Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

مقدمات في نقد الفكر القومي العربي السائد

 

أيها الأصدقاء

هذا الحديث أوجهه إليهم بعد مشاركتي في ندوة “القومية العربية في الفكر والممارسة” التي انعقدت في بيروت من 26 إلى 29 تشرين الثاني 1979، والتي كانت مفيدة وممتعة، جدية ومجدية، لاسيما بما أنها لقاء بين مفكرين عرب من أقطار واتجاهات مختلفة، لقاء حصل في زمن يجري فيه تقطيع أوصال هذه الأمة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، إن “مركز دراسات الوحدة العربية” الذي نظم الندوة يبدو كأنه “آخر” المقاتلين “في سبيل وحدة هذه الأمة العربية، آخر العاملين من أجل فكر عربي أصيل حقاً يخدم الأمة ووحدتها ومستقبلها. قلت “آخر المقاتلين”، لكنني أضع العبارة بين مزدوجين، فالمقاتلون من أجل الوحدة العربية كثيرون. و”مركز دراسات الوحدة العربية، وجميع العاملين من أجل الوحدة العربية، إنما يعبرون اليوم عن أعمق وأرسخ تطلعات العرب في كل مكان، وأن يكون مقدر هذا المركز بيروت، وأن تكون عاصمة هذا العمل الفكري الوحدوي في بيروت اللبنانية، قرينة ذات دلالات عميقة، بعيدة وشاملة. وإنني، إذ أحيي “مركز دراسات الوحدة العربية “وأؤيد عمله، فلإيماني المطلق بأن لا مستقبل ولا حياة للشعوب العربية بدون الوحدة القومية لأمة العرب، ولإيماني المطلق أيضاً بأن المسيرة الطويلة الشاملة المتعددة الوجوه نحو الوحدة، المسيرة التي هي اليوم ـأكثر منها في أي وقت مضى ـ عمل دؤوب ومعركة وثورة، هذه المسيرة تتوقف، بين جملة أمور وفي رأس جملة أمور، على الوعي، إذن على الفكر.

من جهة ثانية ، إنني، إذ أوجه حديثه هذا إليكم أنتم، إلى “الديمقراطيين العلمانيين”، بما فيهم “تجمع لبنان الواحد”، فإنني أرى لهذا التوجه معنى بالغ الأهمية. في رأيي، لا وحدة عربية، لا أمة عربية، بدون الديمقراطية والعملانية ولبنان الواحد، بدون التطلعات والمسائل والهموم المتمثلة فيكم وفي أمثالكم. فإما أن تكون أمة العرب أمة مدنية ديمقراطية حرة أو أن لا تكون، إما أن تكون أمة مواطنين في دولة حق أو أن تكون ممالك مملوكية في عصر الإمبريالية والنفط والاشتراكويات (أي اشتراكيات متأخرة ومزيفة سماها ياسين الحافظ تأخراكيات). أجل، هذه قضية كبيرة جداً، ونوعاً ما جديدة. أجل، بكل تأكيد، هذه القضية الكبيرة لن تتحقق، لت تتوقعن، إلا بحركة التاريخ، بحركة الجماهير الشعبية الوطنية، والجماهير البشرية المقهورة قهراً كلياً وعيانياً، والتواقة ليس فقط إلى خلاص بل أيضا إلى نضال مجد يضعها على درب تقدم تاريخي.

لكن الوعي مسؤول، وكام مسؤولاً. قبل عشرين عاماً كان الوعي قاصراً، كان مقصراً عن حركة التاريخ، عن التحرك الشعبي، عن الواقع ـ الإمكان… ثم، في حقبة التدهور، كان ولا يزال في معظمه مشروعاً ومضللاً (بكسر الللام): الصحافة والمجلات التقدمية والثورية في واد، والبشر وأحاديثهم اليومية في واد آهر. أكثر من مرة، كانت النخبة الراكبة على الساح دون مستوى وعي البشر العاديين.

الوعي مسؤول، كان مسؤولاً، سيكون مسؤولاً.

قلت: الوعي، الفكر، في المادية الجدلية، في البند الأول من بسط المادية الفلسفية حسب لينين، تجد سلسلة ثنائيات مقولاتية، أو ازدواج مفهومية هي: كائن ـ فكر، طبيعة ـ روح، مادة ـ وعي، فيزيقي ـ نفسي. إذن، حين أقول: وعي، فكر، فإنني أقصد أولاً هذه الهوية الكبيرة الواحدة التي هي أكبر من الفكر الفكري، والتي هي بالأحرى: الفكر، الوعي، الوجدان، الروح، النفسي، الشعور والمشاعر والعواطف، الخ… وبالضبط، إن أحد الفروق الرئيسية بين الماركسية والعقلانية السابقة لهيغل هي أن الماركسية ـ جزئياً وراء هيغل، لكن متجاوزة هيغل ـ ترد الاعتبار إلى كل ذلك الذي كان، في العقلانية السابقة، أقارب فقراء للعقل بالمعنى العقلاني المحدود والعصبوي إن صح التعبير، إلى الشعور والمشاعر والعواطف، إلى الوعي الجنيني والبشر العاديين، الخ… إن المادية الجدلية تأخذ هذا كله تحت جناح مقولة الفكر الأولية أو الروح أو النفسي أو الوعي ـ الوحدان. لينين يدافع عن حلم الشغيل، يتكلم ـ بعد قوله المأثور: “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية” ـ عن “الأهمية العالمية للأدب الروسي”، …. ضد طبقوية وعلموية ونخبوية الاقتصادوي مارتينوف.

إنني أقصد شيئين:

أولاً، شيئاً عنكم، عن كل واح منكم: ما روحكم؟ ما نفسكم (بتسكين الفاء) ما هو نفسكم (بفتح الفاء)، عطشكم، تطلعكم؟ ماذا تريدون؟

في رأيي: العلمانية، العلمنة، ليست روحاً، إنها جزء. إذا أخت موقعها الصحيح، إذا اندرجت في “كل” أكبر منها بكثير، مؤسس على أساس ليس هو العلمانية والعلمنة، بل هو الإنسان، إذن، تاريخياً وعيانياً، الإنسان والأمة والمستقبل العربي، فعندئذ نكون في الخط الصحيح. في الحالة المعاكسة، نكون في العلمانوية. هذا المذهب العلمانوي ليس شيئاً كثيراً بل لعله لا شيء. لعله العدم.

شخصياً، أنا أعتبر نفسي ماركسياً ناصرياً. ولا أعتقد أن هناك من يسبقني أو يفوقني في ذلك. بالعكس: أنا أعتقد أن الماركسي طراز نادر في لبنان، في الوطن العربي، وإلى حد ما خارج الوطن العربي أيضاً. أنا مصّر على الماركسية، أن ماركسي و”ماركسي أرثوذكسي”، أعارض وأحارب كل ما أعتبره انحرافاً عن الماركسية. بل أنا متهم بنزعة الاستئثار، كأنني رجل يدافع عن بضاعته ضد الدين ينافسونه عليها. مع ذلك، أو بالأصح لذلك، أنا لست ماركسوياً. أنا لست ماركسوياً لأنني أعمل بتوصية ماركس الذي قال: “أنا لست ماركسوياً”. أجل، إن هذا القول، ككل قول وككل أطروحة كبيرة أو صغيرة، له سياق، له هدف. لكن سياقه معلوم، هدفه معلوم: ماركس يجلد الماركسويين، الماركسويين الأوربيين الذين كانوا أرقى من الماركسويين العرب الحاليين. قوله الآنف ليس قولاً محدداً ومحدداً فقط، بل هو نوعاً ما كل خطه الفكري والذهني والروحي.

حين تتحول الماركسية إلى ماركسوية، والناصرية إلى ناصروية، والمسيحية إلى مسيحيوية، والإسلام إلى إسلاموية، والعروبة إلى عربوية، واللبنانية إلى لبنانوية، الخ… نكون قد أقمنا الوثنية، ست وثنيات، مئة وثنية، وثنيات شتى مختلفة ومتعددة إلى ما لا نهاية، لكنها جميعاً الوثنية أولاً وأخيراً، وعلى حد سواء. وبما أن الوثنية الآدمية قائمة بالمبدأ في النفس والفكر والمعرفة، فيكمن أن ننطّ من وثنية إلى أخرى. بينما المطلوب اليوم، في مستوى الفكر والروح، “العودة إلى البدء”: تأسيس الإنسان ضد الأوثان. ولن كنت أميرز نفسي وأفرق نفسي عن الماركسوية والناصروية، وعن الإسلاموية والمسيحوية والعربوية الخ… فبالأحرى “وبالأسهل” إنني أميز وأفرق نفسي عن العلمانوية. ولئن كنت أؤيد العلمنة، وأيدها بشكل قطعي، فليس ذلك لفقط لأنني أؤيد الاندماج القومة الاجتماعي، ليس لأنني ملتزم التزاماً مطلقاً بالأمة، بل أولاً وأساساً لأنني ملتزم بالإنسان ضد الأوثان. وبالتالي، بالبداهة، ليس هدفي ولا مبدئي أن أنصب وثناً آخر يدعى العلمانية، مبدئي وهدفي أن أقيم مفهوم الأمة على مفهوم الإنسان، إذن على مفهوم الإنسان والتاريخ، على الكلي العياني، على السياسي الحق، على الاجتماعي، الاجتماعي الحقيقي الذي ليس منحلاً ولا مستنفداً (بفتح الفاء) في الاقتصاد وعلاقات الإنتاج.

على سبيل المثال، حين أسمع أن الأسرة أو العائلة، إذن علاقة الرجل والمرأة، هي “بنية فوقية”، حين أسمع هذا القول على لسان عروبي، فإنني أكاد ألعن الساعة التي جاءت فيها الماركسية ومفرداتها إلى بلادنا، كلا، إن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست بنية فوقية، إنا أولاً أكثر من تحتية، تحت تحتية، هذه العلاقة بين المرأة والرجل هي، من بين جميع العلاقات الاجتماعية، العلاقة الأكثر طبيعية، إنها العلاقة الأكثر طبيعية والعلاقة الأكثر اجتماعية وتاريخية وروية في آن معاً. إنها العلاقة الأكثر دلالة على تقدم الإنسان، وهي العلاقة الأقدم والأعرق.

هنا أولى مفارقات الفكر القومي القوماوي، فهو يمدّ الأمة إلى وراء، إلى تحت، إلى الجاحظ وذي قار وعدنان وفغسان وقحطان، إلى سام ابن نوع وأبيه وجده آدم، إن استطاع، وهو أحياناً يستطيع، يستطيع باسم الإنسان ـ اللغة ـ الأمة، الثالوث الباهت التاريخية في الفكر القومي. لكنه، رغم هذا المد إلى وراء وإلى تحت، ممتنع وممسك عن هذه المنطقة الحرام، في الفكر النظري الصريح على الأقل، إنه مشدود إلى الوراء، لكن بدون عمق، بدون شمول وجذرية.

إذن، الشيء الثاني الذي قصدته يتعلق بالفكر القومي: السؤال واحد، لم يتغير، أكرره على الفكر القومي: ما روحه؟ ما نفسه (بتسكين الفاء)؟ ما هو نفسه (بفتح الفاء) وعطشه وتطلعه؟ ماذا أراد ويريد؟ قبل عشرين عاماً ماذا أراد؟ واليوم ماذا يريد؟

هنا ينتابني ألم، ولا أٌول “مرارة”. هنا المأساة، مأساة الفكر القومي، ومأساة الأمة، مأساتنا، مأساة تراجع وتدهور وانتكاس.

بادئ بدء، لا بأس من ملاحظة أن دائرة نفوذ الفكر القومي، كمنظومة أيديولوجية تامة، أو هذا يريد نفسه، قد تقلصت وانحسرت، لكن أين المأساة في هذا؟ أليس انحسار الفكر القومي القوماوي حاصلاً لصالح نفوذ الماركسية والعملية وما شابه؟ كلا، بل لصالح اليسراوية وجموحها الطبقوي والبؤري: هكذا كان الأمر قبل قليل. أما الآن فاللون الغالب على ساحة الفكر السياسي المتعطش إلى عمل سريع هو الخليط: خليط من ماركسوية وقوماوية وإسلاموية وعناصر أخرى متنوعة، على قاعدة ثورانية (بفتح الواو) ومحافظة، آنية وسرمدية، وبالتالي دورانية. لم نخرج من السحر: النورانية اليسراوية والبؤروية التي لم يلفها النسيان بعد، هل تختلف كثيراً عن النورانية الحالية، الإسلامية، الآتية عبر آبار النفط؟ الأمة، المبدأ القومي، منفية ومنفي، اليوم وفي الأمس.

والفكر القومي إزاء هذه الحالة كلها عاجز. إنه ضائع، عاجز، مغزر، ومنتكس. حدّه انثلم منذ فترة غير قصيرة، والآن كأنه فقد حده نهائياً. روحه في نزاع، عطشه غير واضح، ضميره معذّب وعيه متمزق.

القيمة التاريخية لأي فكر قومي عربي مستحق هي في ندائه: الوحدة العربية القومية. هذه هي صرخته الطبيعية، هذه هي مشروعيته، هذه هي دعوته، وهذا هو الشيء الأهم والأبرز والأكثر حدة في الفكر القوم العربي كما عهدناه ونوعاً ما عشناه قبل ربع قرن ونيّف: كانت هناك وجدة أمامه، في متناول اليد إن صحّ التعبير، عمل من أجلها بصدق وقوّة، لعب دوراً وازناً ومعبئاً. الفكرة القومية العربية، وإن ليس المنظومة الفكرية العقائدية، صارت معتقداً للشعب. الآن يختلف الأمر” ظاهراً، ليست الوحدة في أمر اليوم، ولا في المستقبل المرئي بالعين إن صحّ التعبير. والفكر القوماوي عاجز:

1- لم يدقق النظر في عقيدته القوموية، لم يفرز الصواب والخطأ في هذه العقيدة، لم ينفذ إلى ما هو أعمق وأبعد، لم يتجاوز نفسه.

2- لم يفهم التجربة التاريخية لحركة الجماهير العربية في الخمسينات وبعدها، ولا سيما تجربة الوحدة السورية ـ المصرية. مازال ينظر إلى الموضوع بمنظار العقيدة القومية.

3- يمكن القول بصدد قضة الوحدة العربية أن الجميع “باعوها”، الجميع أي الخليط السائد حالياً وهذا أمر طبيعي: من الطبيعي أن ينتكس الفكر القومي العربي، القوماوي، في موضوع وحدة العرب القومية.

فإذا كان الراهن هو الآني، إذا كانت دنيا الفكر مشطورة بين السرمدية والآنية، إذا كانت الوحدة القومية انبثاقاً من الأمة ـ المثال السرمدي الوهمي، عندئذ فإن قضية الوحدة العربية لا تجد لها اليوم مرتكزاً حقيقياً. الأمة العربية الواحدة وتجزؤ هذه الأمة الواحدة أقنومان متعايشان جيداً في الفكر القوماوي العربي وضميره المعذب.

4- هذا الفكر القوماوي، العاجز اليوم، بحكم منهجه اللاجدلي واللاتاريخي، وبحكم منطلقاته نصف ـ الوهمية في موضوع الوحدة العربية، منتكس أيضاً عن علمانيته النسبية في الخمسينات.

آنذاك، كان التمييز بن الأمة الدين، بين الجماعة القومية والجماعة الدينية، أحد أركان فكر ساطع الحصري مثلاً. ساطع الحصري في سجال ضد فكرة الأمة الإسلامية، ضد بعض مواقف جمال الدين الأفغاني، بيّن دور الإسلام في تكوين أمم أخرى غير العرب، مثلاً الأمة التركية. تأكيد الحصري على اللغة يتخذ، بشكل صريح وبدهي، ها المعنى: الأمة غير الدين، الجماعة القومية والجماعة الدينية شيئان، والتاريخ ذاهب في اتجاه تغليب الأمة ـ اللغة…

اليوم، يبدو الفكر القومي ضائعاً ومتراجعاً تحت تأثير الخلافة الإسلامية اللاقومية الآتية من إيران، علماً بأن التجربة الإيرانية الحاضرة تقدم مسوغات جيدة للمبدأ القومي: لا الوحدة الدينية (الإسلامية)، ولا الوحدة المذهبية (الشيعية)، تستطيعان إزالة الأمم: هكذا أذربيجان، كردستان، عربستان، الخ… لو كان ساطع الحصري على قيد الحياة، لكان على الأرجح استنتج النتائج وأطلق رداً من الفكر القومي على الزعم الديني المشهود. ولا أدري ما إذا كان الفكر القومي السائد سيظل على إهماله للتاريخ الحقيقي، ولاسيما للإسلام وتجربة الثورات الإسلامية في تاريخينا الحديث، لا أدري ما إذا كان، في مجابته للريح الجديدة، سيظل على نظرية “الإنسان القومي”، أي على وثنية مفهوم الأمة الكامنة في نظرية الإنسان القومي، أم أنه سيمضي إلى فكرة الإنسان والتاريخ والأمة، أي إلى المبدأ الذي ينصف الدين، ينصف الإسلام بشكل خاص، يؤكده ضد الوثنية والوثنيات والوثنية الدينية، يحرر الدين، ويقيم العلمانية صريحة ونهائية.

***

لكن، ما هي بوجه عام، مواقف الفكر القومي العربي، القوماوي؟ وأين مواضع قصوره الجذري؟ كيف تبدو لي مواقفه اليوم، في ضوء ندوة “القومية العربية في الفكر والممارسة”. وفي ضوء الإضبارة المصرية المنشورة في أحد أعداد مجلة ” الفكر العربية” قبل عامين (المساجلة مع لويس عوض وتوفيق الحكيم)، وفي ضوء مقالات ومناسبات أخرى؟

1- مازال الفكر القومي العربي يقول بوجود الأمة العربية، وهذا أمر جيد تماماً، ومازال يعتبر كلمات وجود وموجود وموجودة أعظم كلمات في القاموس النظري والعملي، وهذا أمر سيء تماماً.

عنده، الكينونة غالبة بالأصل والنهاية على الصيرورة. الصيرورة أمر في الماضي. صحيح أنه يقول “تكوّن” لكن عنده، الكائن أكل التكون. التكوّن تم، أو تقريباً، في زمن الجاحظ والرد على الشعوبية والكائن مفرغ.

عنده، الكلمات ـ لاسيما هذه الكلمة: الأمة ـ أشياء، وليست تعيينات. إنها إذن تصير أشباحاً.

حين يقول “الأمة العربية موجودة، موجودة، نسأله على الفور: أي وجود؟ وجود فاعل، أم وجود هامد وغير فاعل؟ هل الوجود الفاعل هو اليوم للأمة، للأمة والطبقة، أم هو للقطر والطائفة؟ قارنوا اليوم وما قبل عشرين عاماً.

وجود، موجود؟ ما هو الوجود الذي نؤمن به نريده لهذه الأمة العربية؟ هل نريد أمة عربية موجودة كما الحجارة موجودة في الطبيعة، أو كما “فلاحو الشرق الأوسط موجودون” في مرآة درين وارينر صاحبة كتاب “الأرض والفقر في الشرق الأوسط” نحن نريد للأمة العربية وللبشر العرب، بالتلازم، وجود آخر، وجوداً حياً فاعلاً حراً.

والتجربة قد دلت على أن ليس كل القائلين بوجود الأمة العربية وقدمها وعراقتها التاريخية أو اللاتاريخية هم حتماً أنصار للوحدة العربية. ثمة قائلون كثيرون، بل مؤمنون كثيرون، بالأمة المذكورة، والعراقة، وما شابه، عارضوا الوحدة، يعارضونها، وسوف يعارضونها: لعلهم متآلفون مع تاريخ الأمة الواحدة والمجزأة، بوصفها والحمد لله واحدة وموجودة.

الفكر القومي العربي يستمد الوحدة العربية من وجود الأمة العربية وحسب. نحن نبني واقعية الأمة العربية على راهنية قضية الوحدة العربية المرتبطة براهنية التجزؤ العربي الإمبريالي التأخري الآخذ في الاستفحال في عصر الإمبريالية النفط والاشتراكويات، ولذا هناك دائماً عمل وحدوي قومي أمامنا، عمل من أجل الأمة.

2- الفكر القومي العربي لا ينظر إلى الواقع القومي، إلى مفهوم الأمة الكائني، كمستويات أو درجات في البسط المنطقي ـ التاريخي. عنده، العرب أمة، الفرنسيون أمة، الروس أمة، البلغار أمة، الأتراك أمة، البابليون أمة أو ليسوا أمة، كذلك التركمان، ومغول الماضي والحاضر. على كل حال، العرب أمة، كما الفرنسيون أو الإنكليز أو الطليان أمة. لكن العرب مجزأون سياسياً، بل أيضاً اقتصادياً وثقافياً…الخ. إذن، هذا التجزؤ لا شك نابع من الاستعمار، والاستعمار يمكن أن يكون الفرس البارثيين والساسانيين والذين سبقوهم، والمكدونيين، والرومان، والبيزنطيين، والفرس مرّة أخرى، والمغول، والصليبيين، والأتراك السلاجقة، والأتراك العثمانيين، والتركمان، والاستعمار الفرنسي والإسباني والإنكليزي والإيطالي والأمريكي، وربما الحثيون أيضاً هم في صنف الاستعمار، ما داموا غير ساميين ولم يخرجوا من شبه جزيرة عربية. أما السومريون فهناك عدة نظريات عن أصلهم، إحداها تقول أنهم خرجوا من جزيرة العرب، وأنا ـ أقصد الكاتب أو المحاضر نصير الأمة العربية العتيدة الذي استمعت إليه قبل عامين ـ أرجّح صحة هذه النظرية! (وأطي حقيقة اللغة السومرية!!). بالطبع ليس كل الفكر القومي العربي يذهب هذا المذهب، الذي من شأنه أن يخفض دور الإسلام واللغة العربية: أن الفكر القوماوي ألوان عديدة، لكنه، بوجه عام ومبدئياً، مذهب عراقة.

قلت: القومي مستويات، درجات. وأضيف: ثمة مستوى في القومي قديم جداً، ثابت، راسخ، ومتغير، قوامه بيئة، ثقافة، إنتاج، حياة. الفكر الماركسي أهمل هذا الوجه في المسألة، الفكر الماركسوي ينكره، وأحياناً ينكر الأمة. الفكر القوماوي يضخمه، يشوهه، ويعجز عن القبض على حقيقته، ما دامت المضامين مقلصة عنده إلى أمة ـ لغة أو إلى لغة وأصل يدعي تاريخياً، وما دامت فكرة الإقليم الجدلية والتاريخية مفقودة أو منبوذة لصالح فكرة “الأرض” الجغرافية ـ المجرّدة.

3- الفكر القوماوي، شأنه شأن الماركسوي والإسلاموي الخ… وشأن قسم كبير من فكر البشرية، واقع في مانوية (ثنائية الخير والشر) الألفاظ. القاموس الأساسي مقسوم إلى بابين متوازيين متعارضين متحاربين: ثمة كلمات كبيرة تنتمي إلى مملكة النور والخير والحق، وكلمات كبيرة مقابلة تنتمي إلى مملكة الشيطان. بالطبع كلمة “استعمار” وكلمة “إقليم” هما في المملكة الثنائية.

بتعبير آخر: الوثنية قائمة، وهي هنا وثنية الألفاظ، وبالتالي لا يمكن أن تقوم معرفة حقة لأي شيء ذي أهمية. المبدأ الأول في المنطق الجدلي هو إسقاط صفتي القدسية وعكسها عن الكلمات، هو معرفة الكلمة في السياق، هو وعي تعدد معاني الكلمة…

بتعبير آخر أيضاً: إن كل الفكر العربي ـ القومي والماركسي والإسلامي والليبرالي الخ… ـ يشكو من غياب الفلسفة، الفلسفة بالمعنى اللينيني البسيط الشعبي والفلسفي العالي في آن معاً، أي الجذري، الذي هو أولاً نقد اللغة، نقد اللسان البشري، ثمة حالياً ثورة في العلوم الإنسانية، تطور مذهل للألسنية وعلم اللغة، انقلاب بالغ الأهمية والحيوية بالنسبة إلى المعرفة ومصار البشرية. لكنه أيضاً بحاجة إلى تمثل الأبسط، الأكثر أساسية وجذرية وآدمية.

4- في الفكر القومي، الأمة لغة، جماعة اللغة الواحدة. هذا الموقف ينسجم مع الحس الشعبي العربي، وهو صحيح وناقص ومشوه. إنه جزئياً تعميم للحالة العربية، يرضينا ويعزز إيماننا القومي العربي بالمحسوس الكبير والبالغ الأهمية والحيوية الذي هو اللغة العربية، لكنه يشد الفكر في اتجاه “الطبيعية” ضد “التاريخية”، في اتجاه الماضي ضد المستقبل والراهن، في اتجاه نوع من عرقية روحية أو عراقة روحية ضد الضرورة الراهنة ووعي هذه الضرورة الذي هو الحرية والإرادة.

حسب الفكر القومي، العرب أمة واحدة، سويسرا ليست كذلك، بلجيكا ليست كذلك، الهند ليست كذلك، ولا بأي معنى من المعاني، بشكل مطلق، المعاني محذوفة، الأمة ليست بأي حال مسألة. ساطع الحصري الذي أقنم الأمة في اللغة، برهن أن سويسرا أو بلجيكا موجودة كدولة واحدة رغم تعدد اللغات، بسبب تداخل وتشابك اللغات تداخلاً وتشابكاً شديدين فوق أرض سويسرا وبلجيكا. لكن البرهنة كانت خاطئة واهمة بشهادة الخريطة والتاريخ. أحمد بهاد الدين، وهو أفضل الكتاب الداخلين في المناظرة مع وليس عوض وتوفيق الحكيم، وأكثرهم إنصافاً ونوعاً ما إدراكاً لقصور وفراغ “الفكر القومي”، قال، عرضاً، أن اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية تتوزع سكان سويسرا بالتساوي: ثلث وثلث وثلث. هذه المرّة الأرقام خاطئة وخاطئة جداً. التوزع الصحيح هو 72% للألمانية و23% للفرنسية و4% للإيطالية. أحمد بهاء الدين قال “سويسرا ليست شعباً بل هي شركة مساهمة ناجحة”، أي شراكة حياتية وديمقراطية. المثال السويسري استحوذ على اهتمام لينين أيضاً، الذي عاد إليه ربما عشر مرات، مثل ساطع الحصري. لكن، الذي استحوذ على اهتمام لينين في المثال السويسري هو الديمقراطية، بلد برجوازي رأسمالي فيه أمور قبيحة لا شك. كتاب ستالين الأشهر “الماركسية والمسألة القومية” يبدأ، بعد تمهيد قصير هدفه تبديد “الضباب القومي”، بتعريف للأمة. مداخلة لينين الأولى في المسألة القومية وعنوانها “ملاحظات نقدية على المسألة القومية” (1913 أيضاً) تنفتح على موضوع مساواة اللغات والمثال السويسري. في الفكر القومي العربي، حين يكون ديمقراطياً، الأمة والديمقراطية مملكتان، وهو بوجه الإجمال مكتف بالمملكة الأولى، مستغن عن الثانية، وأحياناً يعارضها تحت لواء معارضة “نظرية الإرادة المشتركة”، “النظرية الفرنسية” في الأمة.

5- الأمة لغة، هكذا يقول الفكر القومي العربي. وأحب أن أقول: الأمة لغة قومية. الأمة بنت اللغة لكن اللغة بنت الأمة، يجب أن تصير لغة قومية.

هذه مسألة متعددة الوجوه. أحب الآن أن أشير إلى أحد هذه الوجوه. في أوروبا عصر النهضة، اللغة القومية لها تكوّن أو ولادة، هذه الولادة هي التقاء واندماج اللغة الشعبية العامية واللغة الأدبية. ومعظم الذين صنعوا اللغات القومية الحديثة كانوا ” إنسانويين” غارقين في اللغات اللاتينية واليونانية وغيرها، وفي التاريخ القديم، الكلاسيكي. عندنا اليوم، انشطار كبير ومرعب.

إن اللغة أولى علائم الأمة، منطقياً وتاريخياً. واللغة لها رسوخ كبير جداً، ولها تطور وتاريخ متنوع. وهي عنصر فاعل وعامل صاعد في أوروبا العصور الوسطى. والأمم، الدول الحديثة، قامت على أساس القومية اللغوية أولاً، بعد تكوّن سابق، لغوي ـ قومي ـ إقليمي ـ سياسي ـ ثقافي الخ، استغرق قروناً. هذه اسيرورة اقتضت أو تضمنت عدة تطورات أو عمليات، منها هذه العلمية الأخيرة نوعاً ما: ظهور اللغة القومية أو الأموية، الأدبية ـ الشعبية أو الشعبية ـ الأدبية.

الفكر القومي العربي، حامل اللغة والأمة ـ اللغة، لا يرى هذه العملية، ولا يرى عمليات أخرى في ميدانه المفضل: اللغة، وهو مركوب أكثر مما يجوز بالحرب على العامية ودعاة العامية والعاميات، وهو، عملياً ورغم جميع التصريحات المعاكسة، شاطب على مسألة تطوير اللغة العربية.

غني عن البيان أنني حين أذكر تاريخ أوروبا الغربية وتجربتها في صدد اللغة واللغة القومية، فإنني لا أدعوا إلى نقل التجربة الأجنبية (النقل مستحيل، “التجربة” ليست تجربة في مخبر بل هي تاريخ بشر)، لكنني أدعوا إلى معرفتها وفهمها وعقلها وتمثلها، لأن لها عقلاً، عقالة، طابعاً من عمومية.

6- “الأرض المشتركة” علامة يعترف بها الفكر القومي العربي: الوطن العربي على امتداد واحد. من جهتي، بعد التفكير، أفضل كلمة “إقليم” على كلمة “أرض” ففي قاموس الفكر القومي وغيره، تبدو “الأرض” مفهوماً جغرافياً مجرداً، ويبدو الامتداد الواحد امتداداً خريطياً. وأنا أعطي كلمة “إقليم” معنى جغرافياً ـ اجتماعياً ـ بشرياً ـ تاريخيا: اندماج الناس بالأرض ـ الإقليم، واندماجها الاجتماعي ـ القومي فوق الأرض ـ الإقليم. قد يكومن الإقليم كبيراً جداً كما هي حالة الأمة الروسية، أو صغيراً جداً كما هي حال لوكسمبرغ، دوقية لوكسمبرغ العظمى، لكنه إقليم.

يجب أن ننتهي من تأليه الألفاظ، من عبادة ألفاظ، ولعن ألفاظ.

يجب أن نتخطى نظرية العوامل المستقبلة، منهج القائم المنفصلة.

يجب أن ننظر إلى تاريخ الأمة على أنه تناضد طبقات “جيولوجية” إن صح التعبير.

يجب أن نبني الوطنية عمارة تاريخية ومستقبلية.

لا يمكن أن ندحض الخصم الإقليموي بدون اكتشاف الصواب الذي ضلاله، بدون التعرف على الحق الذي وراء باطله والاعتراف به.

لا يمكن أن يستولي مفهوم الأمة العربية فعلاً على شعوب مصر وتونس والجزائر والمغرب الخ… ما لم يكف عن كونه فكرة عربية ـ شامية ـ عراقية ـ صحراوية.

7- أخيراً، من جديد: الديمقراطية. الديمقراطية بمثال التجربة العربية الكبيرة، ومثال صغير أوروبي.

أولاً، التجربة العربية الكبيرة: وحدة 1958-1961. اسمع نقاشاً بين مصريين وسوريين مسؤولين عن التجربة التي تحير كثيراً ويبكى عليها، فكأن التاريخ يخرج من بطن الذوات ـ النخب، في حين أن الذات الحقيقية الوحيدة، في المرجع الأخير، هي المجتمع. “المجتمع”، في مستوى نظري بالغ التجريد، وبالتالي في المستوى التاريخي والعياني أو شبه العياني: الشعب، البشر، الطبقات، الصراعات الدنيوية، العالم، عالم الدول والأمم والإمبريالية الخ… وأكاد أقول: إن الديمقراطية ليست فقط هدفاً، أو هدفاً وطريقاً، بل هي أيضاً موقف في نظرية المعرفة إن صح التعبير، هذا من شأنه أن يضع حداً للهذيانات المثالية، للنخبوية والنخبويات، للإرادوية والإداروية، للاقتصادوية والسياسيوية، للمشروعوية والأخلاقوية والشعر.

ثانياً، المصال الأوروبي الصغير: دوقية لوكسمبورغ العظمى، هي بلد صغير جداً، يقع بين ألمانيا وفرنسا، فيه فحم وصناعة فولاذ، ليس فيه جامعة، لغته الشعبية الألمانية، لغته الرسمية الفرنسية على ما يبدو (هكذا أراد المواطنون الأحرار)، الناس يسمعون موسيقى باخ وموزار وبيتهوفن، يقرأون غوته وفكتور هوغو ومغامرات تيل أويلنسبيغل الخ، هذا البلد احتله الجيش الألماني الهتلري بلمح البصر… مشروع ألمانيا العظمى يكتسح أوروبا… قرر هتلر أن يستفتي شعب لوكسمبورغ. تضمن الاستفتاء سؤالين: من هو وطنك؟ ما هي لغتك؟ الجواب” الطبيعي”، أو على كل حال الجواب المنتظر: وطني ألمانيا العظمى، لغتي الألمانية. تسعون في المئة من الناس أجابوا: وطني دوقية لوكسبمورغ العظمى، لغتي اللوكسمبورغية!.

ندوة دعا إليها “الديمقراطيون العلمانيون” في 13 كانون الأول 1979

المصدر: مجلة الواقع ـ العدد الأول ـ نيسان 1981 ـ صادرة عن المؤسسة اللبنانية للفكر والثقافة.

***

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية