فرانكو على فراش الموت. يسأل زوجته: ما هذه الضجة؟ أسمع صوتاً في الخارج. زوجته تقول له: شعب إسبانيا جاء يودع الكوديّو (= القائد. هذه الكلمة من أصل عربي، هي أيضاً). وفرانكو يسأل زوجته: إلى أين هو ذاهب، شعب إسبانيا!!
ذهب فرانكو. وسارت أمور الأمور، وكأنك تشرب كأساً من الماء. «إجماع»! لكن هذه الكلمة غير مناسبة. لنقل: وفاق أو توافق أو معية consensus. «إجماع» تحيل على جمع وجميع، على مئة بالمئة، على عملية عد أو شمول للكسور. الأمة موافقة. وهي لا تفرض شيئاً على أفرادها، ربما على ملايين منهم. أنتم أحرار في الرأي، أحرار في حياتكم الشخصية، في إنشاء ما تشاؤون من أحزاب معادية لكن تحت القانون، تحت الحق. بعد ذلك، بعد ذلك فقط، أقول: «توجد أكثرية». إن تضخم مقولة الأكثرية والأقلية عند بعضنا حماقة، مناوئة للديمقراطية (الديمقراطية هي أولاً حقوق الإنسان، وحقوق المواطن ثانياً، وثالثاً فكرة الأكثرية الإنتخابية الحرة التشكلية، إذن حق الاجتماع، حق تشكل الجماعات بلا لبس)، ومرتبطة غنوزيولوجيا باللامفهومية، باللامنطق، بانحطاط الرياضة إلى «حساب».
ودخلت إسبانيا في أوروبا. أي أدخلت أوروبا. أخذت العقل، التجربة، تاريخ الناس. صارت أوروبية.
هل فقدت هويتها، تمايزها؟ «حسب» ça depend (التعبير الماركس، في أهم نصوصه، المدخل 1857. والسؤال كان عن مقولة الشغل!) أي أن الجواب يتوقف على حيثيات، لا تستعجلنا وتستعجل فكرك يا صاح! إسبانيا غيرت هويتها. الفلامنكو باقٍ ومصارعة الثيران كذلك، الفوضوية، النبيلية، السجالية مع العالم، العراقة الروحية، رومانسية الموت، هذا يرحل ويُرَحَّل. التحول كرامة الأمة. هذا الذي كان في نظرنا قبل ثلاثين عاماً (وفي نظر بعضنا الآن) «الاشتراكية اليمينية» سيد إسبانيا اليوم.
و«استرجاع الحقبة العربية» جزء من هذا التحول الأوربي، العقلاني. الأمة الإسبانية تأخذ وعي الذات والعالم. إنه الثقة. يعقوب «أخو الرب» «أخو المسيح» مزار، مقام، دير، رهبنة، موقع سياحة وتاريخ وذاكرة. الماضي مضى. قصر الحمراء، قرطبة وإشبيلية وغرناطة وقرطاجنة والوادي الكبير وتلة الأولتيمو سوبسيرو دل مورو وجبل طارق: مدن، مواقع، أسماء حقة. وكذلك محي الدين بن العربي ويوحنا الصليبي وتيريزا الكبرى الأفيلائية وعبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الغافقي وحملة شارلمان إلخ. تاريخ، واقع، فيه ما يذهب، ما يبقى، ما ينمو، وينمَّى، ما يصلح ومالا يصلح، دوماً دوماً. الكوديو مضى، والحرب الأهلية كذلك. ندخل «المدينة»، في الحاضر، ونعمل لمستقبل أفضل. وظيفة الفكر، رسالته، مسؤوليته، الآن، لم يسبق لها مثيل. خصوصاً بالنسبة لنا نحن العرب.
- مصدر المادة: كتاب نقد العقلانية العربية، ص121، 122