أي دراسة لا تشتمل على تحليل الوضع السائد في سوريا، كحالة مأساوية طويلة الأمد على الصعيد الإنساني والاجتماعي والقومي، لا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى إحياء ذكرى الياس مرقص، إذ ينبغي محاولة تفسير الأسباب التي أدت إلى هذه الشرذمة والتفتت والاقتتال الداخلي على ذلك النحو المرعب الذي يعيشه السوريون اليوم بعد سنوات ست دامية من الحرب الأهلية. وبناءً عليه، فإن جوهر “نقد العقلانية العربية” وأهدافه لابد أن يتمثل في بضع تساؤلات، منها: لماذا فشل المشروع القومي العربي، وما هو دور البعد الثقافي الإسلامي وراهنيته في هذا المشروع؟ تساؤَلات ربما تفسر لنا اللاعقلانية والفوضى التي تسود العراق وسوريا والكثير من الدول العربية في يومنا هذا.
واضح أن نقد العقل العربي لذاته مهم لتحرير الإنسان من كل سلطة خارجية إعلاناً بالوصول إلى الحقيقة الموضوعية والتغيير المطلوب لتجاوز التقليد؛ فالبرجوازيات الأوروبية، على سبيل المثال، كان عليها أن تنتظر عصر التنوير كي تنضج في طبقة اجتماعية بحيث تصبح قادرة على حمل مشروع إقامة الدولة على كاهلها. ولكن ذلك لم يتحقق بنجاح تام أو شبه تام إلا بالثورة الفرنسية، حيث حققت القطع المعرفي مع الماضي في ظروف شبه ناضجة وتم تتويج العقل ملكاً على فرنسا عام 1793، بينما في إنجلترا حققت البرجوازية مشروعها وطموحها عبر التحالف مع النبلاء، لذلك كان موقفها متسامحاً تجاه الدين والكنيسة التي ما زال نفوذها ظاهراً اليوم، ولو بشكل هامشي، عبر سلطة ملكة بريطانيا. وفي مواجهة ذلك اتخذت حركة التنوير هناك شكلا تجريبيا أدى إلى ازدهار العلوم والفلسفة التجريبية في معزل عن سطوة نفوذ الكنيسة (تنمية التخلف العربي، ص 52 – 53). فأي تركيبة اجتماعية – سياسية – اقتصادية يمكنها وصف أحوالنا في بلاد الشام خصوصاً، وفي العالم العربي عموماً، وكيف استطاعت البرجوازيات الكمبرادورية الحاكمة أن تؤبد علاقات تبعيتنا للمراكز وتـُخرِج شعوبها من التاريخ؟ وكيف السبيل إلى النهوض؟
إنه من الواضح أن الأنظمة العلمانية العربية، كما هو الحال في العراق وسوريا، قد فشلت من حيث أنها لم تستطع تغيير العقلية الثقافية السلفية إلى مستوى يرقى لمحاولات البروتستانتية في القرون الوسطى المسيحية التي استطاعت أن تفتح باب الاجتهاد منذ زمن جون كلفن السويسري ومارتن لوثر الألماني في القرن السادس عشر. فلم تستطع العقلية العربية السلفية السائدة أن تطور من فهمها للدين على نحو ما طورت العقلية السلفية الأوروبية الكهنوت المسيحي، وإلى حد معقول، كما فعل كوبرنيق في نظريته حول مركزية الشمس (العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة، ص 88-99) استجابة لمتطلبات البرجوازية الصاعدة التي لم تقبل بجوهر البناء الثقافي (الديني) للعصور الخراجية السابقة على الرأسمالية. وهكذا نجحت الرأسمالية في تطوير فكرة العلمنة، أي فصل الدين عن الدولة، لإدارة المجتمع الرأسمالي، فيما تركت إشباع الحاجات الميتافيزيقية للضمائر الفردية (تنمية التخلف العربي، ص 61 – 63).
لذلك ظن الكثير من المفكرين العرب أن العلمانية مشروع ضروري على طريق إنجاز المرحلة الانتقالية صوب الاشتراكية؛ كأفكار فرح أنطون وشبلي شميل على سبيل المثال. كذلك كانت حال نداءات علمانية لفصل الدين عن الدولة، كدعوة علي عبد الرازق. ولكن هؤلاء المفكرين لم يدركوا العلاقة التي قامت بين الرأسمالية الطرفية في دولنا وبين الرأسمالية المركزية التي باتت تهيمن على علاقات الإنتاج وتسهم في تنمية الطبقات الكمبرادورية البازارية وتعيق نمو البرجوازية الوطنية في الأطراف.
1- في نقد اليسار واليمين:
يقف إلياس مرقص في نقد نظرية تلاشي الدولة و”دكتاتورية البروليتاريا” موقفاً رافضاً للفكرة الماركسية التقليدية بحجة أن الدولة هي جهاز طبقي في يد الطبقة العاملة بوصفها الأكثرية؛ وفي آخر فقرة من كتابه “نقد العقلانية العربية” يحمد الله على أن الطبقة العاملة في بلادنا لم تنتصر وإلا كان وضعنا أسوأ بكثير (نقد العقلانية العربية، ص 363). إذ يفترض مرقص أن الطبقة العاملة في فرنسا وفي روسيا والكثير من الدول لا تشكّل الأكثرية ويعتبر أن العودة إلى تعريف الدولة عند أفلاطون وأرسطو قد يضئ بضع جوانب مهمة يتجاوز الطبقة إلى مفهوم مجموع الناس والمجتمع (حوارات غير منشورة، ص 220 – 223). من هنا يمكننا الاستدلال على قبول إلياس مرقص بثقافة مجموع الناس والمجتمع واحترامها، ولكن بشرط تحديثها وتجديدها على نحو شبيه بما نادى به محمود محمد طه (1916 – 1985) لفتح باب الاجتهاد.
وبالمقابل، ظهر تيار سيد قطب الذي اعتقد أن العلمانية هي ناتج خاص للمجتمع المسيحي (تنمية التخلف العربي، ص 63)، وكأن مشروع التطور النهضوي مرتبط بالعقيدة والإيمان والممارسات الطقوسية والاهتمام بالمظاهر، وكأنما يقوم بالتركيز على مفهوم الجزية لغير المسلمين بينما لا تعير هذه الأيديولوجية اهتماماً “بالجزية” التي تدفعها الدول الإسلامية على هيئة فوائد المديونية المترتبة على قروض العالم الثالث؛ وفيما تعتبر أن تحريم الفائدة مفهوم إسلامي بينما هو في الحقيقة من المفاهيم التي كانت مستخدمة في مجتمعات سابقة على الإسلام (Wayne, PP 175-198).
وفيما يرى سمير أمين أن الإسلام في حد ذاته ليس مسؤولاً عن تجمد الفكر العربي المعاصر، من حيث أنه يأمل في التكيف وفق متطلبات التطورات الاجتماعية من دون أن يخسر شيئاً من حيث العقيدة، فإن إلياس مرقص يتحدث عن لائحة الأضرار التي ألحقتها الأديان بالبشر عبر الحكم المطلق ثم التحالفات مع الرجعية ومع الجهل … إلخ، وعندما ذهبت سلطتها لجأت إلى إصدار كتاب “السيلابوس” الذي يستمطر اللعنات على من يفعل كيت وكيت، وذلك عام 1866 (نقد العقلانية العربية، ص 278-279). وهكذا نصل إلى السؤال: لماذا لا يقبل المشروع الإسلامي الثورة الثقافية كما قبلته المسيحية من قبله؟
يرى سمير أمين أن عدم حدوث الثورة الثقافة سببه عدم نضوج القوى الاجتماعية المحلية بحكم موقعها الطرفي في العالم الرأسمالي الذي انقسم إلى مراكز وأطراف، حيث باتت المراكز تهيمن على الأطراف على كافة الأصعدة؛ لذلك، وفي سياق المشروع الوطني التحرري، فإن من شأن العلمانية أن تحرر الدين من السلطة التي تهيمن عليه وتجعله يسهم في تقوية القناعة الفردية الحرة من العقيدة وفي الاستجابة للنزعات الميتافيزيقية التي تلازم فكر الإنسان ومشاعره وتلبية احتياجاتها من دون أن تصبح العقيدة مشروع “قطع رؤوس الآخرين”. وفي رأينا أن قبول إلياس مرقص بالدين القابل للتطوير هو دليل على إدراكه الواضح لعلاقات المراكز والأطراف المهيمنة والتي تعزز من الفكر الديني والثقافة التقليدية في مجتمعاتنا.
يعتبر سمير أمين أن النزاعات الاجتماعية في داخل المجتمع العربي الإسلامي نتج عنها تعددية مذهبية أنتجت قوى اجتماعية مختلفة، منها ما كان صاحب تأويل محافظ لأحكام الشريعة ومنها ما كانت مطالبه ثورية ونادى بالإصلاح الجذري، إلى حد ما، وصل بعضها مرتبة الشيوعية البدائية المتمركزة على الدين. ولما كانت طبيعة العلاقات الاجتماعية غير ناضجة للتطور في مجتمع خراجي الطابع انتهى الأمر إلى إقفال الطبقات الحاكمة لباب الاجتهاد وتأجيل المشكلة إلى يومنا هذا، حيث ما زالت هيمنة المراكز الرأسمالية على دول الأطراف قوية وتتعمق (بعض قضايا للمستقبل، ص 139).
يرى سمير أمين أن السلفية ليست حكراً على الأطراف فهناك حركات سلفية في داخل الرأسمالية المركزية أيضاً، مماثلة لسلفية الرئيس الأسبق رونالد ريغن، على سبيل المثال، والتي دعا فيها إلى “دين السوق”. ويبدو أن المراكز الرأسمالية أيضاً، كما شاهدنا في سلفية جورج بوش الابن، تتخذ طابعاً مسيحياً متصهيناً لتبرير مشروعها. فعلى سبيل المثال يرى سمير أمين أن ريغن اعتبر الدستور الأمريكي أشبه بقرآن، بينما هو دستور لم يمضِ على صنعه مئتي عام ونيف، واعتبر أنه يمتلك القدرة على الإجابة عن مشكلات الإنسان المعاصر جميعها وإلى أبد الآبدين (أزمة المجتمع العربي، ص 91 – 106). أما بوش الابن فلم يتردد في أن يذهب إلى الكنيسة صباح بدء قصف العراق الهمجي عام 2003 ليبارك الرب حربه المقدسة.
افتراضات أن هناك اقتصاداً إسلامياً أو اقتصاداً مسيحياً أو دستوراً ثابت لا يتغير هي ردود فعل واهية للبحث عن حلول سريعة للخروج من أزمات عميقة كحال المجتمعات العربية اليوم، بينما الحقيقة هي عكس ذلك، حيث أن المجتمعات تخضع لقوانين طبيعية ووضعية وليست هناك معاير ثابتة يقاس عليها لأن المجتمعات تتطور وترتقي وإذا ما تم تطبيق هذه المناظير السلفية عليها فإنها كمن يضع العربة أمام الحصان فيدمر الاثنين معاً. واستناداً إلى ما سلف فإن إعادة المجتمع إلى الأزمان الأولى، من دون النظر في الطبيعة المختلفة لنمط الإنتاج، لن ينجح لأن تجارب السلف كانت ناجحة لأنها تجاوزت عصرها في ذلك الوقت.
2- في الثقافة والتحرر:
أما فيما يتعلق بالبعد الثقافي وأهميته فلا يجوز إغفاله في علاقات الإنتاج وطبيعة النظر إلى الحكم، كما يصفها إلياس مرقص: ” الثقافة هي مركز الحس الإنساني المطلق الذي لا يمكن أن يكون تابعاً لأي ملاءمة عليا ..” (نقد العقلانية العربية، ص 568). وهذه الملاءمة ستنتهي لصالح البربرية والخراب، كما هي حال سوريا اليوم، فنحن نسترخص دم الإنسان باسم “الأمة” أو القومية طوراً أو باسم “الكادحين” تارة أخرى، ومن يقتل نفساً بحجة واهية يمكن أن يقتل مليون آخرين أو أكثر بالحجة الواهية ذاتها؛ لماذا في ثوراتنا تزهق أرواح كثيرة بينما في ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 لم يمت أحد (نقد العقلانية العربية، ص 284).
وفي ظل هيمنة المراكز، هل نستطيع تصور ثورة ثقافية في غياب مشروع فك طوق التبعية وتوسيع دائرة تمتع دول الأطراف بهامش أكبر من الاستقلالية، سواء عبر تحالفات طرفية / طرفية أو خلافه؟ وهل نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية على غرار ما حدث في الصين أو أنه ربما يمكننا الأخذ من هنا وهناك بما يناسبنا؟ أم أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ونظرة التوسع في فكرة إسرائيل الكبرى هي التي تفرز “لاهوت التحرر” المستند إلى الشريعة، كما حدث مع الأخويات الدينية التي نشأت في مقاومة الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، على سبيل المثال، عندما حاولت فرنسا طمس الهوية الوطنية والتراث على نحو مريع؟ وما نراه اليوم من مواجهة في غزة والتي اتخذت طابعاً إسلاموياً راديكاليا في مواجهة اليمين الإسرائيلي المتطرف والتي أدت إلى خلق إسلام سياسي على شكل دولة تقبع في سجن كبير يمكث خارج التاريخ والحدود السياسية والجغرافية للعالم وغدت مشروع انتحار جماعي أكثر منه مشروع تحرر.
وهل يمكن أن يتم أي تحرر ثقافي في إطار البنى السائدة في الأطراف حالياً والمرتبطة بعلاقات اقتصادية وسياسية مع أطراف لا تعد ولا تحصى، كما هي الحال في سوريا اليوم؟ ففيما كنا نتحدث عن رأسمالية مركزية، ربما غدونا اليوم أقرب إلى الحديث عن رأسماليات مركزية: رأسمالية أوروبية ورأسمالية أمريكية ورأسمالية يابانية … إلخ. كذلك فإننا الآن قد بتنا نتحدث عن رأسماليات طرفية في العالم، وهي رأسماليات روسيا وتركيا وإسرائيل وبعض دول الخليج! ألن تزداد أطروحة سمير أمين تعقيداً في ضوء هذا التشعب المتمركز حول بعضه البعض؟
في ضوء هذا التعقيد، لم يدخل الإنسان العربي في دول العالم النامي حالة من الاضطراب الفكري بعد، فما زلنا نعيش اليوم في مملكة “القائد البطل المغوار” حيث الحياة التعيسة وقمع الحريات، وحيث القبح والظلم، بينما ما برحنا نحلم بمملكة الله التي سوف تحقق لنا السعادة (في مقابل التعاسة) والحرية (في مقابل القمع) والجمال (في مقابل القبول بما هو قبيح) والعدالة (في مقابل الظلم)؛ واضح أن هناك عقدة ثقافوية في بلادنا باتت تجعلنا نرتد إلى الذات على نحو لاعقلاني مرعب نجده في حديث الشارع مع الناس، كما نجده في عقلية الطلبة حتى عند المستوى الجامعي، حيث باتت نقاشاتنا الفكرية منصبة على خلافات عقائدية وأحاديث عن الجن والشياطين والعفاريت والقدرية تذكرنا بالخلافات التي كانت تقوم خلال القرون الوسطى بين الرهبان والتي كانت في كثير من الأحيان تذكـّيها الكنيسة، فمثلاً قام أحد الرهبان بالتساؤل: كم من الملائكة يمكن أن نضع على رأس دبوس؟ وأدى ذلك إلى خلافات استمرت لعشرات السنين وأدت إلى نشوب حروب دامية بين الإقطاعيات؛ هذا مثال استخدمه سلامة موسى قبل ثمانين عاماً ونعود لاستخدامه اليوم لنعكس صورة أحوالنا التي لم تتغير بنيوياً؛ وهذا ليس بعيداً عما نراه اليوم من صراع مذهبي دام في العراق وسوريا واليمن.
يبدو لنا أن إلياس مرقص لم يكن معارضاً للفكر الديني بل كان يعترض على عدم وجود فكر ديني حقيقي (حوارات غير منشورة، ص 265) فهو يؤكد على ضرورة تمييز الدين عن الآيديولوجيا الدينية؛ إذ إن ” الفلسفة المعادية للاهوت والميتافيزيقا ليست فلسفة بل هي إلغاء للفلسفة” (حوارات غير منشورة، ص 266 – 267). وهكذا فهو يجعل الموقف العربي موقفاً ضائعاً أو محيراً بين موقفين: إما فلسفة دينية تلجم الفكر أو فلسفة وضعية – وضعانية علماوية تلغي الفلسفة. فكرة إلياس مرقص تتمحور حول ضرورة تأسيس الفكر الديني والسعي نحو تطويره. وهو يضرب ابن رشد مثلاً، وكيف يعتبر بعض الكتاب العرب أن فكره قد تم تشويهه في الغرب، في حين يقول إلياس مرقص إن هذا التشوه حقيقي وضروري لأنه ناجم عن الصراع مع أفكاره وفهمه وتطويره بينما نحن أبقينا فكرنا على ما هو عليه من دون تغيير، فأبقينا على ابن رشد جامداً هامداً.
ويفترض إلياس مرقص أن الفلسفة الأوروبية قد تطورت من رحم الفكر الديني، فها هو ديكارت، على سبيل المثال يطرد الأرواح من المادة بإقامته جوهرين: المادة والروح؛ وها هو كانط في نقده للعقل العملي والعقل المحض، حيث لا يمكن أن تفهم فلسفته الأخلاقية مثلاً من دون الأساس الديني (حوارات غير منشورة، ص 268 – 269). ويضرب إلياس مرقص في كتابه “نقد العقلانية العربية” موقف أحمد بن بللا مثلاً، والذي “حيّا فيه أوغسطين ومسيحية الكاتيدرائيات” (نقد العقلانية العربية، ص 549).
فالميتافيزيقا عند إلياس مرقص ليست كلمة سلبية المعنى بالضرورة فكتابات الماركسية التقليدية، من ماركس إلى إنجلز، تثمن الميتافيزيقا الكلاسيكية المتجسدة في أعمال ديكارت وأسبينوزا مثلاً (نقد العقلانية العربية، ص 551). إذن، هناك مرحلة إسلاموية ضرورية ينبغي تطويرها وتحديثها في سياق المشروع النهضوي المرتقب. فهل التاريخ يعيد نفسه إذاً؟
3- في المعاودة التاريخية:
يستشهد إلياس مرقص بياسين الحافظ لتبرير “المعاودة التاريخية” الذي أكد بأن التاريخ ليس تقدماً وتعاقباً فقط بل هناك معاودة للتاريخ كما يقول: “نجد في التاريخ ألحاناً أو مواويل تتكرر مرة ومرتين وثلاث وأربع، ولا يرون التاريخ تموجات أو نوعاً من سيمفونية، بل يرونه خط مستقيماً وتعاقبياً.” (حوارات غير منشورة، ص 272). وهذا المنطق يفتح المجال أمام التعلم من التاريخ واجتناب تكرار الأخطاء، وفي الوقت نفسه يسمح بتجاوز تعاقبية الثورات الماركسية (إقطاع، رأسمالية، اشتراكية)، لذلك فإنه لا يتفق مع فكرة هيجل بأن التاريخ هو مسيرة ارتقائية للعبودية صوب الحرية (نقد العقلانية العربية، ص 280) ويستشهد بما قاله ماركس في “رأس المال”: “اللانهاية التي لا تبلغها الأشياء في التقدم تبلغها في الدوران. ولينين ينقل عن هيجل أن العلم دائره مؤلفة من دوائر …” (نقد العقلانية العربية، ص 319). لذلك فإن إعطاء ” فكرنا النظري ما تستحقه الجذور الروحية، الجذور الثقافية العامة … ينبغي أن نؤكد علم الأخلاق وعلم الجمال والتاريخ وسائر العلوم القيمية المعيارية ضد الوضعانية العربية الدارجة” (عبد الله هوشه، موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر، ص 78).
إذن، فالتجديد المطلوب في فكر إلياس مرقص هو إعادة قراءة النص الديني وفهمه بطرح أسئلة، مثل: هل النبي معصوم؟ هل آدم وسليمان أنبياء؟ وهكذا دواليك. إذ يرى إلياس مرقص أن عصمة النبي جاءت بسبب القرآن بالرغم من أنه بشر، وأن الكثير من المسلمين يعتقدون أن آدم نبي، بينما هو خطّاء أيضاً، بل هو سبب الخطيئة البشرية التي انتقلت إلينا. ويشاركه في ذلك محمود محمد طه الذي يقول إن محمداً نبي معصوم في الكشف فقط أما عدا ذلك فهو رجل مثل جميع الرجال (حوارات غير منشورة، ص 276).
ويذهب محمود محمد طه أبعد من ذلك بقوله إن أي إدعاء بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية هو افتراء على الإسلام، لأنه يقسم الشعب السوداني إلى شمال وجنوب (موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر، ص 649 – 650) وقد كانت نظرته صائبة، فمنذ أن أعدمه جعفر النميري عام 1985 وها نحن بعد نحو ثلاثين عاماً من موته نرى كيف أدت محاولات تطبيق الشريعة إلى تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، الأمر الذي حرم الشمال من مصادره النفطية وممرات تصديرها إلى البحر، الأمر الذي أغرق الطرفين في أهوال ومجاعات وفرقة لم تتضح معالمها الحقيقية بعد.
يؤيد إلياس مرقص أي ثورة إسلامية هدفها التقدم والارتقاء، على عكس ما هو مطروح اليوم من ثورات إسلامية تستغني عن الحضارة وتعود في نماذج الحكم إلى الخلافة الراشدية. فإذا افترضنا أن أفضل أنواع الحكم الإسلامي، بعد الرسول، كان في ظل الخلافة الراشدية، فمن الذي يضمن ألا تتكرر الانحرافات التي تمت في العصور الإسلامية اللاحقة؟ فالسلطان سليم الأول قتل من الترك والفرس والعرب أكثر من مجموع قتلى الحروب الدينية في أوروبا المسيحية في القرن 16 في فرنسا وألمانيا؛ وعندما مات السلطان ثارت دمشق عام 1522 بقيادة الوالي المملوكي جان الغزالي، الأمر الذي استدعى إرسال الجيش الإنكشاري الذي اقتحم دمشق وقتل ربع سكانها (نقد العقلانية العربية، ص 356).
ثم كيف يمكن التأسيس لنظام تعيين الحاكم وعزله، وما هي أسس الشورى ونظام تعيين المجالس، وعددها؟ إذ ينبغي أن نتساءَل: لماذا رفض أبو حنيفة المشاركة في القضاء وقضى في السجن وجُـلد أمام الناس؟ أليس لأنه شعر بأنه قاصر عن فهم حدود الله؟ فلم يشأ أن يقع ظلماً على الناس إذا تولى القضاء.
على نحو مماثل يدعو تـُركي الحمد إلى الوقوف عند مسألة الحلال والحرام أسوة برسول الله، الذي نهى عن إنزال الناس على “حكم الله” لأننا لا نعلم إذا كنا قد أصبنا حكم الله فيهم أم لا؛ وهو رأي أبو حنيفة أيضاً. فالدين يحدد الأسس والمبادئ العامة والغايات، أمّا كيفية تحقيق ذلك في الممارسة العملية فمتروكة للناس لأنهم “أعلم بأمور دنياهم” (السياسة بين الحلال والحرام: أنتم أعلم بأمور دنياكم).
فالسياسة من أمور الدنيا، ولا يصح “التكفير” فيها لأن التكفير يقوم على أسس دينية واضحة المعالم، أمّا منطق الدولة فلا علاقة له بالأخلاق أو الفضائل، هكذا تعلمنا من التاريخ، فالدولة إذا لم تكن براغماتية مطواعة للمتغيرات زالت عن الوجود. فمنطق الدولة ميكيافللي النزعة يقوم على حقيقة أنّ مصلحة الدولة فوق الجميع، وبقاء الدولة هو الأهم.
كما أن هناك حدوداً لفرض الأخلاق على المجتمع، كقصة عمر بن الخطاب مع العاشقين داخل أسوار بيتهم، بعد أن سمعهما يضحكان بمجون، فتسلق السور وأراد عقابهما، فقال له الفتى: «على رسلك يا أمير المؤمنين …. فإن كنا اقترفنا ذنباً، فقد اقترفت ثلاثة: تجسّست، ولم تدخل البيوت من أبوابها، ولم يؤذن لك». فغادر عمر من دون أن يفعل شيئاً. فهناك جانب من الأخلاق له صبغة فردية لا يتداخل مع القانون الذي تفرضه الدولة. فالزنا مثلاً من الأمور الأخلاقية المرفوضة، ولكنّ إثباته في الإسلام شاق للغاية وشبه مستحيل، فالمسألة تعود إلى الوازع الأخلاقي والقاعدة الأخلاقية الجمعية للأمة، فضلاً عن التربية والتعليم بصورة أساسية (موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر، ص 125).
4- في الإسلام والقومية:
هناك مسائل أخرى بحاجة إلى توضيح ومناقشة وبخاصة موقف إلياس مرقص من التمييز بين الإسلام بوصفه عقيدة، والعروبة بوصفها قومية، واعتباره أن الكلام عن وحدة العروبة والإسلام وترابطهما فيه خلط، حيث أن المعرفة تبدأ من فصل هذه المفاهيم عن بعضها البعض. ويؤيده في ذلك ساطع الحُصْري الذي يعارض إقحام الدين في القومية لمخالفته روح البحث العلمي، إذ رأى أن الحضارة العربية كانت سائدة ومزدهرة قبل الإسلام. والدليل يأتي من الكلمات التي تدل على معانٍ مجردة جداً، وهي مستخدمة في القرآن بطريقة رائعة لتوصيل الرسالة الفكرية. أمّا الإسلام فقد أسهم في تقدّم القومية العربية وتوسعها، وحافظ على اللغة العربية من التفتت والضياع (موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر، ص 285). ولكن إلى أي مدى أدى هذا الجمود في قواعد اللغة إلى تجميد العقل العربي فهي مسألة بحاجة إلى بحث.
يتفق طارق البشري مع كل من إلياس مرقص وساطع الحصري بإدراكه أنّ الأمر الذي يعيق وحدة الإسلام والعروبة هو رؤية التيار الإسلامي في تطبيق الشريعة الإسلامية، فعند ذاك يسقط مفهوم المواطنة عن أتباع الديانات الأخرى، فنعود للحديث عن “أهل الذمة” و”حقوق الأقليات” وننتهي إلى القياس على التجارب التاريخيّة، كما حصل مع سيّد قطب عندما أخبرنا أن الإسلام قد دلل الأقليات القومية والدّينيّة كما لم يدللها نظام آخر في التاريخ!
التغيير ضروري للتقدم، رغم أن كل تغيير ليس بالضرورة تقدمياً؛ وكي يتحقق التقدم ينبغي أن يكون هناك اصطفاء طبيعي Natural Selection وهو القانون الداروني الطبيعي الذي يزداد رسوخاً ومصداقية عقداً بعد آخر. وبطبيعة الحال فإن الاصطفاء أو الانتخاب الطبيعي بحاجة إلى تنوع حتى يتفعل قانون الاصطفاء الطبيعي؛ وهذا ما لا يدركه الإسلاميون والقوميون والماركسيون معاً (نقد العقلانية العربية، ص 290).
خلاصة رؤية طارق البشري التي نظن أنه يتشارك فيها مع إلياس مرقص هي أن التيار الإسلامي راسخ الجذور في البنية العربية ولا يجوز إهماله، فهو قادر على العطاء في مواجهة المخاطر المحدقة بالأمة العربية والإسلامية، فيما تشكـّـل العقيدة باعثاً معنوياً للقتال لا يمكن تحييدها لتحقيق النصر. ولكننا نتوقع من إلياس مرقص أن يسائله عن الحرية الفردية، لأنه لا يقبل “بلفلفة حق الإنسان المجرد، لا لصالح الطبقة ولا لصالح الأمة أو غير ذلك” (نقد العقلانية العربية، ص 568)، كما حدث في سوريا بحجة “الممانعة”. وكذلك نتوقع أن يرد عليه بشأن العقيدة، لأنها تتغير من عصر إلى آخر، فكيف نفسر تحرر الشعوب التي ليس لديها عقيدة دينية، كثوار فيتنام وحروب التحرير السوفياتية وغيرهما؟
5- في حتمية الحداثة:
اتضح لنا سابقاً أن العقلية السلفية في بلادنا ربما كانت شرط استدامة الأنظمة الاستبدادية فيها التي رعتها وتحالفت معها، فيما نظر إليها إلياس مرقص بأنها ليست مشكلة كبيرة إذا تم تحديثها. فيما قبلها سمير أمين كوجه آخر لسلفية عالمية معاصرة عند حديثه عن سلفية الرئيس الأمريكي السابق ريغن “دين السوق” وسلفية الرئيس بوش الأب والابن فيما يتعلق بالمسيحية المتصهينة.
ولكن هشام جعيّط ينتقد مفهوم “الثورة” لدى التيار الإسلامي في كتابه “أزمة الثقافة الإسلامية: التحديث المعتدل”، ففي رأيه أن النزعة الثورية في الإسلام المعاصر ما هي سوى احتجاج على احتقار الغرب للإسلام. ويعتقد أنه حتى لو استأثرت التيارات الإسلامية بالحكم فإنها سوف ترجع “إلى الحداثة بقوة كبيرة ومجّ الإسلام جملة” (أزمة الثقافة الإسلامية، ص 11)، لأنه المجرى الحتمي للتاريخ، ولكن هل يتضح ذلك تماماً من التجربة التركية، وإلى حد ما في التجربة التونسية؟
فإذا لم تكن المشكلة في الدين بذاته هل المشكلة تكمن في العلاقة بين العلم والدين؟
يتضح من حوارات إلياس مرقص أنه صراع قادته البرجوازية الصاعدة المستقلة في أوروبا، وأن نمو العلم ترعرع وانطلق من رحم الفكر الديني كحال فلسفة ديكارت وكانط واسبنوزا … إلخ؛ ولكننا نرى أن السلفية العربية المعاصرة هي نمط مختلف، حيث جاءت مذهبية الطابع بامتياز، وقد فسر سمير أمين ذلك بقوله أن البنية الاجتماعية السياسية لم تستطع أن تتجاوز ذاتها (بوصفها خراجية الطابع) فتركت القضايا معلقة إلى يومنا هذا. ومن جانب أخر نرى أنها جاءت كرد فعل على الاضطهاد الداخلي الذي عانت منه المجتمعات العربية فاندفعت صوب اقصى اليمين أو اقصى اليسار، فما الفرق بين الإجرام الرسمي السوري وقصف إسرائيل لغزة؟ بل قارنوا بين أعداد المعتقلين في السجون السورية وبين أعداد المعتقلين في سجون الصهاينة!
ومهما يكن من أمر، فإن الحداثة ليست حتمية تاريخيّة بالضرورة، في بلادنا على الأقل، ولكن بالمقابل يجب ان نعترف أن الأمم التي حافظت على وجودها لم تتخلف عن ركب الحضارة أبداً كما يؤكد لنا التاريخ. فمشكلتنا ليست في دخول الحداثة إنما في تباطؤنا في الدخول فيها. والقطع مع الدين قادم لا محالة وسوف يطال الإسلام والهندوسية وغيرها من حضارات الأديان التقليدية التي تخلفت عن الركب، ولو بعد زمن (أزمة الثقافة الإسلامية، ص 194). وبالرغم من ذلك سوف تظل الهوية موجودة، فلا خوف عليها من الاضمحلال، كما حدث في الصين وروسيا، فبالرغم من التحوّلات العاصفة بها ظلت الهوية موجودة. فالهوية شعور طبيعي بالأنا الجماعية الضرورية للبقاء في مرحلة ما، ولكننا نسعى للارتقاء صوب المستوى الإنساني الأشمل وصوب تصور أرقى لمعنى الحياة.
إذاً، هل نحن أمام إشكالية لولبية في التاريخ، أم معاودة تاريخية، أم تعاقبية تسير في خط مستقيم، أم ماذا؟ يخلص إلياس مرقص إلى أننا بحاجة إلى ثورة إسلامية داخلية، فهو يعتبر أننا في حاجة إلى فلسفة ميتافيزيقية لسد حاجاتنا النفسية والروحية، ولكن هذه الثورة يجب أن تنهى عن إنزال “حكم الله” لأننا بشر نصيب ونخطئ ولأننا لا نستطيع أن نحقق العدل تماماً بفعل نسبية معارفنا والشك فيما إذا أصبنا في الحكم أم لا، لذلك كله فإن التجديد ضرورة موضوعية، وهو ينبع من قانون طبيعي داروني يتمثل في قانون الاصطفاء الطبيعي الذي بات يزداد رسوخاً بمرور الوقت، فإذا لم نستجب لهذا القانون الضروري للتطور فسوف نندثر كحال الكثير من الكائنات الحية التي لم تعد موجودة منذ نشأت الحياة على الأرض، كالماموث والديناصورات وما إليهما.
المصادر والمراجع:
1- أيّوب أبو ديّة، تنمية التخلف العربي: في ظلال سمير أمين، بيروت: دار الفارابي، 2004.
2- أيّوب أبو ديّة، موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر، ط2 معدلة ومنقحة، عمّان، 2008.
3- أيّوب أبو ديّة، العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة، بيروت: دار الفارابي، 2009.
4- إلياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دمشق: دار الحصاد للنشر والتوزيع، 1997.
5- إلياس مرقص: حوارات غير منشورة، أجراها طلال نعمة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013.
6- تركي الحمد، السياسية بين الحلال والحرام: أنتم أعلم بأمور دنياكم، ط1، بيروت: دار الساقي، 2000.
7- سمير أمين: أزمة المجتمع العربي، القاهرة: دار المستقبل العربي، 1985.
8- سمير أمين، بعض قضايا للمستقبل: تأملات حول تحديات العالم المعاصر، بيروت: دار الفارابي، 2004.
9- هشام جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، ط3، بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع، 2004.
10- Wayne A.Mrisser and A.McIntosh, “History of Usury Prohibition, Accounting, Business and Financial History”, 8:2, Routledge, London, July 1998.