لا يمكن جدياً الكلام عن الحرية بدون الكلام عن العقل والضرورة، عن الحق والقانون عن المجتمع والدولة والفرد عن الفرق والهوية عن الشغل والقيمة… لا يمكن الكلام عن الديمقراطية بدون مفهوم الدولة، ولا يمكن الكلام عن الدولة الديمقراطية بدون الدولة الحقية (دولة الحق) أولاً وأساساً. لا يمكن الكلام عن الديمقراطية بدون التقدم وبدون عيش الناس، بدون خبزهم. الديمقراطية تصوّر فلسفي وسياسي عن العالم، تدخل في صلبه وأساسه فكرة الاختلاف، مجتمع الأفراد والاختلاف. يجب الانتهاء من تصوّر يعتقد أن الحرية هي صفة العصفور أو صفة الفارس النبيل. يجب الانتهاء من تصوّرين (مع وضد) يتفقان في اعتقاد واحد مفاده ان الحرية والحريات الديمقراطية والمسألة الديمقراطية شأن يهم المثقفين ولا صلة له مثلاً بعملية النهب والإفقار العالمية – الداخلية، التي، بأنظمة وايديولوجيات تلغي كل حاجز سياسي أو نقابي أو حقوقي أمام الاستغلال وتحوّل الاستغلال الإنمائي الى نهب تبعي….
يجب أن ننتهي من طريقة تفكير تجعلنا نتوهم أننا بمقولة عزيزة أمسكنا المفتاح، ما يجب أن نرفع ليس مفهوماً بل منظومة مفاهيم مفاهيم في علاقات وتناسبات بالتالي، هذا الكل الذي هو الواقع يجب ان يُعرف هذه المفاهيم يجب ان تجرد وان تفحص مع وبعلاقاتها على أساس تاريخ البشرية.
ولنكن صادقين وصريحين لا ريب أن المجتمعات البرجوازية هي في عالم اليوم مجتمعات الحرية، وأفضل أن أقول مجتمعات حرية، في الأرض لا في السماء، لكن ألا يمكن أن أقول بنفس القدر من الصواب: هي مجتمعات النظام، الانضباط، الدولة والكومونة والبلدية الطاعة والتنفيذ الرضوخ لقانون السير ولكودات codes كثيرة، منها الشغل الشغل، ومنها الوصول الى الشغل والذهاب من الشغل حسب القيد، ومنها الالتزام بالنظافة العامة (أي لا الخاصة: نظافة الشارع والمقهى والمدرسة والمكتب والحديقة والغابة 1/1 والطريق الوطني) وبقانون صيد الحيوانات والطيور والأسماك؟ ألا يمكن أن أقول بنفس القدر من الصواب: هي مجتمعات القانون والحق الخاص والعام، هي مجتمعات العقل الزمان والوقت؟ الخ لا ريب أن الحرية عصب محرك ومحيي، أنها أخت العقل والحياة والنمو، لكن لا يمكن أن أجهل أن القانون قيد، أن العقل قيد، أن المجتمع قيد. أي قيد؟ قيد على ماذا وضد ماذا؟ ما هي الآليات التي أنجبت وتنجب الحرية؟
يجب أن يدرس تاريخنا ولا سيما تاريخنا الأخير، المعاصر، تحت حيثية الحرية.
يجب أن نعرف عن مرحلتين يحن معظمنا إليهما أو إلى إحداهما ما لهما وما عليهما. يجب أن ندرك أن آلية سقوط الحق والقانون ليست بالضرورة وليدة حاكم وحكام وعسكريين، يمكن أن تكون منجَبة من جميع الأحزاب والطبقات والإيديولوجيات.
يجب أن ننتهي من تصوّر مفاده أن الشر يأتي من «الحكام»، لا من المعارضة، ولا من المجتمع، ولا من «الجماهير» و«الشعب» من البيت ومن كل أماكن الكون الاجتماعي، وجوداً وروحاً، وبالأصح: روحاً وفكراً وعلاقات. وما أروع وأكذب جميع أولئك الذين يثورون ضد الاستبداد والقمع والإلغاء الذي أصابهم أو يصيبهم، لأنه أصابهم أو يصيبهم، وهم يحملون الموقف نفسه مضاعفاً عدة أضعاف ضد الخصم والغير (والذات) لنقل: هؤلاء لم يجردوا مفهوم الحق، القانون، الديمقراطية. إنهم يكرهون التجريد، يحبون الواقع، يكرهون الأشكال ويحبون المضامين، يرفضون «الديمقراطية الشكلية»، «ثورتهم» ضد الإرهاب والقمع والقتل فصل من فيلم الصراعية المحرِّرة. «الأخلاق تابعة للسياسة»، «حقوق الانسان» برجوازية وإمبريالية، أو هي حقوقهم هم بوصفهم هم الإنسان. في قضية الديمقراطية (كما في سواها، لكن خصوصاً في قضية الديمقراطية)، إن المقاضاة، بالنسبة للفكر والمفكرين والملتزمين كما يقال، تبدأ بالفكر والمفكرين والملتزمين، لا بـ «الحكام».
المرجع: كتاب نقد العقلانية العربية صفحة 845 و846