكثرية أي مجتمع حديث، وهي المنتجة الرئيسة للمعرفة والثقافة والسياسة. ولما كان كل عمل ينتج ملكية خاصة، فإن الملكيات الخاصة مختلفة وكذلك الحقوق المتعلقة بكل منها، وهذه مترجمة إلى قوانين مدنية مختلفة.
لعل تأكيد ماركس أن الملكية الخاصة بنت العمل يغني عن البحث العبثي في “طبيعة الملكية الخاصة” وجوهرها، وتمحُّل افتراضات بيسيكولوجية، كالأنانية والتعطش إلى الثروة، لتفسير ظاهرة تاريخية، لولاها ما كان الإنسان إنساناً. الملكية الخاصة هي تحقق العمل، وتموضعه في مادة فيزيقية؛ هذا تعريف آخر لماهية الملكية الخاصة وجوهرها أو طبيعتها. هذا لا ينفي أن الأشياء، التي ينتجها العاملون والعاملات، يمكن أن تغترب منهم/ـن وتغترب عنهم/ـن، حين تصير ثروة لغيرهم/ـن فتواجههم/ـن بصفتها قوة مستقلة عنهم/ـن وغريبة عنهم/ـن. “ناتج العمل هو عمل تجمد أو تعين وتبلور في موضوع (في مادة فيزيقية، كالخشب أو الجلد أو المعدن، أو في علاقة بينية تعاقدية أو عرفية) فصار “مادياً”؛ هذا هو تموضع العمل أو تحققه.
في حال العمل الحر، كلما أنفق الفرد من قواه وطاقاته الحيوية يزداد عالمه الخارجي والداخلي غنى وثراء؛ أما في حال العمل المغترب يمكن القول: كلما أنفق العامل الأجير من نفسه، من قواه العضلية والنفسية والذهنية، يزداد العالم الموضوعي غنى وثراء وقوة، ويزداد عالمه الداخلي فقراً، ويقل ما ينتمي إليه من أشياء العالم الموضوعي. والأمر نفسه في الدين: كلما زاد ما يضعه الإنسان في الإله قل ما يحتفظ به لنفسه؛ الإنسان يفقر ذاته بقدر ما يغني إلهه. هكذا يكون لاغتراب العمل دلالة مركبة: أولاً، يتحول العمل، وهو فاعلية الإنسان الحية وطاقاته وقدراته..، إلى موضوع خارجي؛ ثانياً، هذا الموضوع الخارجي نفسه يستقل عن العامل، كشيء غريب عنه ومعادٍ له؛ الحياة، التي يمنحها العامل لموضوع عمله، تتحول إلى سلطة خارجية تتحكم فيه. ينبغي التوقف ملياً عند عبارة الحياة التي يمنحها العامل لموضوع عمله، الحياة، التي يضعها العامل في موضوع عمله، لفهم معنى الاغتراب، في الطبيعة، وهو أساس كل اغتراب؛ ومعنى تذويت الطبيعة، ومعنى المشاركة في تشكيل العالم، وإعادة تشكيله باطِّراد. فليس اغتراب العمل، سوى اغتراب الإنسان ذاته، بما هو كائن كلي، ونوع من التعبير بالجزء عن الكل. الجانب الإيجابي لاغتراب العمل، الذي بمنزلة الضرورة التاريخية، لا يجوز إغفال آثاره غير المباشرة؛ فهو يؤنسن الطبيعة، فيؤنسن العالم، عالم الإنسان، الذي هو من إنتاجه، نعني المجتمع الدولة، ويثري المعرفة والثقافة. أجل الاغتراب الموضوعي يؤنسن الطبيعة، ويمنحها حياة، ويؤنسن العالم، ويثري المعرفة والثقافة. المؤسف أن الماركسيين أغفلوا هذا الجانب، ولم يهتموا إلا بالمعنى السلبي لاغتراب العمل ممثلاً في “استغلال الإنسان للإنسان”، وقصروه على النظام الرأسمالي ضاربين عُرضَ الحائط بظاهرة الاختلاف والتفاوت الوجودية، التي لا يمكن إنكارها، ولا يمكن رفعها أو حذفها، وهي التي تجعل الاستغلال ممكناً. العامل يضع ذاته وحياته في مادة عمله، فتغدو منتجات عمله حياةً مموضعة، ويغدو هو أكثر معرفة وقوة وقدرة على إعادة تشكيل عالمه. لذلك رأينا أن تحسين العالم باطراد هو الشرط اللازم لتحسُّن الإنسان باطراد، والعكس صحيح بالتغذية الراجعة.
علينا أن نتوقف ملياً عند قول ماركس: “كلما زاد تملك العامل للعالم الخارجي – الطبيعة المحسوسة – بعمله زاد حرمانه ..” (مخطوطات، ص 70) لكي نبسُط مسألة تملك العالم بالعمل، ونوسِّع دلالات العمل بصفته نشاطاً حيوياً منظماً، واعياً وهادفاً، يشمل جميع مجالات الحياة الإنسانية، هو معنى مشاركة الإنسان في الوجود، وفي إنتاج العالم وإعادة إنتاجه باطراد، فنجعله، أي نجعل العمل، يتكلم بلغة الفلسفة، لا بلغة الاقتصاد والاقتصاد السياسي، فيرتقي إلى معنى الفعل، الذي منه الفاعلية – الانفعالية، والقدرة على الخلق والابتكار والإبداع، من ابتكار الذات إلى ابتكار العالم مرة تلو مرة. العمل هو طاقات الإنسان الحيوية أو قواه الحيوية ظاهرةً ومحسوسةً ومنظمة، ومبثوثة في الفضاء، الذي يشغله. نريد أن نقول إن مفهوم العمل يتعدى مجال الإنتاج الاقتصادي، الذي اهتم به ماركس، وأبرزه، بغية تحليل النظام الرأسمالي أو نمط الإنتاج الرأسمالي، ويتعدى من ثم مجالي الاقتصاد والاقتصاد السياسي. كل عمل هو تملك، بل كل فعل هو فعل تملك، ونقل ملكية أو نزع ملكية .. هذي، على ما نزعم، صيغة موسَّعة لقول ماركس: “كل إنتاج هو تملك”. الصيغة الموسعة، التي نقترحها تحيل على الاغتراب الموضوعي الكلي والتغريب الكلي، في العالم وفي التاريخ. أما صيغة “كل إنتاج هو تملك”، في ترسيمة ماركس، فتحيل على الاغتراب والتغريب في النظام الرأسمالي. عندما نقول: الإنسان يتملك العالم بالمعرفة – العمل والذوق، فإننا نقول: الإنسان ينتج العالم، عالمه، بالمعرفة – العمل والذوق، وهذا هو معنى مشاركته الفاعلة في الوجود. الفرد الإنساني ليس متفرِّجاً في المسرح، الذي تجري الدراما الإنسانية على خشبته، لأن كل ما يحدث على هذه الخشبة، كل ما يحدث في العالم إنما يحدث له بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ وكل ما يحدث في العالم هو من فعل الإنسان نفسه، من فعل كل فرد، ولو بمعنى “أثر الفراشة” المعروف في الفيزياء الحديثة. العالم هنا ليس مجرد “الطبيعة الخارجية المحسوسة”، كما ورد في نص ماركس، بل هو العالم الذي ينتجه البشر، في كل مرة: المجتمع والدولة والبيئة، الاقتصاد والسياسة والقانون والأخلاق، العلوم والتكنولوجيا والفكر والأدب والفن والفلسفة والحب. عالم الإنسان هو الإنسان نفسه مموضعاً، وهو ممكنات الإنسان، الفرد – النوع، اللامحدودة والامتناهية، إلا بموت الفرد وفناء النوع.
لننظر في المفارقة الآتية، التي تكشف عدمية “الصراع الطبقي” وتعري جذور “المادية التاريخية” وطابعها الاختزالي، (اختزال التاريخ في صراع الطبقات): “تعبر قوانين الاقتصاد السياسي عن اغتراب العامل في موضوع عمله بالطريقة الآتية: كلما زاد ما ينتجه العامل قل ما يستهلكه؛ وكلما زادت القيم، التي ينتجها، أصبح أكثر تفاهة وقلة شأن. وكلما تحسن شكل ناتجه زاد العامل تشوهاً؛ وكلما زادت مدنية موضوعه أصبح العامل أكثر وحشية؛ وكلما زادت قدرة العمل أصبح العامل أكثر عجزاً؛ وكلما زاد إبداع العمل أصبح العامل أكثر غباء، وزادت عبوديته للطبيعة.”[1]
تكمن المفارقة الرئيسة في إسناد مهمات التحويل الاشتراكي، بل مهمات “الثورة الاشتراكية والانتقال إلى الشيوعية”، إلى فئة اجتماعية (طبقة) وصفت بالفاقة والبؤس والجهل والتفاهة وقلة الشأن والتشوُّه والتوحش والغباء والعبودية للطبيعة، سواء بمعنى الطبيعة الخارجية المحسوسة أم بمعنى الغرائز الطبيعية. وإلى ذلك، ليس من الواقعية في شيء قول ماركس: كلما زاد ما ينتجه العامل قل ما يستهلكه، بالنظر إلى ما كان يستهلكه العامل نفسه، قبل أن يحظى بعمل أجير. كما أن هذا الحكم يجافي النتائج الاجتماعية والثقافية والسياسية لنمو تقسيم العمل الاجتماعي، بنسبة نمو القوى المنتجة؛ من مثل تشكل النقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية؛ وما أدى إليه نضال العمال من تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور والرعاية الصحية .. إلخ.
من جانب آخر، الصراع الطبقي، في نظرنا، مجاف للديالكتيك، فهو كما عبر عنه البيان الشيوعي صراع بين طبقتين ينتهي إما بغلبة إحداهما على الأخرى، وإما بانهيار الطبقتين معاً. لهذا وصفناه بالصراع التعادمي. ولقد قدمت التجارب الشيوعية في الاتحاد السوفييتي السابق والصين وغيرهما نماذج واقعية لمبدأ الغلبة والمغلوبية والقهر، وهو مبدأ كان سارياً على مدى قرون طويلة، وبموجبه كانت السياسة امتداداً للحرب، بوسائل أخرى، والحرب امتداداً للسياسة، بوسائل أخرى. نزعم أن البورجوازية غيَّرت مفهوم السياسة تغييراً جذرياً حين أقرت حق الاقتراع العام، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. وقد نوه ماركس بهذا المُحرَز التاريخي، وترجمه إلى ما سماه “الانعتاق السياسي”، الذي قوامه إلغاء الملكية الخاصة والدين سياسياً، سياسياً فقط، على أن تتاح للملكية الخاصة والدين شروط النمو والازدهار في المجتمع المدني.
الديالكتيك، بما هو منطق النمو والتقدم، منطق النتوج والصَّيْر، ومنطق الحياة، ليس نفياً متبادلاً بين حدي التعارض أو التناقض أو الصراع، بل هو انتفاء كل منهما معاً انتفاء إيجابياً، يسفر عن وضع جديد، أفضل أو أسوأ، بحسب طبيعة كل من الحدين المتعارضين وممكناته والشروط التاريخية التي تكتنفهما، وتكتنف الصراع. وكان الياس مرقص قد أشار، في سياق نقده للصراع الطبقي في الترسيمة الستالينية، إلى أن صراع البقاء بين الحيوانات، الذي نراه على الشاشات، لا يسفر عن ولادة نوع جديد، بل هو صراع تعادمي وحشي إلى النهاية.
للتنافس في المجتمع المدني الديمقراطي معنى مختلف جذرياً عن معنى الصراع الطبقي، مفاده أن ربح أي طرف من الأطراف المتنافسة هو ربح صاف للمجتمع كله، وخسارة أي طرف من الأطراف هي ربح صاف للمجتمع كله؛ الربح الأول هو جني المكاسب، والربح الثاني هو درء الخسائر أو تلافيها. لقد ربح الشعب الفرنسي كله بخسارة اليمين المتطرف، في انتخابات 2024، على سبيل المثال. للربح والخسارة هنا معنى تاريخي يتعلق باتجاه سير المجتمع وخياراته العامة، التي يقررها الأفراد ببطاقاتهم الانتخابية.
- – كارل ماركس، المخطوطات، ص 70. ↑