ترجمة طريف بن عيد السليطي
يوهان جوتفريد فون هيردر (1744-1803) هو فيلسوف ذو أهمية قصوى، وهذا الحكم مبني على أفكاره المهمة والجوهرية التي تطمح هذه المقالة أن تعطي انطباعاً عنها. فبجانب أفكاره القيِّمة، هناك تأثيره الفكري العارم في الفلسفة وما يتجاوزها، وهو تأثير يفوق التصور المعتاد عنه. فمثلاً فلسفة هيجل، اتضح أنها في جزء كبير منها ما هي إلا إيضاح منظَّم ومتطور لأفكار هيردر (خصوصاً فيما يتعلق باللغة، والعقل، والتاريخ، والإله) والأمر نفسه ينطبق على شلايرماخر (وذلك فيما يخص اللغة، والتأويل، والترجمة، والعقل، والفن، والإله) وبالمثل فإن نتشه تأثر بهيردر وبعمق (في اللغة والعقل والتاريخ والقِيَم) وأيضاً دلتاي (خصوصاً في التاريخ) وحتى جون ستيوارت مل يدين بالكثير لهيردر (في الفلسفة السياسية) أما خارج الفلسفة فكان جوته مجرد أديب تقليدي حاذق، وتحول بفضل أفكار هيردر وأثرها المبكر عليه، إلى فنان عظيم.
يحق لهيردر وبكل تأكيد أن يزعم تأسيسه لمجالات بكاملها، مجالات نتعامل معها الآن كمسلمة. فهو الذي جاء بالأفكار التأسيسية حول تبعية الفكر الحميمية للغة وهي أفكار ترتكز عليها فلسفة اللغة الحديثة (وليس هامان Hamann كما زعم كثيرون). إن هيردر بفضل هذه الأفكار، قد أدرك التنوّعات العميقة في اللغة والفكر عبر حقب تاريخية وثقافات مختلفة، وتصوره للدور المحوري للنحو داخل اللغة بجانب الاختلاف العميق بين اللغات، ونهجه التجريبي في دراسة اللغات، وطرائقه الأخرى، كل ذلك قد ألهم فريدريك شليجل وفلهلم فون همبولت وآخرون في إرساء اللغويات الحديثة. إن هيردر هو من طوَّر نظرية التأويل الحديثة، أو ]الهرمونيطيقا[ وبطرق شتى، ثم تبناها شلايرماخر لاحقاً ووجدت صيغتها المنظَّمَة عند تلميذه أوجست بوك Boeckh. ساهم هيردر أيضاً في الأصول المنهجية للدراسات الكلاسيكية الألمانية، وهي مساهمةٌ وجدت طريقها في منهجية شلايرماخر وبوك وجل الدراسات الكلاسيكية التالية عليهما، كما أنجز هيردر أكثر من غيره في الأنثروبولوجيا الحديثة من ناحية تصورها العام والمنهجية التأويلية لها. أخيراً، قام هيردر بإسهامات هامة للغاية في الدراسات الإنجيلية الحديثة.
1- حياته وأعماله
2- أسلوبه الفلسفي
3- برنامجه الفلسفي العام
4- فلسفة اللغة، والتأويل، والترجمة
4-1 فلسفة اللغة: اللغة، الفكر، المعنى
4-2 نظرية التأويل (الهرمونيطيقا)
4-3 نظرية الترجمة
5- دور هيردر في ولادة اللسانيات والأنثروبولوجيا
6- فلسفة العقل
7- الجماليات
8- فلسفة الأخلاق
9- فلسفة التاريخ
10- فلسفة السياسة
11– فلسفة الدين
12- تأثيره الفكري
13- ملحق النقاش
المراجع
أدوات أكاديمية
مصادر أخرى على الإنترنت
مداخل ذات صلة
1- حياة هيردر وأعماله
يوهان جوتفريد هيردر (1744- 1803) من مواليد مورينجين شرقي بروسيا. نشأ في ظروف متواضعة حيث كان والده مدرساً. التحق عام 1762 بجامعة كونيجسبرج ودرس مع كانط الذي منحه امتيازات خاصة بالنظر لقدراته الفكرية المتوقدة. كما ارتبط في هذه الفترة بصداقة استمرت مدى الحياة مع فيلسوف اللامعقول هامان Hamann. في عام 1764 غادر كونيجسبرج لينال وظيفة التعليم المدرسي في ريجا Riga فكتب هناك مقالته المرجعية ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس” (1765) ونشر كتابه الرئيسي الأول الذي يهتم بفلسفة اللغة والأدب ” شذرات في الأدب الألماني الحديث ” (1767-8)؛ ثم نشر كتاباً مهماً في الجماليات ” الغابات الحرجة ” (1769). في عام 1769 استقال من وظيفته وارتحل أولاً إلى فرنسا ثم ستراتسبورج حيث التقى بجوته الشاب عام 1770 والذي تأثر بهيردر تأثراً قوياً. وفي عام 1771 فاز هيردر بجائزة برلين الأكاديمية نظير عمله البارز “مقالة في أصل اللغة” المنشور عام 1772. وعمل بين عامي 1771-1776 واعظاً في قاعةٍ تابعة للبيت الحاكم في بوكيبيرج Bückeburg. أهم أعماله هذه الفترة هي مقالته “شكسبير ” عام 1773وكذلك مقالته الرئيسية والأولى عن فلسفة التاريخ ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني ” عام 1774. في عام 1776 تم تعيينه مشرفاً على رجال الدين اللوثريين في فيمار ويعود الفضل لجوته في ذلك، وقد احتفظ هيردر بهذا المنصب طيلة حياته. نشر هيردر في هذه الفترة مقالة هامة في فلسفة العقل ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية” عام 1778. وأنجز عملاً بالغ الأثر عن العهد القديم بعنوان ” في روح الشعر العبري ” 1772-1773. أما عمله المطوَّل في فلسفة التاريخ فكان ” أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني ” 1784-1791 بالإضافة لمقالة ذات تأثير كبير في فلسفة الدين “الإله: شيء من المحادثات” (1787) وثمة عمل ألَّفه هيردر في الفلسفة السياسية تجاوب فيه مع الثورة الفرنسية بعنوان “رسائل من أجل تقدم الإنسانية “ 1793-1797. وسلسلة من الكتابات المسيحية تتعلق بالعهد الجديد (1794-1798) وأتمَّ عملين يعارضان فلسفة كانط النقدية، وهما: “النقد لنقد العقل المحض ” (1799) وقد وجهه ضد الفلسفة النظرية لنقد العقل المحض لكانط والمؤلَّف سنة 1781-1787 والكتاب الثاني “كاليجوني Calligone“وجهه هيردر ضد جماليات كانط الواردة في كتاب نقد مَلَكة الحكم (كانط 1790). يضاف لذلك كتابات أخرى في مشواره الفكري علاوةً على الأعمال المذكورة.
كانت أعمال هيردر المبكرة هي أفضل ما أنتج، وفي كتابه “عن المعرفة والإحساس” (وهي مقالة تعج بالعناوين المختصرة) ذكر هيردر الآتي: ” إن العمل الأول للكاتب له طابع الجرأة وعادة ما يكون أفضل مالديه .. فوهجه مشع، وروحه مثل إشراقة الفجر“. (الكتابات الفلسفية: 219) وسواء أكان كلام هيردر صحيحاً أم لا، فإن ما قاله ينطبق عليه.
2- أسلوب هيردر الفلسفي
تعد نصوص هيردر الفلسفية سهلة القراءة مقارنة بمعاصريه. يتجنب هيردر الرطانة الاصطلاحية ويكتب نصوصاً زاخرة بالحيوية ومليئة بالأمثلة عِوضاً عن الأسلوب الجاف والمجرد. ليس لهيردر نسق كبير ومعقد كي يتيح للقارئ رصده ومتابعته، ومع ذلك فإن نصوص هيردر ذات فرادةٍ قد تحجب الفهم الملائم عن القارئ وتحول دون إيلاء هيردر قدره المستَحَق، ومن الأجدى للقارئ أن يفطن لذلك.
علينا أن نقول في البداية أن كتابات هيردر تبدو عاطفية وغير منضبطة نحوياً، للحد الذي قد تنتمي فيه إلى الخطاب العادي وليس النص الفلسفي. لا شك أن هذا مقصود من قبل هيردر الذي تعمَّد الفجاجة والسير بهذا الاتجاه في مسودَّاته. ولهيردر أسبابه الفلسفية وراء ذلك: (1) من شأن ذلك أن ينشر كتاباته على نطاق واسع ويثير اهتمام الناس، وهو هدف جاد بالنسبة له خصوصاً أن الفلسفة – باعتقاده – يجب أن تحظى بدور اجتماعي بارز. (2) يرى هيردر تفوق الخطاب الشفوي من الناحية التعبيرية على حساب الكتابة. (3) من أهم أطروحاته المركزية في فلسفة العقل؛ أن الفكر لا ينفصل عن الإرادة أو الشعور، وأن ضروب الفكر- كالكتابة الأكاديمية التقليدية – حين تنحّي الشعور، تصبح شائهة ورديئة، بخلاف الخطاب العفوي والكتابة التي تحتذي به. (4) يعارض هيردر كل تقييد معجمي ونحوي للغة، ويقف ضد الطاعة العمياء للقواميس والكتب، ويرى أن هذا التقييد معادٍ للإبداع والابتكار اللغوي، وسيء أيضاً للفكر، بحكم أن الفكر معتمدٌ على اللغة وما تتيحه من مساحة، وهذا ما يعود بالضرر على النزعة الإبداعية والتجديدية للفكر نفسه.
ثمة ميزة أخرى لنصوص هيردر الفلسفية وهي طبيعتها غير المنظَّمة، وهذا متعمّد من قبل هيردر أيضاً، فكان هيردر معارضاً للكتابة النسقية في الفلسفة وهذا ما يتضح لنا في ملاحظاته وحتى في عناوين كتبه (شذرات من كذا، أفكار، إلخ) فكان هيردر في موقف مضاد من النسقية الشائعة في كتابات سبينوزا وولف وكانط وفيشته وشيلنج وهيجل. وقد أبدى هيردر معارضته لنموذج النظرية الشاملة هذا الذي يشتق فيه الجزء من الكل بشكل صارم، وأسبابه خلف هذا الموقف المعارض تكمن في التالي: (1) يشك هيردر في جدوى هذه الأشكال النسقية، فهي غير خلاقة وتدفع نحو الوهم. (2) يعتقد هيردر أن البناء النسقي يقود إلى إنهاء البحث قبل أوانه، وبالأخص حال توفر الأدلة التجريبية المستجدة إذ تهملها الأنساق أو تعمل على تشويهها، وبمجرد التدقيق بهذه الأنساق ستبرز لنا هاتين الملحوظتين. إن هجوم هيردر المدعَّم ضد هذا النوع من النسقية قد أسس لتقاليد مضادة في الفلسفة الألمانية (وهو ما يتضمن لاحقاً فريدريك شليجل، ونتشه، وفتجنشتاين، وأدورنو).
وفي الضفة الأخرى يَدين هيردر لنسقية أكثر تواضعاً، أي النظرية المتماسكة في ذاتها والمدعَّمة بالحِجاج (وهي نقطة مهمة تناقض ما جاء به هامان Hamann الذي انتقده هيردر لفشل مقالته عام 1765 وعنوانها ” ترانيم الفتنة Dithyrambic Rhapsody “). كان هيردر على الدوام سائراً على هذا النموذج المتشعب، لهذا فشرح هيردر يتطلب المزيد من الاطلاع على كتاباته وإعادة بناء أفكاره أكثر من الفلاسفة الآخرين. وأياً يكن، فإن قصور هيردر النسقي له بواعثه الحقيقية: فأولاً وحينما يظهر عدم التماسك في كتاباته فإن سبب ذلك يرجع لطريقته الحِوارية في الكتابة حيث يعرض لوجهتي نظر متعارضتين، وفي هذه الحالة سيكون من الشنيع اتهامه بالتهافت أو الانتقاص منه بسبب ذلك. أيضاً وفي حالات أقل، ومن خلال أسلوبه في الحوارات وعدم اكتراثه بإيضاح موقفه فيها، فإن هذا ما يتسبب باتهامه بعدم التماسك وهو بريء من ذلك (مثل كتابيه “ قابلية الفلسفة لأن تصبح كونية ونافعة للناس” و “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني“). ولهيردر بواعث جادة خلف هذا النهج الحواري الذي يتخلل كتاباته: (1) فأحياناً يبدو الدافع متعلقاً بمسائل دينية أو سياسية حساسة بالكاد تسمح له بتوضيح موقفه، مما يحدوه إلى عرضها ضمن حوارات وكأنها ليست له، وهذا ما يجنبه كثيراً من المشاكل. (2) ثمة سبب فلسفي أعمق وهو أن هيردر يتبنى طريقة ماقبل الكانطية (والتي استلهمها من الشكاك القدماء) في أن أحسن طريقة للفيلسوف نحو تقصي الحقيقة هي أن يعرض وجهات النظر المتعارضة في موضوع ما، فيتقدم للأمام، آملاً أن يبلغ الحقيقة عبر هذين الرأيين وهما يمتحنان بعضهما ويعدلان قصورهما (وهي فكرة وجدت صداها عند جون ستيوارت مل في أطروحته المركزية “في الحرية” 1859). وهذا ما يولد دافعاً أقوى من جانب هيردر لتبني الطريقة الحوارية حتى وإن لم تفِد هيردر في النتائج القطعية، فبإمكانه من خلال ذلك أن يطرح سؤالاً بلاغياً فيما إذا كان ذلك سيشكل أي اختلاف في مسار البشرية وسعيها لكشف الحقيقة فيما لو كانت هذه المواقف المتنوعة والمتعارضة تتقدم بنا عبر أشخاص مختلفين أو عبر شخص واحد؟ أيضاً فإن ما يظهر باستمرار من تجاهل هيردر للحجج ليس سوى تجاهل لحجج من نوع محدد. فعلى سبيل المثال يلتزم هيردر بشكل عام بالتجريبية ويعارض القِبلية في الفلسفة، وهذا ما يحدو به إلى تلافي الحجج القِبلية المألوفة في الفلسفة كي يلتزم بالنزعة العاطفية في الأخلاق sentimentalism والتي قادته إلى الامتناع عن الحجاج المعرفي في الأخلاق.
3- برنامجه الفلسفي العام
بالغت الأدبيات الثانوية في حجم تأثير هامان على هيردر (وهذا ما فعله إيزايا برلين) وبخلاف هامان فإن تأثير كانط كان مبكراً وعميقاً ودائماً. وعلى أي حال فإن كانط المؤثر بهيردر هو كانط قبل المرحلة النقدية أواسط الستينات من القرن الثامن عشر. لم يتأثر هيردر بكانط النقدي الذي اشتبك معه هيردر حول مابعد النقد وكتاب كاليجوني، في سجالاتٍ عامة سادها التشويش واللاجدوى.
تناقضت بعض الآراء الرئيسية في فكر كانط (ماقبل المرحلة النقدية) في الستينات من القرن الثامن عشر، مع ما تبناه كانط في مرحلته النقدية، ومنها: النزعة الشكية لدى كانط ذات المسحة البيرونية، كذلك نسخته التجريبية الخاصة، والمنحى العاطفي في الأخلاق والذي أفاده من هيوم. لقد تبنى هيردر هذه الاتجاهات في الستينات من القرن الثامن عشر واستمر عليها طيلة مشواره الفكري. ولا يجدر بنا القول إن دَين هيردر تجاه كانط سببه تضليل كانط الفلسفي له في البداية، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح.
إن مقالة هيردر عام 1765 وعنوانها “قابلية الفلسفة لأن تصبح كونية ونافعة للناس ” لهي نص مهم في معرفة دَين هيردر تجاه كانط، كما يمكن أن نستنبط منها المسار العام لفلسفة هيردر. لقد كتب هيردر هذه المقالة تحت تأثر بالغ بكانط وبالأخص مقالة كانط عام 1766 ” أحلام عراف الأرواح ” والذي أرسل منه كانط نسخة لهيردر قبل نشره (Herder reports B2:259).
تجيب مقالة هيردر على سؤالٍ خصصت له جمعية بيرن في سويسرا جائرة، وهو: ” كيف يمكن لحقائق الفلسفة أن تصبح كونية ونافعة للناس؟” وكان إدراك السؤال عميقاً في روح الفلسفة الشعبية والتي تنافس الفلسفة الأكاديمية في العالم الناطق بالألمانية. وكاد كانط أن ينتسب للفلسفة الشعبية في تلك الحقبة، والأمر ذاته ينطبق على هيردر بدليل اختياره الإجابة على هذا السؤال. لكن في هذه الحالة سيكون هذا الانتساب للفلسفة الشعبية دائماً مدى الحياة وهو ما يعني نفعها لكافة الناس وارتباطها بهم، وهو نموذج سارت عليه فلسفة هيردر.
خدمت هذه المقالة نموذج هيردر الإنساني وحاججت من أجل إرساء منعَطفين حادَّين في الفلسفة، كان أحدهما مستمراً معه طيلة مشواره الفلسفي، ويتعلق برفض الميتافيزيقا التقليدية متماشياً مع حجة كانط في“ أحلام عراف الأرواح” وهاهنا تقريب حجة هيردر وفق التالي: (1) عندما تخوض الميتافيزيقا التقليدية في التجربة المتعالية وما تتضمنه من معرفة تجريبية، وأخلاق اعتيادية، ومنطق حدسي، ورياضيات، فإنها تتورط في ادعاءات لا حل لتناقضاتها. ومن ثم تسقط في البيرونية (الشكوكية). إن إشكالية الشك تتعلق بقضيتين تتساويان في الإقناع مما يؤدي لتعليق الحكم. قال هيردر: ” إنني أوجه ما أكتبه نحو الشكاكين البيرونيين ” [HPW8] ويذهب هيردر إلى الإضافة لشذراته بين عامي 1767-1768 حقيقة أن النظرية التجريبية الواسعة في مفاهيمها ومصطلحاتها وكذلك الميتافيزيقا التقليدية، تفتقدان للأساس التجريبي المنشود الذي يمنح المعقولية، مما يجعل التجريبية والميتافيزيقا خاويتين من المعنى، والوهم المرتبط بالمعنى يتعلق باللغة وما تلعبه من دور في خلق أوهام المعنى ومن ثم نبذ المعطيات التجريبية. (2) ليست الميتافيزيقا خاوية من المعنى بسبب ما تقدم فحسب، بل إنها ضارة، لأنها تشتت انتباه أتباعها وتبعدهم عن القضايا التي يجدر بهم التركيز عليها؛ وأهمها الطبيعة التجريبية والمجتمع الإنساني. (3) أما المعرفة التجريبية، أو الفهم الصحي والقويم، فهما متحرران من هذه المشاكل، وعلى الفلسفة أن تتأسس وتمتثل وفقاً للتجربة.
يتجه المنعطف الثاني والحاد في فكر هيردر نحو الأخلاق، ويدين هذه المرة أيضاً لكانط في مرحلته ماقبل النقدية، ويذهب أبعد منه في هذا الاتجاه. تتلخص دعاوى هيردر في التالي: (1) إن الأخلاق مسألة عواطف لا مسألة عقل. (2) إن النظريات العقلية حيال الأخلاق والتي تبناها عقلانيو تلك المرحلة مثل وولف، أو من سبقه كـ أفلاطون وكانط النقدي، أو من تلاه مثل جورج إدوارد مور، كلها مبنية على خطأ، ولن تفضي إلى استنارة أخلاقية أو تطور بهذا الصدد. (3) والسيء في الأمر، وهنا يذهب هيردر أبعد من كانط القديم، يتعلق في كون هذه النظريات مضرة بالأخلاق، فهي تعمل على إضعاف العاطفة الأخلاقية مع أنها حاضنة الأخلاق. ففي مقالتيه ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني “ و “عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية ” يقدم هيردر أسبابه حول رفضه التنظير المجرد للأخلاق، وأنه يضعف العواطف في عمومها لاسيما الأخلاقية منها (ولعل هذا أقل الأسباب إقناعاً من قبل هيردر) كذلك يتضح أن النظريات المعرفية والإدراكية cognitive غير مقنعة بتاتاً وتشوه سمعة الأخلاق، إذ سيفكر الناس أخلاقياً ضمن خطوط عقلانية. ذكرَ هيردر: “لو كان هذا أفضل ما توصل إليه الخبراء بهذا الشأن في شرح وتبرير الأخلاق فلا بد وأن تكون الأخلاق زائفة وسأفعل ما يحلو لي وأتجاهلها “. إن هذه النظريات الإدراكية تشتت الانتباه عن المصدر الحقيقي للأخلاق أي العواطف، فهي ليست مجرد صورة مجردة ومتخيلة بقدر ما هي مجموعة من الآليات السببية التي ترسخ وتحفظ العاطفة الأخلاقية. (4) يسعى هيردر وفقاً لهذا المسار البنائي إلى الاستكشاف النظري وإشاعة تطبيق الآليات السببية للعاطفة. ففي كتابه ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس” يشدد هيردر بشكل رئيسي على طرائق التعليم ويتبنى الوعظ الترغيبي ويربطه بالأخلاق. ولكن في مواضع أخرى يتبنى آليات أخرى ويدعو لها. وهذا يشمل تأثير القدوات من الأفراد، والشرائع المرتبطة بالأخلاق، والأدب (ومعه صور أخرى من الفن) فنال الأدب حيزاً من تفكير ونظر هيردر، ووجد في الأدب محفزاً للأخلاق من عدة جهات، فلا يقتصر الأمر على التوجيهات الأخلاقية المباشرة، ولكن أيضاً من خلال خلود الأدب وقدرته على خلق القدوات (مثل المسيح في العهد الجديد) وكذلك عبر معايشة القراء للحياة الوجدانية لدى الآخرين؛ وهو الأمر الذي يعزز من تعاطفهم (وهذا هو الدافع الخفي خلف نشره لكتاب الأغاني الشعبية Volkslieder 1774/1779-9) وهي مجموعة من قصائد مترجمة لشعراء من أرجاء العالم. إن تطوير هيردر لهذه النظرية وتطبيقاتها الأخلاقية البيداغوجية قد استمر معه طيلة حياته وبلا كلل.
4- فلسفة اللغة، والتأويل، والترجمة عند هيردر
ما كتبه هيردر في “مقالة في أصل اللغة ” والمنشور عام 1772 هو الأشهر من بين أعماله في فلسفة اللغة على الإطلاق. مع ذلك، يحتل هذا العمل مكانة دونية بين ما كتبه هيردر إذا ما قورن بأعماله الأخرى كالشذرات أو مقالة عن المعرفة والإحساس، فلا ينبغي لذلك أن يغيب عن البال.
تهتم مقالة هيردر حول أصل اللغات بالسؤال عن أصل اللغة، وحول إمكانية تفسير هذا الأصل عبر الطبيعة والإنسان (لا كما ادعى يوهان زوسميلش عندما أعطى اللغة مصدراً مقدساً). يحاجج هيردر لصالح الأصل الطبيعي للغة وتبدو حجته مقنعة بهذا الصدد، خاصة حين يستمد حججه الإيجابية من كتاب الشذرات. لكنها حججٌ قد لا تثير اهتمام الفيلسوف الحديث تجاه آراء هيردر اللغوية، فهي تصبطغ بخلفية هيردر الدينية والتي لم تعد تهمنا، فما يهمنا حقاً هي ثلاث نظريات طورها هيردر: فلسفة اللغة (وتدخل في صميم طبيعة اللغة والفكر والمعنى) ونظرية التأويل، ونظرية الترجمة. تتواجد هذه النظريات متناثرة في أعمال كثيرة لهيردر. وسوف نلقي الضوء على سماتها الأساسية.
4-1 فلسفة اللغة: اللغة، الفكر، المعنى
كان هيردر في منتصف الستينات من القرن الثامن عشر، في منشورَيه “ فهم العديد من اللغات المعلومة ” 1764 و” الشذرات ” 1767-1768 قد أوجد ثلاث أطروحاتٍ في هذا المجال:
1- إن الفكر يعتمد بشكل جوهري على اللغة وهي التي تشكل حدوده، فالمرء لا يمكنه التفكير إلا عبر اللغة، ولا يمكنه التفكير دون قدرته على التعبير اللغوي (تسيدت هذه الأطروحة كتابه المذكور “فهم العديد من اللغات المعلومة” وكتاب ” الشذرات” ويحسب لهيردر أنه لا يتطرف في طرحه، أما أطروحاته الفلسفية غير الرائجة فوجدت من يناصرها من اللاحقين، لكونها تعرّف الفكر باللغة المألوفة، أو اللغة الباطنة).
2- إن المعنى أو المفاهيم، لا الأشياء، هي من حيث المبدأ تابعة للغة، والتي ساواها التقليد الفلسفي بالأشياء؛ كما حدث مع القديس أوغسطين ونظرية المثل الأفلاطونية، أو كما هو شأن الأفكار العقلية والذاتية لدى لوك وهيوم. لكن بدلاً من ذلك فإن قضية استعمال الكلمات وهي الأطروحة السائدة في كتاب الشذرات وهي محاججة هامة طورها هيردر.
3- إن بناء المفاهيم يرتبط بعلاقة متينة مع الإدراك الحسي والعاطفي. وعلى نحو أكثر دقة، يطور هيردر نظرية ” شبه تجريبية” عن المفاهيم المرتبطة بالحِس وكونه المصدر والقاعدة لجميع مفاهيمنا، لكننا رغم ذلك قادرون على إنتاج مفاهيم ميتافيزيقية غير تجريبية ومشتقة من التجربة بنفس الوقت، لذا فإن جميع مفاهيمنا تعتمد أساساً على الحِس بشكل أو بآخر (للمزيد عن هذه الأطروحة، انظر خصوصاً: “مقالة في أصل اللغة” و “عن المعرفة والإحساس ” و “ما بعد النقد“).
انقلبت الأطروحتان الأولى والثانية بشكل كبير على ماهو سائد حيال العلاقة الثنائية بين اللغة من جهة، والفكر (أو المعنى) من جهة أخرى، فقد كانت هذه النظرية الثنائية مهيمنة على القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومن ثم فإن أطروحتي هيردر قد أسستا لفلسفة اللغة كما نعرفها اليوم. ولقد تم تقريض هامان Hamann نظير تقديمه هاتين الأطروحتين الثوريتين وأنه من أفاد هيردر (وهذا ما كتبه إيزايا برلين) لكن هذا خاطئ؛ فهيردر بالأصل هو من تبنى النظريتين في منتصف الستينات من القرن الثامن عشر، أما هامان فهو متأخر، ولم يتبناهما إلا لاحقاً وتحت تأثير هيردر.
أما الأطروحة الثالثة (شبه التجريبية) فلاقت انتشاراً وقبولاً أقل من سابقتيها من قبل فلاسفة اللغة اليوم. وأيّما كان الأمر فإنها قد لا تخلو من الصحة، فعلى النقيض من ظاهر هذه النظرية فإنها لا تتعارض مع نظرية تكييف المعاني مع استعمال الكلمات، والاحتمال الأرجح أن الأساس الحديث حول الشك باللغة والمهتم بالمعنى قد يجانب الصواب (كما هو الحال مع التوجه الفريجي/ الفتجنشتايني/ الضد نفساني).
بجانب إسهامات هيردر التأسيسية في فلسفة اللغة، فإن هذه الأطروحات الثلاث تشكل القاعدة المتينة لنظرياته عن التأويل والترجمة، وهذا ما سيتم التطرق له.
4-2 نظرية التأويل (الهرمونيطيقا) عند هيردر
نظريات هيردر عن التأويل والترجمة ذات بصيرة ثاقبة، فحين كان فلاسفة التنوير ومؤرخوه البارزين كهيوم وفولتير يعتقدان دوماً بأن ” لا جديد في عالم الإنسانية في كل الأزمنة والأمكنة، فالتاريخ لا يطلعنا على أي جديد أو فريد من نوعه” (1748-القسم الثامن، الجزء الأول ص 65) كان هيردر قد اكتشف – أو على الأقل رأى بوضوح أكثر من غيره – أن هذا خاطئ، وأن الناس من حِقب تاريخية وثقافات مختلفة يدينون للتنوع الهائل في مفاهيمهم ومعتقداتهم وقِيمهم من خلال الإحساسات المعرفية والعاطفية. وأدرك هيردر أيضاً أن هذه التنوعات – وإن لم تكن صارخة لحد كبير – تقع بين الأفراد أنفسهم حتى داخل المرحلة الزمنية والثقافة الواحدة. وهذه المواقف من تبني الاختلاف سائدة في كثير من أعمال هيردر (انظر مثلاً: “في تغير الأذواق” 1766 و “ نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” و ” عن المعرفة والإحساس “) وسنطلق على هذه الأعمال مجتمعةً اسم ]مبدأ الاختلاف العقلي الجذري[.
عند النظر لهذا المبدأ، والتمعن في الخليج الذي يفصل بين تفكير المفسر والمتلقي الذي ستصل إليه الرسالة، فإن التأويل بهذه الحالة مهمة صعبة للغاية، ويتطلب جهوداً استثنائية من قبل المفسر (انظر بهذا الصدد نقاش هيردر عن العبرية القديمة في مقاله عن” أصل اللغة”). يواجه المفسر – بوجهٍ خاص – إغواءً في سبيل إخضاع الأفكار لرأيه أو لرأي غيره، وهو ما يتعين عليه مقاومته (وهي فكرة سائدة في ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على سبيل المثال).
حين نأخذ هذه التحديات في الحسبان، وكيف يمكن للمفسر أن يحظى بتأويل دقيق، سنجد أن أجوبة هيردر تضم نقاطاً عديدة:
تدعم أطروحات هيردر الثلاث في فلسفة اللغة مجمل نظريته عن التأويل وتجيب عن جزء من السؤال عن مدى دقة التأويل. ومما تتضمنه أطروحته أن الفكر عالة على اللغة ومقيّد بها، وأن لغة النص المؤوَّل مرتبطة بطبيعة أفكار المترجم أو المفسر، لهذا فلا يتعين على المفسّر أن يقلق حيال المادة (موضع التأويل) وما تحتويه من غوامض الأفكار، ولا أن يحمل هَم الأفكار ذات الصياغة المبعثرة وكيف سيعبر عنها بلغته. يرتبط المعنى، وفق أطروحة هيردر، باستعمال الكلمات، والمهمة الأساسية للتأويل تتطلب ترسيخ نص مؤوَّل عبر بيان مفرداته واستعمالاتها، ومن ثم كشف معانيها. وأخيراً فإن مضمون أطروحة هيردر ” شبه التجريبية ” يهتم بالمفاهيم التي يدركها المؤوِّل (أو المفسّر) حول مادته المترجَمة ومفاهيمها، وهذا ما يستوجب استعادة أصول النص ضمن مادته الأصلية وما يرتبط به من شعور.
يتبنى هيردر أيضاً ثلاثة مبادئ هامة حول نظريته في التأويل والتي ساهمت بالجواب عن سؤال (التأويل الدقيق) وهذه المبادئ هي:
مبدأ علمانية التأويل: وهو على النقيض من التقليد الشائع في زمن هيردر حيث الارتباط بالإنجيل. يرى هيردر عدم الاعتماد على الفرضيات والطرائق الدينية في التأويل، حتى في النصوص المقدسة. ويجب الاعتماد – بدلاً من ذلك – على ماهو علماني (وهو مبدأ ساد كتابات هيردر في تأويله للإنجيل أواخر السبعينات من القرن الثامن عشر).
مبدأ التأويل وفق الجنس الأدبي: فبالإضافة لطبيعة معاني النص، على التأويل أن يتعرف على جنس النص genre (أي مجموعة الأهداف والقوانين التي يسعى النص لإدراكها والتكيف معها). أما فيما يخص المعاني فإن الأجناس تتنوع من عصر لعصر، ومن ثقافة لأخرى، بل ومن فرد لآخر، لهذا سيواجه المؤوّل غواية دائمة في إخضاع جنس النص لما هو مألوف لديه من أجناس يعرفها (مثل استيعاب التراجيديا الشكسبيرية وفق تراجيديا سوفقليس، أو العكس) وهذا المبدأ يسود في كتاب هيردر “الغابات الحرجة”عام 1769 ويتجلى بصورة كلاسيكية في مقالته “شكسبير” عام 1773.
مبدأ المنهجية التجريبية في التأويل: على التأويل أن يضع ولاءه دوماً للملاحظات الدقيقة حول الأدلة اللغوية وغيرها من البراهين، ينطبق هذا على تحقيق المؤول لاستعمال الكلمات بغية اكتشاف المعاني (وهي المسألة السائدة في كتاب الشذرات) فعلى المؤول أن يفعل ذلك وهو يحدس نفسية كاتب النص، وعند محاولته ترسيخ الجنس الأدبي للمؤلف، وأيضاً حين يخمن الأهداف والشروط التي أسست لذلك كله (انظر: كتابات توماس آبت 1768 وخصوصاً مقالة هيردر عن شكسبير).
ستبدو هذه المبادئ منطقية بما يكفي إلى الآن، لكن يمضي هيردر أبعد من ذلك، ويقيم مبادئ تأويلية أخرى لربما كانت شديدة الحساسية والإرهاف خاصة حين نسمع بها للمرة الأولى، ومهما يكن، أرغب بإيضاح حقيقة أنها مبادئ صارمة.
يقترح هيردر (خاصة في كتاب” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على سبيل المثال) أن نتبنى التعاطف Einfühlung أو ” الشعور بمسلك الكاتب “. معنى ذلك أنه يتعين على المفسر أن يقوم بإسقاطاته النفسية على النصوص (وهذا ما ارتآه فريدريك ماينيكه Friedrich Meinecke) وعلى كل حال فإن هذه ليست فكرة هيردر الرئيسية بالتحديد وإلا فسيصل الأمر إلى الاستسلام المريض لأفكار المفسر على حساب النص، وهذا ما سيعارضه هيردر أكثر من سواه. إن ما يمكن استنباطه من ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني ” أن هيردر يعتقد بأن العقل البشري يخوض بحثا شاقاً في البحث الفلسفي والتاريخي. ولذلك علينا أن نسأل: ماهي القيمة الثمينة لرمزية التعاطف Einfühlung؟ وسنجد أن للتعاطف خمسة أركان: فأولاً يتضمن التعاطف تبايناً حاسماً بين عقلية المفسِّر والنص الذي يفسره، أشبه بالخليج الواسع، الأمر الذي يجعل من التأويل مهمةً جد مضنية وشاقة (وهذا يعني أن ثمة مَنفَذ ينبغي الولوج إليه من قبل المفسّر لفهم طريقة المؤلف). ثانياً يتضمن مفهوم التعاطف، وبالأخص في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني “دعوة نحو الشعور بالنص من خلال البحث الشامل، وهو بحث في استخدام اللغة داخل النص، وكذلك بحث في السياقات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. ثالثاً يزعم مفهوم التعاطف – من منطلق نظرية هيردر (شبه التجريبية) عن المفاهيم – أنه لكي تفهَم لغة النص المزمع تفسيره وتأويله، على المفسِّر أن يعيد إنتاج النص ضمن مخيلة ذات إحساسات مدرِكة ومتعاطفة. رابعاً يحتوي الكتاب المذكور على تحذير من تسلط المترجم – أو المؤول – على الذين يقوم بتأويلهم وترجمتهم، كما يعارض – وبنفس القدر – الميل نحو التطابق معه identification وأن من شأن ذلك تشويه عمل المفسر، فينبغي تجنب هذا الخطأ. خامساً وأخيراً يتعين على المفسر (والمؤول) أن يكافح لتطوير إمكاناته في الممارسة اللغوية، وأن يراعي وقائع السياق والإحساسات المرتبطة به، للدرجة التي يضاهي بها المؤلف الأصلي في تلقائيته وعفويته، وأن يضع في حسبانه تلقي الجمهور على ضوء هذه المعطيات (وهذا ما يتطلب من المترجم والجمهور معاً تبني فينمنولوجيا الشعور لا مجرد الإدراك العقلي).
يضاف لذلك إصرار هيردر على مبدأ الشمول Holism في الممارسة التأويلية (كما هو الحال في كتابه ” الغابات الحرجة”). يعتمد هذا المبدأ على دوافع عديدة، منها الآتي: (1) إن النصوص المجتزأة عادة ما تكون غامضة بطرق شتى (وهذا مرده إلى الخلفية اللغوية واحتمالاتها الكثيرة) وعلى المفسر أن يكشف هذا الغموض عبر التماس ما يرشده في النص المجاور. (2) قد تثير هذه المشكلة طائفة من المعاني اللغوية المحتملة لنص ناجز، لا سيما إذا كان المفسر يتبنى منظورا مختلفاً بشكل تام، وهذا ما يعمق من إدراك هذه المشكلة. كيف سيتعامل المفسر مع هذه الطائفة من المعاني وبأي لفظ مناسب سيعبّر؟ سيتطلب ذلك حشد المفسر للعديد من الاستعمالات اللغوية لهذا اللفظ أو ذاك، ومحاولة استقراء النظام الحاكم للألفاظ. من شأن هذا التحشيد اللغوي أن يذهب بالمفسر نحو سياقات أبعد حيث تستخدم الألفاظ بشكل مختلف (مثل أجزاء أخرى من النص أو النظر في مصادر أخرى للمؤلف أو القراءة لمعاصريه). (3) عادةً ما يعمد المؤلفون إلى إنشاء كتبهم ضمن وحدة عضوية، يوصلون من خلالها أفكارهم لا بشكل مجتزأ ولكن كي تترابط أفكارهم وتتناسب لتشكل كلاً متماسكاً. تفشل القراءات التي تدرك هذه الوحدة في أن تعثر على التأويل المناسب فتفقد ماهو جوهري في المعاني، لتبقى الأفكار موضع تساؤل ومثلها المعاني المجتزأة ستفقد إضاءتها الهامة.
في كتابَي ” حول كتابات توماس أبت On Thomas Abbt’s Writings ” و ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية”وكذلك في مواضع أخرى، يبتكر هيردر إحدى أهم إسهاماته: وهو إلزام التأويل بأن يولي تركيزه نحو استخدام المؤلف لألفاظه word-usage عبر الانتباه إلى نفسيَّة المؤلف. يقدم هيردر أسباباً متنوعة خلف هذا المسعى النفساني منه (وكثير من هذه الأسباب شرحها بوضوح من أتى بعده كشيلارماخر وفريدريش شليجل) وهذه الأسباب هي: (1) يتبنى هيردر نظريته (شبه التجريبية) عن المفاهيم كما ذكرنا سابقاً، وفحواها أنه لكي تدرَك مفاهيم المؤلف فسينبغي للمفسر أن يستعين بمخيلته للشعور بالمؤلف. (2) شدَّد كوينتين سكينر Quentin Skinner مؤخراً، على أن فهم المعنى اللغوي أثناء التطبيق، أو النص، لهو أمر ضروري من أجل الاستيعاب. علاوة على أنه يتوجب فهم نوايا الخطاب. فعلى سبيل العيّنة؛ لو التقيت بأحدهم على ضفاف بحيرة متجمدة وقال: ” إن الجليد رقيق هناك ” فإنني سأستوعب تماماً ما قاله. ولكن هل هدفه هو إطلاعي على المعلومة أو التحذير أو التهديد أو المزاح؟ (3) يميل سكينر إلى القول بأنه يمكن للمرء أحياناً تحديد المعنى اللغوي قبل رصد نوايا المؤلف كما هو حال المثال المذكور عن البحيرة. ولكن هل يصلح ذلك في مجمل الأحوال؟ إن هيردر يقول بالنفي ويبدو محقاً في قولته هذه، لأن المعنى وفق صياغةٍ ما Formula يبقى غامضاً (طبقاً لتعدد احتمالات المعنى وخلفياته) ولكي نتعرف على المعنى المناسب على المرء يتوجه نحو الأجزاء الكبرى من النص ويطرح الفرضيات hypothesis المستوحاة منه آخذاً بالاعتبار نوايا المؤلف (كالخوض في الموضوع الذي يعالجه المؤلف) وهذا سبب إضافي كي يهتم المفسر بنفسيَّة المؤلف. (4) وكما ذكِر سابقاً، فإن هيردر يقول بإيصال المؤلف لأفكاره لا من خلال الأجزاء وحدها، ولكن عبر دمج الأجزاء معاً عبر وحدة نصية، وإنه لمن الضروري للمفسّر أن يعثر على هذه المعاني في ذاتها وكون ذلك أمر حاسم لكشف غموض النص في كثير من أجزاءه. (5) يشير هيردر في النصف الثاني من كتابه إلى الاختلاف الجذري بين عقلي المؤلف والمفسّر، ووجوب إقرار هذا التفاوت الفردي حتى بالنسبة لمن عاشوا في نفس الحِقبة والثقافة، وهو الأمر الذي يلح على ضرورة التفسير النفساني. عادةً ما يواجه هيردر مشكلة الندرة النسبية ونقص التنوع في النصوص وذلك في الاستخدام الفعلي للمفردات الماثلة أمامه كي يمكن له استنتاج قاعدة الاستخدام التي تشكل معناها، لهذا يلجأ هيردر لمعونة إضافية وهي نفسية المؤلِّف التي قد تزوده بذلك.
في كتابيه ” حول كتابات توماس أبت” و ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية”ومواضع أخرى، يشير هيردر إلى أن التفسير – لا سيما في الجانب النفساني – يتطلب من المفسر مهارة التكهن divination وهذا مبدأ هو الآخر سيبدو مربكاً وحساساً عندما نسمع عنه للمرة الأولى، وقد يفهم منه أن هيردر يقصد ضرباً من النبوة ذات المصدر الديني والمعصومة من الخطأ. لكن المقصد أمر آخر وهو أكثر منطقية، وهو اتخاذ فرضية تحتوي بعض القرائن التجريبية المتوفرة، والمضي لما هو أبعد منها، حيث يمكن تكذيبها، كما يمكن نبذها، أو مراجعتها حين يتم تفنيدها.
وأخيراً ينوه هيردر بمسألة إضافية حين يتعلق الأمر بالطابع العام للتأويل: فمن بعد هيردر تم طرح السؤال بوضوح حول ما إذا كان التأويل فناً أو عِلماً؟ ولم يجاوب هيردر على هذه القضية بما يشفي الغليل، لكن ميوله نحو تقارب التأويل بالعلم الطبيعي أقوى من غيرها. ولديه عدة أسباب خلف اتباعه لهذا الميل: (1) يفترض هيردر مثل كثير من معاصريه أن المعنى الذي يستبطنه المؤلف في نصوصه لهو ذو طابع موضوعي يمكن بحثه على غرار جهود العلماء لدى بحثهم في مواد الطبيعة. (2) إن صعوبة التأويل الناجمة عن الاختلاف الجذري بين عقليتي المؤلف والمفسِّر، والحاجة المستمرة إلى مقاربة منهجية تتسم بالتعقيد والمشقة في حالات عديدة؛ يشير ذلك كله إلى التشابه في زوايا كثيرة بين التأويل والعلم الطبيعي. (3) الدور الذي تلعبه فرضية التكهن divination أثناء التأويل، تؤسس لنقطة أبعد نحو التشابه مع العلم الطبيعي. (4) حتى مادة التأويل وفق رؤية هيردر ليست مختلفة كثيراً عن تلك التي يتعامل معها العلم الطبيعي. فهذا الأخير يبحث في المجريات الطبيعية القابلة للملاحظة؛ من أجل تحديد القوى الكامنة والفاعلة في المجريات الطبيعية. لكن مع الأخذ في الحسبان أن التأويل يبحث ماهو قابل للملاحظة في فيزياء الإنسان لفظاً وسلوكاً، من أجل تحديد القوى الكامنة والفاعلة أيضاً (يتعرف هيردر وبوضوح على الشروط العقلية مثل إدراك المفاهيم وأنها قوى forces).
أحدثت نظرية هيردر في التأويل أثراً كبيراً ونافعاً في] الهرمونيطيقا [ من بعده، وأوشك شلايرماخر أن يستمد نظريته بالكامل من هيردر خصوصاً في محاضراته الشهيرة عن الهرمونيطيقا والتي أقامها في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. إن شلايرماخر – في مواضع أساسية ومعروفة من هرمونيطيقاه – كإسهاماته في التأويل اللغوي والنفساني وتحديده للتكهّن أداةً رئيسية في اشتغاله، لهي أمور يدين بها لهيردر بالكامل. وفوق ذلك؛ عندما يختلف شلايرماخر مع وجهة نظر هيردر ” أحياناً ” فإن رأي هيردر – غالباً ما يتفوق فلسفياً على شلايرماخر عند التحقيق.
وحين يؤخذ في الاعتبار تأثير هيردر الحاسم على هرمونيطيقا شلايرماخر فإن ذلك سيقودنا إلى تأثير هيردر غير المباشر على تلميذ شلايرماخر العظيم وهو أوجست بوك صاحب ” موسوعة ومنهج العلوم الفلسفية ” والمنشورة عام 1877 بعد وفاته. أعاد بوك إنتاج نظرية شلايرماخر مع إيضاحات قليلة، وتحول عمله هذا إلى المرجع الرئيسي والمنهجي لعلماء الكلاسيكيات وغيرهم. لقد فارق بوك نظرية أستاذه شلايرماخر في ناحية واحدة ذات أهمية، وهي تبنيه للتأويل ضمن الجنس الأدبي generic interpretation وذلك فيما يخص جوانب التأويل التي ميزها شلايرماخر والمتصلة بشكل وثيق بما قرره هيردر.
4-3 نظرية الترجمة
طوّر هيردر في الشذرات (1767-8) نظرية هامة وجديدة حيال الترجمة، ونالت صداها الكبير والمثمر في المجالين النظري والتطبيقي للترجمة في ألمانيا. وفيما يلي بعض المفاتيح الأساسية لأطروحته في الترجمة:
تواجه الترجمة تحدياً صعباً (كما التأويل) بالنظر إلى ظاهرة الاختلاف الجذري بين عقلية المؤلف والمترجم. إن الترجمة تعاني هذه الصعوبة بالذات لأن المفاهيم عميقة الاختلاف بين الحقب التاريخية والثقافات، بل ويحصل هذا الاختلاف بين فردين من حقبة تاريخية متزامنة وثقافة واحدة. نتيجة لذلك؛ تبدو الترجمة مهمة صعبة للغاية. إن الترجمة لتواجه سبيلين محتَملين: أولهما ما يدعوه هيردر بالنهج الرخو lax (حين تنحرف اللغة والفكر بسبب الترجمة) وثانيهما النهج التكييفي accomodating approach (حين يتكيف النص المترجَم مع النص الأصلي). يرفض هيردر النهج الأول، وسبب رفضه يعود لفشل هذا النهج في تحقيق الهدف الأصلي والمقبول من الترجمة، أي: الإخلاص في نقل الدلالة semantic faithfulness.
يرفض هيردر – على وجه التحديد – ذلك الإطار العلمي الذي ناصره درايدن Dryden وآخرون، والقائل بأنه على الترجمة أن تزودنا بـ ” العمل كما لو كان مكتوباً ضمن اللغة المنقول إليها، لا ضمن لغته الأصلية”. عارض هيردر ذلك، ففي حالة ترجمة هوميروس مثلاً، لم يكن له أن يكتب عمله ضمن اللغة الحديثة. لهذا السبب حاجج هيردر بأنه يتعين على المترجم أن ينزح نحو الضفة الأخرى، أن ” يهضم ” النص، فكيف له أن ينجز ذلك؟ ثمة سبيل نحو ذلك وهو أن يتمتع المترجم بالخبرة التأويلية، فهذا ما يشترطه هيردر. وثمة سبيلٌ آخر أقل وضوحاً قد طوره هيردر من أجل تجاوز العقبات المتعلقة بتعارض المفاهيم بين اللغة الأصلية واللغة المنقول إليها، وهذا الأمر – تقنياً – له أهمية قصوى، وقد يبدو الأمر مستحيلاً للوهلة الأولى (وهذا ما افترضه بشكل خاطئ فلاسفةٌ متأخرون كدونالد ديفيدسن D.Davidson) فكان هيردر – متكئاً على فلسفته اللغوية الجديدة- قد أوجد الحل لهذه المعضلة: فالمفاهيم والمعاني تعتمد على الاستعمال اللغوي word-usage ومن أجل أن نعيد إنتاج المفهوم بشكل تقريبي ومرضي إلى اللغة المنقول إليها، خاصة إن كانت تفتقد هذا المفهوم. على المترجم أن يعثر على المفردة الأقرب في اللغة المنقول إليها، ويحوِّر استعمالها أثناء ترجمته بما يعزز المحاكاة للمفهوم الأصلي. تتطلب هذه التقنية وعلى نحو أساسي أن تترجَم المفردة في النص الأصلي بشكل موحّد مهما تكاثرت مواضعها في النص الأصلي (والأمر نفسه في اللغة المنقول إليها فلا تستخدم هذه المفردة لترجمة معان أخرى من النص الأصلي). إن هذا النهج من هيردر أبعد ما يكون عن التطبيق في الترجمة؛ بعيد للحد الذي قلما نجده في الترجمات. وأيما كان الأمر، فإن هيردر يستخدم هذا الأمر بدقة في ترجماته، ومثله من تبعه في هذا التقليد وتبناه في ترجماته (مثل شلايرماخر وفرانز روزنزويج ومارتن بوبر).
يعي هيردر جيداً أن استخدام نهج ” التحوير bending ” سيؤدي لا محالة إلى صعوبة قراءة هذا النوع من الترجمة مقارنة بالنهج الرخو lax (كأن تستخدم مفردات عدة للتعبير في اللغة المنقول إليها لأجل ترجمة مفردة واحدة من النص الأصلي). وعلى كل حال فإن هيردر يجد الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ من أجل إنجاز أكبر دقة دلالية. وثمة سبيل آخر يتبناه هيردر لتحقيق الدقة الدلالية، وهو سبيل الصياغة الموسيقية musical formللعمل الأدبي (أي الوزن، والإيقاع، والجِناس، والسجع) وكما هو متوقع، فإن هدفه من وراء ذلك لهو في جزء منه دلالي، وعلى وجه التحديد: الدقة الجمالية، وتبلغ الدقة درجة إيصال التعبيرات الشعورية التي تتأثر بطرائق العمل الأدبي وملامحه الموسيقية، وهي أيضاً دلالية في جانبٍ منها: فيرى هيردر أن الصيغة الموسيقية والمضمون الدلالي مرتبطان ولا ينفصمان، وإدراك الهدف من الدقة الدلالية يشترط عدم الإخلال بالصياغة الموسيقية. فلماذا يعتقد هيردر أن الصيغة الموسيقية والمضمون الدلالي مرتبطان لهذا الحد؟ لديه سببان: يكمن السبب الأول في أن الصياغات الموسيقية تحمل معانيها بداخلها (تأمل على سبيل المثال الدلالات الهزلية والماجنة لقصائد الليمريك limerick) والسبب الثاني كما ذكرنا سابقاً هو اعتقاد هيردر أن الصيغة الموسيقية أساسية في التعبير عن الشعور، ولكن كما رأينا مسبقاً فإن المشاعر مرهونة بمعانيها (وهنا نقطة القوة في نظريته شبه التجريبية حول فلسفة اللغة) ومن ثم فإن ترجمة الصيغة الموسيقية لهي أمر هام جدا من أجل إيصال معاني المفردات والجمل أثناء الترجمة.
الهدف التقليدي من الترجمة هو إعادة إنتاج المعاني بدقة، والوفاء بشرط الجمالية في الأسلوب وجمالية التعبير عن الشعور، يضاف إلى ذلك أن النهج التكييفي والمشار إليه سابقاً ضروري أيضاً لأجل إنجاز أهداف أعظم وأهم مثل إثراء اللغة المنقول إليها (من ناحية المفاهيم والصياغة الموسيقية) إذ يحاجج هيردر بشكل مقنع حول تفريط الترجمة الرخوة بهذه الفرصة للإثراء، بينما تستثمر الترجمة التكييفية ذلك.
وثمة هدف آخر بعيد المدى يكمن في تشجيع قراء الترجمة على احترام الآخر والثقافة العالمية. وهو أمرٌ يتطلب من الترجمة أن تعيد إنتاج معاني ” الآخر the Other ” وصياغاته الموسيقية في أحسن وجه ممكن.
يعتقد هيردر بأن أفضل صور تكييف الترجمة تشترط على المترجم أن يتحلى بحس العبقرية. أي أن يكون مبدعاً وبمهارة كافية تؤهله لإشباع المتطلبات الثقيلة لمثل هذا النوع من الترجمة، وأن يبتكر مفاهيم جديدة وصياغات موسيقية في اللغة المنقول إليها ضمن ما يقتضيه الحال. بغض النظر عن التزام هيردر بأهمية هذا النوع من الترجمة (وهو ما تم شرحه على أنه التزام منه بالهدف الأساسي والتقليدي للترجمة في إعادة إنتاج المعاني) فإن هيردر يبدو متحرراً إزاء أشكال الترجمة أو النقل بين اللغات بوجهٍ عام، وهذا يشمل على سبيل العيّنة ذلك التمييز الذي أقامه حول الترجمة Übersetzung وتناسبها مع التقليد Nachbildung أو التجديد Verjüngung وإمكانية المترجم تبني ذلك كله. إن هيردر يسمح بإمكانية التنويع في الصيغ وأن أفضلها ما كان موازياً لأسلوب المؤلف او الجنس الأدبي المقصود، وما كان متوافقاً مع أغراض المترجم (أو الناقل).
إن نظرية هيردر في الترجمة كما تم إيجازها وكما برهن عليها تطبيقياً مثل ترجمته لأغاني شكسبير الشعبية Popular songs قد نالت ثمارها الكبرى وصداها الأوسع في جيل بأكمله من منظرّي الترجمة وممارسيها من الألمان، بمن فيهم يوهان هينريش فوس Johann Heinrich Voss المترجم العظيم لهوميروس، وأوجست فلهلم شليجل (المنظّر الكبير للترجمة ومترجم شكسبير) وجوته (وهو منظّر لامع للترجمة) وفلهلم فون همبولت Humboldt (مترجم ومنظّر بارز للترجمة) وشلايرماخر (منظّر مهم للترجمة وأعظم المترجمين الألمان للمحاورات الأفلاطونية). إن مبدأ هيردر في الإخلاص للدلالة (المذكور آنفاً) والمرتبط بإعادة إنتاج الصياغة الموسيقية قد أحدث أثراً قوياً فيمن خلفه. أما مبدأ التحوير bending في استخدام الكلمات ولأجل التكيف مع المفاهيم الصعبة، فكان أقل اتباعاً، ولم يتبناه إلا شلايرماخر وقلةً معه.
تدين فلسفة هيردر كثيراً، في اللغة والتأويل والترجمة، للسابقين عليه. ففلسفته في اللغة على سبيل المثال تدين لكرستيان وولف وليبنتز وسبينوزا وإرنستي Ernesti بينما تدين نظريته في الترجمة لتوماس أبت. ومهما يكن من أمر، وحتى حين يستعير هيردر من غيره، فإنه يضيف كثيراً من التحسين والتهذيب، وهو ما جعل إسهاماته جليلة.
5- دور هيردر في ولادة اللسانيات والأنثروبولوجيا
قامت فلسفة هيردر بدور حيوي وإسهام مهم في ولادة حقلين أكاديميين لم يوجدا في زمنه، ونشهد اليوم وجودهما، وهما: اللسانيات Linguistics والأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology وجاء إسهامه هذا من خلال فلسفته في اللغة والتأويل علاوةً على مبادئه الفلسفية التي طورها (للمزيد من التفاصيل انظر القسم الأول من الملحق).
6- فلسفة العقل عند هيردر
في كتابه “عن المعرفة والإحساس” 1778 وفي مواضع أخرى من مؤلفاته، يحتل هيردر موقعاً مميزاً في فلسفة العقل، وفي التالي بيانٌ لأبرز معالم هذا الموقع.
ففيما يتعلق بمشكلة الجسم والعقل، حاول هيردر أن يتبنى عدة مواقف أثناء مسيرته الفكرية، لكن ما استقر عليه هو الموقف الطبيعي والمضاد للثنائية. في كتابه “عن المعرفة والإحساس “ حاول إلغاء الفصل الحاد بين ماهو عقلي وما هو جسماني بطريقتين: الأولى عندما قدَّم نظرية العقل وأن المعطيات العقلية تتشكل عبر قوى Kräfte تتمظهر في السلوك الجسدي للبشر، تماماً مثل الأجسام الفيزيائية وما تشتمل عليه من قوى تتمظهر في حركة الأجسام. يتبنى هيردر موقفاً محايداً تجاه السؤال عن ماهية القوى، باستثناء اعتقاده بقدرة هذه القوى على تحفيز الأجسام للحركة وكونها المصدر الحقيقي لذلك (وهي قوى لا تقبل الاختزال). ومن ثم سيتعين القول وبصورة صارمة أن هذا يعفي نظرية هيردر من انتقادات شائعة (مثل ما ذكره نيزبت H.B.Nisbet وفريدريك بايسر Beiser من اتهامات بأنها قوى حيوية). إن مضمون هذه النظرية التي قدمها هيردر له مزاياه بالمقارنة مع أضدادها من النظريات: (1) تربط النظرية – من جهة المفهوم – بين المعطيات العقلية وما يتجاوب معها من السلوك الجسدي، وهذا ما يبدو صحيحاً، ويفضي إلى تفوق هذه النظرية على النظريات الثنائية dualistic ونظريات الهوية بين العقل والدماغ mind-brain theories . (2) وعلى جانب آخر تتفادى هذه النظرية اختزال المعطيات العقلية إلى مجرد سلوك جسدي، وهذا ما يبدو صحيحاً أيضاً، فنحن نعايش حالات ذهنية ليس لها سلوك أو تمظهر جسدي على الإطلاق، وهذا ما يؤسس لتفوق هذه النظرية على حساب النظريات السلوكية. (3) وما هو أكثر من ذلك، أن موقف هيردر المحايد تجاه مصدر القوة (العقلية) قد ينبئ عن إدراكه لأهمية دور المفاهيم (وهذا ما استثمره أتباع علم النفس الوظيفي في محاججة التعدد الإدراكي realizability argument) ومع أن المفاهيم العقلية والمعطيات الذهنية تتضمن مصادر للسلوك إلا أنها لا تحتوي شيئاً عن طبيعة هذا المصدر.
وثانياً؛ يحاول هيردر أن يفسر العقل من خلال ظاهرة الإثارة ]ريتس Reiz [ وهي ظاهرة تم التعرف عليها مؤخرا عن طريق العالم النفساني ألبريشت فون هالر Albrecht Von Haller ومن أمثلتها – وفق النموذج المعرفي لديه – تقلص الأنسجة العضلية أثناء استجابتها للمحفز الجسدي، أو ارتخائها بعد زوال المؤثر، وهي ظاهرة نفسانية تتجلى ثم تتسرب إلى العقل وخصائصه. ثمة غموض في موقف هيردر هنا: فهو يقاوم الاختزالية الفيزيائية ولكنه على الضد من القول بأن الإثارة ذات طابع نفساني محض أو أنها ذات سلطة على العقل. ومهما يكن من حال، ففي مسودته لكتاب ” عن المعرفة والإحساس” عام 1775 وحتى في مواضع من الكتاب المطبوع، بقي هذا موقفه. وأما من وجهة النظر الحديثة، فإن هذه ميزة أقوى لصالح هيردر (مع أننا اليوم وبالطبع نرغب في إعادة صياغتها على نحو مختلف وأن ندعوها بالعملية الفسيولوجية المًعقدة عِوضاً عن الإثارة).
هذا المسار الثاني من تفكير هيردر يبدو أمام عقبات من المسار الأول (القِوَى forces) ولكن بالطبع يجب تخطي هذه العقبات حين نأخذ في الحسبان حِياد هيردر تجاه ماهية القوى، فهذا المسار الثاني من تفكيره قد يملأ ” الصندوق الأسود” عن القوى المًفترضة لا سيما في المصطلحات الفيزيائية. بعبارة أخرى، يظهر لنا – لا من ناحية المفاهيم لكن بشكل شَرطي- أن القوى محل السؤال هي تفاعلات فسيولوجية.
وتقطع فلسفة العقل عند هيردر شوطاً نحو أطروحة أخرى مهمة: وهي أن العقل له طابع الوحدة unity ولا يوجد فصلٌ حاد بين مَلَكات العقل، فتناقضت هذه الأطروحة مع نظريات سولزر Sulzer وكانط. لم تكن هذه الأطروحة جديدة عند هيردر وسبقه إليها العقلانيون، بالأخص وولف Wolff (وقد ذكر هيردر دَينه تجاه وولف في مسودة 1775). تتجلى أصالة هيردر في رفضه اختزال العقلانيين للحِس والإرادة لصالح العقل؛ فجاء بأطروحته عن الوحدة unity وقال بالتجريبية عِوضاً عن المنهجية القِبلية apriorist way وأضاف بعداً معيارياً لهذا المنهج؛ فليس العقل يعمل هكذا، بل عليه أن يعمل كذلك. إن هذه السمة للعقل قد تبدو مضطربة خاصة حين ننظر إليها للوهلة الأولى، فالعقل يعمل وفق طبيعته الصميمة، فما المبرر في أن نصف له معياراً يعمل بموجبه؟ وكيفما كان الأمر، فإن فكرة هيردر تظل متماسكة، لأن العقل – حتى معيارياً – لا يخالف طبيعته، فالبشر يتصرفون وكأن كل مَلَكة faculty يمكن فصلها عن الثانية، بيد أن هذا سيؤدي لشطط كبير في العقل، فينبغي تجنب هذا الافتراض.
إن إطروحة هيردر عن وحدة العقل تعتمد في مجملها على أربعة أفكار واضحة تتعلق بالعلاقة الوثيقة بين وظائف ملكات العقل، بينما تظهر الأخطاء نتيجة مقاومة هذه الأفكار، وهي أفكار مدعّمة بالتجربة وتمنحها القاعدة الإمبريقية.
تتعلق الفكرة الأولى بالعلاقة بين الفكر واللغة: ليست اللغة في طبيعتها تكشف الفكر فحسب لكنها – كما نوَّهنا سابقاً- تحدد الفكر، فالفكر يعتمد على اللغة، ويذهب هيردر لما هو أبعد من ذلك ويبني فكرته على أساس من الدليل التجريبي (على سبيل المثال الأطفال وتطور فكرهم بالتزامن مع اكتسابهم للمزيد من اللغة). إن الجانب المعياري من هذا الموقف الهيردري يكمن في السقوط الحر للفكر إذا ما انفصل عن قيود اللغة، ومثل هذه القطيعة ستؤدي إلى الخواء.
وتتعلق الفكرة الثانية بالعلاقة الوثيقة والمتبادلة بين المعرفة والإرادة، أو العواطف. إن الزعم بأن الإرادة يجب أن تتبع المعرفة لهو أمر لا يثير التحفظ كثيراً، لكن يحاجج هيردر حول عكس ذلك، وأن المعرفة بكاملها تتبع – ويجب أن تتبع- الإرادة والعواطف، وبكل تأكيد لا يجب أن تكون التبعية لمجرد عواطف نسبية وهزيلة. يهتم هيردر على نحو خاص بمواجهة الفكرة القائلة بأن الأعمال النظرية في الفلسفة والعلوم منفصلة – أو يجب أن تنفصل – عن الإرادة والعواطف، أما هيردر ومن موقفٍ ينطلق من أرضية تجريبية فلا يعتقد بهذا الانفصال مهما تظاهرت هذه المعارف بذلك، بل إن محاولة فصل الفلسفة والعلم عن الإرادة والعواطف سيعمل على إفقارها وإضعافها. أما دعامات طرح هيردر في موقفه هذا فذات طبيعة تجريبية أيضاً.
تتمحور الفكرة الثالثة حول العلاقة الوثيقة والمتبادلة بين الفكر والإحساس. إن التصورات والمعتقدات من جهة، والإحساس من جهة ثانية، ليتصلان ببعضهم وفق هيردر، لهذا يتقدم هيردر بنظريته شبه التجريبية عن المفاهيم المذكورة سابقاً، والتي تقول بأن مفاهيمنا جميعها (ومثلها جل معتقداتنا) تعتمد على الحس بشكل أو بآخر. والعكس صحيح في الاتجاه الآخر (وهنا يستبق هيردر عملاً مهماً في فلسفة القرن العشرين) فيحاجج هيردر بأن شخصية الإنسان البالغ في إحساساتها تعتمد على مفاهيمه ومعتقداته. وبشكل معياري، يرى هيردر أن إلغاء هذا الاعتماد المتبادل سيؤدي لا محالة إلى الشطط الفكري، فعلى سبيل المثال وكما هو مذكور سابقاً، يعتقد هيردر بأن الميتافيزيقيين يقومون بجهدٍ عبثي في محاولتهم لقطع العلاقة بين المفاهيم والتجربة، وموقفه في هذه القضية بأسرها مبني على عوامل تجريبية.
أما الفكرة الرابعة في العلاقة الوثيقة والمتبادلة تختص بالوحدة بين مَلَكات الحس تحديداً. يشتمل رأي هيردر على القول بأن طبيعتنا الحيوانية الباطنة تحتوي على كتلة بدائية من الإدراكات الحسية والمشاعر العاطفية (مع أننا بخلاف الحيوانات نملك القدرة المميزة على تعطيل ذلك مؤقتاً وهي قدرة تدعى التعقل Besonnenheit) يحاجج هيردر في أمر آخر وهو أن الإدراكات الحسية تشكل وحدة بحد ذاتها ويتخذ موقفيه هذين على أرضية تجريبية، فعلى وجه التحديد يقول هيردر أن الوحدة الكامنة خلف مَلَكات الإدراك الحسي تظهر أثناء المواقف غير المألوفة والحالات المَرَضية. وطبقاً لذلك يحاجج هيردر على سبيل المثال أن اعتماد حاسة ناضجة – كالبصر- على حاسة اللمس، يظهر لنا من خلال تطور حاسة البصر لدى الأطفال الصغار مثلما تتشافى حاسة البصر بعد خضوع الأعمى لعملية جراحة، كما هي حالة الأعمى مع الطبيب تشاسيلدن Cheselden’s blind man.
يخطو هيردر نحو ما هو أبعد في فلسفة العقل، ويحاجج بأن المعنى اللغوي في أصله ذا طابع اجتماعي، وكذلك الفكر وجوانب الحياة العقلية (بحكم أنها تنكشف أساساً ضمن مقتضيات المعنى) ومن ثم فالنفس بحد ذاتها تعتمد على تعريف هويتها وفق المجتمع (بحكم ارتباطها بالفكر والجوانب العقلية للبشر). إن خصوصية موقف هيردر تبدو ذات منطلق تجريبي. ومنذ ذلك الحين تزعمت تقليداً عريقاً في الطموح نحو البرهنة على أن المعنى والفكر، إلخ.. ماهي إلا مأسسة اجتماعية (على سبيل العيّنة هيجل وفتجنشتاين وكريبكي Kripke وبورج Burge وبراندوم) وعلى كل حال فإن هذه المطامح لم توفق كما يبدو، وأن موقف هيردر الطَّموح هو وحده من يجدر قبول محاولته.
وهيردر هنا في حالة تجاذب لا تعارض مع مبدأ الاجتماعية sociality فهو يرى أنه – حتى ضمن ثقافة وحقبة واحدة – ستظل العقول تحت حكم قانون الطابع الفردي في عمقها، وتختلف بشكل كبير بين بعضها، وإضافة لذلك فإنه يقول بالحاجة لتوجيه علم نفس خاص بالفردانية individuality وهذه فكرة هامة أثرت بمن تلاه من المفكرين القاريّين (مثل شلايرماخر ونتشه وبروست وسارتر ومانفريد فرانك). يقدم هيردر هذا الطرح فقط لأجل القاعدة التجريبية، وعلى النقيض فإن لشلايرماخر وفرانك موقف قوي يدَّعي تأسيس الفردانية كحقيقة كونية وقِبلية a priori. ومهما كان الأمر، فإن موقف هيردر – مرة أخرى – هو الأكثر إقناعاً.
وأخيراً فإن هيردر مثل سابقيه في التقليد العقلاني ومثل كانط، يرفضون بشدة الفكرة الديكارتية حول شفافية النفس، وبدلاً منها يصرون على أن ما يحدث في العقل أمرٌ غير واعٍ، لهذا فمعرفة النفس تحظى بإشكال عميق على الدوام. وهذا موقف آخر يفرض نفسه قسراً على هيردر وقد أثر بكثير ممن جاء بعده من المفكرين.
إن فلسفة هيردر عن العقل تدين بالكامل لسابقيه، خصوصاً ذوي التقليد العقلاني. ولكنه اتخذ طرقاً جديدة وأصيلة، فنظريته مهمة بحد ذاتها، وطبقها كثيرون ممن جاؤوا بعده من المتأثرين به، بمن فيهم هيجل وشلايرماخر ونتشه.
7- الجماليات عند هيردر
كان هيردر على عكس أستاذه كانط ذو الاهتمام المحدود بالأدب والفن، وهما موضوعان عالجهما في نقد ملَكة الحكم 1790 وبطرحٍ يوحي بالضعف. أما هيردر فكان مولعاً بالفن والأدب وعلى معرفة عميقة بهما، وكثمرة لهذا الاهتمام كان بمقدوره الإثراء عبر مجموعةٍ أصيلة ومهمة من الأفكار حيال الفن والأدب. لقد حاز هيردر قصب السبق، وتبعته كثرةٌ من الجيل الرومنسي (بالأخص فريدريك وأوجست فلهلم شليجل) ومعهما هيجل.
تنبأ هيردر بمجيء الرومنسيين وأثر بهم بشكل كبير. ومن بين المواقف الصاخبة والمشهورة للرومنسيين تقديرهم للأدب والفن على حساب الجوانب الأخرى من المعرفة (كالعلم والدين والأخلاق) ولكن هيردر كان قد تبنى هذا الموقف قبلهم. أولاً لقد كان هيردر منذ فترة مبكرة يحاجج أن الأغنية song هي أصل اللغات جميعها (وبالتالي هي أصل الفكر) وثانياً في مقالاته العديدة مثل “مقالة في أصل اللغة”وخصوصاً مقالة “في الصورة والشعر والحِكاية”عام 1787 يجد هيردر أن اللغة أساساً رمزية ومجازية بطبيعتها، وأن النحو عادةً ما يستمد ضمائر الجنسين من الطبيعة، كما تتضمن اللغة – وعلى نطاق واسع -نقلاتٍ إبداعية من الموضوع object نحو الاستثارة الحسية ثم إلى الصورة التي يخلقها الفرد، ومن الفرد إلى الفكر واللغة، وهذا ما يسم اللغة بطابع الشعرية poetic. ثالثاً في بعض أعمال هيردر مثل “ محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” عام 1764 وكتاب ” في روح الشعر العبري “ حاجج هيدر أن الشعر أساسي للدين منذ البداية. وفي مواضع أخرى حاجج بأن الفن (غير اللغوي) كالنحت، أدى وظيفة حيوية في التعليم الأخلاقي، ومن المؤكد أن له أهمية أكبر من الآليات التربوية الأخرى (كالقوانين).
ما هي أبرز إسهامات هيردر في الجماليات إضافة لما ذكر؟ إن هيردر يتشكك حيال قِبلية ومنهجية الجماليات لا سيما عند مبتكر منهج الجماليات أي الفيلسوف العقلاني بومجارتن Baumgarten التي كان قد أنجزها في زمن هيردر. وبدلاً من تبني ذلك، نادى بالأخذ بالنهج التصاعدي bottom-up أو التجريبية من أسفل إلى أعلى، وبات موقفه نابذاً لـ “سستامية” الجماليات. صحيحٌ أنه بدا مشواره الفكري متبنياً بعض المنهجية الجمالية لا سيما في “الغابات الحرجة” 1769 وأتم محاججاته بشأن منهجه الجمالي المصغّر: حيث الموسيقى تتعقب المواضيع في الزمان، بينما النحت والرسم مكانيان بشكل خالص، أما الشعر فهو حِس وروح وقوّة. تنتمي الموسيقى، ومعها النحت والرسم، إلى الحواس وحدها (أي السمع والشعور والرؤية، بالتتابع) فيما لا يعتمد الشعر على الحواس فقط بل يرتبط بالمخيلة؛ وفي اللحظة التي توظف فيها الموسيقى الإشارات الطبيعية natural signs حصراً، فإن الشعر يوظّف إشارات اللطف والإقناع. وإنه لمن الصواب أن نقول إن هذا المنهج تم تبنيه (وبتعديلات طفيفة) من قِبَل شلايرماخر في محاضراته الجمالية، وتم النظر إليه – مؤخراً فحسب- كإنجاز رئيسي لهيردر في الجماليات (مثل ما ذكره روبرت نورتن Robert Norton) ولكن أدرك هيردر وبسرعة بعد صياغة هذا المنهج أنه ساذج، وأن إنجازه الحقيقي في الجماليات مختلف ويغاير ذلك.
فلنشرع الآن في تتبع إنجازات هيردر الحقيقية. أحد هذه الإنجازات يتعلق بالصلة بين الفن واللغة. كما رأينا سابقاً فإن فلسفة هيردر اللغوية تلتزم بفكرتين: أن الفكر يتبع اللغة على نحو جوهري ويتقيد بها، وأن المعنى مرهون بالاستخدام اللغوي. إن هذا يستدعي أسئلة محددة: فهذه الأفكار تقطع برويَّة مع فرضيّات التنويرEnlightenment من أن الفكر والمعنى من حيث المبدأ مستقلان عن كل مادة وعن كل المدركات الحسية وآثارها. ووفقاً لما قاله تشارلز تايلور يمكننا أن ننعت هذا المذهب بـ” التعبيرية” (أي تأثير الحواس على الفكر والمعنى: المترجم) ولكن ما الصيغة الملائمة التي يجدر بالتعبيرية أن تتخذها بالضبط؟ هل هي اعتماد الفكر والمعنى على الرموز الخارجية بشكل تام مثل اللغة(بالمعنى العادي للغة)؟ أم اعتماد الفكر على وسائط رمزية واسعة تشمل الرسم والنحت بجانب اللغة ومن ثم سيتسنى للمرء الاستمتاع بأفكاره التي لم يستطع التعبير عنها لغوياً من خلال وسيط رمزي آخر؟ فلنسمي الاتجاه الأول التعبيرية المحدودة narrow expressivism والاتجاه الثاني التعبيرية الواسعة broad expressivism.
أيّد هامان في كتابه “ ما بعد النقد Metacritique “نسخةً من التعبيرية الواسعة، ولكنه بنفس الوقت يؤيد الفكرتين سالفتي الذكر عن فلسفة اللغة، بينما تبنى هيردر التعبيرية المحدودة. وبعد نزاع شديد حول هذا الموضوع، خضع هيردر للتعبيرية المحدودة وعمله الأساسي هنا هو كتاب “الغابات الحرجة” فأثناء تأليفه لهذا الكتاب كان ملتزماً بالفكرتين السابقتين عن اللغة، وكما قد يتراءى لنا فإن هيردر منذ بداية كتابه وهو يتبنى التعبيرية المحدودة. وعلى كل حال لم يكن انتماؤه للتعبيرية كافياً، بل ولم يكن متماسكاً. فهو في البداية يؤيد صيغة هشة من إنكار قدرة الفنون (غير اللغوية) على التعبير عن الأفكار على الإطلاق. وعندما نضع في الاعتبار هذه الهشاشة مع عدم الإقناع في رأيه، فإن هيردر منذ البداية يلتزم القول (وبصورة أكثر معقولية) بأن الفنون البصرية كثيراً ما تعبّر عن الأفكار، فعلى سبيل المثال يتدخل هيردر في نزاعٍ بين ليسنج Lessing ووينكيلمان Wincklemann حول السؤال عن مدى قدرة الفنون اللغوية على التعبير (لاسيما الشعر) وكذلك الفنون البصرية (لاسيما النحت) وأعلوية الفنون البصرية بما يخدم حجة وينكلمان عن الفن البصري. إن عدم الرضا والهشاشة هنا ينتجان من غفلة هيردر عن حقيقة واحدة: وهي أنه من الممكن التوفيق بين التعبيرية المحدودة من جهة وقدرة الفكر على الإسهام في الفنون غير اللغوية من جهة ثانية. بعبارة أخرى من خلال الإصرار على أن الأفكار المعبر عنها بفنون غير لغوية يجب أن ترتبط وتتقيد بمهارة الفنان في التعبير اللغوي. على أي حال، في زمن كتابة هيردر للأجزاء الأخيرة من “الغابات الحرجة” كان قد وجد الحل في الجزء الثالث، عبر تركيزه على مثالٍ إرشادي محدد، فلاحظَ أن الصور المنقوشة على العملات اليونانية ذات طبيعة مجازية allegorical. وأثناء كتابته للجزء الرابع كان على استعداد للقول بما يشابه ذلك عن الرسم أيضاً، فيتحدث مثلاً عن ” الحس، والرمز، والقصة/التاريخ، مستودعة جميعها في اللوحة” (G2:313) وفي عام 1788 توسع في هذه القناعة ليشمل النحت أيضاً. وفي مقالة ” النحت” عام 1778 تخلى عن التصور الحسي المحض تجاه النحت والذي سيطر على كتابه ” الغابات الحرجة” وقال عِوضاً عن ذلك أن النحت في جوهره تعبيري ويتطلب تأويلاً من الروح. ولن يلزمه هذا بعد الآن في التنكر لمبدأه في كون الفكر معتمدٌ على اللغة ومقيدٌ بها، ويرى أن الأفكار المعبَّر عنها في النحت ذات مصدر لغوي:
” يقف التمثال في ظلام الليل ويتلمس صورة الآلهة. إن قصص الشعراء تسبقه، وهي في داخله” (G4:317).
يلي ذلك في “الرسائل اللاهوتية” عامي 1780-1781 و” رسائل من أجل تقدم الإنسانية “ يتبنى هيردر نفس الحل مع الموسيقى وآلاتها.
يتضمن الموقف الأخير الذي بلغه هيردر عن ” الفنون غير اللغوية” وكونها مرتبطة بالعقل واللغة على نحو مختلف، ففي الجزء الرابع من ” الغابات الحرجة” (والذي لم تتم طباعته إلا في القرن التاسع عشر بعد وفاة هيردر) يطور هيردر في هذا الكتاب طرحه حول الإدراك البشري وأنه في جوهره مرتبط بالمفاهيم والمعتقدات، وعلى أثر ذلك يرتبط باللغة، وهذا ما يتضمن بالطبع ارتباط الفنون “غير اللغوية” باللغة. الفنون غير اللغوية، إذن، تعتمد بشكل مضاعَف على الفكر واللغة، لأنها تعبر هي الأخرى عن أفكارٍ تفترض مقدماً وجودها في المعرفة.
مع هذا المنجَز من جانب هيردر، وصيغته المنقحة من ” التعبيرية المحدودة” واختلافها عن تعبيرية هامان الواسعة، فإننا سنكون بإزاء نظريتين متنافستين. إن من شأن المنظّرين الألمان في القرنين التاسع عشر والعشرين، من نافلة (هيجل، شلايرماخر، ديلتاي، وجادامير) أن ينقسموا بعمق تجاه هاتين النظريتين وما يتعلق بهما، حيث لازالت القضية مهمة حتى اليوم. فيما لا تزال الاعتبارات الفلسفية المرتبطة بهذا الأمر ذات صعوبة. وقد حاججت في موضع آخر بما أعتقده وهو أن هيردر ذو الموقف السليم.
يحتوي موقف هيردر هنا العديد من التضمينات الهامة بشأن الهرمونيطيقا. كرؤيته الهامة حول الفكر والمعنى واللغة وكونهم يؤدون أدواراً أساسية لا في الأدب وحده وإنما في الفن غير اللغوي هو الآخر. وبالنسبة لهيردر فإن مجالَي (الأدب والفن غير اللغوي) يحتويان على تحديات تأويلية ]هرمونيطيقية[ متشابهة، ويتطلبان نفس الحلول التأويلية. ثمة إسهام آخر ومهم لهيردر في الجماليات ويكمن في تاريخانيته، أو بشكل أوسع يكمن في تعرفه على الاختلاف العقلي والجذري بين الحقب التاريخية والثقافات وحتى الأفراد. وحين يؤخذ هذا الموقف التاريخاني حيال الأدب والفن فإنه سيتمخض عن خمس محددات أساسية:
أولاً: وكما هو مذكور آنفاً فإن هيردر يعتقد بكون المفاهيم والمعتقدات والقيم، الخ.. تتنوع جميعها بين الحِقب التاريخية والثقافات والأفراد، وينطبق هذا بوضوح على الأدب بوجهٍ خاص. أيضاً وكما رأينا فإن الفنون غير اللغوية كالرسم والنحت والموسيقى، تتضمن رؤى وتعبيرات عن المفاهيم والمعتقدات والقيم، وتلتزم بها.
ثانياً: يعتقد هيردر بأن الجنس الأدبي – في كونه مجموعة من الأغراض والشروط – لهو أمر جوهري في أي عمل أدبي أو فني. لكنه يعتقد أيضاً باختلاف الأجناس الأدبية بعمق وذلك في الحِقب التاريخية المختلفة (وهو اختلاف يسري بين الثقافات والأفراد كذلك) ولا يعني هذا موت الأجناس الأدبية وولادة أخرى حديثة فحسب، إذ يعني أيضاً أن التجانس الأدبي يستمر عبر إخفاء الاختلافات الهامة. يحاجج هيردر بشكل تفصيلي وعلى سبيل المثال في مقالته “شكسبير” 1773 أن الجنس الأدبي للتراجيديا اليونانية يختلف عن التراجيديا الشكسبيرية في وقتٍ افترض فيه الشراح على الدوام تماثلهما، بينما الاختلاف عميق ويتأسس على أغراضٍ وشروط مختلفة. كذلك في ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 يحاجج هيردر ضد وينكلمان Winckelmann الذي ماثَل بين أجناس نحت الجسد عند قدماء اليونان والمصريين الفراعنة، فاليونان يضعون نصب أعينهم أن الغرض من هذا الجنس الفني هو تصوير الحياة الدنيوية بجمالها وجاذبيتها، أما المصريون فتبنوا غرضاً مناقضاً في الأجناس الفنية ليوصلوا أفكارهم عن الموت والخلود.
ثالثاً: يحاجج هيردر أن نشأة الأدب غالباً ما تكون حِسية في صميمها، ولكن مع تقدم التاريخ تتحول صوب ماهو فكري. في مقالته المبكرة ” في القصيدة “ 1764-1765 وفي ” محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” يشرح هيردر هذا التطور وفق تضاؤل المشاعر القوية (مثل الخوف) وتزايد التعقيد الفكري والعلمي، وينظر لهذا التحول على أنه تراجع. لاحقاً وفي “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يستبقي هيردر الجانب الوصفي في هذا الأمر، ولكن يراجع المفهوم لإقرار التراجع: كلما كان الشعر أكثر حسية عند الأقدمين فسيكون مضمونه الفكري أكثف عند المحدِثين، وكلاهما ضربٌ من الشعر يختلف عن الآخر، بيد أن لهما نفس الأهمية رغم هذا الاختلاف.
رابعاً: يجد هيردر في القيم الاستاطيقية – مثل الجَمال- أنها مشاعر، وأن المشاعر موضع السؤال تتنوع على نحو هام بين كل حقبة، وثقافة، وفرد. تسود هذه الفكرة في كتابه ” في القصيدة” حيث يناقش الاختلافات الرئيسية في الشعور بالجمال عبر حِقبٍ وثقافات مختلفة، أي على سبيل المثال بين زمنهِ وزمن قدماء الإغريق. تسود هذه الفكرة أيضاً في مقالة “ حول تغيّر الذائقة ” 1766 فيضيف بقوله إن التغيرات في بعض الأحيان متطرفة بما يكفي لتصل إلى الانقلاب التام.
خامساً: يرى هيردر أن الجانب الأساسي في وظيفة الأدب والفن يكمن في إيصال القيم الأخلاقية. لكن عليها – بجانب ذلك- أن تلاحظ أن القيم الأخلاقية المراد تبليغها غالباً ما تختلف على نحو عميق بين الحقب والثقافات والأفراد. في كتابه ” محاولة لتأريخ الشعر الغنائي “يحاجج بشكل ثاقب عن الشعر اليوناني القديم، لاسيما هوميروس، وأنه احتوى قِيماً أخلاقية مختلفة للغاية عن تلك التي نتبناها.
إن هذه الإضاءات التاريخانية عن الأدب والفن ذات أهمية بالغة في ذاتها. فهي تملك مضامين عميقة حيال التأويل والتقييم الأدبي والفني لا بالنسبة لهيردر فقط ولكن بشكل واقعي كذلك. فلننظر الآن عن كثب في اثنتين منهما بهذا السياق.
تهتم الإضاءة الأولى بالاختلاف الجذري في المفاهيم والمعتقدات والقيم وما إلى ذلك. استخدم الأدب هذه الأشياء لغوياً، ومبادئ هيردر العامة في الهرمونيطيقا وتأويل النصوص والخطاب اللغوي تتعاطى مع الاختلاف الجذري (كما نوقِش مسبقاً) وتنطبق بالطبع على الأدب بوجه خاص. وفقاً لذلك وفي “الغابات الحرجة” يشدد هيردر على أهمية التعمق في عالم هوميروس اللغوي والمفهومي عبر مقاربة فيلولوجية حذرة؛ فمن الضروري دائماً تأويل الملامح المحلية في العمل الأدبي مثل الفقرات السخيفة (كحال ثيراسيتس في الإلياذة ج2: 211-227) وعلى ضوء العمل بكامله (مثلما يتصل الأمر بتأويل قصائد هوراس) يبدو حل المشكلة المتعلقة بالفهم الشمولي – عوضاً عن تأويل الأجزاء بشكل منفصل – أمراً يتعلق بالاشتغال داخل النص بشكل منفصل من أجل بلوغ التأويل الشامل لجميع الأجزاء، ثم تطبيق التأويل الوقتي provisional لعموم النص بغية تنقيح كل جزء على حدة، وهكذا إلى مالانهاية.
ولكون هيردر يعتقد بأن أشكال الفن غير اللغوية من رسمٍ ونحت وموسيقى وما يماثلها، تفترض مسبقاً، بل وتعبر عن مفاهيم ومعتقدات وقيمٍ تبني أساساتها على اللغة. يؤمن هيردر أن المبادئ الهرمونيطيقة ]التأويلية[ الكبرى والمرتبطة بالأعمال اللغوية، والتي تشتغل على حل الاختلاف الجذري بين الأفهام، تسهم أيضاً- وبشكل جوهري- في تأويل هذه الفنون. وأكثر من ذلك فإن الفهم ضروري لمقدمات فقرة من الأدب أو الفن وما يتعلق بهما من تعابير من أجل تقييم العمل بشكل سليم، وهذا الضرب من الهرمونيطيقا له مقاربته بالغة الأهمية، لا بهدف التأويل فحسب ولكن لأجل التقييم أيضاً.
ومثالنا الثاني يهتم بالجنس الأدبي genre فيرى هيردر أن الغرض من تأليف العمل الفني هو تجسيد الجنس الأدبي، وهذا أمر حاسم عند المفسّر كي يتعرف على الجنس الأدبي ليفهمه. لماذا يعتقد هيردر بضرورة التعرف على الجنس الأدبي كي يفهَم؟ لدى هيردر ثلاثة أسباب على الأقل (وكلها أسباب وجيهة):
أولاً: تحديد الجنس للعمل الأدبي أمر جوهري وأساسي لفهم العمل ومحتوياته (وهذا مثل فهم منطوق الخطاب في الجملة وكونه ضروري لفهم الجملة ومضامينها). ثانياً: بما أن المؤلف ينوي تجسيد جنس أدبي بعينه، ثم ستتكشف بعض معاني العمل لا بصورة صريحة في أحد الأجزاء، وبدلاً من ذلك تتكشف من خلال التجسيد في الجنس الأدبي. ثالثاً: إن التعرف بشكل سليم على الجنس الأدبي يحسم الأمر حيال التأويل الدقيق للأشياء المعبّر عنها بوضوح في أجزاء العمل.
وكما ذكرت سابقاً، يقدم هيردر رؤية تاريخانية هامة عن الجنس الأدبي هنا: إنه يدرك وحدة الجنس الأدبي ضمن اختلاف الحقب التاريخية والثقافات والأفراد. ومثال ذلك ” التراجيديا اليونانية” وأيضاً ” التراجيديا الشكسبيرية ” أو النحت الفرعوني ونظيره النحت اليوناني، فهذا الشكل (=الجنس الأدبي: المترجم) عادة ما يخفي الاختلافات الهامة. ولهذا الأمر تبعات مهمة للتأويل، فهو يقود هيردر إلى رفض حازم للمقاربة القِبلية في التعرف على الجنس الأدبي، بما في ذلك القِبلية المطلقة ورفضه أن تتعرف على الجنس الأدبي ولو على سبيل الملاحظة الجزئية. إن رفض هيردر يعود لإغراء القِبلية –لاسيما النسبية منها- حيث تسمح للمرء أن يلاحظ الأمثلة والنماذج المحدودة ويستثني أخرى، فيتخيل المرء الجنس الأدبي وفقاً لذلك ويبني تصوره له. وطبقاً للمنظور التاريخاني عند هيردر فإن هذا ما يتمخض دوماً عن نتائج كارثية.
بدلاً من القبلية ووفقاً لهيردر فإن المفسّر يجدر به مقاربة الجنس الأدبي ضمن آلية تجريبية دقيقة. ومن المتوقع أن يتطلب ذلك فحص العمل الأدبي عن كثب لأجل اكتشاف الأغراض الأدبية والشروط التي يعمل وفقاً لها. كما يتطلب أخذ العوامل التي أنتجت النص في الحسبان كالسياق الاجتماعي والتكوين التاريخي للجنس الأدبي مقارنة بما سبقه من أجناس. إضافة لهذا كله قد يتضمن الانتباه إلى الآراء الصريحة للمؤلف أو الفنان حيال الجنس الأدبي الذي يخوض به.
يشدد هيردر على أن التعرف الناجح على الجنس في العمل الأدبي يؤدي إلى نتائج هامة في التأويل ومدى سلامته، ويؤدي أيضاً لتقييمه بشكل ناجع. يقع الشراح الفرنسيون في خطأ تأويلي حين يقرأون شكسبير وفي أذهانهم – مسبقاً – جنس أدبي يخص عالماً قديماً لا ينتمي في الحقيقة لشكسبير. بل وعلى هذا الأساس الخاطئ يعتمدون التقييم evaluation فيفترضون بصورة زائفة أن شكسبير يتوق إلى تقمص نفس الأغراض والشروط للجنس الأدبي الذي يتبناه أرسطوطاليس وأن سبب نجاحه جاء بواسطة هذا التقمص. وبالمثل فإن وينكلمان Winchlemann يقع في خطأ تأويلي هو الآخر حين ينسب للمصريين ” ضِمنياً” نفس المفهوم اليوناني للجنس الفني في النحت، وأيضاً وعلى هذا الأساس (الخاطئ) يقيّم العمل؛ فيفترض – وهو مخطئ- توق المصريين إلى إدراك الغرض اليوناني من الجنس الفني ويلومهم على إخفاقهم في ذلك، ويغفل عن نجاحهم في إدراك جنسهم الفني مختلف الشروط الذي استلهموه وأدركوه.
قاد نهج هيردر التاريخاني في التأويل والنقد الأدبي والفني إلى تقدم هائل في هذين المجالين. وكمثال على ذلك تمكن الأخوان شليجل (بفضل هيردر) من فهم التراجيديا بعمق أكبر مما كان في السابق. ومكَّن ذلك فريدريش شليجل من تطوير تأريخ جديد ومعقد للفن (خاصة في عمله عن اللوحات في اللوفر والمعمار الكاتدرائي) وبفضل هيردر تم التمهيد في القرنين التاسع عشر والعشرين لدراسة التراجيديا وتاريخ الفن.
ولدى هيردر أفكار هامة عن مسألة يجدها الكثيرون ذات مكانة مركزية في الاستاطيقا، وهي الجمال. يطور هيردر معايير الجمال في هذا المقام (من ناحية العلاقة مع الفن وماهو أكثر عمومية منه) وينص على تنوعها بين الحقب التاريخية والثقافات. وهو الأمر المعتاد بالنسبة له منذ بواكير أعماله مثل كاليجوني Calligone (حيث تصدى بهذا العمل لكتاب نقد ملكة الحكم لكانط). وفي “الغابات الحرجة”وكذلك في كاليجوني يحاجج هيردر من حين لآخر- شأنه شأن مفكرين آخرين سبقوه كهيوم- أن ثمة وحدة أعمق في معايير الجمال عبر الحقب التاريخية والثقافات، ولكن موقفه الأسبق بقي الأكثر إقناعاً.
الفكرة الثانية والهامة لهيردر عن الجمال، قد طورها في “الغابات الحرجة” ثم كررها مرة أخرى في “ كاليجوني” وتتعلق تحديداً بمفهوم الجمال. يحاجج هيردر بشكل مقنع أن أصول المفهوم تكمن في الخبرة البصرية (ويعتقد أن هذا ما تشير إليه العلاقة بين الجذر اللغوي في كلمتي الجميل schön والمظهر أو ما يسطع Schein) بيد أن هذه الخبرة تم تمديدها من نطاقها البدائي لتغطي بالفعل “كل ماله أثر ممتع للروح” فبواسطة هذه الحاسة “البصر.. يوجز الصورة والتمثل وغرور الروح”. لهذا فإن الجمال يصبح مصطلحا نتملكه للتأكيد على ما نجده ممتعاً في علاقته بالحواس الأخرى، وطبعا يشمل ذلك الحياة العقلية على نحو واسع (G2:289–291). وهناك فكرة ثالثة ومهمة طورها هيردر وهي أن الجمال في الحقيقة أقل أهمية في الأدب والفن مما يظن، فهذا التقليص من أهمية الجمال لا يقدم عليه هيردر بسبب رؤيته الجينالوجية الاختزالية وحدها، والمذكورة سلفاً، ولكن لأن تصوره الجمالي ذا نموذج مستوحى من الرومانسية والذي ينص على المهام الأساسية للأدب والفن في علاقتهما مع اللغة، والفكر، والدين، والأخلاق. عبر هذا الإصرار المتأصل لدى هيردر في وظيفة المعنى والفكر ودورها الهام حتى في الفنون غير اللغوية، يسعى هيردر إلى تقليص دور الجمال بشكل متزايد وباضطراد. في أعماله المبكرة مثل ” في الشعر” و ” الغابات الحرجة “يتعامل هيردر مع الجمال وكونه مركزياً في الاستاطيقا، ولكن تغير رأيه في المرحلة التي كتب فيها كاليجوني وقال بأن الجمال غير ضروري للفن كما كان يظن. يحاجج هيردر على وجه التحديد في كاليجوني بأن الفن يرتبط على نحو جوهري بالتعليم والتكوين الثقافي Bildung(لاسيما في النواحي الأخلاقية).
وأخيرا علينا أن نلتفت إلى أطروحة هيردر حول الأدب والفن ووظيفتيهما الأخلاقيتين في التعليم. في مقال “حول تأثير الفن الشعري على أخلاق الناس في العصور القديمة والحديثة ” 1778و “حول تأثير النصوص الجمالية على العلوم العليا ” 1781وكذلك “كاليجوني” فإن هيردر لا يرى هذه وظائف جوهرية للجماليات فحسب ولكن يعتقد بأن للأدب تأثير قوي يفوق سواه من وسائل التربية بما في ذلك القانون.
لا يقتصر موقف هيردر الدقيق حيال الدور الأخلاقي للأدب والفن على مجرد التبني ولكن يمتد للحث على ذلك أيضاً. فيخصص هيردر ثلاثة طرق واضحة تمكن الأدب والشعر من الإسهام في تكوين الشخصية الأخلاقية. يتم ذلك أولاً ” عبر القوانين الشفيفة through light rules ” أو بعبارة أخرى من خلال التعبير الدقيق عن المفاهيم الأخلاقية. وثانياً وبشكل أكثر أهمية ضمن رؤية هيردر أن تقدّم القدوات الأخلاقية في وهجٍ من الإيجابية لتدفع الناس نحو محاكاتهم. وثالثاً عبر إيصال ضروب التجربة العملية تسهم في بناء الشخصية الأخلاقية، ومن ثم تحث على اكتسابها، فمن دون هذا سيكون اكتسابها عسيراً عبر خوض الدروب الصعبة والمؤلمة واجتراح التجربة الساذجة. إضافة لما سبق فإن هيردر في مواضع أخرى يضمِّن طريقة رابعة يسهم بها الأدب في التكوين الأخلاقي: إنه مبدأ أساسي يستبطن كتابه “الأغاني الشعبية” فبواسطة الكشف المتجلي للحيوات الداخلية للآخرين من الناس – كالمخاوف والآمال والمتع – إزاء الجمهور أو القراء، سيتسنى للأدب أن يستثير التعاطف تجاه الشخوص الأدبية ويغرس الانحياز الأخلاقي في نفوس الناس تجاههم. وخامساً يضيف هيردر في “كاليجوني” نقطة أبعد من ذلك تتعلق بالفنون غير اللغوية، فالفن البصري يملك قوة تجسيد النماذج الأخلاقية بشكل جذاب عبر تقديمها مقولبة في الجمال الجسدي، وبالمثل فإن الموسيقى ذات قوة في التأثير السلوكي سواء في الخير أو السقم، فهذا يعتمد على المبادئ التي تناط بها.
إن تصور هيردر حول تكوين الشخصية الأخلاقية يشمل دوراً جوهرياً للأدب وللفن من حيث هما كذلك وما ينبغي عليهما أن يكونا، كما يمنح هيردر معياراً لتقييم الأعمال الأدبية. لهذا فعندما يدون ملاحظاته في الأعمال المذكورة آنفا يذكر أن الشعر الحديث على نقيض الشعر القديم قد خسر وظيفته، ويذكر ذلك عبر نقد قوي للشعر الحديث. ويطبق هذا المعيار كأساس نقدي لأعمال محددة لأصدقائه شيمة جوته وشيلر اللذان اعتبرهما محايدان أخلاقياً (أو حتى غير أخلاقيَّين) في المحتوى.
8- فلسفة الأخلاق عند هيردر
طور هيردر فلسفة أخلاقية ناضجة وذات تأثير تاريخي، وتكونت من مجموعة من القضايا شملت مابعد الأخلاق meta-ethics أو حتى النظام الأولي للأخلاق. وسنمعن النظر الآن في المسألة الأولى.
مثل فلسفته عن العقل، فإن موقف هيردر حيال مابعد الأخلاق لهو طبيعي naturalistic في روحه، وهذا الموقف مثير للجدل في زمن هيردر كما سيتضح لدينا. فمثلاً كان في تجاوبه مع مندلسن Mendelssohn عام 1769 فيما يتعلق بمفاهيم سبولدنج Spalding ومندلسن الدينية والمهمومة بالحياة الآخرة ونداءها للإنسانية Bestimmung وهو المفهوم الذي عارضه هيردر بحدة لصالح المفهوم الدنيوي للأخلاق.
وكما هو مذكور انفاً فإن هيردر يتمسك بالموقف العاطفي فيما يخص طبيعة الأخلاق: فعِوضاً عن المعرفة الموضوعية (مثلما هو شأن النظرية الأخلاقية الأفلاطونية) أو مجموعة من الإسعافات المنطقية من قِبل العقل الكوني (وهذا شأن النظرية النقدية الكانطية) فإن الأخلاق عند هيردر هي في الأصل تعبيرٌ عن العواطف البشرية. لقد اعتنق هيردر هذا الموقف في “كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”1765 وواصل ذلك في كتابه “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”1774 إذ عادة ما يشير هيردر إلى العواطف موضع التساؤل بأنها ميول Neigungen ويحتفظ بنفس الرأي في “رسالة من أجل تقدم الإنسانية” 7-1793 إذ ينعتها في هذا الكتاب بأنها المواقف Gesinnungen.
اعتنق هيردر هذا الرأي من أستاذه وهو كانط ماقبل النقدي، والذي تبنى صورة من النزعة العاطفية sentimentalism في كتابه “أحلام عراف الأرواح ” 1766 فعبر كانط يمكن تتبع العاطفية في التقليد العاطفي البريطاني وبالأخص هيوم الذي وجدت حجته العاطفية صداها في نقاط عديدة من “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” فالحكم الأخلاقي في طبيعته يحفز، بينما الحكم العقلي غير محفز، والعاطفة وحدها تملك الحافزية، ومن ثم فالحكم الأخلاقي يجب أن يتكون من العواطف بصورة جوهرية.
ومهما كان الأمر فإن عاطفية هيردر هي على الأرجح ليست فجة مثلما كان الحال عند هيوم، فيدرك هيردر أن المعرفة (أو المفاهيم والمعتقدات) تؤدي دوراً هاماً في الاخلاق، وهذا ما نجده في “الغابات الحرجة” 1769 حيث يحاجج هيردر ضد فجاجة النظريات الأخلاقية التي تجرد العواطف من كل معرفة، ويحاجج بالتأكيد في الجزء الرابع أن الإحساسات هي في مجملها مفاهيم ومعتقدات حبلى بالنظريات. ويمكن أن نرى في “حول المعرفة والإحساس” 1778 أن نتشه اعتنق هذه النظرية المعقدة عن العواطف وأخذها من هيردر.
تكمن أصالة موقف هيردر في أرخنة العواطف الأخلاقية historicizing موضع السؤال، وذلك بالنظر إليها عبر تنوعها الكبير بين حقبة تاريخية وأخرى، وبين ثقافة وأخرى، وحتى بين فرد وآخر. يمجّ هيردر هذا الموقف لا سيما في “حول تغير الذائقة “ 1766 فهو على سبيل المثال يذهب بعيداً لحد القول بأن العواطف الأخلاقية موضع السؤال تبدو أحياناً متناقضة ما بين حقبة وثقافة وفرد حيث تمدح هنا وتستجهن هناك. ويمكن العثور على هذا الموقف الصارم في كتاباته المنشورة. هذا الموقف من جانب هيردر يجعل مذهبه العاطفي مختلفاً عن هيوم، كما يفصله عن نتشه (المتأثر بهيردر وبشكل قوي).
وثمة أطروحة حاسمة يقدرها هيردر وهي أن العواطف الأخلاقية مشروطة بالمجتمع وتتناسب معه وتتوافق مع طبيعته ونمط حياته، وهذه أطروحة مركزية في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” لهذا يحاول هيردر أن يبرز القيم الأخلاقية ضمن حقبها الزمنية وثقافاتها، ويجدها قابلة للفهم ضمن مسوغاتها الكامنة في شخصية المجتمع ونمط الحياة الذي تنتسب إليه. فعلى سبيل العينة كان قدامى المصريين يتحلون بأخلاق الكفاح والولاء المدني لمجتمعهم الزراعي/ الصناعي/ الحضري ونمط الحياة الذي يتمتعون به. أما الرومان فكانت لهم أخلاق الشجاعة، والتعقل، والوطنية، بما يتوافق مع مجتمعهم ذو الطبيعة العسكرية والحربية، وما إلى ذلك. إن هذه الأطروحة تعزز حجة هيوم حيال النزعة العاطفية sentimentalism عبر إجلاء المواقف الأخلاقية طبقاً لوظيفتها الاجتماعية وبمعزل عن الوقائع الأخلاقية (ومنهج هيردر هنا سيجد صداه لاحقاً لدى نتشه).
ثمة إسهام رئيس لهيردر في حقل مابعد الأخلاق meta-ethics في تطبيقه لمنهج الوراثيات وكونها توضح نطاق الأخلاق. يستند هذا المنهج على تاريخانية هيردر ويرمي إلى إدراك الظاهرة العقلية عبر تتبع أصولها التاريخية وكيفية تطورها عبر سلسلة من التوسطات intermediate forms. طور هيردر هذه الطريقة أولاً في منتصف السبعينات من القرن الثامن عشر على نقد الأجناس الأدبية في كتاب “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” و” شذرات في الأدب الألماني الحديث” بالتتابع، ثم مضى في تطبيق ذلك على الأخلاق والقيم الأخرى في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حين حاول – بشكل فج– أن يظهر الأخلاق السلطوية لقدماء العبريين وأنها التي أرست القواعد، ثم برزت أخلاق المصريين في الكفاح والولاء المدني، ومهدت الطريق للفينيقيين وأخلاق الحرية والانفتاح؛ فتلاهم الإغريق وآلفوا بين الأخلاق السابقة وجعلوا منها أخلاقاً للمدنية والحرية؛ فأتت روما وعدلت هذا التراث جاعلة منه أخلاقاً للقيم الشجاعة والتعقل والوطنية، وبعيد سقوط الإمبراطورية الرومانية طورت قبائل الشمال – يداً بيد مع المسيحية- طائفةً من القيم الثرية شملت الشجاعة والإيمان والصدق وتقديس الآلهة والعفة وشرف الفروسية. أخيراً، فإن الأخلاق الأوروبية الحديثة قد انبثقت نتاج هذه التقاليد جميعها. وهذا المنهج من هيردر من أجل الشرح والإسهام في الأخلاق سيتم تبنيه وتطويره من قبل هيجل ونتشه (خصوصاً في كتابه “عن جينالوجيا الأخلاق” 1887) ومثلهما فعل فوكو.
هناك بعد آخر وهام في مابعد الأخلاق meta-ethics عند هيردر وسبق التطرق له، يتمثل بالوضعية المعقدة التي طورها في ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”حيث النزعة العاطفية هي العِلة الصحيحة لطبيعة الأخلاق؛ وبالتالي فالمعرفة غير مفيدة كعلة للأخلاق ولايمكن التأسيس عليها ولا مقاربة الأخلاق عبرها، بل وأكثر من ذلك هي ضارة حين تستثير الشك بالأخلاق وتشتت الناس عن المنابع الحقيقية للأخلاق وتصدهم عن تعزيزها. وعلى الفلسفة الأخلاقية إذن أن تتعرف على المنابع الحقيقية وتعززها؛ أي تلك الآليات السببية المولدة للأخلاق والمحفزة على العواطف الأخلاقية.
وكما ذكِر سالفاً فإن كتاب “كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”يشدد على صيغ تربوية وأساليب عاطفية في الوعظ تتصل بهذا المقام، وكلاهما نشاطان مضى هيردر في التنظير لهما بإسهاب في مواضع أخرى. لكنهما مجرد جزئين لنظرية أوسع وممارسة بيداغوجية أخلاقية ترمي لترسيخ العواطف الأخلاقية، وهو ما طوره هيردر طوال مشواره الفكري، الأمر الذي استهلك جهد هيردر وأصبح مشروعاً مركزياً وفارِقاً لديه. يضاف لذلك الآلية السببية التي تعرف عليها هيردر ودعمها، والتي تتضمن تأثير الأخلاق على الأفراد القدوات؛ والقانون، والأدب (علاوة على الفنون الأخرى).
أنفق هيردر حياته بلا كلل في تطويره لهذه النظرية بكاملها مع تطبيقه للبيداغوجيا الأخلاقية، ولعلها أسست لإسهامه الفلسفي الأبرز للبيداغوجيا الأخلاقية والتي تتشابه بشكل مذهل مع تلك التي طورها بروتاجوراس في العصور القديمة (أي كما حفظتها لنا محاورة أفلاطون العظيمة “بروتاجوراس”).
ومما يمكن ملاحظته في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”أن هيردر يعتقد بأن لمشروعه هذا إلحاح تاريخي يوم صدوره؛ فالقيم الأخلاقية التي اعتنقها الناس منذ عصري النهضة والإصلاح، مثل محبة الإنسانية، والحرية، والشرف، باتت قيماً جوفاء، وفقدت رسوخها الأصيل في العواطف الأخلاقية، ولهذا فشلت في أداء وظيفتها الاجتماعية وأخفقت في التجاوب معها.
الجانب الأخير والمهم من مابعد أخلاقيات هيردر، يسود خصوصاً في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وينساب عبر عدة وضعيات مابعد أخلاقية تم ذكرها مسبقاً، وبالأخص: النزعة العاطفية sentimentalism وأطروحته حول التنوع العميق في العواطف الأخلاقية بين الحقب والثقافات والأفراد، وكذلك أطروحته عن ملائمة التنوع الأخلاقي الذي يبرز في مختلف المجتمعات وشتى أنماط الحياة. لا مبرر إذن لإبداء مقارنات تقويمية بين نسق أخلاقي وآخر، كالقول بأن أخلاقاً معينة أفضل من الأخرى، وهذا ما تضمنته ملاحظة هيردر الشهيرة في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حيث القيم جميعها مهمة:
” إن كل المقارنات تثبت أنها إشكالية في محصلة الأمر… لكل أمةٍ محورٌ لسعادتها الخاصة بها، مثلما أن لكل سطح كروي مركز خاص لجاذبيته! ” HPW 296-297)).
ربما كانت هذه النسبية إحدى إسهامات هيردر الرئيسية في فلسفة الأخلاق. وأيما كان الأمر فإنها أيضاً إشكالية؛ سواء بالنسبة لعلاقتها مع الأجزاء الأخرى من فلسفة هيردر أو في جوهرها الخاص (للمزيد من التفصيل انظر للقسم الثاني من ملحق النقاشات).
لننظر الآن وبشكل موجز إلى مواقف هيردر المميزة حيال النظام الأولي للأخلاق، ففي هذا المستوى طور هيردر مواقف في غاية الأهمية، وتأتي أهميتها لقيمتها الجوهرية ولتأثيرها على من تلاه.
أحد أهم المبادئ الأساسية والأصيلة والجذابة فيما طوره هيردر هو ما يمكن تسميته بـ” العولمة التعددية” والتي تتضاد مع ” العولمة التجانسية”. إن النزعة العالمية قد بلغت مداها في زمن هيردر واتصلت في ماضيها مع المذهب الكلبي والرواقية في العالم الوثني اليوناني. يمجد هذا التقليد صيغة تجانسية من النزعة العالمية؛ صيغة تضمن المساواة الأخلاقية والاحترام لجميع البشر وتقوم فقط على أساس افتراضي يشترك فيه البشر في معظم سماتهم النفسية (والأخلاقية على وجه الخصوص). وكان التنويرون السابقون على هيردر – بمن فيهم كانط – قد تبنوا هذا الموقف، وفوق ذلك كانت هذه النسخة من النزعة العالمية قد استمرت في تسيدها لدى فلاسفة الأخلاق والمؤسسات البارزة حتى يومنا هذا كما هو شأن منظمة الأمم المتحدة. وثمة مشكلة كبرى في هذه الصيغة من النزعة العالمية: تكمن في الافتراض القائل بأن البشر يتشابهون بشكل كبير في صفاتهم النفسية والأخلاقية مع أن هذا قول زائف (ومحاولة جعل هذا القول صحيحاً تستوجب الكثير من الاعتساف والإكراه). أدرك هيردر هذه المشكلة، فلم يغرِق وليد العولمة في مياه التجانس، وعِوضاً عن فعل ذلك طوّر صيغة مميزة من ” التعددية “ العالمية: أي الالتزام باحترام أخلاقي منصِف حيال جميع البشر، بغض النظر عن مدى تنوع نفسياتهم وتعدد قيمهم الأخلاقية بشكل خاص (وهذا بالتأكيد من الأسباب). يسود هذا الموقف لدى هيردر في كتاب “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” وتدعم هذه النزعة العالمية التعددية موقف هيردر القوي ضد الإمبريالية والاستعمار في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وكتاب “أفكار في فلسفة التاريخ الإنساني” وكتاب “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”.
هناك مبدأ أخلاقي ثان لهيردر يستحق ذكره في هذا المقام ويتقارب مع مبدأ الإنسانية [Humanität] الذي طوره في كتابَي الأفكار و الرسائل. لهذا المبدأ جانبين أحدهما وصفي، ويتضمن وحدة الجنس البشري وما يطفو على سطحه من اختلاف بين الأعراق، وثمة جانب معياري آخر يتضمن النزعة العالمية cosmopolitanism ويشتمل على قواعد تخص المعاملة الحسنة (مثل عدم القتل/ عدم الإيذاء الجسدي/ عدم خداع الناس) ويعمل بكونه بديلاً لمفهوم حقوق الإنسان فهذا المفهوم الأخير يتأسس ضمن رؤية عالمية يشيح عنها هيردر نظره لأسباب كثيرة (طالع جزء الفلسفة السياسية).
ثمة مكوّن جدير بالذكر يخص النظام الأولي للأخلاق عند هيردر وذلك في نموذجه للتعليم Bildung يتجلى في استقلالية الذات والتطور الفردي في جميع القدرات للشخص ضمن كلٍّ متناغم. وقد فعّل هيردر هذا النموذج في كتاباته منذ 1769. في كتاب “عن المعرفة والإحساس” عمَّق هيردر الأصول الفلسفية لهذا النموذج: أي لأهمية الاستقلالية الإنسانية والحرية وأنهما تتوافقان مع قوانين الطبيعة (وهي أهمية تتقارب مع ما كتبه في “مقالة في أصل اللغة” حيث السمة المميزة للإنسانية هي المرونة والتحرر من الحتم عبر الغرائز المحدودة) فهذه النظرية شبه التجريبية من ليبنتز والمتعلقة بالفردية هي سمة عامة لكل الطبيعة بما في ذلك الطبيعة الإنسانية كحالة خاصة: كما تؤخذ بالاعتبار أهمية الاستقلالية بالنسبة للمَلكات النفسية والتي تدعم بدورها مكوِّن (الكل المتناغم) للنموذج. هذا النموذج الذي سيتحول لاحقاً إلى مصدر تأثير هائل لفلاسفة لاحقين كشيلر وهيجل وفلهلم فون همبولت (والذي رأى في إدراك النموذج هدفاً أسمى للدولة وبالتأكيد غاية للكون).
وفوق هذه المثل الأخلاقية اللافتة للنظر، التزم هيردر أيضاً بمجموعة من الأفكار المألوفة خاصة تلك المتعلقة بالتقليد الأخلاقي المسيحي، كالشفقة، والحب، والغفران، والصدق، والعدالة، والمساواة. ومع أنها مألوفة بحد ذاتها لكن هذه المثل تساعدنا في استيعاب إحدى مزايا فلسفة هيردر الأخلاقية: وهي تجنبه الحازم لكل ضروب الأحادية الأخلاقية والتي نشأت في العصور القديمة كما هو حال أفلاطون في محاورة بروتاجوراس (بالتحديد حجة أفلاطون عن وحدة الفضائل) وهي أحادية استمرت في عصر الحداثة مع كانط (لاسيما في التزامه بالمقولات الإلزامية وأنها المبدأ الأساس للأخلاق) وكذلك مع مذهب المنفعة (عبر التزام هذا المذهب بالسعادة وأنها المعيار الأساسي للأخلاق) ولصالح أخلاقه التعددية يلتزم هيردر بعدم الاختزال للقيم الأخلاقية والمثل، وهذه على الأرجح ميزة كبرى لفلسفة هيردر الأخلاقية.
وفي محصلة الأمر فإن نظرية هيردر الأخلاقية ذات أهمية لا على مستوى مضمونها فحسب ولكن فيما تهمله كذلك، فلايهتم هيردر إلا قليلاً بقضايا حرية الإرادة، وهو بالكاد يتطرق لوجودها أو لكونها شرطاً للمسؤولية الأخلاقية (فالحرية لديه هي حس استقلالي أو مرونة توجد في حدود قوانين الطبيعة وبالكاد تصل إلى تحرر محدود من هذه القيود إما عبر الغرائز المحدودة أو الحرية السياسية وهذان الأمران يوليهما هيردر اهتمامه). يتناقض هذا الموقف بشكل حاد مع العديد من فلاسفة الأخلاق في العصر الحديث كهيوم وكانط على سبيل العيّنة. ومهما يكن من أمر فإنه إذا ما نظرنا إلى قدماء الإغريق (مثل هوميروس) أو التقاليد الأخلاقية الصينية ولاحظناهما بمنظور واسع فقلما نجد مفهوماً يختص بحرية الإرادة أو أي ميل نحو القول بأن هذه الحرية ضرورية للمسؤولية الأخلاقية. وفوق ذلك قد أحاجج بأن موقف هيردر هنا – مثله مثل تلك التقاليد – يتمتع بميزة كبرى، فمفهوم حرية الإرادة وكون الأخلاق عالةٌ عليه، وسيطرة ذلك على الفلسفة والدين في الغرب منذ التراث المتأخر، قد اتضح أن ذلك كله مجانب للصواب تماماً.
9- فلسفة التاريخ
تتضح فلسفة التاريخ عند هيردر بشكل أساسي في عملين: أولهما “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وثانيهما “أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني”. إن فلسفة هيردر في التاريخ فريدة من نوعها بالنظر لتطويره تصوراً غائياً للتاريخ بوصفه إدراكاً تقدمياً لـ”العقل” و”الإنسانية” وهو مفهومٌ مهّد لظهور هيجل وأثر به تأثيراً قوياً بجانب آخرين، وعلى كل حال فإن هذا التصور ملتبس جداً عند التمعّن فيه، وليس من منجزات هيردر الهامّة في هذا الحقل.
لعل منجّز هيردر الأكثر أهمية هو تطويره للأطروحة السالف ذكرها والتي عارض بها بعض فلاسفة التنوير كهيوم وفولتير، وهو وجود الاختلافات الجذرية في المفاهيم بين الحقب التاريخية والثقافات والأفراد، فمفاهيم الناس ومعتقداتهم وقيمهم وإحساساتهم وغيرها من أمور، تختلف بصورة عميقة بين حقبة زمنية وأخرى، وبين ثقافة وأخرى. تسود هذه الأطروحة في “حول تغيّر الذائقة “ 1766 وتستمر طوال مشوار هيردر الفكري، وأثرت بشكل بالغ فيمن تبعه كالأخويّن شليجل وشلايرماخر وهيجل ونتشه ودلتاي.
يمضي هيردر في اسكتشاف تجريبي وسط عالم التنوعات العقلية للحد الذي تضبط به هذه الأطروحة نظام التاريخ. يهتم هيردر قليلاً بالأفعال والأحداث السياسية والعسكرية في التاريخ ويركز بدلاً من ذلك على “دواخل” الفاعلين في التاريخ، وهو تركيز معتمد وواعٍ من قبل هيردر، وبواسطة ذلك يحتل علم النفس والتأويل -وبصورة حاسمة – مكانةً جوهرية بوصفهما أداتا المنهج التأريخي عند هيردر.
لهيردر أسبابه الفلسفية العميقة وراء هذا الخيار واتخاذ علمي النفس والتأويل كمرجعين للتأريخ. ففي البداية لديه مبررات سلبية موجهة نحو التأريخ السياسي والعسكري التقليدي. فلمَ ينبغي على التأريخ منذ البدء أن يوجه اهتمامه نحو المنجزات والأحداث العسكرية والسياسية العظمى؟ ثمة أجوبة محتملة وعديدة لهذا الأمر. أولاً: هي منجزات مبهرة وبناءة تربوياً. بيد أن هيردر لا يقبل ذلك، فهو ينكر الانفعال المحض والفضول كمحفزَين للكتابة التأريخية. وثمة سبب آخر وهو عداؤه للسلطوية والعسكرتارية، كما أن تبنيه للإنسانية (مفتوحة الحدود) دفعته لاعتبار الاستبداد السياسي والحرب و”الإمبراطورية” والتي شكلت غالبية الأفعال والأحداث (العظمى) غير ناجعة تربوياً، بل بغيضة. وقد يترك لنا ذلك نوعين من الدوافع خلف الكتابة التأريخية محل السؤال: ثانياً: إن فحص مسار هذه الأفعال والأحداث يكشف بعض المعاني في التاريخ. ثالثاً: من شأن هذا أن يقودنا إلى إضاءات سببية كافية تمكننا من شرح الماضي وقد تتيح لنا التنبؤ بالمستقبل أو حتى التحكم به. لايزال هيردر متشككاً حيال هذه الإطارات المنطقية وتتضح شكوكيته في النص القديم من “الغابات الحرجة” 8-1767 حيث قدم فيه نقده لهذه الإطارات المنطقية. رابعاً: وتحت تأثير شكيَّة كانط وهيوم حيال المعرفة السببية، يمضي هيردر نحو توكيد البحث عن السبب الكافي ” فالرؤية التاريخية تتوقف حين تبدأ النبوة “وترتحل كتاباته المتأخرة عن هذا الموقف المبكر وذلك لأسباب جلية، لكنه في المجمل يبقى مخلصاً لها (للمزيد من التفاصيل انظر للقسم الثالث من ملحق للنقاش).
إن حجج هيردر ضد هذه الإطارات موجزة في الرسائل 121-122 بدءاً من المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”(وقد ذكِرت بالكامل وبشكل منفرد في موضع آخر). وما يكمل هذا الموقف السلبي تجاه التاريخ التقليدي (العسكري/ السياسي) هو ادعاؤه الأهمية البالغة، بينما يملك هيردر أسبابه الإيجابية للتركيز على دواخل الحياة الإنسانية في التاريخ. يكمن أول الأسباب في اهتمام هيردر البحت بهذا الموضوع (مع أنه وكما هو مذكور آنفاً فإن هذا ليس بالسبب الكافي بنظره) والسبب الثاني هو اكتشاف هيردر للتنوع الجذري في الأفهام الإنسانية وأن لهذا الجانب مداه الواسع وغير المستكشف، وهو حقلٌ مثير للتحديات البحثية، الأمر الذي غفلت عن إدراكه الأجيال السابقة من المؤرخين. والسبب الثالث اعتقاد هيردر بأن دراسة ذهنيات الناس من خلال الأدب، والفن البصري، وهلم جرا.. سيكشف بصورة عامة عن طبيعتهم الأخلاقية في أفضل حالاتها (وهذا ما يتناقض بحدَّة مع دراسة تاريخهم السياسي والعسكري) وهذا ما تستقى منه الفوائد في سبيل التنوير الأخلاقي. والسبب الرابع يكمن في الدوافع الأخلاقية لنزعة هيردر العالمية والمساواتية، حيث أدت به لدراسة عقليات الناس في الأدب والفن البصري وما إلى ذلك، وهذا ما يتناقض بحدّة مع دراسة التاريخ المقتصر على النخب العسكرية والسياسية، أمرٌ سيقودنا لتعزيز التعاطف مع الشعوب بل ومع كافة الطبقات الاجتماعية بما في ذلك الطبقات الدنيا. أخيراً؛ فإن دراسة التاريخ ” الداخلي” للناس لهو أمر هام كأداة لتحسين ذواتنا غير الأخلاقية. السبب الخامس يعزز فهمنا لأنفسنا، وثمة سبب وجيه لذلك وهو أن مناقضة المرء لنفسه عبر استكشاف رؤى الآخرين له من الخارج ستدفعه لإدراك ماهو كوني وثابت أو على العكس سيدرك ماهو متميز ومتنوع. والأمر الآخر أنه من أجل إنضاج رؤيتنا الذاتية سنحتاج لإدراك أصولنا التاريخية وكيف أضحت على ماهي عليه (وهنا منهج الوراثيات الشهير لهيردر والذي سيتم شرحه بالكامل). السبب السادس هو اعتقاد هيردر بأن البحث الدقيق في المثل (غير الأخلاقية) للعصور الماضية قد يخدمنا في إثراء مثلنا وسعادتنا. يجد هذا الدافع عند هيردر تطبيقاً واسعاً في أعماله، ومن ضمن الأمثلة ما استكشفه هيردر في الأدب القديم في “الشذرات” يحتل في جزء كبير منه استنباط هيردر للعديد من الدروس حول تطوير الأدب الألماني الحديث.
إن تركيز هيردر على “دواخل” الفاعلين في التاريخ وتشديده المستمر على علم النفس والتأويل كطرائق لفهم التاريخ قد مهدّ وبشكل مبهر لمجيء دلتاي وأثر عليه بقوة، كذلك فالإطارات العقلية كما هو موضح أعلاه قد تفوقت على ماجاء به دلتاي خاصة في المنحى الإيجابي لهيردر. وأحد إسهامات هيردر الأساسية في فلسفة التاريخ يكمن في تبصره للاختلاف العقلي الجذري radical mental difference ولاسيما منهجه الوراثي آنف الذكر، وهو اختراع ثوري أثبت قيمته الجوهرية بشكل ضخم لدى فلاسفة مهمين ولاحقين على هيردر كهيجل ونتشه وفوكو.
إن منهج هيردر الوراثي genetic method هو أولاً وقبل كل شيء طريقة من أجل فهم أو شرح أفضل للمشهد النفساني والممارسات المتضمنة لما هو نفساني، وبالأخص طرائق لفهم ماهو شخصي للفرد، ولفهم ماهو ذاتي كذلك. أنجز هذا المنهج إسهامه المميز لفهم أفضل حيال المشاهد والسلوكيات بما في ذلك الفرد نفسه، عبر ماهو طبيعي (وليس ماهو ديني أو أسطوري أو متعال) وكيفية تطور ماهو طبيعي في الفرد تاريخياً منذ الأصول القديمة والسابقة على كل ماهو حاضر، وكيف انبثَّت في سلسلة من التحولات.
طوّر هيردر هذا المنهج مبدئياً أواخر الستينات من القرن الثامن عشر في علاقته بالشعر واللغة، ولم ينشر كتابه “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” 1764الذي تضمن تصوره المبكر لهذا المنهج وتطبيقه على الشعر. ثم نشر بعدها بمدة قصيرة كتابه “الشذرات” عام 8-1767 بعد تنقيحه لهذا المنهج وطبقه على اللغة، يليه تطبيق المنهج على القيم الأخلاقية ومسائل أخرى. لهذا فإنه في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 قد ركز بشكل كبير على القيم الأخلاقية والجمالية والائتمانية prudential، ليطور المقياس الأكبر للأطروحة الوراثية القائلة بأن التاريخ يتكون من سلسلة كبرى من الثقافات (مثل الثقافة الأبوية الشرقية/ الثقافة المصرية/ الثقافة الفينيقية/ الثقافة اليونانية/ الثقافة الرومانية وهلم جرا) والتي انبنت فوق بعضها بصورة تراكمية وولدت في محصلة الأمر الثقافة الأوروبية الحديثة (والتي احتار بإزائها بشكل كبير) فعلى سبيل المثال يرى هيردر أن الثقافة اليونانية هي تركيبٌ بين ثقافة الطاعة الشرقية المصرية مضافٌ إليها الثقافة الفينيقية الحرَّة وقد سبقتا اليونان، ثم مررت هذا التركيب إلى الثقافات الأوروبية الحديثة. أما هيجل وخصوصاً في “فينمنولوجيا الروح” 1807 ونتشه لاسيما في “جينالوجيا الأخلاق” 1887 وتلاهما فوكو قد استخدموا هذا المنهج وعملوا على تعديله بطرق مختلفة.
كيف يمكن لمنهج هيردر أن يطور من فهم الذات؟ إنه يطمح إلى ذلك عبر طريقتين متمايزتين وتؤسسان معاً لما نستطيع تسميته بالنموذج الأساسي للتفسير الوراثي. إن الإسهام الأول لهذا المنهج في فهم الذات يقع تقريباً في حيازة الشخص لمفاهيمه، ومعتقداته، وأحاسيسه، وتقاليده، وأشكاله الفنية وهلم جرا، وألا يقارنها مع رؤى أخرى تفتقر إليها أو التي تملك خيارات مختلفة، فمن شأن ذلك أن يدفع الشخص للمجازفة بجعل قناعاته كونية لا غني عنها، أو أن يتغاضى عن مزايا الشخصيات الأخرى. يتضاد المنهج الوراثي مع هذين النمطين من إساءة فهم الذات، عبر جعل المرء مطلعاً على المراحل التاريخية المبكرة التي تفتقر للمفاهيم ذات الصلة الخ، يداً بيد مع المراحل التاريخية المتوقعة لا بالشكل الذي يحوزه المرء لكن عبر صيغة مختلفة، فيصبح من الممكن أن تدرك المحليَّة وإمكانية الاستغناء عن المفاهيم الخ، في السؤال ومقارنة بعضهم البعض لكشف ماهو مميز في الشخصية.
يتكون الإسهام الثاني لمنهج فهم الذات في مستواه الأساسي عبر أمرين: أولهما أن المفاهيم محل السؤال، عِوضاً عن كونها فطرية (ومن ثم حاضرة العقول البشرية) أو حتى في كونها مكتسبة من العدم وتشكلت في نقطة من التاريخ، فإنها في الحالتين نتاج تطورات تاريخية لم توجد من قبل أبدا، بل وجدت فقط ضمن تشكلات متنوعة؛ والأمر الثاني أن هذه التطورات التاريخية قد شكلت المفاهيم. وعلى مستوى ثانوي فإنه من العادة أن يفسر أحدهما بالآخر ضمن خصوصية الذاتية. على سبيل المثال فإن الشعر الغنائي ضمن هذا المنهج قد بدأ كتعبير عن المشاعر واستمر على هذا النحو في تحولاته، ومثل ذلك فإن اللغات تطورت منذ نشأتها البدائية إلى أن تعقدت على نحو مهول؛ وبالمثل فإن الثقافة الحديثة وما تحمله من قِيم قد انبثقت عن ثقافات وقيم مبكرة عبر سلسلة من التراكمات والتحولات.
وأخيراً فإن هيردر مبهر في إدراكه لمشكلة التاريخ والصورة التي رسمها عنه (مع أنه لم يحل هذه المشكلة وإنما اشتبك معها) بما في ذلك مقارنته بين الثقافات كمنطقة للاختلافات العميقة في العقلية الإنسانية. وهذه هي مشكلة الشكيّة Skepticism (للمزيد من التفاصيل انظر القسم الرابع من ملحق النقاش).
10- الفلسفة السياسية عند هيردر
لايعتبر هيردر فيلسوفاً سياسياً ضمن التفكير المعتاد. لكنه أحد الذين قدّرت مثلهم السياسية ودوفع عن مواقفه السياسية، كما كانت أفكاره التي ركز عليها ذات ديمومة أكثر من أي فيلسوف ألماني آخر من تلك الحقبة. كانت معالجة هيردر الأكثر تطوراً للفلسفة السياسية في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته، وذلك في كتاب استحثت كتابته الثورة الفرنسية عام 1789 ” رسائل من أجل تقدم الإنسانية” 7-1793 (بما في ذلك المسودة المبكرة عام 1792 التي اكتسب أهميتها من خلال إفصاحه الواضح عن آراءه حيال السياسات الداخلية).
ماهي السمات الأساسية لفلسفة هيردر السياسية؟ لنبدأ أولاً مع المثل السياسية. الشق الأول منها يخص السياسة الداخلية والشق الثاني يخص السياسة الدولية. ففي السياسة الداخلية يبدو هيردر المسن ليبرالياً، جمهورياً، ديمقراطياً، ومساواتياً Egalitarian (ينبغي ملاحظة الظروف التاريخية حيث تندر هذه المواقف وتحملها هيردر على مسؤوليته الشخصية). إن ليبرالية هيردر راديكالية على نحو خاص إذ تؤيد حرية التفكير والتعبير (وهذا يشمل حرية المعتقد) ولديه أسبابه العديدة لهذا الموقف: أولاً يشعر هيردر أن هذه الحرية تنسَب لكرامة البشر الأخلاقية. ثانياً: يعتقد أن هذه الحرية ضرورية للإدراك الذاتي للأفراد. ثالثاً: يجد هيردر أن قدرات الناس محدودة في إدراك الحقيقة ولن يتم ذلك إلا عبر تنافس مستمر بين وجهات النظر المتعارضة فيحققون تقدماً نحو الحقيقة (استعار جون ستيوارت مل هذه الآراء لاحقاً واستقى معظمها من فلهلم فون هومبولت لتكوين نظريته حول حرية التفكير والتعبير في كتاب “عن الحرية“).
التزم هيردر أيضاً بالجمهورية والديمقراطية (تبنى الحق الدستوري وبشكل أوسع صلاحية من كانط على سبيل المثال) ولهيردر أسبابه المختلفة لهذا الموقف الذي استوحاه من نزعة المساواة لديه لأجل الصالح العام لكافة أعضاء المجتمع. فأولاً: يشعر هيردر بالصواب التام في القول إن على جموع الناس أن تتشارك في الحكومة لا أن تفرض عليهم. ثانياً: يعتقد أن من شأن ذلك خدمة مصالحهم الأخرى فالناس محكومون وحاكمون معاً. ثالثاً: يؤمن هيردر أن ذلك كفيل بتقليص الحروب التي تستعر بسبب النظم الأوروبية الاستبدادية، ولاتفيد سوى قلة من الحكام الذين يشنون الحرب لتقع كلفتها الباهضة على الشعب.
أخيراً فإن المساواتيةegalitarianism لدى هيردر تمتد لما هو أبعد من ذلك، فهو لا يرفض الاختلافات الطبقية ولا المِلكية الخاصة، كما لا يرفض عدم المساواة بالكليّة. إن ما يعارضه هيردر هو الاضطهاد الطبقي التراتبي hierarchical ويحاجج بأن أفراد المجتمع يملكون قدرات تمكنهم من الإدراك الذاتي، ويجب أن ينالوا الفرصة لاستغلال هذه القدرات، ويصر هيردر على ضرورة تدخل الحكومة لتوكيد نيل هذه الفرص، كأن تضمن الحكومة التعليم للجميع وحداً أدنى من المعيشة للفقراء.
أما ما يخص السياسة الدولية فإنه عادة ما ينظر لهيردر بأنه ” قومي ” وأحياناً ما هو أسوأ (قومي ألماني) وهذا ما قام به على سبيل المثال روبرت إرجاجنج R.Ergang في “هيردر وأصول القومية الألمانية”1931وكارل بوبرفي “المجتمع المفتوح وأعداؤه” 1945. ثمة فلاسفة من تلك الحقبة يستحقون هذا التصنيف مثل فيشته، لكن من المضلل، ومن الجائر، جعل هيردر كذلك. وعلى النقيض من هذا، كان هيردر ككانط، ذا موقف عولمي حِيال السياسة الدولية، ومهمومٌ بجميع البشر. يعود ذلك وبشكل كبير لمِثال الإنسانية لديه. ولهذا في “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” ينقل هيردر من فينولون Fénelon مؤيداً له: ” أحب عائلتي أكثر من نفسي، وأحب وطني أكثر من عائلتي، وأحب الإنسانية أكثر من وطني” (HPW389). وفوق هذا فإن عولمة هيردر لربما كانت أكثر نقاء من كانط الذي تقوّض طرحه بسبب تحيزاته العديدة التي انتمى لها، وبالأخص عنصريته، وعداؤه للسامية، وكراهيته للمرأة (Kleingeld 2013). على النقيض، كان هيردر حراً من هذه التحيزات، وبلا شك فقد عمل بلا كلل على مواجهتها.
أيضاً فقد ألحَّ هيردر على احترام الجماعات القومية والحفاظ عليها وتطويرها. وينبغي أن نطمئن لذلك للأسباب التالية: (1) يجد هيردر في الأمر ضرورة لحفظ الجماعات القومية بالتساوي ولا يتعلق الأمر بألمانيا وحدها! (في رسائل من أجل تقدم الإنسانية يرفض هيردر بشكل قاطع كل فكرة عن “الشعب الأفضل Favoritvolk ” كما ذَكَر) HPW 394. (2) إن ” الأمة” موضع البحث هنا ليست عرقية بل لغوية وثقافية (في كتاب الأفكار وبمواضع أخرى يرفض هيردر تماماً مفهوم العرق وينتقده). (3) لا يسعى هيردر إلى إلغاء التثاقف بين الأمم ولا يتبنى الجمود، بل يرحب بالتلاقح الثقافي والتداخل اللغوي والتنمية الثقافية واللغوية. (4) لا يدل اعتراف هيردر بالجماعات القومية على وجود مركزية لديه، أو نزعة نحو الدولة العسكرية (في الأفكار ومواضع أخرى يؤيد بقوة اختفاء الدولة العسكرية واستبدالها بحكومة فيدرالية مرنة وذات تسليح محدود). (5) بالإضافة لهذا فإن إصرار هيردر على احترام الجماعات القومية يرافقه شجب للصدامات العسكرية، والاستكشافات الاستعمارية، وكافة أنواع الإيذاء بين الأمم، ويطلب عوضاً عن ذلك: التعاون السلمي والتنافس التجاري والاجتهاد العلمي وذلك كله بغرض الفائدة المتبادلة؛ وهو نداء نحو الأمم كي تعمل بجدية لمساعدة بعضها بعضا.
لهيردر أسبابه التي اضطرته نحو الإصرار على احترام الجماعات القومية، وهي: (1) إن ما يلزم من التنوع العميق في القيم بين الأمم استحالة التجانس وعدم قيامه عملياً. (2) يلزمنا هذا التنوع بأن قيام التجانس لن يحدث طواعيةً بل عبر القسر الخارجي. (3) إن المحاولات لإنجاز التجانس في الواقع العملي – عبر أوروبا الاستعمارية على سبيل المثال – أو عبر أية صيغة قسرية أخرى، سيخفي دوافع للهيمنة والاستعمار (4) وفوق ذلك فإن التنوع الأممي إيجابي وثمين، سواء من حيث قيمته الذاتية أو من خلال توفيره للأفراد حس الانتماء المحلي الأصيل.
ما من شك في أن عولمة هيردر التعددية ذات أهمية، وهي بديل جذاب للعولمة التجانسية المبنية على أوهام ترتبط إما باحتمالية وجود قيم كونية مشتركة، وهو ما هيمن على عصر التنوير ولا زال رائجاً حتى اليوم، سواء بين الفلاسفة (لا سيما في العالم الناطق بالإنجليزية) أو في المنظمات السياسية الدولية كالأمم المتحدة.
ثمة جانب آخر ذا أهمية في فلسفة هيردر السياسية ويتعلق بالسياسة الداخلية والدولية، وهو ميله الشديد لمِثال الإنسانية على حساب مِثال حقوق الإنسان الشائع في زمنه (لمزيد من التفاصيل انظر القسم الثالث من ملحق النقاش).
وها نحن ذا وقد مررنا على المثل السياسية المتنوعة التي شكّلت أرضيَّة هيردر السياسية، تبقت قضية أخيرة تحتاج للنظر وقد تواجه بمعارَضة، وهي أن كل ما تقدم ذكره لا يبلغ منزلة النظرية السياسية كما هو شأن فلاسفةٍ ألمان آخرين ممن عاصروا هيردر وزودونا بنظريات سياسية، وهذا صحيح في شق (ويمكن الدفاع عنه فلسفياً) وباطل في شق آخر.
يتعلق الشق الصحيح بأنه بالفعل لا وجود لنظرية ميتافيزيقية كبرى تدعم موقف هيردر، لا وجود لديه لنظرية أفلاطونية للمثل، ولا توجد علاقة بين المؤسسات السياسية لديه و”اللحظات ” في المنطق الهيجلي، ولا وجود لـ” استنباط” للمؤسسات السياسية من طبائع الذات أو الإرادة التي عند فيشته أو هيجل. وهذا متعمد عند هيردر بالنظر إلى شكه حيال هذا الضرب من الميتافيزيقا. أفليس هذا الأمر ناجعٌ فلسفياً؟
كما لا يعطي هيردر أي اعتبار كي يزعم من خلاله تبرير المؤسسات الأخلاقية بالنسبة لموقفه السياسي ولا يدعي امتلاك بصيرة ثاقبة في هذا الشأن (مثلما هو الحال على سبيل العينة مع نظرية كانط ومقولاته الأمرية أو نظرية رولز عن الوضع الأصلي) وهذا، مرة أخرى، متعمدٌ من جانب هيردر وفقاً لنزعته العاطفية في الأخلاق ورفضه للنظريات الزائفة والمضرة. أفليس هيردر محقاً للمرة الثانية في تغييبه لهذا الاعتبار، وبالتالي فالأمر ناجعٌ فلسفياً؟
ولا يتعاطف هيردر مع النظريات السياسية الأساسية والمرهِقة كالحقوق الطبيعية، وماهية الطبيعة، والعقد الاجتماعي، والإرادة العمومية، وطوباويات المستقبل. ولكن ولمرة أخرى فإن لهيردر أسبابه الوجيهة والدقيقة خلف تشكيكه بهذه الأفكار، وهذا ما يظهر أنه ناجعٌ هو الآخر.
هذا إذن هو المنطق السليم للاعتراض؛ أن هيردر ينقصه بالتأكيد “نظرية سياسية” من هذه الأنواع، لكنه يفتقر إليها من حيث المبدأ ولعله كان محقاً في فعلته هذه.
وعلى صعيد آخر، وضمن منطق مختلف، فإنه لمن الزائف أن نقول بافتقار هيردر لـ”النظرية السياسية” لأنه بالفعل يملك “نظرية سياسية” من نوع مختلف وربما أكثر قيمة. أولاً: يستمر موقف هيردر من خلال تجريبيته العامة في الفلسفة السياسية، وهو تجريبي بعمق في بياناته. فعلى سبيل العينة وكما يمكن ملاحظته في “أطروحة حول التأثير المتبادل بين السياسة والعلوم” 1780 أطروحة هيردر تهتم هنا بأهمية حرية التعبير والتفكير، والمنافسة بين الرؤى التي تجعل ذلك ممكناً بغية تحقيق تقدم فكري يبنى بشكل كبير على المثال التاريخي لليونان القديمة وبالتحديد أثينا، أي على النقيض من المجتمعات التالية عليها كروما التي افتقرت إلى الحرية والتنافس في البحث. وفي مسودة 1792 من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” وصف هيردر الثورة الفرنسية ومحاولاتها لتأسيس ديمقراطية حديثة بأنها “تجربة” يمكن الإفادة منها (على سبيل المثال التعلم من كون الديمقراطية قابلة للانتشار بنجاح إلى أمم أكبر بكثير من أثينا القديمة). ثانياً: وبانسجام مع نزعته العاطفية في الأخلاق، يدرك هيردر وبذكاء أن موقفه السياسي يتكئ بشكل تام على العواطف الأخلاقية التي تخصه، ولكي تنجح هذه النظرية عليها أن تتكئ على عواطف الآخرين أيضاً. على سبيل المثال في المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يشدد هيردر علىتغير مواقف الناس أخلاقياً وكذلك تغير مشاعرهم، وهذا ما يلعب دوراً جوهرياً في تأييد موقف هيردر وإدراكه السياسي. إن هذا الموقف لهيردر يعفيه من التنظير السياسي، ولا يمنعه فحسب من التقعيد المعرفي للحدوس الأخلاقية موضع التساؤل بل يعد بحلول مؤثرة ومختصرة لما قد يبدو لمشكلات عصية على الدماغ البشري، كالتنظير حيال طرائق وأسباب العواطف الأخلاقية للناس وكيف ينبغي أن تصاغ لخدمة المِثَال ideal الذي يتوافق مع ميله السياسي. أما نقاش هيردر حيال “الميول” السياسية في المجموعة العاشرة من الرسائل كنموذج على تنظيره، فإنه يهتم بالطرائق لا الأسباب. وأما بعض تنظيرات هيردر الشاملة للأسباب (كالتعليم، ووجود القدوات من الأفراد، والقوانين، والأدب، وما إلى ذلك) فقد نوقشت فيما تقدّم من هذه المقالة.
إن هذين الضربين من التنظير السياسي، أي التنظير التجريبي والتنظير العاطفي الأخلاقي، قد تطورا بعمق في روع هيردر، ولعلهما الأكثر تطورا من بين النقاط الأخرى. وباختصار، فإنه بالمدى الذي تكون فيه نظرية هيردر السياسية سطحية، تستعير عبارة نتشه ” السطحي – الخارج من العمق ” ( في حين تبدو فيه الصيغ المألوفة للفلسفة السياسية عَميقة- خارجة من السطحية). وضمن منطق مختلف وأكثر أهمية؛ فإن نظرية هيردر ليست سطحية نظرياً على الإطلاق.
11- فلسفة الدين عند هيردر
كانت الفلسفة الألمانية في زمن هيردر ملتزمة بلعبة المصالحة مع أفكار التنوير، خصوصاً الأفكار التي تتعلق بالعلم الطبيعي الحديث، والدين (المسيحية على نحو خاص). لقد لعب ليبنتز وكانط وهيجل وشلايرماخر وكثير غيرهم هذه اللعبة، واقترح كل منهم مصالحته الخاصة بين الدين والتنوير وهيردر جزء من هذه اللعبة هو الآخر. لم تكن هذه باللعبة الممتعة للفلاسفة. لكن حتى القرن التاسع عشر وجدت الفلسفة الألمانية الشجاعة للتصدي لهذه المعضلة، والانتقال من خطاب مدافع عن الدين والمسيحية إلى خطاب ينتقدهما بشكل شامل (المثالين الأبرز هما ماركس ونتشه) ففرض هذا الأمر قيوداً على فلسفة هيردر عن الدين وأثر بقيمتها (ينطبق ذلك على الفلاسفة المذكورين آنفا).
مما ينبغي ملاحظته أن فلسفة هيردر في الدين متنورة ومتقدمة للغاية بصورة عامة، سواء في مرحلته المبكرة أو المتأخرة. كان ثمة انفصال في المنتصف، لاسيما بين عامي 1771-1776 ففي باكبيرج Bückeburg وأثناء انغماس هيردر في اللامعقول الديني (وهو اتجاهٌ يرفض العقل ويؤسس المعتقد الديني على الإيمان وحده) كانت هذه خاصية يتمتع بها صديقه هامان، وحدث ذلك نتيجة ما ندعوه اليوم بالانهيار العصبي الطفيف (وهذا موثق في مراسلاته آنذاك) وهو أمر ينبغي إهماله.
بالرغم من هذه السمات في فلسفة الدين عند هيردر فإن لديه إسهاماته الهامة، وهي كذلك بالنظر لقيمتها الجوهرية، وتأثيرها، أو الأمرين معاً.
من إسهامات هيردر (المهمة بالنظر لتأثيرها) هي الإسبينوزية الجديدة. إن تعاطف هيردر وارتباطه بأعمال سبينوزا يعود في قدامته على الأقل إلى عام 1769. والعرض الرئيسي لهذه الأفكار يقع في كتاب ” الإله: شيء من المحادثات” المنشور سنة 1787. نشر هيردر هذا العمل أثناء انتشار كتاب ياكوبي Jacobi “رسائل عن مذهب اسبينوزا” 1785 حيث كشف ياكوبي عن الفيلسوف والناقد والمسرحي المبجل ليسنج Lessing والذي منحه هيردر بالتحديد فائق احترامه، واعترف له قبل موته بفترة وجيزة أنه تخلى عن المفاهيم الأرثذوكسية الدينية لمصلحة الاسبينوزية. حاجج ياكوبي بنفسه، وبشكل حاد، أن الاسبينوزية وكل المذاهب القائمة على العقل، تتضمن بداخلها الإلحاد والجبرية، وينبغي نبذها لأجل الوثبة نحو الإيمان leap of faith واعتناق اللاهوت المسيحي التقليدي. كان كتاب ياكوبي، ومثله رد موسى مندلسن عليه، قد تنازعا حول نعت ليسنج بالاسبنيوزية، ورغم سلامة نواياهما فقد أحدث ذلك جلبة لدى العامة. في كتابه “الإله: شيء من المحادثات” يؤيد هيردر نعت ياكوبي وليسنج له بتطوير نسخته من “الاسبينوزية” حين عدّل الأصل في جوانب جوهرية منه، ويعود ذلك بشكل كبير لتفادي اعتراضات ياكوبي.
يتشارك هيردر مع اسبينوزا في أطروحته الأساسية حول الواحدية. ومثل اسبينوزا فإن هيردر يساوي المبدأ الواحد الشامل مع الإله (وهذا ما يستدعي التساؤل حول اتهام ياكوبي له بالإلحاد). ولكن في حين يحدد اسبينوزا هذا المبدأ الواحد الشامل بأنه الجوهر فإن هيردر بدلاً من ذلك يحدده بأنه قوة أو قوة أولية. هذا التعديل الجوهري يتضمن تعديلات أخرى يجدها هيردر جذابة، وتشمل ما هو آت: (1) في حين سعى اسبينوزا إلى فهم مبدأ الواحد – وهو موضع التساؤل- بأنه شيء غير فاعل فإن مراجعة هيردر تحيله إلى الفاعلية. (2) تنسب نظرية سبينوزا الفكر إلى المبدأ موضع السؤال (= الواحد “المترجم”) ولكن ترفض المبادئ ذات المقاصد أو ذات العقل. على نقيض ذلك يرى هيردر أن للمبدأ مقاصد، وبما أن فلسفة العقل عند هيردر، في عمومها، تطابق بين العقل والقوة فإن تحديده للمبدأ موضع السؤال بأنه قوة، سيحمل معه تضميناً بأنه عقل (لا يصرح هيردر بذلك في كتابه “الإله: شيء من المحادثات”لكن بعد سنوات قليلة في كتاب “عن روح المسيحية”1798 يصف الإله بصراحة أنه روح Geist وعقل) فعبر هذه الوسائل يعيد هيردر الإله الاسبينوزي (وبهذه الطريقة ينقض تهمة ياكوبي له بالإلحاد). (3) بينما يتصور اسبينوزا الطبيعة بشكل ميكانيكي متسقاً مع ماضيه الفكري الديكارتي (وهذا ما يستدعي تهمة ياكوبي عن الجبرية) فإن هيردر (بالرغم من عدم درايته بماهية القوى) يميل إلى تصور القوى تعمل في الطبيعة وأنها قوى حية أو عضوية (وهو تصور يدين به لليبنتز). (4) يعتقد هيردر أن نظرية اسبينوزا الأصلية تحتوي ما هو مرفوض من ثنائية ديكارت، فالقوى في طبيعتها تتمظهر في حركة الأجسام الممتدة. (5) يرسم هيردر مخططاً تفصيلياً للطبيعة بوصفها نظاماً للقوى الحية مبني على القوة الأولية، أي الإله، وهو مخطط يلعب دوراً هاماً في هذا النظام الذي تتعارض فيه القوى كي يجذبها هذا المغناطيس، فيتصف هذا النظام بالنمو الذاتي ليتجه إلى رتبة أعلى فأعلى من الكمال.
إبان الربع الأخير من القرن الثامن عشر ونحو مطلع القرن التاسع عشر جاءت موجة الاسبينوزية الجديدة لتجتاح الأدب والفلسفة في ألمانيا: فبالإضافة إلى ليسنج وهيردر كان ثمة اسبينوزيون جدد بمن فيهم جوته وشيلنج وهيجل وشلايرماخر وهولدرلن ونوفاليس وفريدريش شليجل. كانت هذه الموجة نتيجة تبني هيردر للاسبينوزية الجديدة في كتابه “الإله: شيء من المحادثات” (أدرك جوته تأثر هيردر بالاسبينوزية قبل هذا الكتاب) ومن ثم فإنها قد سادت على استدراكات هيردر على اسبينوزا.
وأيّما كان من أمر، فإن إسهام هيردر الأكثر أهمية لفلسفة الدين يتعلق بتأويل الإنجيل. وبهذا الصدد – وكما ذكرنا آنفاً- فإن هيردر يمجد العلمانية الصارمة. كان هذا هو موقفه في الستينات من القرن الثامن عشر، ففي تلك الحقبة حاجج بشدة لأجل روح جاليليو، وألا يكون للوحي سلطانه على العلم الطبيعي، ومع ذلك فلم يكن هيردر معارضاً للروح الدينية بقدر ما كان يأمل أن يستقل العلم الطبيعي، فهو باستقلاله هذا قد يصادق على الدين. كما أقام هيردر حالة من التوازي في استقلالية التأويل؛ فالمعتقدات والشرائع الدينية لا تتدخل في تأويل النصوص حتى وإن كانت نصوصاً مقدسة، بل إن الإنجيل نفسه يجب أن يتم تأويله ككتاب من صنع البشر، وبنفس الأدوات الهرمونيطيقية الصارمة التي يتم توظيفها في تأويل النصوص القديمة الأخرى. إن كل تنوير ديني ليتأتى نتيجة هذا التأويل، وعليه ألا يلج هذه الفعالية التأويلية بنفسه، ثم بقي هذا الموقف سائداً عند هيردر حتى مرحلته المتأخرة.
أما المبدأ العام القائل بأن الإنجيل ينبغي تأويله بنفس الطريقة التي تؤول بها النصوص الأخرى، فلم يكن شائعاً في زمن هيردر بقدر ما شاع بعده، كما لم يكن هو سببه بالكامل، فعبر تبني هذا المبدأ كان هيردر واعياً باتباعه للعديد من علماء الإنجيل المحدثين، من نافلة إرنستي Ernesti ومايكليز Michaelis وسيملر Semler. وعلى كلٍّ فقد كانت علمانية هيردر متينة ومتطرفة أكثر منهم، وسبب ذلك تخلي هيردر عن كل قداسة تلهٍم المفسر، وفوق ذلك التخلي عن كل فرضية تقول بأن الإنجيل وهو كلمة الله يجب أن تصح وتثبت على الدوام (للمزيد من التفاصيل انظر للقسم السادس من ملحق النقاشات).
هناك مبدأ تأويلي آخر وهام عند هيردر يتقارب مع علمانيته الصارمة، وهو إصراره على مقاومة مفسري الإنجيل لإغراء قراءة الكتاب المقدس بصورة رمزية (باستثناء حالات قليلة نسبياً كالأمثال في العهد الجديد، حيث يتضح الدليل من النص بجلاءٍ حول الكاتب ونيّته في إيصال المعنى بصورة رمزية) وفي كتابه “عن ابن الإله مخلص العالم” 1797 يمنحنا هيردر، وبتبصر، تشخصياً عاماً عن غواية التفسير الرمزي وصعوده: فعبر تغير تاريخ المعتقدات والقيم لدى الناس أدى ذلك إلى التعارض بين ما تحتويه النصوص التقليدية وما تتضمنه معتقدات الناس وقيمهم، ومع ذلك لازالوا ينتظرون من هذه النصوص أن تكون صائبة، ثم يحاولون المطابقة بين الأمرين عبر القراءات الرمزية.
إن التزام هيردر بالعلمانية الصارمة والقراءة التأويلية (غير الرمزية) للنصوص الإنجيلية قاده إلى اكتشافات تأويلية تخص الإنجيل وذات أهمية بالغة، فقام بتطبيق مناهج تأويل معيارية normal على العهد القديم مكنته من تمييز وتحديد الأجناس الشعرية المختلفة للعهد القديم للحد الذي تفوق فيه على منجزات كل من سبقه. ونجد نفس الالتزام في استعداده الدائم لاكتشاف ماهو زائف ومضطرب في الإنجيل، وهذا ما أتاح له الإتيان بملاحظاتٍ تأويلية هامة حول المفاهيم العبرية القديمة عن الموت ومابعد الحياة والعقل والجسد، وكون هذه المفاهيم قد تغيرت بشكل حاسم بمرور الوقت (للمزيد حول هذه المنجزات التأويلية انظر على وجه الخصوص كتابه “في روح الشعر العبري”) كما إن رفض هيردر للتأويل المجازي – غير المضمون- سمح له باستبدال التفسير الشائع لنشيد الإنشاد من كونه رمزية دينية إلى كونه شعر غزلي بسيط، وهو ما يعد سليماً ومقبولاً اليوم.
وعلى نحو مشابه يتعلق بالعهد الجديد، التزم هيردر بتطبيق مناهج تأويلية معيارية، تشمل استعداده الدائم لاكتشاف الزيف والاضطراب الذي مكنه من التعاطي مع كتاب الأناجيل الأربعة بوصفهم أفراداً من البشر لا بوصفهم أفواهاً للإله، وقد فعل ذلك لإدراك الاضطراب بين مواقفهم، وبغية البرهنة على تواريخ الأناجيل بشكل صائب للمرة الأولى (فالأول هو مرقس، وفي المنتصف متّى ولوقا، والأخير هو يوحنا) وقام هيردر بذلك لإعطاء تصور صحيح وواسع عن نشأة الإنجيل عبر الخطب الشفوية وعلاقتها المحتملة بعضها ببعض (وهي إنجازات احتفظ بها هيردر في عملين متأخرين بين عامي 1796-1797 في كتابَي “عن مخلص البشرية “ و “عن ابن الإله مخلص العالم”).
إن علمانية هيردر الصارمة وتصديه للتأويل الرمزي قد تم تبنيهما بعد فترة وجيزة من قبل شلايرماخر، الذي أيّد مبدأ تفسير النصوص المقدسة على ضوء مؤلفيها من البشر وذلك على غرار هيردر، وأن تطبق عليها نفس المناهج التي تطبق على النصوص العادية، فالتزم شلايرماخر بهذا النهج لا سيما فيما يتعلق باكتشاف الاضطرابات والتزييفات في الإنجيل.
ومنجزات هيردر في هذا الحقل لها سمة المأساة الشخصية التي لا ترحم، ولكن كما ذكر آنفاً فإنه لم يعمد على الإطلاق إلى تمجيد الضمير والفكر في الإصرار على استقلالية العلم والتفسير الطبيعي من أجل تقويض الدين بوجه عام أو المسيحية على نحو خاص. فعلى خلاف ذلك، كان يأمل ويرجو أن هذين الضربين من الاستقلالية سيدعمان الدين والمسيحية في نهاية المطاف. ومهما يكن من أمر فإن هذا الأمل قد خاب بطريقة مؤلمة. فالعلم الطبيعي المستقل قد أثار الإشكال حول الدين عموماً والمسيحية بشكل خاص. كما أن سياسة هيردر في قراءة الإنجيل عبر مناهج معيارية تراه مجموعة من النصوص البشرية بما يعتريها من نواقص، قاد ذلك على نحو متزايد إلى تقويض مزاعم الإنجيل في سلطته الفكرية (من شواهد ذلك نشر ديفيد فريدريش شتراوس لكتاب “حياة المسيح” 1835-1836) وكثيرٌ مما أنجزه هيردر أخيراً في هذا الحقل سيسوءه، ولن يرحب به.
12- تأثيره الفكري
هانحن أولاء وقد ألقينا نظرة على المنجزات الرئيسية للفيلسوف هيردر، وصرنا في موضع أفضل للنظر لا إلى قيمتها الجوهرية فحسب ولكن كي نلقي نظرة على أثرها الهائل. فحين نطِل على بداية هذه المقالة سنرى التأثير الذي أحدثه في الفلسفة وما تجاوزها للحد الذي امتد فيه إلى تأسيس نظم معرفية بكاملها (للمزيد من التفاصيل انظر القسم السابع من ملحق النقاشات).
13. المرشد نحو أدبيات هيردر
كتابات عامة:
Adler and Koepke 2009 (an excellent collection of articles covering a wide range of topics); Beiser 1987 (ch. 5 covers several subject helpfully, including Herder’s philosophies of language, mind, and religion); Berlin 1976 (concise and excellent); Clark 1955 (detailed and useful, though unimaginative); Forster forthcoming (covers the subjects treated in this article in more detail); Gillies 1945 (not philosophically sophisticated, but good on Herder’s relation to literature and on his influence); Greif, Heinz, and Clairmont 2016 (a useful reference work); Haym 1880 (a classic, detailed intellectual biography; still by far the best general book on Herder available); Heise 1998 (a good short introduction); Irmscher 2001 (an excellent short introduction); Nisbet 1970 (a helpful general account of Herder’s views about science); Sauder 1987 (contains helpful contributions on a wide range of topics); Wiese 1939 (a helpful overview).
حياة هيردر الفكرية:
Adler 1968; Beiser 1987 (ch. 5); Berlin 1976; Clark 1955; Haym 1880
أسلوبه الفلسفي:
Adler 2009; Berlin 1976; Clark 1955; Haym 1880; Zammito 2001 (an excellent, thorough study)
برنامجه الفلسفي العام:
Heinz 1994; Zammito 2001 (very good on this subject)
فلسفة اللغة:
Aarsleff 1982; Coseriu 2015; Forster 2010, 2011a, 2013; Hacking 1988, 1994; Sapir 1907 (an excellent discussion of the Treatise on the Origin by an important twentieth-century linguist); Taylor 1991, 1996, 2016
نظرية التأويل (الهرمونيطيقا):
Forster 2010 (especially chs. 1–5), 2011a (especially ch. 9), 2016; Gjesdal 2004, 2017; Irmscher 1973 (a very influential article that attempts to assimilate Herder’s position to Gadamer’s, an ambition that is both interpretively and philosophically controversial); Willi 1971 (a helpful treatment of Herder’s approach to interpreting the Old Testament)
نظرية الترجمة:
Berman 1984; Forster 2010 (ch. 12); Huber 1968; Huyssen 1969; Kelletat 1984 (a helpful treatment of Herder’s interest in world literature, and of his theory and practice of translation); Purdie 1965; Sauder 2009
اللغويات والأنثروبولوجيا:
Broce 1986; Coseriu 2015; Forster 2010 (ch. 6), 2011a (especially ch. 4); Gjesdal 2013; Mühlberg 1984; Pross 1987; Zammito 2001
فلسفة العقل:
Beiser 1987 (ch. 5); Forster 2011c
الجماليات:
Forster 2010 (chs. 1, 3, and 5), 2011a (ch. 6), 2016; Gjesdal 2017; Guyer 2007; Irmscher 1987; Mayo 1969; Norton 1991 (helpful both on aspects of Herder’s aesthetic theory and on his general relation to the Enlightenment); Wiora 1953
فلسفة الأخلاق:
Berlin 1976; Booher 2015; Crowe 2012; DeSouza 2012a, 2012b, 2014; Forster 2017b and forthcoming; Sikka 2011
فلسفة التاريخ:
Barnard 2003; Beiser 2003; Bollacher 1994; Forster 2011b, 2012a; Gadamer 1942; Irmscher 1984, 2010; Lovejoy 1948 (helpful and concise); Maurer 1987; Meinecke [1936] 1972 (ch. 9 on Herder is very helpful); Otto and Zammito 2001; Staedelmann 1928; Wells 1960; Zammito 2009
الفلسفة السياسية:
Barnard 1965 (chs. 3–5 cover Herder’s political thought very well); Beiser 1992 (ch. 8 on Herder’s political philosophy is excellent); Berlin 1976; Bernasconi 1995; Ergang 1931 (helpful on Herder’s political thought and on his intellectual influence, but marred by a false assimilation of Herder’s nationalism to later German nationalism, and by an unduly warm assessment of such a position); Forster 2010 (ch. 7), 2017a; Sikka 2011
فلسفة الدين:
Bell 1984; Forster 2012b; Lindner 1960; Vollrath 1911; Willi 1971
تأثير هيردر:
Ergang 1931; Forster 1998, 2010, 2011a, 2011b, 2011c, 2012a, 2012b, 2012c, 2016, 2017b; Gillies 1945; Harris 1972; Heinz 1997; Jacoby 1911; Taylor 1975; Zammito 1992, 1997
مراجع
نصوص أساسية بالألمانية: هناك طبعتان رئيسيتان بالألمانية لأعمال هيردر.
Johann Gottfried Herder Sämtliche Werke, B. Suphan et al. (eds.), Berlin: Weidmann, 1877–
[G] Johann Gottfried Herder Werke, U. Gaier et al. (eds.), Frankfurt am Main: Deutscher Klassiker Verlag, 1985–
[B] Johann Gottfried Herder Briefe, W. Dobbek and G. Arnold (eds.), Weimar: Hermann Böhlaus Nachfolger, 1977
ترجمات إنجليزية:
On World History: Johann Gottfried Herder, an Anthology, Hans Adler and Ernest A. Menze (eds.), Armonk, NY: M.E. Sharpe, 1996. Contains short excerpts on history from a variety of works, prominently including the Ideas.
J.G. Herder on Social and Political Culture, F.M. Barnard (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 1969. Includes (partial) translations of Herder’s
Journal (1769)
Treatise on the Origin of Language (1772)
This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity (1774)
Dissertation on the Reciprocal Influence of Government and the Sciences (1780)
Ideas for the Philosophy of the History of Humanity (1784–91)
plus a very helpful introduction.
Against Pure Reason: Writings on Religion, Language, and History, Marcia Bunge (trans. & ed.), Minneapolis: Fortress Press, 1993.
God: Some Conversations, Frederick H. Burkhardt (ed.), New York: Veritas Press, 1940. Reprinted Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1962.
Outlines of a Philosophy of the History of Man, T. Churchill (ed.), London: J. Johnson/L. Hansard, 1803. (This is a translation of the Ideas.)
[HPW] J.G. Herder: Philosophical Writings, Michael N. Forster (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2002. Contains translations of
How Philosophy Can Become More Universal and Useful for the Benefit of the People (1765), pages 3–30
Fragments on Recent German Literature (1767–8), (excerpts on language), pages 33–64
Treatise on the Origin of Language (1772), pages 65–164
On Thomas Abbt’s Writings (1768), (selections concerning psychology), pages 167–177
On the Cognition and Sensation of the Human Soul (1778), pages 187–244
On the Change of Taste (1766), pages 247–256
Older Critical Forestlet (1767/8), (excerpt on history), pages 257–267
This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity, pages 272–358
Letters for the Advancement of Humanity (1792), (excerpts), pages 370–424
as well as other pieces.
Sculpture: Some Observations on Shape and Form from Pygmalion’s Creative Dream, Jason Gaiger (ed.), Chicago: The University of Chicago Press, 2002. (This is a translation of Plastik [1778].)
Reflections on the Philosophy of History of Mankind, Frank E. Manuel (ed.), Chicago: The University of Chicago Press, 1968. Contains excerpts from Churchill’s 1803 translation of the Ideas.
The Spirit of Hebrew Poetry, James Marsh (ed.), Burlington, VT: Edward Smith, 1833.
Johann Gottfried Herder: Selected Early Works, 1764–7, Ernest A. Menze, Karl Menges, Michael Palma (eds.), University Park, PA: Pennsylvania State University Press, 1992. Contains several early essays, including On Diligence in Several Learned Languages (1764), and selections from the Fragments.
Selected Writings on Aesthetics, Gregory Moore (ed.), Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006. Contains
Critical Forests (1769), first and fourth books
Shakespeare (1773)
On the Influence of the Belles Lettres on the Higher Sciences (1781)
On Image, Poetry, and Fable (1787)
and several other pieces on aesthetics.
On the Origin of Language, John H. Moran and Alexander Gode (eds.), Chicago: The University of Chicago Press, 1986. Contains a partial translation of Treatise on the Origin of Language (1772).
German Aesthetics and Literary Criticism: Winckelmann, Lessing, Hamann, Herder, Schiller, Goethe, H.B. Nisbet (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 1985. Contains two pieces of Herder’s in aesthetics, including his important essay Shakespeare
دراسات:
Boeckh, August, 1877, Enzyklopädie und Methodologie der philologischen Wissenschaften (Encyclopedia and Methodology of the Philological Sciences), Leipzig: Teubner.
Ernesti, Johann August, 1761, Institutio interpretis Novi Testamenti, Leipzig: Weidmann.
Hegel, Georg, 1795/6, The Positivity of the Christian Religion, in his Early Theological Writings, T.M. Knox (trans.), Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1971.
–––, 1798–1800, The Spirit of Christianity and Its Fate, in his Early Theological Writings.
–––, 1807, Phenomenology of Spirit, A.V. Miller (trans.), Oxford: Oxford University Press, 1977.
–––, 1837, Reason in History, R.S. Hartmann (trans.), Upper Saddle River, NJ: Library of Liberal Arts, 1997.
–––, 1832, Science of Logic, A.V. Miller (trans.), Amherst, NY: Prometheus, 1991.
Hume, David, 1748, An Enquiry Concerning Human Understanding, London: Millar.
Jacobi, Friedrich, 1785, Über die Lehre des Spinoza in Briefen an Herrn Moses Mendelssohn (On the Doctrine of Spinoza in Letters to Mr. Moses Mendelssohn), Breslau: Löwe.
Kant, Immanuel, 1766, Dreams of a Spirit Seer, in his Theoretical Philosophy, 1755–1770, David Walford and Ralf Meerbote (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
–––, 1790, Critique of the Power of Judgment, Paul Guyer and Eric Matthews (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2000.
Mill, John Stuart, 1859, On Liberty, Stefan Collini (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
Nietzsche, Friedrich, 1873, On Truth and Lying in an Extra-moral Sense, in Friedrich Nietzsche on Rhetoric and Language, Sander L. Gilman, Carole Blair, and David J. Parent (trans. & ed.), New York: Oxford University Press, 1989.
–––, 1882/7, The Gay Science, Walter Kaufmann (trans.), New York: Vintage, 1974.
–––, 1886, Beyond Good and Evil, Walter Kaufmann (trans.), New York: Vintage, 1966.
–––, 1887, On the Genealogy of Morality, Maudemarie Clark and Alan Swensen (trans.), Indianapolis: Hackett, 1998.
Schlegel, Friedrich, 1795/7, On the Study of Greek Poetry (Über das Studium der griechischen Poesie), Stuart Barnett (trans.), Albany: State University of New York Press, 2001.
–––, 1808, On the Language and Wisdom of the Indians (Über die Sprache und Weisheit der Indier), in The Aesthetic and Miscellaneous Works of Friedrich von Schlegel, E. Millington (trans.), London: H. G. Bohn, 1848.
Schelling, Friedrich, 1792, Antiquissimi de prima malorum origine philosophematis explicandi tentamen criticum, in his Sämmtliche Werke, Stuttgart: Cotta, 1856–1861, div. 1, vol. 1.
–––, 1792/3, Ueber Mythen, historische Sagen und Philosopheme der ältesten Welt (On Myths, Historical Legends, and Philosophemes of the Oldest World), in his Sämmtliche Werke, div. 1, vol. 1.
–––, 1795, On the I as the Principle of Philosophy or On the Unconditional in Human Knowledge, F. Marti (trans. & ed.), Lewisburg: Bucknell University Press, 1980.
–––, 1795, Philosophical Letters on Dogmatism and Criticism, in his The Unconditional in Human Knowledge.
–––, 1797, Ideas for a Philosophy of Nature, Errol E. Harris and Peter Heath (trans.), Cambridge: Cambridge University Press, 1988.
–––, 1798, Von der Weltseele (On the World Soul), Hamburg: Perthes.
Strauss, David Friedrich, 1835–6, Das Leben Jesu, kritisch bearbeitet (The Life of Jesus Critically Examined), Tübingen: C.F. Osiander
مراجع ثانوية:
Aarsleff, Hans, 1982, From Locke to Saussure: Essays on the Study of Language and Intellectual History, Minneapolis, MN: University of Minnesota Press.
Adler, Emil, 1968, Herder und die deutsche Aufklärung, Vienna: Europa.
Adler, Hans, 2009, “Herder’s Style”, in Adler and Koepke 2009: 331–350.
Adler, Hans and Wulf Koepke (eds.), 2009, A Companion to the Works of Johann Gottfried Herder, Rochester, NY: Camden House.
Barnard, Frederick M., 1965, Herder’s Social and Political Thought: From Enlightenment to Nationalism, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2003, Herder on Nationality, Humanity, and History, Montreal: McGill-Queen’s University Press.
Beiser, Frederick C., 1987, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte, Cambridge, MA: Harvard University Press.
–––, 1992, Enlightenment, Revolution, and Romanticism: The Genesis of Modern German Political Thought, 1790–1800, Cambridge, MA: Harvard University Press.
–––, 2003, The German Historicist Tradition, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199691555.001.0001 esp. ch. 3.
Bell, David, 1984, Spinoza in Germany from 1670 to the Age of Goethe, London: Institute of Germanic Studies, University of London.
Berlin, Isaiah, 1976, Vico and Herder: Two Studies in the History of Ideas, New York: The Viking Press.
Berman, Antoine, 1984, L’Épreuve de l’étranger: Culture et traduction dans l’Allemagne romantique, Paris: Gallimard.
Bernasconi, Robert, 1995, “‘Ich mag in keinen Himmel, wo Weisse sind’: Herder’s Critique of Eurocentrism”, in Acta Institutionis Philosophiae et Aestheticae 13: 69–81.
Bollacher, Martin (ed.), 1994, Johann Gottfried Herder: Geschichte und Kultur, Würzburg: Königshausen und Neumann.
Booher, Charles Richard, 2015, Perfection, History, and Harmonious Individuality: Herder’s Ethical Thought, 1765–1791, Doctoral dissertation, SUNY at Syracuse. [Booher 2015 available online]
Broce, Gerald, 1986, “Herder and Ethnography”, Journal of the History of the Behavioral Sciences, 22(2): 150–170. doi:0.1002/1520-6696(198604)22:2<150::AID-JHBS2300220206>3.0.CO;2-H
Clark, Robert Thomas Jr., 1955, Herder: His Life and Thought, Berkeley: University of California Press.
Coseriu, Eugenio, 2015, Von Herder bis Humboldt, (Geschichte der Sprachphilosophie, Volume 2), Tübingen: Narr Franck Attempto.
Crowe, Benjamin D., 2012, “Herder’s Moral Philosophy: Perfectionism, Sentimentalism, and Theism”, British Journal for the History of Philosophy, 20(6): 1141–1161. doi:10.1080/09608788.2012.731243
DeSouza, Nigel, 2012a, “Language, Reason, and Sociability: Herder’s Critique of Rousseau,” Intellectual History Review 22/2 (2012): 221–240.
–––, 2012b, “Leibniz in the Eighteenth Century: Herder’s Critical Reflections on the Principles of Nature and Grace,” British Journal for the History of Philosophy 20/4 (2012): 773–795.
–––, 2014, “The Soul-Body Relationship and the Foundations of Morality: Herder contra Mendelssohn”, Herder Yearbook 12, Rainer Godel, Karl Menges, and Johannes Schmidt (eds.), Heidelberg: Synchron Wissenschaftsverlag der Autoren, 145–161.
Ergang, Robert Reinhold, 1931, Herder and the Foundations of German Nationalism, New York: Columbia University Press. Reprinted New York: Octagon Books, 1966.
Forster, Michael N., 1998, Hegel’s Idea of a Phenomenology of Spirit, Chicago: University of Chicago Press.
–––, 2010, After Herder: Philosophy of Language in the German Tradition, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2011a, German Philosophy of Language: From Schlegel to Hegel and Beyond, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:osobl/9780199604814.001.001
–––, 2011b, “Genealogy”, American Dialectic, 1(2): 230–250. [Forster 2011 available online]
–––, 2011c, “Ursprung und Wesen des Hegelschen Geistbegriffs”, in Andreas Arndt, Paul Cruysberghs, and Andrzej Przylebski (eds.), Hegel-Jahrbuch 2011, Berlin: Akademie Verlag, pages 213–229.
–––, 2012a, “Bildung bei Herder und seinen Nachfolgern”, in Klaus Vieweg and Michael Winkler (eds.), Bildung und Freiheit. Ein vergessener Zusammenhang, Paderborn: Schöningh.
–––, 2012b, “Herder and Spinoza”, in Eckart Förster and Yitzhak Y. Melamed (eds.), Spinoza and German Idealism, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9781139135139.005
–––, 2012c, “Herders Beitrag zur Entstehung der Idee romantisch”, in Michael N. Forster and Klaus Vieweg (eds.), Die Aktualität der Romantik, Berlin: LIT.
–––, 2013, “Herder’s Doctrine of Meaning as Use”, in Margaret Cameron and Robert J. Stainton (eds.), Linguistic Content: New Essays in the History of the Philosophy of Language, Oxford: Oxford University Press, pages 201–222. doi:10.1093/acprof:oso/9780198732495.003.0011
–––, 2016, “Historicizing Genre: The German Romantic Rethinking of Ancient Tragedy”, in M. Baumstark (ed.), Historisierung: Begriff—Geschichte—Praxisfelder, Berlin: de Gruyter.
· –––, 2017a, “Herder and Human Rights”, in Anik Waldow and Nigel DeSouza (ed.), Herder: Philosophy and Anthropology, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2017b, “Nietzsche on Morality as a ‘Sign Language of the Affects’”, Inquiry, 60(1–2): 165–188. doi:10.1080/0020174X.2016.1258146
–––, forthcoming, Herder’s Philosophy, Oxford: Oxford University Press.
Gadamer, Hans-Georg, 1942, Volk und Geschichte im Denken Herders, Frankfurt: Klostermann.
Gillies, Alexander, 1945, Herder (Modern Language Studies), Oxford: Blackwell.
Gjesdal, Kristin, 2004, “Reading Shakespeare—Reading Modernity”, Angelaki, 9(3): 17–31.
–––, 2013, “‘A Not Yet Invented Logic’: Herder on Bildung, Anthropology, and the Future of Philosophy”, in Klaus Vieweg and Michael N. Forster (eds.), Die Bildung der Moderne, Tübingen: Francke-Verlag, pages 53–69.
–––, 2017, Herder and the Enlightenment: The Beginnings of Modern Hermeneutics (1765–1774), Cambridge: Cambridge University Press.
Greif, Stefan, Marion Heinz, and Heinrich Clairmont (eds.), 2016, Herder Handbuch, Paderborn: Fink.
Guyer, Paul, 2007, “Free Play and True Well-Being: Herder’s Critique of Kant’s Aesthetics”, The Journal of Aesthetics and Art Criticism, 65(4): 353–368. doi:10.1111/j.1540-594X.2007.00269.x
Hacking, Ian, 1988, “Night Thoughts on Philology”, History of the Present, 1: 3–10. Reprinted in Hacking 2002: 140–151.
–––, 1994, “How, Why, When, and Where Did Language Go Public?” in Reading After Foucault: Institutions, Disciplines, and Technologies of the Self in Germany, 1750–1830, Robert Scott Leventhal (ed.), pages 31–50. Reprinted in Hacking 2002: 121–139.
–––, 2002, Historical Ontology, Cambridge MA: Harvard University Press.
Harris, H.S., 1972, Hegel’s Development: Toward the Sunlight 1770–1801, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198243588.001.0001
Haym, Rudolf, 1880, Herder nach seinem Leben und seinen Werken, Berlin: Gaertner.
Heinz, Marion, 1994, Sensualistischer Idealismus. Untersuchungen zur Erkenntnistheorie des jungen Herder (1763–1778), Hamburg: Felix Meiner.
––– (ed.), 1997, Herder und die Philosophie des deutschen Idealismus = Fichte-Studien-Supplementa (Volume 8), Amsterdam / Atlanta, GA: Editions Rodopi B.V..
Heise, Jens, 1998, Johann Gottfried Herder zur Einführung, Hamburg: Junius Verlag.
Huber, Thomas, 1968, Studien zur Theorie des Übersetzens im Zeitalter der deutschen Aufklärung 1730–1770, Meisenheim am Glan: Anton Hain.
Huyssen, Andreas, 1969, Die frühromantische Konzeption von Übersetzung und Aneignung, Zürich and Freiburg: Atlantis.
Irmscher, Hans Dietrich, 1973, “Grundzüge der Hermeneutik Herders”, in Bückeburger Gespräche über J.G. Herder 1971, Bückeburg: Grimme, pages 17–59.
–––, 1984, “Grundfragen der Geschichtsphilosophie Herders bis 1774”, in Bückeburger Gespräche über J.G. Herder 1983, Bückeburg: Grimme, pages 10–33.
–––, 1987, “Zur Ästhetik des jungen Herder”, in Sauder 1987: pages 43–76.
–––, 2001, Johann Gottfried Herder, Stuttgart: Reclam.
–––, 2010, “Gegenwartskritik und Zukunftsbild in Herders Auch eine Philosophie der Geschichte zur Bildung der Menschheit”, in his “Weitstrahlsinniges” Denken: Studien zu Johann Gottfried Herder, Würzburg: Königshausen und Neumann, pages 73–84.
Jacoby, Günther, 1911, Herder als Faust, Leipzig: Felix Meiner.
Kelletat, Andreas F., 1984, Herder und die Weltliteratur, Frankfurt am Main: Peter Lang.
Kleingeld, Pauline, 2013, Kant and Cosmopolitanism: The Philosophical Ideal of World Citizenship, Cambridge: Cambridge University Press.
Lindner, Herbert, 1960, Das Problem des Spinozismus im Schaffen Goethes und Herders, Weimar: Arion Verlag.
Lovejoy, Arthur O., 1948, “Herder and the Enlightenment Philosophy of History”, in his Essays on the History of Ideas, Baltimore, MD: Johns Hopkins Press. Reprinted New York: Capricorn Books, 1960, pages 166–182.
Mayo, Robert S., 1969, Herder and the Beginnings of Comparative Literature, Chapel Hill, NC: The University of North Carolina Press.
Maurer, Michael, 1987, “Die Geschichtsphilosophie des jungen Herder in ihrem Verhältnis zur Aufklärung”, in Sauder 1987: pages 141–155.
Meinecke, Friedrich, [1936] 1972, Historism: The Rise of a New Historical Outlook (Die Entstehung des Historismus), J.E. Anderson (trans.), New York: Herder and Herder.
Mühlberg, Dietrich, 1984, “Herders Theorie der Kulturgeschichte in ihrer Bedeutung für die Begründung der Kulturwissenschaft”, Jahrbuch für Volkskunde und Kulturgeschichte, 12 (1984), pages 9–26.
Nisbet, H.B., 1970, Herder and the Philosophy and History of Science, Cambridge, MA: Modern Humanities Research Association.
Norton, Robert Edward, 1991, Herder’s Aesthetics and the European Enlightenment, Ithaca, NY: Cornell University Press.
Otto, Regine and John H. Zammito (eds.), 2001, Vom Selbstdenken: Aufklärung und Aufklärungskritik in Herders “Ideen zur Philosophie der Geschichte der Menschheit”, Heidelberg: Synchron.
Popper, Karl R., 1945, The Open Society and its Enemies, London: Routledge.
Pross, Wolfgang, 1987, “Herder und die Anthropologie der Aufklärung”, in W. Pross (ed.), Johann Gottfried Herder: Werke, Munich: Hanser.
Purdie, Edna, 1965, Studies in German Literature of the Eighteenth Century: Some Aspects of Literary Affiliation, London: Athlone.
Sapir, Edward, 1907, “Herder’s ‘Ursprung der Sprache’”, Modern Philology, 5(1): 109–142. doi:10.1086/386734.
Sauder, Gerhard (ed.), 1987, Johann Gottfried Herder 1744–1803, Hamburg: Felix Meiner.
–––, 2009, “Herder’s Poetic Works: His Translations and His Views on Poetry”, in Adler and Koepke 2009: 305–330.
Sikka, Sonia, 2011, Herder on Humanity and Cultural Difference: Enlightened Relativism, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511783012
Staedelmann, Rudolf, 1928, Der historische Sinn bei Herder, Halle: Max Niemeyer Verlag.
Taylor, Charles, 1975, Hegel, Cambridge: Cambridge University Press.
–––, 1991, “The Importance of Herder”, in E. and A. Margalit (eds.), Isaiah Berlin: A Celebration, Chicago: The University of Chicago Press.
–––, 1996, “Language and Human Nature”, in his Human Agency and Language: Philosophical Papers I, Cambridge: Cambridge University Press.
–––, 2016, The Language Animal: The Full Shape of the Human Linguistic Capacity, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Vollrath, Wilhelm, 1911, Die Auseinandersetzung Herders mit Spinoza, Darmstadt: C.F. Winter.
Wells, G.A., 1960, “Herder’s Two Philosophies of History”, Journal of the History of Ideas, 21(4): 527–537. doi:10.2307/2708100
Wiese, Benno von, 1939, Herder: Grundzüge seines Weltbildes, Leipzig: Bibliographisches Institut.
Willi, Thomas, 1971, Herders Beitrag zum Verstehen des Alten Testaments, Tübingen: J.C.B. Mohr.
Wiora, Walter, 1953, “Herders Ideen zur Geschichte der Musik”, in Erich Keyser (ed.), Im Geiste Herders, Kitzingen am Main: Holzner.
Zammito, John H., 1992, The Genesis of Kant’s Critique of Judgment, Chicago: University ofChicago Press.
–––, 1997, “Herder, Kant, Spinoza und die Ursprünge des deutschen Idealismus”, in Heinz 1997: pages 107–144.
–––, 2001, Kant, Herder, and the Birth of Modern Anthropology, Chicago: The University of Chicago Press.
–––, 2009, “Herder and Historical Metanarrative: What’s Philosophical About History?” in Adler and Koepke 2009: 65–92.
كتابات عامة:
Adler and Koepke 2009 (an excellent collection of articles covering a wide range of topics); Beiser 1987 (ch. 5 covers several subject helpfully, including Herder’s philosophies of language, mind, and religion); Berlin 1976 (concise and excellent); Clark 1955 (detailed and useful, though unimaginative); Forster forthcoming (covers the subjects treated in this article in more detail); Gillies 1945 (not philosophically sophisticated, but good on Herder’s relation to literature and on his influence); Greif, Heinz, and Clairmont 2016 (a useful reference work); Haym 1880 (a classic, detailed intellectual biography; still by far the best general book on Herder available); Heise 1998 (a good short introduction); Irmscher 2001 (an excellent short introduction); Nisbet 1970 (a helpful general account of Herder’s views about science); Sauder 1987 (contains helpful contributions on a wide range of topics); Wiese 1939 (a helpful overview).
أدوات أكاديمية
How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.
مصادر أخرى على الإنترنت
Herder Bibliography, maintained by Tino Markworth.
مداخل ذات صلة
cosmopolitanism | Dilthey, Wilhelm | dualism | egalitarianism | Hamann, Johann Georg | Hegel, Georg Wilhelm Friedrich | hermeneutics | history, philosophy of | Humboldt, Wilhelm von | Kant, Immanuel | Kant, Immanuel: aesthetics and teleology | liberalism | Mill, John Stuart | nationalism | naturalism | Nietzsche, Friedrich | physicalism | rationalism vs. empiricism | relativism | religion: philosophy of | Schelling, Friedrich Wilhelm Joseph von | Schlegel, Friedrich | Schleiermacher, Friedrich Daniel Ernst | skepticism | Spinoza, Baruch | Wolff, Christian
المصدر: https://hekmah.org/%D9%87%D9%8A%D8%B1%D8%AF%D8%B1/
1- حياة هيردر وأعماله
يوهان جوتفريد هيردر (1744- 1803) من مواليد مورينجين شرقي بروسيا. نشأ في ظروف متواضعة حيث كان والده مدرساً. التحق عام 1762 بجامعة كونيجسبرج ودرس مع كانط الذي منحه امتيازات خاصة بالنظر لقدراته الفكرية المتوقدة. كما ارتبط في هذه الفترة بصداقة استمرت مدى الحياة مع فيلسوف اللامعقول هامان Hamann. في عام 1764 غادر كونيجسبرج لينال وظيفة التعليم المدرسي في ريجا Riga فكتب هناك مقالته المرجعية ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس” (1765) ونشر كتابه الرئيسي الأول الذي يهتم بفلسفة اللغة والأدب ” شذرات في الأدب الألماني الحديث ” (1767-8)؛ ثم نشر كتاباً مهماً في الجماليات ” الغابات الحرجة ” (1769). في عام 1769 استقال من وظيفته وارتحل أولاً إلى فرنسا ثم ستراتسبورج حيث التقى بجوته الشاب عام 1770 والذي تأثر بهيردر تأثراً قوياً. وفي عام 1771 فاز هيردر بجائزة برلين الأكاديمية نظير عمله البارز “مقالة في أصل اللغة” المنشور عام 1772. وعمل بين عامي 1771-1776 واعظاً في قاعةٍ تابعة للبيت الحاكم في بوكيبيرج Bückeburg. أهم أعماله هذه الفترة هي مقالته “شكسبير ” عام 1773وكذلك مقالته الرئيسية والأولى عن فلسفة التاريخ ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني ” عام 1774. في عام 1776 تم تعيينه مشرفاً على رجال الدين اللوثريين في فيمار ويعود الفضل لجوته في ذلك، وقد احتفظ هيردر بهذا المنصب طيلة حياته. نشر هيردر في هذه الفترة مقالة هامة في فلسفة العقل ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية” عام 1778. وأنجز عملاً بالغ الأثر عن العهد القديم بعنوان ” في روح الشعر العبري ” 1772-1773. أما عمله المطوَّل في فلسفة التاريخ فكان ” أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني ” 1784-1791 بالإضافة لمقالة ذات تأثير كبير في فلسفة الدين “الإله: شيء من المحادثات” (1787) وثمة عمل ألَّفه هيردر في الفلسفة السياسية تجاوب فيه مع الثورة الفرنسية بعنوان “رسائل من أجل تقدم الإنسانية “ 1793-1797. وسلسلة من الكتابات المسيحية تتعلق بالعهد الجديد (1794-1798) وأتمَّ عملين يعارضان فلسفة كانط النقدية، وهما: “النقد لنقد العقل المحض ” (1799) وقد وجهه ضد الفلسفة النظرية لنقد العقل المحض لكانط والمؤلَّف سنة 1781-1787 والكتاب الثاني “كاليجوني Calligone“وجهه هيردر ضد جماليات كانط الواردة في كتاب نقد مَلَكة الحكم (كانط 1790). يضاف لذلك كتابات أخرى في مشواره الفكري علاوةً على الأعمال المذكورة.
كانت أعمال هيردر المبكرة هي أفضل ما أنتج، وفي كتابه “عن المعرفة والإحساس” (وهي مقالة تعج بالعناوين المختصرة) ذكر هيردر الآتي: ” إن العمل الأول للكاتب له طابع الجرأة وعادة ما يكون أفضل مالديه .. فوهجه مشع، وروحه مثل إشراقة الفجر“. (الكتابات الفلسفية: 219) وسواء أكان كلام هيردر صحيحاً أم لا، فإن ما قاله ينطبق عليه.
2- أسلوب هيردر الفلسفي
تعد نصوص هيردر الفلسفية سهلة القراءة مقارنة بمعاصريه. يتجنب هيردر الرطانة الاصطلاحية ويكتب نصوصاً زاخرة بالحيوية ومليئة بالأمثلة عِوضاً عن الأسلوب الجاف والمجرد. ليس لهيردر نسق كبير ومعقد كي يتيح للقارئ رصده ومتابعته، ومع ذلك فإن نصوص هيردر ذات فرادةٍ قد تحجب الفهم الملائم عن القارئ وتحول دون إيلاء هيردر قدره المستَحَق، ومن الأجدى للقارئ أن يفطن لذلك.
علينا أن نقول في البداية أن كتابات هيردر تبدو عاطفية وغير منضبطة نحوياً، للحد الذي قد تنتمي فيه إلى الخطاب العادي وليس النص الفلسفي. لا شك أن هذا مقصود من قبل هيردر الذي تعمَّد الفجاجة والسير بهذا الاتجاه في مسودَّاته. ولهيردر أسبابه الفلسفية وراء ذلك: (1) من شأن ذلك أن ينشر كتاباته على نطاق واسع ويثير اهتمام الناس، وهو هدف جاد بالنسبة له خصوصاً أن الفلسفة – باعتقاده – يجب أن تحظى بدور اجتماعي بارز. (2) يرى هيردر تفوق الخطاب الشفوي من الناحية التعبيرية على حساب الكتابة. (3) من أهم أطروحاته المركزية في فلسفة العقل؛ أن الفكر لا ينفصل عن الإرادة أو الشعور، وأن ضروب الفكر- كالكتابة الأكاديمية التقليدية – حين تنحّي الشعور، تصبح شائهة ورديئة، بخلاف الخطاب العفوي والكتابة التي تحتذي به. (4) يعارض هيردر كل تقييد معجمي ونحوي للغة، ويقف ضد الطاعة العمياء للقواميس والكتب، ويرى أن هذا التقييد معادٍ للإبداع والابتكار اللغوي، وسيء أيضاً للفكر، بحكم أن الفكر معتمدٌ على اللغة وما تتيحه من مساحة، وهذا ما يعود بالضرر على النزعة الإبداعية والتجديدية للفكر نفسه.
ثمة ميزة أخرى لنصوص هيردر الفلسفية وهي طبيعتها غير المنظَّمة، وهذا متعمّد من قبل هيردر أيضاً، فكان هيردر معارضاً للكتابة النسقية في الفلسفة وهذا ما يتضح لنا في ملاحظاته وحتى في عناوين كتبه (شذرات من كذا، أفكار، إلخ) فكان هيردر في موقف مضاد من النسقية الشائعة في كتابات سبينوزا وولف وكانط وفيشته وشيلنج وهيجل. وقد أبدى هيردر معارضته لنموذج النظرية الشاملة هذا الذي يشتق فيه الجزء من الكل بشكل صارم، وأسبابه خلف هذا الموقف المعارض تكمن في التالي: (1) يشك هيردر في جدوى هذه الأشكال النسقية، فهي غير خلاقة وتدفع نحو الوهم. (2) يعتقد هيردر أن البناء النسقي يقود إلى إنهاء البحث قبل أوانه، وبالأخص حال توفر الأدلة التجريبية المستجدة إذ تهملها الأنساق أو تعمل على تشويهها، وبمجرد التدقيق بهذه الأنساق ستبرز لنا هاتين الملحوظتين. إن هجوم هيردر المدعَّم ضد هذا النوع من النسقية قد أسس لتقاليد مضادة في الفلسفة الألمانية (وهو ما يتضمن لاحقاً فريدريك شليجل، ونتشه، وفتجنشتاين، وأدورنو).
وفي الضفة الأخرى يَدين هيردر لنسقية أكثر تواضعاً، أي النظرية المتماسكة في ذاتها والمدعَّمة بالحِجاج (وهي نقطة مهمة تناقض ما جاء به هامان Hamann الذي انتقده هيردر لفشل مقالته عام 1765 وعنوانها ” ترانيم الفتنة Dithyrambic Rhapsody “). كان هيردر على الدوام سائراً على هذا النموذج المتشعب، لهذا فشرح هيردر يتطلب المزيد من الاطلاع على كتاباته وإعادة بناء أفكاره أكثر من الفلاسفة الآخرين. وأياً يكن، فإن قصور هيردر النسقي له بواعثه الحقيقية: فأولاً وحينما يظهر عدم التماسك في كتاباته فإن سبب ذلك يرجع لطريقته الحِوارية في الكتابة حيث يعرض لوجهتي نظر متعارضتين، وفي هذه الحالة سيكون من الشنيع اتهامه بالتهافت أو الانتقاص منه بسبب ذلك. أيضاً وفي حالات أقل، ومن خلال أسلوبه في الحوارات وعدم اكتراثه بإيضاح موقفه فيها، فإن هذا ما يتسبب باتهامه بعدم التماسك وهو بريء من ذلك (مثل كتابيه “ قابلية الفلسفة لأن تصبح كونية ونافعة للناس” و “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني“). ولهيردر بواعث جادة خلف هذا النهج الحواري الذي يتخلل كتاباته: (1) فأحياناً يبدو الدافع متعلقاً بمسائل دينية أو سياسية حساسة بالكاد تسمح له بتوضيح موقفه، مما يحدوه إلى عرضها ضمن حوارات وكأنها ليست له، وهذا ما يجنبه كثيراً من المشاكل. (2) ثمة سبب فلسفي أعمق وهو أن هيردر يتبنى طريقة ماقبل الكانطية (والتي استلهمها من الشكاك القدماء) في أن أحسن طريقة للفيلسوف نحو تقصي الحقيقة هي أن يعرض وجهات النظر المتعارضة في موضوع ما، فيتقدم للأمام، آملاً أن يبلغ الحقيقة عبر هذين الرأيين وهما يمتحنان بعضهما ويعدلان قصورهما (وهي فكرة وجدت صداها عند جون ستيوارت مل في أطروحته المركزية “في الحرية” 1859). وهذا ما يولد دافعاً أقوى من جانب هيردر لتبني الطريقة الحوارية حتى وإن لم تفِد هيردر في النتائج القطعية، فبإمكانه من خلال ذلك أن يطرح سؤالاً بلاغياً فيما إذا كان ذلك سيشكل أي اختلاف في مسار البشرية وسعيها لكشف الحقيقة فيما لو كانت هذه المواقف المتنوعة والمتعارضة تتقدم بنا عبر أشخاص مختلفين أو عبر شخص واحد؟ أيضاً فإن ما يظهر باستمرار من تجاهل هيردر للحجج ليس سوى تجاهل لحجج من نوع محدد. فعلى سبيل المثال يلتزم هيردر بشكل عام بالتجريبية ويعارض القِبلية في الفلسفة، وهذا ما يحدو به إلى تلافي الحجج القِبلية المألوفة في الفلسفة كي يلتزم بالنزعة العاطفية في الأخلاق sentimentalism والتي قادته إلى الامتناع عن الحجاج المعرفي في الأخلاق.
3- برنامجه الفلسفي العام
بالغت الأدبيات الثانوية في حجم تأثير هامان على هيردر (وهذا ما فعله إيزايا برلين) وبخلاف هامان فإن تأثير كانط كان مبكراً وعميقاً ودائماً. وعلى أي حال فإن كانط المؤثر بهيردر هو كانط قبل المرحلة النقدية أواسط الستينات من القرن الثامن عشر. لم يتأثر هيردر بكانط النقدي الذي اشتبك معه هيردر حول مابعد النقد وكتاب كاليجوني، في سجالاتٍ عامة سادها التشويش واللاجدوى.
تناقضت بعض الآراء الرئيسية في فكر كانط (ماقبل المرحلة النقدية) في الستينات من القرن الثامن عشر، مع ما تبناه كانط في مرحلته النقدية، ومنها: النزعة الشكية لدى كانط ذات المسحة البيرونية، كذلك نسخته التجريبية الخاصة، والمنحى العاطفي في الأخلاق والذي أفاده من هيوم. لقد تبنى هيردر هذه الاتجاهات في الستينات من القرن الثامن عشر واستمر عليها طيلة مشواره الفكري. ولا يجدر بنا القول إن دَين هيردر تجاه كانط سببه تضليل كانط الفلسفي له في البداية، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح.
إن مقالة هيردر عام 1765 وعنوانها “قابلية الفلسفة لأن تصبح كونية ونافعة للناس ” لهي نص مهم في معرفة دَين هيردر تجاه كانط، كما يمكن أن نستنبط منها المسار العام لفلسفة هيردر. لقد كتب هيردر هذه المقالة تحت تأثر بالغ بكانط وبالأخص مقالة كانط عام 1766 ” أحلام عراف الأرواح ” والذي أرسل منه كانط نسخة لهيردر قبل نشره (Herder reports B2:259).
تجيب مقالة هيردر على سؤالٍ خصصت له جمعية بيرن في سويسرا جائرة، وهو: ” كيف يمكن لحقائق الفلسفة أن تصبح كونية ونافعة للناس؟” وكان إدراك السؤال عميقاً في روح الفلسفة الشعبية والتي تنافس الفلسفة الأكاديمية في العالم الناطق بالألمانية. وكاد كانط أن ينتسب للفلسفة الشعبية في تلك الحقبة، والأمر ذاته ينطبق على هيردر بدليل اختياره الإجابة على هذا السؤال. لكن في هذه الحالة سيكون هذا الانتساب للفلسفة الشعبية دائماً مدى الحياة وهو ما يعني نفعها لكافة الناس وارتباطها بهم، وهو نموذج سارت عليه فلسفة هيردر.
خدمت هذه المقالة نموذج هيردر الإنساني وحاججت من أجل إرساء منعَطفين حادَّين في الفلسفة، كان أحدهما مستمراً معه طيلة مشواره الفلسفي، ويتعلق برفض الميتافيزيقا التقليدية متماشياً مع حجة كانط في“ أحلام عراف الأرواح” وهاهنا تقريب حجة هيردر وفق التالي: (1) عندما تخوض الميتافيزيقا التقليدية في التجربة المتعالية وما تتضمنه من معرفة تجريبية، وأخلاق اعتيادية، ومنطق حدسي، ورياضيات، فإنها تتورط في ادعاءات لا حل لتناقضاتها. ومن ثم تسقط في البيرونية (الشكوكية). إن إشكالية الشك تتعلق بقضيتين تتساويان في الإقناع مما يؤدي لتعليق الحكم. قال هيردر: ” إنني أوجه ما أكتبه نحو الشكاكين البيرونيين ” [HPW8] ويذهب هيردر إلى الإضافة لشذراته بين عامي 1767-1768 حقيقة أن النظرية التجريبية الواسعة في مفاهيمها ومصطلحاتها وكذلك الميتافيزيقا التقليدية، تفتقدان للأساس التجريبي المنشود الذي يمنح المعقولية، مما يجعل التجريبية والميتافيزيقا خاويتين من المعنى، والوهم المرتبط بالمعنى يتعلق باللغة وما تلعبه من دور في خلق أوهام المعنى ومن ثم نبذ المعطيات التجريبية. (2) ليست الميتافيزيقا خاوية من المعنى بسبب ما تقدم فحسب، بل إنها ضارة، لأنها تشتت انتباه أتباعها وتبعدهم عن القضايا التي يجدر بهم التركيز عليها؛ وأهمها الطبيعة التجريبية والمجتمع الإنساني. (3) أما المعرفة التجريبية، أو الفهم الصحي والقويم، فهما متحرران من هذه المشاكل، وعلى الفلسفة أن تتأسس وتمتثل وفقاً للتجربة.
يتجه المنعطف الثاني والحاد في فكر هيردر نحو الأخلاق، ويدين هذه المرة أيضاً لكانط في مرحلته ماقبل النقدية، ويذهب أبعد منه في هذا الاتجاه. تتلخص دعاوى هيردر في التالي: (1) إن الأخلاق مسألة عواطف لا مسألة عقل. (2) إن النظريات العقلية حيال الأخلاق والتي تبناها عقلانيو تلك المرحلة مثل وولف، أو من سبقه كـ أفلاطون وكانط النقدي، أو من تلاه مثل جورج إدوارد مور، كلها مبنية على خطأ، ولن تفضي إلى استنارة أخلاقية أو تطور بهذا الصدد. (3) والسيء في الأمر، وهنا يذهب هيردر أبعد من كانط القديم، يتعلق في كون هذه النظريات مضرة بالأخلاق، فهي تعمل على إضعاف العاطفة الأخلاقية مع أنها حاضنة الأخلاق. ففي مقالتيه ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني “ و “عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية ” يقدم هيردر أسبابه حول رفضه التنظير المجرد للأخلاق، وأنه يضعف العواطف في عمومها لاسيما الأخلاقية منها (ولعل هذا أقل الأسباب إقناعاً من قبل هيردر) كذلك يتضح أن النظريات المعرفية والإدراكية cognitive غير مقنعة بتاتاً وتشوه سمعة الأخلاق، إذ سيفكر الناس أخلاقياً ضمن خطوط عقلانية. ذكرَ هيردر: “لو كان هذا أفضل ما توصل إليه الخبراء بهذا الشأن في شرح وتبرير الأخلاق فلا بد وأن تكون الأخلاق زائفة وسأفعل ما يحلو لي وأتجاهلها “. إن هذه النظريات الإدراكية تشتت الانتباه عن المصدر الحقيقي للأخلاق أي العواطف، فهي ليست مجرد صورة مجردة ومتخيلة بقدر ما هي مجموعة من الآليات السببية التي ترسخ وتحفظ العاطفة الأخلاقية. (4) يسعى هيردر وفقاً لهذا المسار البنائي إلى الاستكشاف النظري وإشاعة تطبيق الآليات السببية للعاطفة. ففي كتابه ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس” يشدد هيردر بشكل رئيسي على طرائق التعليم ويتبنى الوعظ الترغيبي ويربطه بالأخلاق. ولكن في مواضع أخرى يتبنى آليات أخرى ويدعو لها. وهذا يشمل تأثير القدوات من الأفراد، والشرائع المرتبطة بالأخلاق، والأدب (ومعه صور أخرى من الفن) فنال الأدب حيزاً من تفكير ونظر هيردر، ووجد في الأدب محفزاً للأخلاق من عدة جهات، فلا يقتصر الأمر على التوجيهات الأخلاقية المباشرة، ولكن أيضاً من خلال خلود الأدب وقدرته على خلق القدوات (مثل المسيح في العهد الجديد) وكذلك عبر معايشة القراء للحياة الوجدانية لدى الآخرين؛ وهو الأمر الذي يعزز من تعاطفهم (وهذا هو الدافع الخفي خلف نشره لكتاب الأغاني الشعبية Volkslieder 1774/1779-9) وهي مجموعة من قصائد مترجمة لشعراء من أرجاء العالم. إن تطوير هيردر لهذه النظرية وتطبيقاتها الأخلاقية البيداغوجية قد استمر معه طيلة حياته وبلا كلل.
4- فلسفة اللغة، والتأويل، والترجمة عند هيردر
ما كتبه هيردر في “مقالة في أصل اللغة ” والمنشور عام 1772 هو الأشهر من بين أعماله في فلسفة اللغة على الإطلاق. مع ذلك، يحتل هذا العمل مكانة دونية بين ما كتبه هيردر إذا ما قورن بأعماله الأخرى كالشذرات أو مقالة عن المعرفة والإحساس، فلا ينبغي لذلك أن يغيب عن البال.
تهتم مقالة هيردر حول أصل اللغات بالسؤال عن أصل اللغة، وحول إمكانية تفسير هذا الأصل عبر الطبيعة والإنسان (لا كما ادعى يوهان زوسميلش عندما أعطى اللغة مصدراً مقدساً). يحاجج هيردر لصالح الأصل الطبيعي للغة وتبدو حجته مقنعة بهذا الصدد، خاصة حين يستمد حججه الإيجابية من كتاب الشذرات. لكنها حججٌ قد لا تثير اهتمام الفيلسوف الحديث تجاه آراء هيردر اللغوية، فهي تصبطغ بخلفية هيردر الدينية والتي لم تعد تهمنا، فما يهمنا حقاً هي ثلاث نظريات طورها هيردر: فلسفة اللغة (وتدخل في صميم طبيعة اللغة والفكر والمعنى) ونظرية التأويل، ونظرية الترجمة. تتواجد هذه النظريات متناثرة في أعمال كثيرة لهيردر. وسوف نلقي الضوء على سماتها الأساسية.
4-1 فلسفة اللغة: اللغة، الفكر، المعنى
كان هيردر في منتصف الستينات من القرن الثامن عشر، في منشورَيه “ فهم العديد من اللغات المعلومة ” 1764 و” الشذرات ” 1767-1768 قد أوجد ثلاث أطروحاتٍ في هذا المجال:
1- إن الفكر يعتمد بشكل جوهري على اللغة وهي التي تشكل حدوده، فالمرء لا يمكنه التفكير إلا عبر اللغة، ولا يمكنه التفكير دون قدرته على التعبير اللغوي (تسيدت هذه الأطروحة كتابه المذكور “فهم العديد من اللغات المعلومة” وكتاب ” الشذرات” ويحسب لهيردر أنه لا يتطرف في طرحه، أما أطروحاته الفلسفية غير الرائجة فوجدت من يناصرها من اللاحقين، لكونها تعرّف الفكر باللغة المألوفة، أو اللغة الباطنة).
2- إن المعنى أو المفاهيم، لا الأشياء، هي من حيث المبدأ تابعة للغة، والتي ساواها التقليد الفلسفي بالأشياء؛ كما حدث مع القديس أوغسطين ونظرية المثل الأفلاطونية، أو كما هو شأن الأفكار العقلية والذاتية لدى لوك وهيوم. لكن بدلاً من ذلك فإن قضية استعمال الكلمات وهي الأطروحة السائدة في كتاب الشذرات وهي محاججة هامة طورها هيردر.
3- إن بناء المفاهيم يرتبط بعلاقة متينة مع الإدراك الحسي والعاطفي. وعلى نحو أكثر دقة، يطور هيردر نظرية ” شبه تجريبية” عن المفاهيم المرتبطة بالحِس وكونه المصدر والقاعدة لجميع مفاهيمنا، لكننا رغم ذلك قادرون على إنتاج مفاهيم ميتافيزيقية غير تجريبية ومشتقة من التجربة بنفس الوقت، لذا فإن جميع مفاهيمنا تعتمد أساساً على الحِس بشكل أو بآخر (للمزيد عن هذه الأطروحة، انظر خصوصاً: “مقالة في أصل اللغة” و “عن المعرفة والإحساس ” و “ما بعد النقد“).
انقلبت الأطروحتان الأولى والثانية بشكل كبير على ماهو سائد حيال العلاقة الثنائية بين اللغة من جهة، والفكر (أو المعنى) من جهة أخرى، فقد كانت هذه النظرية الثنائية مهيمنة على القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومن ثم فإن أطروحتي هيردر قد أسستا لفلسفة اللغة كما نعرفها اليوم. ولقد تم تقريض هامان Hamann نظير تقديمه هاتين الأطروحتين الثوريتين وأنه من أفاد هيردر (وهذا ما كتبه إيزايا برلين) لكن هذا خاطئ؛ فهيردر بالأصل هو من تبنى النظريتين في منتصف الستينات من القرن الثامن عشر، أما هامان فهو متأخر، ولم يتبناهما إلا لاحقاً وتحت تأثير هيردر.
أما الأطروحة الثالثة (شبه التجريبية) فلاقت انتشاراً وقبولاً أقل من سابقتيها من قبل فلاسفة اللغة اليوم. وأيّما كان الأمر فإنها قد لا تخلو من الصحة، فعلى النقيض من ظاهر هذه النظرية فإنها لا تتعارض مع نظرية تكييف المعاني مع استعمال الكلمات، والاحتمال الأرجح أن الأساس الحديث حول الشك باللغة والمهتم بالمعنى قد يجانب الصواب (كما هو الحال مع التوجه الفريجي/ الفتجنشتايني/ الضد نفساني).
بجانب إسهامات هيردر التأسيسية في فلسفة اللغة، فإن هذه الأطروحات الثلاث تشكل القاعدة المتينة لنظرياته عن التأويل والترجمة، وهذا ما سيتم التطرق له.
4-2 نظرية التأويل (الهرمونيطيقا) عند هيردر
نظريات هيردر عن التأويل والترجمة ذات بصيرة ثاقبة، فحين كان فلاسفة التنوير ومؤرخوه البارزين كهيوم وفولتير يعتقدان دوماً بأن ” لا جديد في عالم الإنسانية في كل الأزمنة والأمكنة، فالتاريخ لا يطلعنا على أي جديد أو فريد من نوعه” (1748-القسم الثامن، الجزء الأول ص 65) كان هيردر قد اكتشف – أو على الأقل رأى بوضوح أكثر من غيره – أن هذا خاطئ، وأن الناس من حِقب تاريخية وثقافات مختلفة يدينون للتنوع الهائل في مفاهيمهم ومعتقداتهم وقِيمهم من خلال الإحساسات المعرفية والعاطفية. وأدرك هيردر أيضاً أن هذه التنوعات – وإن لم تكن صارخة لحد كبير – تقع بين الأفراد أنفسهم حتى داخل المرحلة الزمنية والثقافة الواحدة. وهذه المواقف من تبني الاختلاف سائدة في كثير من أعمال هيردر (انظر مثلاً: “في تغير الأذواق” 1766 و “ نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” و ” عن المعرفة والإحساس “) وسنطلق على هذه الأعمال مجتمعةً اسم ]مبدأ الاختلاف العقلي الجذري[.
عند النظر لهذا المبدأ، والتمعن في الخليج الذي يفصل بين تفكير المفسر والمتلقي الذي ستصل إليه الرسالة، فإن التأويل بهذه الحالة مهمة صعبة للغاية، ويتطلب جهوداً استثنائية من قبل المفسر (انظر بهذا الصدد نقاش هيردر عن العبرية القديمة في مقاله عن” أصل اللغة”). يواجه المفسر – بوجهٍ خاص – إغواءً في سبيل إخضاع الأفكار لرأيه أو لرأي غيره، وهو ما يتعين عليه مقاومته (وهي فكرة سائدة في ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على سبيل المثال).
حين نأخذ هذه التحديات في الحسبان، وكيف يمكن للمفسر أن يحظى بتأويل دقيق، سنجد أن أجوبة هيردر تضم نقاطاً عديدة:
تدعم أطروحات هيردر الثلاث في فلسفة اللغة مجمل نظريته عن التأويل وتجيب عن جزء من السؤال عن مدى دقة التأويل. ومما تتضمنه أطروحته أن الفكر عالة على اللغة ومقيّد بها، وأن لغة النص المؤوَّل مرتبطة بطبيعة أفكار المترجم أو المفسر، لهذا فلا يتعين على المفسّر أن يقلق حيال المادة (موضع التأويل) وما تحتويه من غوامض الأفكار، ولا أن يحمل هَم الأفكار ذات الصياغة المبعثرة وكيف سيعبر عنها بلغته. يرتبط المعنى، وفق أطروحة هيردر، باستعمال الكلمات، والمهمة الأساسية للتأويل تتطلب ترسيخ نص مؤوَّل عبر بيان مفرداته واستعمالاتها، ومن ثم كشف معانيها. وأخيراً فإن مضمون أطروحة هيردر ” شبه التجريبية ” يهتم بالمفاهيم التي يدركها المؤوِّل (أو المفسّر) حول مادته المترجَمة ومفاهيمها، وهذا ما يستوجب استعادة أصول النص ضمن مادته الأصلية وما يرتبط به من شعور.
يتبنى هيردر أيضاً ثلاثة مبادئ هامة حول نظريته في التأويل والتي ساهمت بالجواب عن سؤال (التأويل الدقيق) وهذه المبادئ هي:
مبدأ علمانية التأويل: وهو على النقيض من التقليد الشائع في زمن هيردر حيث الارتباط بالإنجيل. يرى هيردر عدم الاعتماد على الفرضيات والطرائق الدينية في التأويل، حتى في النصوص المقدسة. ويجب الاعتماد – بدلاً من ذلك – على ماهو علماني (وهو مبدأ ساد كتابات هيردر في تأويله للإنجيل أواخر السبعينات من القرن الثامن عشر).
مبدأ التأويل وفق الجنس الأدبي: فبالإضافة لطبيعة معاني النص، على التأويل أن يتعرف على جنس النص genre (أي مجموعة الأهداف والقوانين التي يسعى النص لإدراكها والتكيف معها). أما فيما يخص المعاني فإن الأجناس تتنوع من عصر لعصر، ومن ثقافة لأخرى، بل ومن فرد لآخر، لهذا سيواجه المؤوّل غواية دائمة في إخضاع جنس النص لما هو مألوف لديه من أجناس يعرفها (مثل استيعاب التراجيديا الشكسبيرية وفق تراجيديا سوفقليس، أو العكس) وهذا المبدأ يسود في كتاب هيردر “الغابات الحرجة”عام 1769 ويتجلى بصورة كلاسيكية في مقالته “شكسبير” عام 1773.
مبدأ المنهجية التجريبية في التأويل: على التأويل أن يضع ولاءه دوماً للملاحظات الدقيقة حول الأدلة اللغوية وغيرها من البراهين، ينطبق هذا على تحقيق المؤول لاستعمال الكلمات بغية اكتشاف المعاني (وهي المسألة السائدة في كتاب الشذرات) فعلى المؤول أن يفعل ذلك وهو يحدس نفسية كاتب النص، وعند محاولته ترسيخ الجنس الأدبي للمؤلف، وأيضاً حين يخمن الأهداف والشروط التي أسست لذلك كله (انظر: كتابات توماس آبت 1768 وخصوصاً مقالة هيردر عن شكسبير).
ستبدو هذه المبادئ منطقية بما يكفي إلى الآن، لكن يمضي هيردر أبعد من ذلك، ويقيم مبادئ تأويلية أخرى لربما كانت شديدة الحساسية والإرهاف خاصة حين نسمع بها للمرة الأولى، ومهما يكن، أرغب بإيضاح حقيقة أنها مبادئ صارمة.
يقترح هيردر (خاصة في كتاب” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على سبيل المثال) أن نتبنى التعاطف Einfühlung أو ” الشعور بمسلك الكاتب “. معنى ذلك أنه يتعين على المفسر أن يقوم بإسقاطاته النفسية على النصوص (وهذا ما ارتآه فريدريك ماينيكه Friedrich Meinecke) وعلى كل حال فإن هذه ليست فكرة هيردر الرئيسية بالتحديد وإلا فسيصل الأمر إلى الاستسلام المريض لأفكار المفسر على حساب النص، وهذا ما سيعارضه هيردر أكثر من سواه. إن ما يمكن استنباطه من ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني ” أن هيردر يعتقد بأن العقل البشري يخوض بحثا شاقاً في البحث الفلسفي والتاريخي. ولذلك علينا أن نسأل: ماهي القيمة الثمينة لرمزية التعاطف Einfühlung؟ وسنجد أن للتعاطف خمسة أركان: فأولاً يتضمن التعاطف تبايناً حاسماً بين عقلية المفسِّر والنص الذي يفسره، أشبه بالخليج الواسع، الأمر الذي يجعل من التأويل مهمةً جد مضنية وشاقة (وهذا يعني أن ثمة مَنفَذ ينبغي الولوج إليه من قبل المفسّر لفهم طريقة المؤلف). ثانياً يتضمن مفهوم التعاطف، وبالأخص في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني “دعوة نحو الشعور بالنص من خلال البحث الشامل، وهو بحث في استخدام اللغة داخل النص، وكذلك بحث في السياقات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. ثالثاً يزعم مفهوم التعاطف – من منطلق نظرية هيردر (شبه التجريبية) عن المفاهيم – أنه لكي تفهَم لغة النص المزمع تفسيره وتأويله، على المفسِّر أن يعيد إنتاج النص ضمن مخيلة ذات إحساسات مدرِكة ومتعاطفة. رابعاً يحتوي الكتاب المذكور على تحذير من تسلط المترجم – أو المؤول – على الذين يقوم بتأويلهم وترجمتهم، كما يعارض – وبنفس القدر – الميل نحو التطابق معه identification وأن من شأن ذلك تشويه عمل المفسر، فينبغي تجنب هذا الخطأ. خامساً وأخيراً يتعين على المفسر (والمؤول) أن يكافح لتطوير إمكاناته في الممارسة اللغوية، وأن يراعي وقائع السياق والإحساسات المرتبطة به، للدرجة التي يضاهي بها المؤلف الأصلي في تلقائيته وعفويته، وأن يضع في حسبانه تلقي الجمهور على ضوء هذه المعطيات (وهذا ما يتطلب من المترجم والجمهور معاً تبني فينمنولوجيا الشعور لا مجرد الإدراك العقلي).
يضاف لذلك إصرار هيردر على مبدأ الشمول Holism في الممارسة التأويلية (كما هو الحال في كتابه ” الغابات الحرجة”). يعتمد هذا المبدأ على دوافع عديدة، منها الآتي: (1) إن النصوص المجتزأة عادة ما تكون غامضة بطرق شتى (وهذا مرده إلى الخلفية اللغوية واحتمالاتها الكثيرة) وعلى المفسر أن يكشف هذا الغموض عبر التماس ما يرشده في النص المجاور. (2) قد تثير هذه المشكلة طائفة من المعاني اللغوية المحتملة لنص ناجز، لا سيما إذا كان المفسر يتبنى منظورا مختلفاً بشكل تام، وهذا ما يعمق من إدراك هذه المشكلة. كيف سيتعامل المفسر مع هذه الطائفة من المعاني وبأي لفظ مناسب سيعبّر؟ سيتطلب ذلك حشد المفسر للعديد من الاستعمالات اللغوية لهذا اللفظ أو ذاك، ومحاولة استقراء النظام الحاكم للألفاظ. من شأن هذا التحشيد اللغوي أن يذهب بالمفسر نحو سياقات أبعد حيث تستخدم الألفاظ بشكل مختلف (مثل أجزاء أخرى من النص أو النظر في مصادر أخرى للمؤلف أو القراءة لمعاصريه). (3) عادةً ما يعمد المؤلفون إلى إنشاء كتبهم ضمن وحدة عضوية، يوصلون من خلالها أفكارهم لا بشكل مجتزأ ولكن كي تترابط أفكارهم وتتناسب لتشكل كلاً متماسكاً. تفشل القراءات التي تدرك هذه الوحدة في أن تعثر على التأويل المناسب فتفقد ماهو جوهري في المعاني، لتبقى الأفكار موضع تساؤل ومثلها المعاني المجتزأة ستفقد إضاءتها الهامة.
في كتابَي ” حول كتابات توماس أبت On Thomas Abbt’s Writings ” و ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية”وكذلك في مواضع أخرى، يبتكر هيردر إحدى أهم إسهاماته: وهو إلزام التأويل بأن يولي تركيزه نحو استخدام المؤلف لألفاظه word-usage عبر الانتباه إلى نفسيَّة المؤلف. يقدم هيردر أسباباً متنوعة خلف هذا المسعى النفساني منه (وكثير من هذه الأسباب شرحها بوضوح من أتى بعده كشيلارماخر وفريدريش شليجل) وهذه الأسباب هي: (1) يتبنى هيردر نظريته (شبه التجريبية) عن المفاهيم كما ذكرنا سابقاً، وفحواها أنه لكي تدرَك مفاهيم المؤلف فسينبغي للمفسر أن يستعين بمخيلته للشعور بالمؤلف. (2) شدَّد كوينتين سكينر Quentin Skinner مؤخراً، على أن فهم المعنى اللغوي أثناء التطبيق، أو النص، لهو أمر ضروري من أجل الاستيعاب. علاوة على أنه يتوجب فهم نوايا الخطاب. فعلى سبيل العيّنة؛ لو التقيت بأحدهم على ضفاف بحيرة متجمدة وقال: ” إن الجليد رقيق هناك ” فإنني سأستوعب تماماً ما قاله. ولكن هل هدفه هو إطلاعي على المعلومة أو التحذير أو التهديد أو المزاح؟ (3) يميل سكينر إلى القول بأنه يمكن للمرء أحياناً تحديد المعنى اللغوي قبل رصد نوايا المؤلف كما هو حال المثال المذكور عن البحيرة. ولكن هل يصلح ذلك في مجمل الأحوال؟ إن هيردر يقول بالنفي ويبدو محقاً في قولته هذه، لأن المعنى وفق صياغةٍ ما Formula يبقى غامضاً (طبقاً لتعدد احتمالات المعنى وخلفياته) ولكي نتعرف على المعنى المناسب على المرء يتوجه نحو الأجزاء الكبرى من النص ويطرح الفرضيات hypothesis المستوحاة منه آخذاً بالاعتبار نوايا المؤلف (كالخوض في الموضوع الذي يعالجه المؤلف) وهذا سبب إضافي كي يهتم المفسر بنفسيَّة المؤلف. (4) وكما ذكِر سابقاً، فإن هيردر يقول بإيصال المؤلف لأفكاره لا من خلال الأجزاء وحدها، ولكن عبر دمج الأجزاء معاً عبر وحدة نصية، وإنه لمن الضروري للمفسّر أن يعثر على هذه المعاني في ذاتها وكون ذلك أمر حاسم لكشف غموض النص في كثير من أجزاءه. (5) يشير هيردر في النصف الثاني من كتابه إلى الاختلاف الجذري بين عقلي المؤلف والمفسّر، ووجوب إقرار هذا التفاوت الفردي حتى بالنسبة لمن عاشوا في نفس الحِقبة والثقافة، وهو الأمر الذي يلح على ضرورة التفسير النفساني. عادةً ما يواجه هيردر مشكلة الندرة النسبية ونقص التنوع في النصوص وذلك في الاستخدام الفعلي للمفردات الماثلة أمامه كي يمكن له استنتاج قاعدة الاستخدام التي تشكل معناها، لهذا يلجأ هيردر لمعونة إضافية وهي نفسية المؤلِّف التي قد تزوده بذلك.
في كتابيه ” حول كتابات توماس أبت” و ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية”ومواضع أخرى، يشير هيردر إلى أن التفسير – لا سيما في الجانب النفساني – يتطلب من المفسر مهارة التكهن divination وهذا مبدأ هو الآخر سيبدو مربكاً وحساساً عندما نسمع عنه للمرة الأولى، وقد يفهم منه أن هيردر يقصد ضرباً من النبوة ذات المصدر الديني والمعصومة من الخطأ. لكن المقصد أمر آخر وهو أكثر منطقية، وهو اتخاذ فرضية تحتوي بعض القرائن التجريبية المتوفرة، والمضي لما هو أبعد منها، حيث يمكن تكذيبها، كما يمكن نبذها، أو مراجعتها حين يتم تفنيدها.
وأخيراً ينوه هيردر بمسألة إضافية حين يتعلق الأمر بالطابع العام للتأويل: فمن بعد هيردر تم طرح السؤال بوضوح حول ما إذا كان التأويل فناً أو عِلماً؟ ولم يجاوب هيردر على هذه القضية بما يشفي الغليل، لكن ميوله نحو تقارب التأويل بالعلم الطبيعي أقوى من غيرها. ولديه عدة أسباب خلف اتباعه لهذا الميل: (1) يفترض هيردر مثل كثير من معاصريه أن المعنى الذي يستبطنه المؤلف في نصوصه لهو ذو طابع موضوعي يمكن بحثه على غرار جهود العلماء لدى بحثهم في مواد الطبيعة. (2) إن صعوبة التأويل الناجمة عن الاختلاف الجذري بين عقليتي المؤلف والمفسِّر، والحاجة المستمرة إلى مقاربة منهجية تتسم بالتعقيد والمشقة في حالات عديدة؛ يشير ذلك كله إلى التشابه في زوايا كثيرة بين التأويل والعلم الطبيعي. (3) الدور الذي تلعبه فرضية التكهن divination أثناء التأويل، تؤسس لنقطة أبعد نحو التشابه مع العلم الطبيعي. (4) حتى مادة التأويل وفق رؤية هيردر ليست مختلفة كثيراً عن تلك التي يتعامل معها العلم الطبيعي. فهذا الأخير يبحث في المجريات الطبيعية القابلة للملاحظة؛ من أجل تحديد القوى الكامنة والفاعلة في المجريات الطبيعية. لكن مع الأخذ في الحسبان أن التأويل يبحث ماهو قابل للملاحظة في فيزياء الإنسان لفظاً وسلوكاً، من أجل تحديد القوى الكامنة والفاعلة أيضاً (يتعرف هيردر وبوضوح على الشروط العقلية مثل إدراك المفاهيم وأنها قوى forces).
أحدثت نظرية هيردر في التأويل أثراً كبيراً ونافعاً في] الهرمونيطيقا [ من بعده، وأوشك شلايرماخر أن يستمد نظريته بالكامل من هيردر خصوصاً في محاضراته الشهيرة عن الهرمونيطيقا والتي أقامها في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. إن شلايرماخر – في مواضع أساسية ومعروفة من هرمونيطيقاه – كإسهاماته في التأويل اللغوي والنفساني وتحديده للتكهّن أداةً رئيسية في اشتغاله، لهي أمور يدين بها لهيردر بالكامل. وفوق ذلك؛ عندما يختلف شلايرماخر مع وجهة نظر هيردر ” أحياناً ” فإن رأي هيردر – غالباً ما يتفوق فلسفياً على شلايرماخر عند التحقيق.
وحين يؤخذ في الاعتبار تأثير هيردر الحاسم على هرمونيطيقا شلايرماخر فإن ذلك سيقودنا إلى تأثير هيردر غير المباشر على تلميذ شلايرماخر العظيم وهو أوجست بوك صاحب ” موسوعة ومنهج العلوم الفلسفية ” والمنشورة عام 1877 بعد وفاته. أعاد بوك إنتاج نظرية شلايرماخر مع إيضاحات قليلة، وتحول عمله هذا إلى المرجع الرئيسي والمنهجي لعلماء الكلاسيكيات وغيرهم. لقد فارق بوك نظرية أستاذه شلايرماخر في ناحية واحدة ذات أهمية، وهي تبنيه للتأويل ضمن الجنس الأدبي generic interpretation وذلك فيما يخص جوانب التأويل التي ميزها شلايرماخر والمتصلة بشكل وثيق بما قرره هيردر.
4-3 نظرية الترجمة
طوّر هيردر في الشذرات (1767-8) نظرية هامة وجديدة حيال الترجمة، ونالت صداها الكبير والمثمر في المجالين النظري والتطبيقي للترجمة في ألمانيا. وفيما يلي بعض المفاتيح الأساسية لأطروحته في الترجمة:
تواجه الترجمة تحدياً صعباً (كما التأويل) بالنظر إلى ظاهرة الاختلاف الجذري بين عقلية المؤلف والمترجم. إن الترجمة تعاني هذه الصعوبة بالذات لأن المفاهيم عميقة الاختلاف بين الحقب التاريخية والثقافات، بل ويحصل هذا الاختلاف بين فردين من حقبة تاريخية متزامنة وثقافة واحدة. نتيجة لذلك؛ تبدو الترجمة مهمة صعبة للغاية. إن الترجمة لتواجه سبيلين محتَملين: أولهما ما يدعوه هيردر بالنهج الرخو lax (حين تنحرف اللغة والفكر بسبب الترجمة) وثانيهما النهج التكييفي accomodating approach (حين يتكيف النص المترجَم مع النص الأصلي). يرفض هيردر النهج الأول، وسبب رفضه يعود لفشل هذا النهج في تحقيق الهدف الأصلي والمقبول من الترجمة، أي: الإخلاص في نقل الدلالة semantic faithfulness.
يرفض هيردر – على وجه التحديد – ذلك الإطار العلمي الذي ناصره درايدن Dryden وآخرون، والقائل بأنه على الترجمة أن تزودنا بـ ” العمل كما لو كان مكتوباً ضمن اللغة المنقول إليها، لا ضمن لغته الأصلية”. عارض هيردر ذلك، ففي حالة ترجمة هوميروس مثلاً، لم يكن له أن يكتب عمله ضمن اللغة الحديثة. لهذا السبب حاجج هيردر بأنه يتعين على المترجم أن ينزح نحو الضفة الأخرى، أن ” يهضم ” النص، فكيف له أن ينجز ذلك؟ ثمة سبيل نحو ذلك وهو أن يتمتع المترجم بالخبرة التأويلية، فهذا ما يشترطه هيردر. وثمة سبيلٌ آخر أقل وضوحاً قد طوره هيردر من أجل تجاوز العقبات المتعلقة بتعارض المفاهيم بين اللغة الأصلية واللغة المنقول إليها، وهذا الأمر – تقنياً – له أهمية قصوى، وقد يبدو الأمر مستحيلاً للوهلة الأولى (وهذا ما افترضه بشكل خاطئ فلاسفةٌ متأخرون كدونالد ديفيدسن D.Davidson) فكان هيردر – متكئاً على فلسفته اللغوية الجديدة- قد أوجد الحل لهذه المعضلة: فالمفاهيم والمعاني تعتمد على الاستعمال اللغوي word-usage ومن أجل أن نعيد إنتاج المفهوم بشكل تقريبي ومرضي إلى اللغة المنقول إليها، خاصة إن كانت تفتقد هذا المفهوم. على المترجم أن يعثر على المفردة الأقرب في اللغة المنقول إليها، ويحوِّر استعمالها أثناء ترجمته بما يعزز المحاكاة للمفهوم الأصلي. تتطلب هذه التقنية وعلى نحو أساسي أن تترجَم المفردة في النص الأصلي بشكل موحّد مهما تكاثرت مواضعها في النص الأصلي (والأمر نفسه في اللغة المنقول إليها فلا تستخدم هذه المفردة لترجمة معان أخرى من النص الأصلي). إن هذا النهج من هيردر أبعد ما يكون عن التطبيق في الترجمة؛ بعيد للحد الذي قلما نجده في الترجمات. وأيما كان الأمر، فإن هيردر يستخدم هذا الأمر بدقة في ترجماته، ومثله من تبعه في هذا التقليد وتبناه في ترجماته (مثل شلايرماخر وفرانز روزنزويج ومارتن بوبر).
يعي هيردر جيداً أن استخدام نهج ” التحوير bending ” سيؤدي لا محالة إلى صعوبة قراءة هذا النوع من الترجمة مقارنة بالنهج الرخو lax (كأن تستخدم مفردات عدة للتعبير في اللغة المنقول إليها لأجل ترجمة مفردة واحدة من النص الأصلي). وعلى كل حال فإن هيردر يجد الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ من أجل إنجاز أكبر دقة دلالية. وثمة سبيل آخر يتبناه هيردر لتحقيق الدقة الدلالية، وهو سبيل الصياغة الموسيقية musical formللعمل الأدبي (أي الوزن، والإيقاع، والجِناس، والسجع) وكما هو متوقع، فإن هدفه من وراء ذلك لهو في جزء منه دلالي، وعلى وجه التحديد: الدقة الجمالية، وتبلغ الدقة درجة إيصال التعبيرات الشعورية التي تتأثر بطرائق العمل الأدبي وملامحه الموسيقية، وهي أيضاً دلالية في جانبٍ منها: فيرى هيردر أن الصيغة الموسيقية والمضمون الدلالي مرتبطان ولا ينفصمان، وإدراك الهدف من الدقة الدلالية يشترط عدم الإخلال بالصياغة الموسيقية. فلماذا يعتقد هيردر أن الصيغة الموسيقية والمضمون الدلالي مرتبطان لهذا الحد؟ لديه سببان: يكمن السبب الأول في أن الصياغات الموسيقية تحمل معانيها بداخلها (تأمل على سبيل المثال الدلالات الهزلية والماجنة لقصائد الليمريك limerick) والسبب الثاني كما ذكرنا سابقاً هو اعتقاد هيردر أن الصيغة الموسيقية أساسية في التعبير عن الشعور، ولكن كما رأينا مسبقاً فإن المشاعر مرهونة بمعانيها (وهنا نقطة القوة في نظريته شبه التجريبية حول فلسفة اللغة) ومن ثم فإن ترجمة الصيغة الموسيقية لهي أمر هام جدا من أجل إيصال معاني المفردات والجمل أثناء الترجمة.
الهدف التقليدي من الترجمة هو إعادة إنتاج المعاني بدقة، والوفاء بشرط الجمالية في الأسلوب وجمالية التعبير عن الشعور، يضاف إلى ذلك أن النهج التكييفي والمشار إليه سابقاً ضروري أيضاً لأجل إنجاز أهداف أعظم وأهم مثل إثراء اللغة المنقول إليها (من ناحية المفاهيم والصياغة الموسيقية) إذ يحاجج هيردر بشكل مقنع حول تفريط الترجمة الرخوة بهذه الفرصة للإثراء، بينما تستثمر الترجمة التكييفية ذلك.
وثمة هدف آخر بعيد المدى يكمن في تشجيع قراء الترجمة على احترام الآخر والثقافة العالمية. وهو أمرٌ يتطلب من الترجمة أن تعيد إنتاج معاني ” الآخر the Other ” وصياغاته الموسيقية في أحسن وجه ممكن.
يعتقد هيردر بأن أفضل صور تكييف الترجمة تشترط على المترجم أن يتحلى بحس العبقرية. أي أن يكون مبدعاً وبمهارة كافية تؤهله لإشباع المتطلبات الثقيلة لمثل هذا النوع من الترجمة، وأن يبتكر مفاهيم جديدة وصياغات موسيقية في اللغة المنقول إليها ضمن ما يقتضيه الحال. بغض النظر عن التزام هيردر بأهمية هذا النوع من الترجمة (وهو ما تم شرحه على أنه التزام منه بالهدف الأساسي والتقليدي للترجمة في إعادة إنتاج المعاني) فإن هيردر يبدو متحرراً إزاء أشكال الترجمة أو النقل بين اللغات بوجهٍ عام، وهذا يشمل على سبيل العيّنة ذلك التمييز الذي أقامه حول الترجمة Übersetzung وتناسبها مع التقليد Nachbildung أو التجديد Verjüngung وإمكانية المترجم تبني ذلك كله. إن هيردر يسمح بإمكانية التنويع في الصيغ وأن أفضلها ما كان موازياً لأسلوب المؤلف او الجنس الأدبي المقصود، وما كان متوافقاً مع أغراض المترجم (أو الناقل).
إن نظرية هيردر في الترجمة كما تم إيجازها وكما برهن عليها تطبيقياً مثل ترجمته لأغاني شكسبير الشعبية Popular songs قد نالت ثمارها الكبرى وصداها الأوسع في جيل بأكمله من منظرّي الترجمة وممارسيها من الألمان، بمن فيهم يوهان هينريش فوس Johann Heinrich Voss المترجم العظيم لهوميروس، وأوجست فلهلم شليجل (المنظّر الكبير للترجمة ومترجم شكسبير) وجوته (وهو منظّر لامع للترجمة) وفلهلم فون همبولت Humboldt (مترجم ومنظّر بارز للترجمة) وشلايرماخر (منظّر مهم للترجمة وأعظم المترجمين الألمان للمحاورات الأفلاطونية). إن مبدأ هيردر في الإخلاص للدلالة (المذكور آنفاً) والمرتبط بإعادة إنتاج الصياغة الموسيقية قد أحدث أثراً قوياً فيمن خلفه. أما مبدأ التحوير bending في استخدام الكلمات ولأجل التكيف مع المفاهيم الصعبة، فكان أقل اتباعاً، ولم يتبناه إلا شلايرماخر وقلةً معه.
تدين فلسفة هيردر كثيراً، في اللغة والتأويل والترجمة، للسابقين عليه. ففلسفته في اللغة على سبيل المثال تدين لكرستيان وولف وليبنتز وسبينوزا وإرنستي Ernesti بينما تدين نظريته في الترجمة لتوماس أبت. ومهما يكن من أمر، وحتى حين يستعير هيردر من غيره، فإنه يضيف كثيراً من التحسين والتهذيب، وهو ما جعل إسهاماته جليلة.
5- دور هيردر في ولادة اللسانيات والأنثروبولوجيا
قامت فلسفة هيردر بدور حيوي وإسهام مهم في ولادة حقلين أكاديميين لم يوجدا في زمنه، ونشهد اليوم وجودهما، وهما: اللسانيات Linguistics والأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology وجاء إسهامه هذا من خلال فلسفته في اللغة والتأويل علاوةً على مبادئه الفلسفية التي طورها (للمزيد من التفاصيل انظر القسم الأول من الملحق).
6- فلسفة العقل عند هيردر
في كتابه “عن المعرفة والإحساس” 1778 وفي مواضع أخرى من مؤلفاته، يحتل هيردر موقعاً مميزاً في فلسفة العقل، وفي التالي بيانٌ لأبرز معالم هذا الموقع.
ففيما يتعلق بمشكلة الجسم والعقل، حاول هيردر أن يتبنى عدة مواقف أثناء مسيرته الفكرية، لكن ما استقر عليه هو الموقف الطبيعي والمضاد للثنائية. في كتابه “عن المعرفة والإحساس “ حاول إلغاء الفصل الحاد بين ماهو عقلي وما هو جسماني بطريقتين: الأولى عندما قدَّم نظرية العقل وأن المعطيات العقلية تتشكل عبر قوى Kräfte تتمظهر في السلوك الجسدي للبشر، تماماً مثل الأجسام الفيزيائية وما تشتمل عليه من قوى تتمظهر في حركة الأجسام. يتبنى هيردر موقفاً محايداً تجاه السؤال عن ماهية القوى، باستثناء اعتقاده بقدرة هذه القوى على تحفيز الأجسام للحركة وكونها المصدر الحقيقي لذلك (وهي قوى لا تقبل الاختزال). ومن ثم سيتعين القول وبصورة صارمة أن هذا يعفي نظرية هيردر من انتقادات شائعة (مثل ما ذكره نيزبت H.B.Nisbet وفريدريك بايسر Beiser من اتهامات بأنها قوى حيوية). إن مضمون هذه النظرية التي قدمها هيردر له مزاياه بالمقارنة مع أضدادها من النظريات: (1) تربط النظرية – من جهة المفهوم – بين المعطيات العقلية وما يتجاوب معها من السلوك الجسدي، وهذا ما يبدو صحيحاً، ويفضي إلى تفوق هذه النظرية على النظريات الثنائية dualistic ونظريات الهوية بين العقل والدماغ mind-brain theories . (2) وعلى جانب آخر تتفادى هذه النظرية اختزال المعطيات العقلية إلى مجرد سلوك جسدي، وهذا ما يبدو صحيحاً أيضاً، فنحن نعايش حالات ذهنية ليس لها سلوك أو تمظهر جسدي على الإطلاق، وهذا ما يؤسس لتفوق هذه النظرية على حساب النظريات السلوكية. (3) وما هو أكثر من ذلك، أن موقف هيردر المحايد تجاه مصدر القوة (العقلية) قد ينبئ عن إدراكه لأهمية دور المفاهيم (وهذا ما استثمره أتباع علم النفس الوظيفي في محاججة التعدد الإدراكي realizability argument) ومع أن المفاهيم العقلية والمعطيات الذهنية تتضمن مصادر للسلوك إلا أنها لا تحتوي شيئاً عن طبيعة هذا المصدر.
وثانياً؛ يحاول هيردر أن يفسر العقل من خلال ظاهرة الإثارة ]ريتس Reiz [ وهي ظاهرة تم التعرف عليها مؤخرا عن طريق العالم النفساني ألبريشت فون هالر Albrecht Von Haller ومن أمثلتها – وفق النموذج المعرفي لديه – تقلص الأنسجة العضلية أثناء استجابتها للمحفز الجسدي، أو ارتخائها بعد زوال المؤثر، وهي ظاهرة نفسانية تتجلى ثم تتسرب إلى العقل وخصائصه. ثمة غموض في موقف هيردر هنا: فهو يقاوم الاختزالية الفيزيائية ولكنه على الضد من القول بأن الإثارة ذات طابع نفساني محض أو أنها ذات سلطة على العقل. ومهما يكن من حال، ففي مسودته لكتاب ” عن المعرفة والإحساس” عام 1775 وحتى في مواضع من الكتاب المطبوع، بقي هذا موقفه. وأما من وجهة النظر الحديثة، فإن هذه ميزة أقوى لصالح هيردر (مع أننا اليوم وبالطبع نرغب في إعادة صياغتها على نحو مختلف وأن ندعوها بالعملية الفسيولوجية المًعقدة عِوضاً عن الإثارة).
هذا المسار الثاني من تفكير هيردر يبدو أمام عقبات من المسار الأول (القِوَى forces) ولكن بالطبع يجب تخطي هذه العقبات حين نأخذ في الحسبان حِياد هيردر تجاه ماهية القوى، فهذا المسار الثاني من تفكيره قد يملأ ” الصندوق الأسود” عن القوى المًفترضة لا سيما في المصطلحات الفيزيائية. بعبارة أخرى، يظهر لنا – لا من ناحية المفاهيم لكن بشكل شَرطي- أن القوى محل السؤال هي تفاعلات فسيولوجية.
وتقطع فلسفة العقل عند هيردر شوطاً نحو أطروحة أخرى مهمة: وهي أن العقل له طابع الوحدة unity ولا يوجد فصلٌ حاد بين مَلَكات العقل، فتناقضت هذه الأطروحة مع نظريات سولزر Sulzer وكانط. لم تكن هذه الأطروحة جديدة عند هيردر وسبقه إليها العقلانيون، بالأخص وولف Wolff (وقد ذكر هيردر دَينه تجاه وولف في مسودة 1775). تتجلى أصالة هيردر في رفضه اختزال العقلانيين للحِس والإرادة لصالح العقل؛ فجاء بأطروحته عن الوحدة unity وقال بالتجريبية عِوضاً عن المنهجية القِبلية apriorist way وأضاف بعداً معيارياً لهذا المنهج؛ فليس العقل يعمل هكذا، بل عليه أن يعمل كذلك. إن هذه السمة للعقل قد تبدو مضطربة خاصة حين ننظر إليها للوهلة الأولى، فالعقل يعمل وفق طبيعته الصميمة، فما المبرر في أن نصف له معياراً يعمل بموجبه؟ وكيفما كان الأمر، فإن فكرة هيردر تظل متماسكة، لأن العقل – حتى معيارياً – لا يخالف طبيعته، فالبشر يتصرفون وكأن كل مَلَكة faculty يمكن فصلها عن الثانية، بيد أن هذا سيؤدي لشطط كبير في العقل، فينبغي تجنب هذا الافتراض.
إن إطروحة هيردر عن وحدة العقل تعتمد في مجملها على أربعة أفكار واضحة تتعلق بالعلاقة الوثيقة بين وظائف ملكات العقل، بينما تظهر الأخطاء نتيجة مقاومة هذه الأفكار، وهي أفكار مدعّمة بالتجربة وتمنحها القاعدة الإمبريقية.
تتعلق الفكرة الأولى بالعلاقة بين الفكر واللغة: ليست اللغة في طبيعتها تكشف الفكر فحسب لكنها – كما نوَّهنا سابقاً- تحدد الفكر، فالفكر يعتمد على اللغة، ويذهب هيردر لما هو أبعد من ذلك ويبني فكرته على أساس من الدليل التجريبي (على سبيل المثال الأطفال وتطور فكرهم بالتزامن مع اكتسابهم للمزيد من اللغة). إن الجانب المعياري من هذا الموقف الهيردري يكمن في السقوط الحر للفكر إذا ما انفصل عن قيود اللغة، ومثل هذه القطيعة ستؤدي إلى الخواء.
وتتعلق الفكرة الثانية بالعلاقة الوثيقة والمتبادلة بين المعرفة والإرادة، أو العواطف. إن الزعم بأن الإرادة يجب أن تتبع المعرفة لهو أمر لا يثير التحفظ كثيراً، لكن يحاجج هيردر حول عكس ذلك، وأن المعرفة بكاملها تتبع – ويجب أن تتبع- الإرادة والعواطف، وبكل تأكيد لا يجب أن تكون التبعية لمجرد عواطف نسبية وهزيلة. يهتم هيردر على نحو خاص بمواجهة الفكرة القائلة بأن الأعمال النظرية في الفلسفة والعلوم منفصلة – أو يجب أن تنفصل – عن الإرادة والعواطف، أما هيردر ومن موقفٍ ينطلق من أرضية تجريبية فلا يعتقد بهذا الانفصال مهما تظاهرت هذه المعارف بذلك، بل إن محاولة فصل الفلسفة والعلم عن الإرادة والعواطف سيعمل على إفقارها وإضعافها. أما دعامات طرح هيردر في موقفه هذا فذات طبيعة تجريبية أيضاً.
تتمحور الفكرة الثالثة حول العلاقة الوثيقة والمتبادلة بين الفكر والإحساس. إن التصورات والمعتقدات من جهة، والإحساس من جهة ثانية، ليتصلان ببعضهم وفق هيردر، لهذا يتقدم هيردر بنظريته شبه التجريبية عن المفاهيم المذكورة سابقاً، والتي تقول بأن مفاهيمنا جميعها (ومثلها جل معتقداتنا) تعتمد على الحس بشكل أو بآخر. والعكس صحيح في الاتجاه الآخر (وهنا يستبق هيردر عملاً مهماً في فلسفة القرن العشرين) فيحاجج هيردر بأن شخصية الإنسان البالغ في إحساساتها تعتمد على مفاهيمه ومعتقداته. وبشكل معياري، يرى هيردر أن إلغاء هذا الاعتماد المتبادل سيؤدي لا محالة إلى الشطط الفكري، فعلى سبيل المثال وكما هو مذكور سابقاً، يعتقد هيردر بأن الميتافيزيقيين يقومون بجهدٍ عبثي في محاولتهم لقطع العلاقة بين المفاهيم والتجربة، وموقفه في هذه القضية بأسرها مبني على عوامل تجريبية.
أما الفكرة الرابعة في العلاقة الوثيقة والمتبادلة تختص بالوحدة بين مَلَكات الحس تحديداً. يشتمل رأي هيردر على القول بأن طبيعتنا الحيوانية الباطنة تحتوي على كتلة بدائية من الإدراكات الحسية والمشاعر العاطفية (مع أننا بخلاف الحيوانات نملك القدرة المميزة على تعطيل ذلك مؤقتاً وهي قدرة تدعى التعقل Besonnenheit) يحاجج هيردر في أمر آخر وهو أن الإدراكات الحسية تشكل وحدة بحد ذاتها ويتخذ موقفيه هذين على أرضية تجريبية، فعلى وجه التحديد يقول هيردر أن الوحدة الكامنة خلف مَلَكات الإدراك الحسي تظهر أثناء المواقف غير المألوفة والحالات المَرَضية. وطبقاً لذلك يحاجج هيردر على سبيل المثال أن اعتماد حاسة ناضجة – كالبصر- على حاسة اللمس، يظهر لنا من خلال تطور حاسة البصر لدى الأطفال الصغار مثلما تتشافى حاسة البصر بعد خضوع الأعمى لعملية جراحة، كما هي حالة الأعمى مع الطبيب تشاسيلدن Cheselden’s blind man.
يخطو هيردر نحو ما هو أبعد في فلسفة العقل، ويحاجج بأن المعنى اللغوي في أصله ذا طابع اجتماعي، وكذلك الفكر وجوانب الحياة العقلية (بحكم أنها تنكشف أساساً ضمن مقتضيات المعنى) ومن ثم فالنفس بحد ذاتها تعتمد على تعريف هويتها وفق المجتمع (بحكم ارتباطها بالفكر والجوانب العقلية للبشر). إن خصوصية موقف هيردر تبدو ذات منطلق تجريبي. ومنذ ذلك الحين تزعمت تقليداً عريقاً في الطموح نحو البرهنة على أن المعنى والفكر، إلخ.. ماهي إلا مأسسة اجتماعية (على سبيل العيّنة هيجل وفتجنشتاين وكريبكي Kripke وبورج Burge وبراندوم) وعلى كل حال فإن هذه المطامح لم توفق كما يبدو، وأن موقف هيردر الطَّموح هو وحده من يجدر قبول محاولته.
وهيردر هنا في حالة تجاذب لا تعارض مع مبدأ الاجتماعية sociality فهو يرى أنه – حتى ضمن ثقافة وحقبة واحدة – ستظل العقول تحت حكم قانون الطابع الفردي في عمقها، وتختلف بشكل كبير بين بعضها، وإضافة لذلك فإنه يقول بالحاجة لتوجيه علم نفس خاص بالفردانية individuality وهذه فكرة هامة أثرت بمن تلاه من المفكرين القاريّين (مثل شلايرماخر ونتشه وبروست وسارتر ومانفريد فرانك). يقدم هيردر هذا الطرح فقط لأجل القاعدة التجريبية، وعلى النقيض فإن لشلايرماخر وفرانك موقف قوي يدَّعي تأسيس الفردانية كحقيقة كونية وقِبلية a priori. ومهما كان الأمر، فإن موقف هيردر – مرة أخرى – هو الأكثر إقناعاً.
وأخيراً فإن هيردر مثل سابقيه في التقليد العقلاني ومثل كانط، يرفضون بشدة الفكرة الديكارتية حول شفافية النفس، وبدلاً منها يصرون على أن ما يحدث في العقل أمرٌ غير واعٍ، لهذا فمعرفة النفس تحظى بإشكال عميق على الدوام. وهذا موقف آخر يفرض نفسه قسراً على هيردر وقد أثر بكثير ممن جاء بعده من المفكرين.
إن فلسفة هيردر عن العقل تدين بالكامل لسابقيه، خصوصاً ذوي التقليد العقلاني. ولكنه اتخذ طرقاً جديدة وأصيلة، فنظريته مهمة بحد ذاتها، وطبقها كثيرون ممن جاؤوا بعده من المتأثرين به، بمن فيهم هيجل وشلايرماخر ونتشه.
7- الجماليات عند هيردر
كان هيردر على عكس أستاذه كانط ذو الاهتمام المحدود بالأدب والفن، وهما موضوعان عالجهما في نقد ملَكة الحكم 1790 وبطرحٍ يوحي بالضعف. أما هيردر فكان مولعاً بالفن والأدب وعلى معرفة عميقة بهما، وكثمرة لهذا الاهتمام كان بمقدوره الإثراء عبر مجموعةٍ أصيلة ومهمة من الأفكار حيال الفن والأدب. لقد حاز هيردر قصب السبق، وتبعته كثرةٌ من الجيل الرومنسي (بالأخص فريدريك وأوجست فلهلم شليجل) ومعهما هيجل.
تنبأ هيردر بمجيء الرومنسيين وأثر بهم بشكل كبير. ومن بين المواقف الصاخبة والمشهورة للرومنسيين تقديرهم للأدب والفن على حساب الجوانب الأخرى من المعرفة (كالعلم والدين والأخلاق) ولكن هيردر كان قد تبنى هذا الموقف قبلهم. أولاً لقد كان هيردر منذ فترة مبكرة يحاجج أن الأغنية song هي أصل اللغات جميعها (وبالتالي هي أصل الفكر) وثانياً في مقالاته العديدة مثل “مقالة في أصل اللغة”وخصوصاً مقالة “في الصورة والشعر والحِكاية”عام 1787 يجد هيردر أن اللغة أساساً رمزية ومجازية بطبيعتها، وأن النحو عادةً ما يستمد ضمائر الجنسين من الطبيعة، كما تتضمن اللغة – وعلى نطاق واسع -نقلاتٍ إبداعية من الموضوع object نحو الاستثارة الحسية ثم إلى الصورة التي يخلقها الفرد، ومن الفرد إلى الفكر واللغة، وهذا ما يسم اللغة بطابع الشعرية poetic. ثالثاً في بعض أعمال هيردر مثل “ محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” عام 1764 وكتاب ” في روح الشعر العبري “ حاجج هيدر أن الشعر أساسي للدين منذ البداية. وفي مواضع أخرى حاجج بأن الفن (غير اللغوي) كالنحت، أدى وظيفة حيوية في التعليم الأخلاقي، ومن المؤكد أن له أهمية أكبر من الآليات التربوية الأخرى (كالقوانين).
ما هي أبرز إسهامات هيردر في الجماليات إضافة لما ذكر؟ إن هيردر يتشكك حيال قِبلية ومنهجية الجماليات لا سيما عند مبتكر منهج الجماليات أي الفيلسوف العقلاني بومجارتن Baumgarten التي كان قد أنجزها في زمن هيردر. وبدلاً من تبني ذلك، نادى بالأخذ بالنهج التصاعدي bottom-up أو التجريبية من أسفل إلى أعلى، وبات موقفه نابذاً لـ “سستامية” الجماليات. صحيحٌ أنه بدا مشواره الفكري متبنياً بعض المنهجية الجمالية لا سيما في “الغابات الحرجة” 1769 وأتم محاججاته بشأن منهجه الجمالي المصغّر: حيث الموسيقى تتعقب المواضيع في الزمان، بينما النحت والرسم مكانيان بشكل خالص، أما الشعر فهو حِس وروح وقوّة. تنتمي الموسيقى، ومعها النحت والرسم، إلى الحواس وحدها (أي السمع والشعور والرؤية، بالتتابع) فيما لا يعتمد الشعر على الحواس فقط بل يرتبط بالمخيلة؛ وفي اللحظة التي توظف فيها الموسيقى الإشارات الطبيعية natural signs حصراً، فإن الشعر يوظّف إشارات اللطف والإقناع. وإنه لمن الصواب أن نقول إن هذا المنهج تم تبنيه (وبتعديلات طفيفة) من قِبَل شلايرماخر في محاضراته الجمالية، وتم النظر إليه – مؤخراً فحسب- كإنجاز رئيسي لهيردر في الجماليات (مثل ما ذكره روبرت نورتن Robert Norton) ولكن أدرك هيردر وبسرعة بعد صياغة هذا المنهج أنه ساذج، وأن إنجازه الحقيقي في الجماليات مختلف ويغاير ذلك.
فلنشرع الآن في تتبع إنجازات هيردر الحقيقية. أحد هذه الإنجازات يتعلق بالصلة بين الفن واللغة. كما رأينا سابقاً فإن فلسفة هيردر اللغوية تلتزم بفكرتين: أن الفكر يتبع اللغة على نحو جوهري ويتقيد بها، وأن المعنى مرهون بالاستخدام اللغوي. إن هذا يستدعي أسئلة محددة: فهذه الأفكار تقطع برويَّة مع فرضيّات التنويرEnlightenment من أن الفكر والمعنى من حيث المبدأ مستقلان عن كل مادة وعن كل المدركات الحسية وآثارها. ووفقاً لما قاله تشارلز تايلور يمكننا أن ننعت هذا المذهب بـ” التعبيرية” (أي تأثير الحواس على الفكر والمعنى: المترجم) ولكن ما الصيغة الملائمة التي يجدر بالتعبيرية أن تتخذها بالضبط؟ هل هي اعتماد الفكر والمعنى على الرموز الخارجية بشكل تام مثل اللغة(بالمعنى العادي للغة)؟ أم اعتماد الفكر على وسائط رمزية واسعة تشمل الرسم والنحت بجانب اللغة ومن ثم سيتسنى للمرء الاستمتاع بأفكاره التي لم يستطع التعبير عنها لغوياً من خلال وسيط رمزي آخر؟ فلنسمي الاتجاه الأول التعبيرية المحدودة narrow expressivism والاتجاه الثاني التعبيرية الواسعة broad expressivism.
أيّد هامان في كتابه “ ما بعد النقد Metacritique “نسخةً من التعبيرية الواسعة، ولكنه بنفس الوقت يؤيد الفكرتين سالفتي الذكر عن فلسفة اللغة، بينما تبنى هيردر التعبيرية المحدودة. وبعد نزاع شديد حول هذا الموضوع، خضع هيردر للتعبيرية المحدودة وعمله الأساسي هنا هو كتاب “الغابات الحرجة” فأثناء تأليفه لهذا الكتاب كان ملتزماً بالفكرتين السابقتين عن اللغة، وكما قد يتراءى لنا فإن هيردر منذ بداية كتابه وهو يتبنى التعبيرية المحدودة. وعلى كل حال لم يكن انتماؤه للتعبيرية كافياً، بل ولم يكن متماسكاً. فهو في البداية يؤيد صيغة هشة من إنكار قدرة الفنون (غير اللغوية) على التعبير عن الأفكار على الإطلاق. وعندما نضع في الاعتبار هذه الهشاشة مع عدم الإقناع في رأيه، فإن هيردر منذ البداية يلتزم القول (وبصورة أكثر معقولية) بأن الفنون البصرية كثيراً ما تعبّر عن الأفكار، فعلى سبيل المثال يتدخل هيردر في نزاعٍ بين ليسنج Lessing ووينكيلمان Wincklemann حول السؤال عن مدى قدرة الفنون اللغوية على التعبير (لاسيما الشعر) وكذلك الفنون البصرية (لاسيما النحت) وأعلوية الفنون البصرية بما يخدم حجة وينكلمان عن الفن البصري. إن عدم الرضا والهشاشة هنا ينتجان من غفلة هيردر عن حقيقة واحدة: وهي أنه من الممكن التوفيق بين التعبيرية المحدودة من جهة وقدرة الفكر على الإسهام في الفنون غير اللغوية من جهة ثانية. بعبارة أخرى من خلال الإصرار على أن الأفكار المعبر عنها بفنون غير لغوية يجب أن ترتبط وتتقيد بمهارة الفنان في التعبير اللغوي. على أي حال، في زمن كتابة هيردر للأجزاء الأخيرة من “الغابات الحرجة” كان قد وجد الحل في الجزء الثالث، عبر تركيزه على مثالٍ إرشادي محدد، فلاحظَ أن الصور المنقوشة على العملات اليونانية ذات طبيعة مجازية allegorical. وأثناء كتابته للجزء الرابع كان على استعداد للقول بما يشابه ذلك عن الرسم أيضاً، فيتحدث مثلاً عن ” الحس، والرمز، والقصة/التاريخ، مستودعة جميعها في اللوحة” (G2:313) وفي عام 1788 توسع في هذه القناعة ليشمل النحت أيضاً. وفي مقالة ” النحت” عام 1778 تخلى عن التصور الحسي المحض تجاه النحت والذي سيطر على كتابه ” الغابات الحرجة” وقال عِوضاً عن ذلك أن النحت في جوهره تعبيري ويتطلب تأويلاً من الروح. ولن يلزمه هذا بعد الآن في التنكر لمبدأه في كون الفكر معتمدٌ على اللغة ومقيدٌ بها، ويرى أن الأفكار المعبَّر عنها في النحت ذات مصدر لغوي:
” يقف التمثال في ظلام الليل ويتلمس صورة الآلهة. إن قصص الشعراء تسبقه، وهي في داخله” (G4:317).
يلي ذلك في “الرسائل اللاهوتية” عامي 1780-1781 و” رسائل من أجل تقدم الإنسانية “ يتبنى هيردر نفس الحل مع الموسيقى وآلاتها.
يتضمن الموقف الأخير الذي بلغه هيردر عن ” الفنون غير اللغوية” وكونها مرتبطة بالعقل واللغة على نحو مختلف، ففي الجزء الرابع من ” الغابات الحرجة” (والذي لم تتم طباعته إلا في القرن التاسع عشر بعد وفاة هيردر) يطور هيردر في هذا الكتاب طرحه حول الإدراك البشري وأنه في جوهره مرتبط بالمفاهيم والمعتقدات، وعلى أثر ذلك يرتبط باللغة، وهذا ما يتضمن بالطبع ارتباط الفنون “غير اللغوية” باللغة. الفنون غير اللغوية، إذن، تعتمد بشكل مضاعَف على الفكر واللغة، لأنها تعبر هي الأخرى عن أفكارٍ تفترض مقدماً وجودها في المعرفة.
مع هذا المنجَز من جانب هيردر، وصيغته المنقحة من ” التعبيرية المحدودة” واختلافها عن تعبيرية هامان الواسعة، فإننا سنكون بإزاء نظريتين متنافستين. إن من شأن المنظّرين الألمان في القرنين التاسع عشر والعشرين، من نافلة (هيجل، شلايرماخر، ديلتاي، وجادامير) أن ينقسموا بعمق تجاه هاتين النظريتين وما يتعلق بهما، حيث لازالت القضية مهمة حتى اليوم. فيما لا تزال الاعتبارات الفلسفية المرتبطة بهذا الأمر ذات صعوبة. وقد حاججت في موضع آخر بما أعتقده وهو أن هيردر ذو الموقف السليم.
يحتوي موقف هيردر هنا العديد من التضمينات الهامة بشأن الهرمونيطيقا. كرؤيته الهامة حول الفكر والمعنى واللغة وكونهم يؤدون أدواراً أساسية لا في الأدب وحده وإنما في الفن غير اللغوي هو الآخر. وبالنسبة لهيردر فإن مجالَي (الأدب والفن غير اللغوي) يحتويان على تحديات تأويلية ]هرمونيطيقية[ متشابهة، ويتطلبان نفس الحلول التأويلية. ثمة إسهام آخر ومهم لهيردر في الجماليات ويكمن في تاريخانيته، أو بشكل أوسع يكمن في تعرفه على الاختلاف العقلي والجذري بين الحقب التاريخية والثقافات وحتى الأفراد. وحين يؤخذ هذا الموقف التاريخاني حيال الأدب والفن فإنه سيتمخض عن خمس محددات أساسية:
أولاً: وكما هو مذكور آنفاً فإن هيردر يعتقد بكون المفاهيم والمعتقدات والقيم، الخ.. تتنوع جميعها بين الحِقب التاريخية والثقافات والأفراد، وينطبق هذا بوضوح على الأدب بوجهٍ خاص. أيضاً وكما رأينا فإن الفنون غير اللغوية كالرسم والنحت والموسيقى، تتضمن رؤى وتعبيرات عن المفاهيم والمعتقدات والقيم، وتلتزم بها.
ثانياً: يعتقد هيردر بأن الجنس الأدبي – في كونه مجموعة من الأغراض والشروط – لهو أمر جوهري في أي عمل أدبي أو فني. لكنه يعتقد أيضاً باختلاف الأجناس الأدبية بعمق وذلك في الحِقب التاريخية المختلفة (وهو اختلاف يسري بين الثقافات والأفراد كذلك) ولا يعني هذا موت الأجناس الأدبية وولادة أخرى حديثة فحسب، إذ يعني أيضاً أن التجانس الأدبي يستمر عبر إخفاء الاختلافات الهامة. يحاجج هيردر بشكل تفصيلي وعلى سبيل المثال في مقالته “شكسبير” 1773 أن الجنس الأدبي للتراجيديا اليونانية يختلف عن التراجيديا الشكسبيرية في وقتٍ افترض فيه الشراح على الدوام تماثلهما، بينما الاختلاف عميق ويتأسس على أغراضٍ وشروط مختلفة. كذلك في ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 يحاجج هيردر ضد وينكلمان Winckelmann الذي ماثَل بين أجناس نحت الجسد عند قدماء اليونان والمصريين الفراعنة، فاليونان يضعون نصب أعينهم أن الغرض من هذا الجنس الفني هو تصوير الحياة الدنيوية بجمالها وجاذبيتها، أما المصريون فتبنوا غرضاً مناقضاً في الأجناس الفنية ليوصلوا أفكارهم عن الموت والخلود.
ثالثاً: يحاجج هيردر أن نشأة الأدب غالباً ما تكون حِسية في صميمها، ولكن مع تقدم التاريخ تتحول صوب ماهو فكري. في مقالته المبكرة ” في القصيدة “ 1764-1765 وفي ” محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” يشرح هيردر هذا التطور وفق تضاؤل المشاعر القوية (مثل الخوف) وتزايد التعقيد الفكري والعلمي، وينظر لهذا التحول على أنه تراجع. لاحقاً وفي “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يستبقي هيردر الجانب الوصفي في هذا الأمر، ولكن يراجع المفهوم لإقرار التراجع: كلما كان الشعر أكثر حسية عند الأقدمين فسيكون مضمونه الفكري أكثف عند المحدِثين، وكلاهما ضربٌ من الشعر يختلف عن الآخر، بيد أن لهما نفس الأهمية رغم هذا الاختلاف.
رابعاً: يجد هيردر في القيم الاستاطيقية – مثل الجَمال- أنها مشاعر، وأن المشاعر موضع السؤال تتنوع على نحو هام بين كل حقبة، وثقافة، وفرد. تسود هذه الفكرة في كتابه ” في القصيدة” حيث يناقش الاختلافات الرئيسية في الشعور بالجمال عبر حِقبٍ وثقافات مختلفة، أي على سبيل المثال بين زمنهِ وزمن قدماء الإغريق. تسود هذه الفكرة أيضاً في مقالة “ حول تغيّر الذائقة ” 1766 فيضيف بقوله إن التغيرات في بعض الأحيان متطرفة بما يكفي لتصل إلى الانقلاب التام.
خامساً: يرى هيردر أن الجانب الأساسي في وظيفة الأدب والفن يكمن في إيصال القيم الأخلاقية. لكن عليها – بجانب ذلك- أن تلاحظ أن القيم الأخلاقية المراد تبليغها غالباً ما تختلف على نحو عميق بين الحقب والثقافات والأفراد. في كتابه ” محاولة لتأريخ الشعر الغنائي “يحاجج بشكل ثاقب عن الشعر اليوناني القديم، لاسيما هوميروس، وأنه احتوى قِيماً أخلاقية مختلفة للغاية عن تلك التي نتبناها.
إن هذه الإضاءات التاريخانية عن الأدب والفن ذات أهمية بالغة في ذاتها. فهي تملك مضامين عميقة حيال التأويل والتقييم الأدبي والفني لا بالنسبة لهيردر فقط ولكن بشكل واقعي كذلك. فلننظر الآن عن كثب في اثنتين منهما بهذا السياق.
تهتم الإضاءة الأولى بالاختلاف الجذري في المفاهيم والمعتقدات والقيم وما إلى ذلك. استخدم الأدب هذه الأشياء لغوياً، ومبادئ هيردر العامة في الهرمونيطيقا وتأويل النصوص والخطاب اللغوي تتعاطى مع الاختلاف الجذري (كما نوقِش مسبقاً) وتنطبق بالطبع على الأدب بوجه خاص. وفقاً لذلك وفي “الغابات الحرجة” يشدد هيردر على أهمية التعمق في عالم هوميروس اللغوي والمفهومي عبر مقاربة فيلولوجية حذرة؛ فمن الضروري دائماً تأويل الملامح المحلية في العمل الأدبي مثل الفقرات السخيفة (كحال ثيراسيتس في الإلياذة ج2: 211-227) وعلى ضوء العمل بكامله (مثلما يتصل الأمر بتأويل قصائد هوراس) يبدو حل المشكلة المتعلقة بالفهم الشمولي – عوضاً عن تأويل الأجزاء بشكل منفصل – أمراً يتعلق بالاشتغال داخل النص بشكل منفصل من أجل بلوغ التأويل الشامل لجميع الأجزاء، ثم تطبيق التأويل الوقتي provisional لعموم النص بغية تنقيح كل جزء على حدة، وهكذا إلى مالانهاية.
ولكون هيردر يعتقد بأن أشكال الفن غير اللغوية من رسمٍ ونحت وموسيقى وما يماثلها، تفترض مسبقاً، بل وتعبر عن مفاهيم ومعتقدات وقيمٍ تبني أساساتها على اللغة. يؤمن هيردر أن المبادئ الهرمونيطيقة ]التأويلية[ الكبرى والمرتبطة بالأعمال اللغوية، والتي تشتغل على حل الاختلاف الجذري بين الأفهام، تسهم أيضاً- وبشكل جوهري- في تأويل هذه الفنون. وأكثر من ذلك فإن الفهم ضروري لمقدمات فقرة من الأدب أو الفن وما يتعلق بهما من تعابير من أجل تقييم العمل بشكل سليم، وهذا الضرب من الهرمونيطيقا له مقاربته بالغة الأهمية، لا بهدف التأويل فحسب ولكن لأجل التقييم أيضاً.
ومثالنا الثاني يهتم بالجنس الأدبي genre فيرى هيردر أن الغرض من تأليف العمل الفني هو تجسيد الجنس الأدبي، وهذا أمر حاسم عند المفسّر كي يتعرف على الجنس الأدبي ليفهمه. لماذا يعتقد هيردر بضرورة التعرف على الجنس الأدبي كي يفهَم؟ لدى هيردر ثلاثة أسباب على الأقل (وكلها أسباب وجيهة):
أولاً: تحديد الجنس للعمل الأدبي أمر جوهري وأساسي لفهم العمل ومحتوياته (وهذا مثل فهم منطوق الخطاب في الجملة وكونه ضروري لفهم الجملة ومضامينها). ثانياً: بما أن المؤلف ينوي تجسيد جنس أدبي بعينه، ثم ستتكشف بعض معاني العمل لا بصورة صريحة في أحد الأجزاء، وبدلاً من ذلك تتكشف من خلال التجسيد في الجنس الأدبي. ثالثاً: إن التعرف بشكل سليم على الجنس الأدبي يحسم الأمر حيال التأويل الدقيق للأشياء المعبّر عنها بوضوح في أجزاء العمل.
وكما ذكرت سابقاً، يقدم هيردر رؤية تاريخانية هامة عن الجنس الأدبي هنا: إنه يدرك وحدة الجنس الأدبي ضمن اختلاف الحقب التاريخية والثقافات والأفراد. ومثال ذلك ” التراجيديا اليونانية” وأيضاً ” التراجيديا الشكسبيرية ” أو النحت الفرعوني ونظيره النحت اليوناني، فهذا الشكل (=الجنس الأدبي: المترجم) عادة ما يخفي الاختلافات الهامة. ولهذا الأمر تبعات مهمة للتأويل، فهو يقود هيردر إلى رفض حازم للمقاربة القِبلية في التعرف على الجنس الأدبي، بما في ذلك القِبلية المطلقة ورفضه أن تتعرف على الجنس الأدبي ولو على سبيل الملاحظة الجزئية. إن رفض هيردر يعود لإغراء القِبلية –لاسيما النسبية منها- حيث تسمح للمرء أن يلاحظ الأمثلة والنماذج المحدودة ويستثني أخرى، فيتخيل المرء الجنس الأدبي وفقاً لذلك ويبني تصوره له. وطبقاً للمنظور التاريخاني عند هيردر فإن هذا ما يتمخض دوماً عن نتائج كارثية.
بدلاً من القبلية ووفقاً لهيردر فإن المفسّر يجدر به مقاربة الجنس الأدبي ضمن آلية تجريبية دقيقة. ومن المتوقع أن يتطلب ذلك فحص العمل الأدبي عن كثب لأجل اكتشاف الأغراض الأدبية والشروط التي يعمل وفقاً لها. كما يتطلب أخذ العوامل التي أنتجت النص في الحسبان كالسياق الاجتماعي والتكوين التاريخي للجنس الأدبي مقارنة بما سبقه من أجناس. إضافة لهذا كله قد يتضمن الانتباه إلى الآراء الصريحة للمؤلف أو الفنان حيال الجنس الأدبي الذي يخوض به.
يشدد هيردر على أن التعرف الناجح على الجنس في العمل الأدبي يؤدي إلى نتائج هامة في التأويل ومدى سلامته، ويؤدي أيضاً لتقييمه بشكل ناجع. يقع الشراح الفرنسيون في خطأ تأويلي حين يقرأون شكسبير وفي أذهانهم – مسبقاً – جنس أدبي يخص عالماً قديماً لا ينتمي في الحقيقة لشكسبير. بل وعلى هذا الأساس الخاطئ يعتمدون التقييم evaluation فيفترضون بصورة زائفة أن شكسبير يتوق إلى تقمص نفس الأغراض والشروط للجنس الأدبي الذي يتبناه أرسطوطاليس وأن سبب نجاحه جاء بواسطة هذا التقمص. وبالمثل فإن وينكلمان Winchlemann يقع في خطأ تأويلي هو الآخر حين ينسب للمصريين ” ضِمنياً” نفس المفهوم اليوناني للجنس الفني في النحت، وأيضاً وعلى هذا الأساس (الخاطئ) يقيّم العمل؛ فيفترض – وهو مخطئ- توق المصريين إلى إدراك الغرض اليوناني من الجنس الفني ويلومهم على إخفاقهم في ذلك، ويغفل عن نجاحهم في إدراك جنسهم الفني مختلف الشروط الذي استلهموه وأدركوه.
قاد نهج هيردر التاريخاني في التأويل والنقد الأدبي والفني إلى تقدم هائل في هذين المجالين. وكمثال على ذلك تمكن الأخوان شليجل (بفضل هيردر) من فهم التراجيديا بعمق أكبر مما كان في السابق. ومكَّن ذلك فريدريش شليجل من تطوير تأريخ جديد ومعقد للفن (خاصة في عمله عن اللوحات في اللوفر والمعمار الكاتدرائي) وبفضل هيردر تم التمهيد في القرنين التاسع عشر والعشرين لدراسة التراجيديا وتاريخ الفن.
ولدى هيردر أفكار هامة عن مسألة يجدها الكثيرون ذات مكانة مركزية في الاستاطيقا، وهي الجمال. يطور هيردر معايير الجمال في هذا المقام (من ناحية العلاقة مع الفن وماهو أكثر عمومية منه) وينص على تنوعها بين الحقب التاريخية والثقافات. وهو الأمر المعتاد بالنسبة له منذ بواكير أعماله مثل كاليجوني Calligone (حيث تصدى بهذا العمل لكتاب نقد ملكة الحكم لكانط). وفي “الغابات الحرجة”وكذلك في كاليجوني يحاجج هيردر من حين لآخر- شأنه شأن مفكرين آخرين سبقوه كهيوم- أن ثمة وحدة أعمق في معايير الجمال عبر الحقب التاريخية والثقافات، ولكن موقفه الأسبق بقي الأكثر إقناعاً.
الفكرة الثانية والهامة لهيردر عن الجمال، قد طورها في “الغابات الحرجة” ثم كررها مرة أخرى في “ كاليجوني” وتتعلق تحديداً بمفهوم الجمال. يحاجج هيردر بشكل مقنع أن أصول المفهوم تكمن في الخبرة البصرية (ويعتقد أن هذا ما تشير إليه العلاقة بين الجذر اللغوي في كلمتي الجميل schön والمظهر أو ما يسطع Schein) بيد أن هذه الخبرة تم تمديدها من نطاقها البدائي لتغطي بالفعل “كل ماله أثر ممتع للروح” فبواسطة هذه الحاسة “البصر.. يوجز الصورة والتمثل وغرور الروح”. لهذا فإن الجمال يصبح مصطلحا نتملكه للتأكيد على ما نجده ممتعاً في علاقته بالحواس الأخرى، وطبعا يشمل ذلك الحياة العقلية على نحو واسع (G2:289–291). وهناك فكرة ثالثة ومهمة طورها هيردر وهي أن الجمال في الحقيقة أقل أهمية في الأدب والفن مما يظن، فهذا التقليص من أهمية الجمال لا يقدم عليه هيردر بسبب رؤيته الجينالوجية الاختزالية وحدها، والمذكورة سلفاً، ولكن لأن تصوره الجمالي ذا نموذج مستوحى من الرومانسية والذي ينص على المهام الأساسية للأدب والفن في علاقتهما مع اللغة، والفكر، والدين، والأخلاق. عبر هذا الإصرار المتأصل لدى هيردر في وظيفة المعنى والفكر ودورها الهام حتى في الفنون غير اللغوية، يسعى هيردر إلى تقليص دور الجمال بشكل متزايد وباضطراد. في أعماله المبكرة مثل ” في الشعر” و ” الغابات الحرجة “يتعامل هيردر مع الجمال وكونه مركزياً في الاستاطيقا، ولكن تغير رأيه في المرحلة التي كتب فيها كاليجوني وقال بأن الجمال غير ضروري للفن كما كان يظن. يحاجج هيردر على وجه التحديد في كاليجوني بأن الفن يرتبط على نحو جوهري بالتعليم والتكوين الثقافي Bildung(لاسيما في النواحي الأخلاقية).
وأخيرا علينا أن نلتفت إلى أطروحة هيردر حول الأدب والفن ووظيفتيهما الأخلاقيتين في التعليم. في مقال “حول تأثير الفن الشعري على أخلاق الناس في العصور القديمة والحديثة ” 1778و “حول تأثير النصوص الجمالية على العلوم العليا ” 1781وكذلك “كاليجوني” فإن هيردر لا يرى هذه وظائف جوهرية للجماليات فحسب ولكن يعتقد بأن للأدب تأثير قوي يفوق سواه من وسائل التربية بما في ذلك القانون.
لا يقتصر موقف هيردر الدقيق حيال الدور الأخلاقي للأدب والفن على مجرد التبني ولكن يمتد للحث على ذلك أيضاً. فيخصص هيردر ثلاثة طرق واضحة تمكن الأدب والشعر من الإسهام في تكوين الشخصية الأخلاقية. يتم ذلك أولاً ” عبر القوانين الشفيفة through light rules ” أو بعبارة أخرى من خلال التعبير الدقيق عن المفاهيم الأخلاقية. وثانياً وبشكل أكثر أهمية ضمن رؤية هيردر أن تقدّم القدوات الأخلاقية في وهجٍ من الإيجابية لتدفع الناس نحو محاكاتهم. وثالثاً عبر إيصال ضروب التجربة العملية تسهم في بناء الشخصية الأخلاقية، ومن ثم تحث على اكتسابها، فمن دون هذا سيكون اكتسابها عسيراً عبر خوض الدروب الصعبة والمؤلمة واجتراح التجربة الساذجة. إضافة لما سبق فإن هيردر في مواضع أخرى يضمِّن طريقة رابعة يسهم بها الأدب في التكوين الأخلاقي: إنه مبدأ أساسي يستبطن كتابه “الأغاني الشعبية” فبواسطة الكشف المتجلي للحيوات الداخلية للآخرين من الناس – كالمخاوف والآمال والمتع – إزاء الجمهور أو القراء، سيتسنى للأدب أن يستثير التعاطف تجاه الشخوص الأدبية ويغرس الانحياز الأخلاقي في نفوس الناس تجاههم. وخامساً يضيف هيردر في “كاليجوني” نقطة أبعد من ذلك تتعلق بالفنون غير اللغوية، فالفن البصري يملك قوة تجسيد النماذج الأخلاقية بشكل جذاب عبر تقديمها مقولبة في الجمال الجسدي، وبالمثل فإن الموسيقى ذات قوة في التأثير السلوكي سواء في الخير أو السقم، فهذا يعتمد على المبادئ التي تناط بها.
إن تصور هيردر حول تكوين الشخصية الأخلاقية يشمل دوراً جوهرياً للأدب وللفن من حيث هما كذلك وما ينبغي عليهما أن يكونا، كما يمنح هيردر معياراً لتقييم الأعمال الأدبية. لهذا فعندما يدون ملاحظاته في الأعمال المذكورة آنفا يذكر أن الشعر الحديث على نقيض الشعر القديم قد خسر وظيفته، ويذكر ذلك عبر نقد قوي للشعر الحديث. ويطبق هذا المعيار كأساس نقدي لأعمال محددة لأصدقائه شيمة جوته وشيلر اللذان اعتبرهما محايدان أخلاقياً (أو حتى غير أخلاقيَّين) في المحتوى.
8- فلسفة الأخلاق عند هيردر
طور هيردر فلسفة أخلاقية ناضجة وذات تأثير تاريخي، وتكونت من مجموعة من القضايا شملت مابعد الأخلاق meta-ethics أو حتى النظام الأولي للأخلاق. وسنمعن النظر الآن في المسألة الأولى.
مثل فلسفته عن العقل، فإن موقف هيردر حيال مابعد الأخلاق لهو طبيعي naturalistic في روحه، وهذا الموقف مثير للجدل في زمن هيردر كما سيتضح لدينا. فمثلاً كان في تجاوبه مع مندلسن Mendelssohn عام 1769 فيما يتعلق بمفاهيم سبولدنج Spalding ومندلسن الدينية والمهمومة بالحياة الآخرة ونداءها للإنسانية Bestimmung وهو المفهوم الذي عارضه هيردر بحدة لصالح المفهوم الدنيوي للأخلاق.
وكما هو مذكور انفاً فإن هيردر يتمسك بالموقف العاطفي فيما يخص طبيعة الأخلاق: فعِوضاً عن المعرفة الموضوعية (مثلما هو شأن النظرية الأخلاقية الأفلاطونية) أو مجموعة من الإسعافات المنطقية من قِبل العقل الكوني (وهذا شأن النظرية النقدية الكانطية) فإن الأخلاق عند هيردر هي في الأصل تعبيرٌ عن العواطف البشرية. لقد اعتنق هيردر هذا الموقف في “كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”1765 وواصل ذلك في كتابه “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”1774 إذ عادة ما يشير هيردر إلى العواطف موضع التساؤل بأنها ميول Neigungen ويحتفظ بنفس الرأي في “رسالة من أجل تقدم الإنسانية” 7-1793 إذ ينعتها في هذا الكتاب بأنها المواقف Gesinnungen.
اعتنق هيردر هذا الرأي من أستاذه وهو كانط ماقبل النقدي، والذي تبنى صورة من النزعة العاطفية sentimentalism في كتابه “أحلام عراف الأرواح ” 1766 فعبر كانط يمكن تتبع العاطفية في التقليد العاطفي البريطاني وبالأخص هيوم الذي وجدت حجته العاطفية صداها في نقاط عديدة من “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” فالحكم الأخلاقي في طبيعته يحفز، بينما الحكم العقلي غير محفز، والعاطفة وحدها تملك الحافزية، ومن ثم فالحكم الأخلاقي يجب أن يتكون من العواطف بصورة جوهرية.
ومهما كان الأمر فإن عاطفية هيردر هي على الأرجح ليست فجة مثلما كان الحال عند هيوم، فيدرك هيردر أن المعرفة (أو المفاهيم والمعتقدات) تؤدي دوراً هاماً في الاخلاق، وهذا ما نجده في “الغابات الحرجة” 1769 حيث يحاجج هيردر ضد فجاجة النظريات الأخلاقية التي تجرد العواطف من كل معرفة، ويحاجج بالتأكيد في الجزء الرابع أن الإحساسات هي في مجملها مفاهيم ومعتقدات حبلى بالنظريات. ويمكن أن نرى في “حول المعرفة والإحساس” 1778 أن نتشه اعتنق هذه النظرية المعقدة عن العواطف وأخذها من هيردر.
تكمن أصالة موقف هيردر في أرخنة العواطف الأخلاقية historicizing موضع السؤال، وذلك بالنظر إليها عبر تنوعها الكبير بين حقبة تاريخية وأخرى، وبين ثقافة وأخرى، وحتى بين فرد وآخر. يمجّ هيردر هذا الموقف لا سيما في “حول تغير الذائقة “ 1766 فهو على سبيل المثال يذهب بعيداً لحد القول بأن العواطف الأخلاقية موضع السؤال تبدو أحياناً متناقضة ما بين حقبة وثقافة وفرد حيث تمدح هنا وتستجهن هناك. ويمكن العثور على هذا الموقف الصارم في كتاباته المنشورة. هذا الموقف من جانب هيردر يجعل مذهبه العاطفي مختلفاً عن هيوم، كما يفصله عن نتشه (المتأثر بهيردر وبشكل قوي).
وثمة أطروحة حاسمة يقدرها هيردر وهي أن العواطف الأخلاقية مشروطة بالمجتمع وتتناسب معه وتتوافق مع طبيعته ونمط حياته، وهذه أطروحة مركزية في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” لهذا يحاول هيردر أن يبرز القيم الأخلاقية ضمن حقبها الزمنية وثقافاتها، ويجدها قابلة للفهم ضمن مسوغاتها الكامنة في شخصية المجتمع ونمط الحياة الذي تنتسب إليه. فعلى سبيل العينة كان قدامى المصريين يتحلون بأخلاق الكفاح والولاء المدني لمجتمعهم الزراعي/ الصناعي/ الحضري ونمط الحياة الذي يتمتعون به. أما الرومان فكانت لهم أخلاق الشجاعة، والتعقل، والوطنية، بما يتوافق مع مجتمعهم ذو الطبيعة العسكرية والحربية، وما إلى ذلك. إن هذه الأطروحة تعزز حجة هيوم حيال النزعة العاطفية sentimentalism عبر إجلاء المواقف الأخلاقية طبقاً لوظيفتها الاجتماعية وبمعزل عن الوقائع الأخلاقية (ومنهج هيردر هنا سيجد صداه لاحقاً لدى نتشه).
ثمة إسهام رئيس لهيردر في حقل مابعد الأخلاق meta-ethics في تطبيقه لمنهج الوراثيات وكونها توضح نطاق الأخلاق. يستند هذا المنهج على تاريخانية هيردر ويرمي إلى إدراك الظاهرة العقلية عبر تتبع أصولها التاريخية وكيفية تطورها عبر سلسلة من التوسطات intermediate forms. طور هيردر هذه الطريقة أولاً في منتصف السبعينات من القرن الثامن عشر على نقد الأجناس الأدبية في كتاب “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” و” شذرات في الأدب الألماني الحديث” بالتتابع، ثم مضى في تطبيق ذلك على الأخلاق والقيم الأخرى في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حين حاول – بشكل فج– أن يظهر الأخلاق السلطوية لقدماء العبريين وأنها التي أرست القواعد، ثم برزت أخلاق المصريين في الكفاح والولاء المدني، ومهدت الطريق للفينيقيين وأخلاق الحرية والانفتاح؛ فتلاهم الإغريق وآلفوا بين الأخلاق السابقة وجعلوا منها أخلاقاً للمدنية والحرية؛ فأتت روما وعدلت هذا التراث جاعلة منه أخلاقاً للقيم الشجاعة والتعقل والوطنية، وبعيد سقوط الإمبراطورية الرومانية طورت قبائل الشمال – يداً بيد مع المسيحية- طائفةً من القيم الثرية شملت الشجاعة والإيمان والصدق وتقديس الآلهة والعفة وشرف الفروسية. أخيراً، فإن الأخلاق الأوروبية الحديثة قد انبثقت نتاج هذه التقاليد جميعها. وهذا المنهج من هيردر من أجل الشرح والإسهام في الأخلاق سيتم تبنيه وتطويره من قبل هيجل ونتشه (خصوصاً في كتابه “عن جينالوجيا الأخلاق” 1887) ومثلهما فعل فوكو.
هناك بعد آخر وهام في مابعد الأخلاق meta-ethics عند هيردر وسبق التطرق له، يتمثل بالوضعية المعقدة التي طورها في ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”حيث النزعة العاطفية هي العِلة الصحيحة لطبيعة الأخلاق؛ وبالتالي فالمعرفة غير مفيدة كعلة للأخلاق ولايمكن التأسيس عليها ولا مقاربة الأخلاق عبرها، بل وأكثر من ذلك هي ضارة حين تستثير الشك بالأخلاق وتشتت الناس عن المنابع الحقيقية للأخلاق وتصدهم عن تعزيزها. وعلى الفلسفة الأخلاقية إذن أن تتعرف على المنابع الحقيقية وتعززها؛ أي تلك الآليات السببية المولدة للأخلاق والمحفزة على العواطف الأخلاقية.
وكما ذكِر سالفاً فإن كتاب “كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”يشدد على صيغ تربوية وأساليب عاطفية في الوعظ تتصل بهذا المقام، وكلاهما نشاطان مضى هيردر في التنظير لهما بإسهاب في مواضع أخرى. لكنهما مجرد جزئين لنظرية أوسع وممارسة بيداغوجية أخلاقية ترمي لترسيخ العواطف الأخلاقية، وهو ما طوره هيردر طوال مشواره الفكري، الأمر الذي استهلك جهد هيردر وأصبح مشروعاً مركزياً وفارِقاً لديه. يضاف لذلك الآلية السببية التي تعرف عليها هيردر ودعمها، والتي تتضمن تأثير الأخلاق على الأفراد القدوات؛ والقانون، والأدب (علاوة على الفنون الأخرى).
أنفق هيردر حياته بلا كلل في تطويره لهذه النظرية بكاملها مع تطبيقه للبيداغوجيا الأخلاقية، ولعلها أسست لإسهامه الفلسفي الأبرز للبيداغوجيا الأخلاقية والتي تتشابه بشكل مذهل مع تلك التي طورها بروتاجوراس في العصور القديمة (أي كما حفظتها لنا محاورة أفلاطون العظيمة “بروتاجوراس”).
ومما يمكن ملاحظته في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”أن هيردر يعتقد بأن لمشروعه هذا إلحاح تاريخي يوم صدوره؛ فالقيم الأخلاقية التي اعتنقها الناس منذ عصري النهضة والإصلاح، مثل محبة الإنسانية، والحرية، والشرف، باتت قيماً جوفاء، وفقدت رسوخها الأصيل في العواطف الأخلاقية، ولهذا فشلت في أداء وظيفتها الاجتماعية وأخفقت في التجاوب معها.
الجانب الأخير والمهم من مابعد أخلاقيات هيردر، يسود خصوصاً في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وينساب عبر عدة وضعيات مابعد أخلاقية تم ذكرها مسبقاً، وبالأخص: النزعة العاطفية sentimentalism وأطروحته حول التنوع العميق في العواطف الأخلاقية بين الحقب والثقافات والأفراد، وكذلك أطروحته عن ملائمة التنوع الأخلاقي الذي يبرز في مختلف المجتمعات وشتى أنماط الحياة. لا مبرر إذن لإبداء مقارنات تقويمية بين نسق أخلاقي وآخر، كالقول بأن أخلاقاً معينة أفضل من الأخرى، وهذا ما تضمنته ملاحظة هيردر الشهيرة في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حيث القيم جميعها مهمة:
” إن كل المقارنات تثبت أنها إشكالية في محصلة الأمر… لكل أمةٍ محورٌ لسعادتها الخاصة بها، مثلما أن لكل سطح كروي مركز خاص لجاذبيته! ” HPW 296-297)).
ربما كانت هذه النسبية إحدى إسهامات هيردر الرئيسية في فلسفة الأخلاق. وأيما كان الأمر فإنها أيضاً إشكالية؛ سواء بالنسبة لعلاقتها مع الأجزاء الأخرى من فلسفة هيردر أو في جوهرها الخاص (للمزيد من التفصيل انظر للقسم الثاني من ملحق النقاشات).
لننظر الآن وبشكل موجز إلى مواقف هيردر المميزة حيال النظام الأولي للأخلاق، ففي هذا المستوى طور هيردر مواقف في غاية الأهمية، وتأتي أهميتها لقيمتها الجوهرية ولتأثيرها على من تلاه.
أحد أهم المبادئ الأساسية والأصيلة والجذابة فيما طوره هيردر هو ما يمكن تسميته بـ” العولمة التعددية” والتي تتضاد مع ” العولمة التجانسية”. إن النزعة العالمية قد بلغت مداها في زمن هيردر واتصلت في ماضيها مع المذهب الكلبي والرواقية في العالم الوثني اليوناني. يمجد هذا التقليد صيغة تجانسية من النزعة العالمية؛ صيغة تضمن المساواة الأخلاقية والاحترام لجميع البشر وتقوم فقط على أساس افتراضي يشترك فيه البشر في معظم سماتهم النفسية (والأخلاقية على وجه الخصوص). وكان التنويرون السابقون على هيردر – بمن فيهم كانط – قد تبنوا هذا الموقف، وفوق ذلك كانت هذه النسخة من النزعة العالمية قد استمرت في تسيدها لدى فلاسفة الأخلاق والمؤسسات البارزة حتى يومنا هذا كما هو شأن منظمة الأمم المتحدة. وثمة مشكلة كبرى في هذه الصيغة من النزعة العالمية: تكمن في الافتراض القائل بأن البشر يتشابهون بشكل كبير في صفاتهم النفسية والأخلاقية مع أن هذا قول زائف (ومحاولة جعل هذا القول صحيحاً تستوجب الكثير من الاعتساف والإكراه). أدرك هيردر هذه المشكلة، فلم يغرِق وليد العولمة في مياه التجانس، وعِوضاً عن فعل ذلك طوّر صيغة مميزة من ” التعددية “ العالمية: أي الالتزام باحترام أخلاقي منصِف حيال جميع البشر، بغض النظر عن مدى تنوع نفسياتهم وتعدد قيمهم الأخلاقية بشكل خاص (وهذا بالتأكيد من الأسباب). يسود هذا الموقف لدى هيردر في كتاب “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” وتدعم هذه النزعة العالمية التعددية موقف هيردر القوي ضد الإمبريالية والاستعمار في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وكتاب “أفكار في فلسفة التاريخ الإنساني” وكتاب “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”.
هناك مبدأ أخلاقي ثان لهيردر يستحق ذكره في هذا المقام ويتقارب مع مبدأ الإنسانية [Humanität] الذي طوره في كتابَي الأفكار و الرسائل. لهذا المبدأ جانبين أحدهما وصفي، ويتضمن وحدة الجنس البشري وما يطفو على سطحه من اختلاف بين الأعراق، وثمة جانب معياري آخر يتضمن النزعة العالمية cosmopolitanism ويشتمل على قواعد تخص المعاملة الحسنة (مثل عدم القتل/ عدم الإيذاء الجسدي/ عدم خداع الناس) ويعمل بكونه بديلاً لمفهوم حقوق الإنسان فهذا المفهوم الأخير يتأسس ضمن رؤية عالمية يشيح عنها هيردر نظره لأسباب كثيرة (طالع جزء الفلسفة السياسية).
ثمة مكوّن جدير بالذكر يخص النظام الأولي للأخلاق عند هيردر وذلك في نموذجه للتعليم Bildung يتجلى في استقلالية الذات والتطور الفردي في جميع القدرات للشخص ضمن كلٍّ متناغم. وقد فعّل هيردر هذا النموذج في كتاباته منذ 1769. في كتاب “عن المعرفة والإحساس” عمَّق هيردر الأصول الفلسفية لهذا النموذج: أي لأهمية الاستقلالية الإنسانية والحرية وأنهما تتوافقان مع قوانين الطبيعة (وهي أهمية تتقارب مع ما كتبه في “مقالة في أصل اللغة” حيث السمة المميزة للإنسانية هي المرونة والتحرر من الحتم عبر الغرائز المحدودة) فهذه النظرية شبه التجريبية من ليبنتز والمتعلقة بالفردية هي سمة عامة لكل الطبيعة بما في ذلك الطبيعة الإنسانية كحالة خاصة: كما تؤخذ بالاعتبار أهمية الاستقلالية بالنسبة للمَلكات النفسية والتي تدعم بدورها مكوِّن (الكل المتناغم) للنموذج. هذا النموذج الذي سيتحول لاحقاً إلى مصدر تأثير هائل لفلاسفة لاحقين كشيلر وهيجل وفلهلم فون همبولت (والذي رأى في إدراك النموذج هدفاً أسمى للدولة وبالتأكيد غاية للكون).
وفوق هذه المثل الأخلاقية اللافتة للنظر، التزم هيردر أيضاً بمجموعة من الأفكار المألوفة خاصة تلك المتعلقة بالتقليد الأخلاقي المسيحي، كالشفقة، والحب، والغفران، والصدق، والعدالة، والمساواة. ومع أنها مألوفة بحد ذاتها لكن هذه المثل تساعدنا في استيعاب إحدى مزايا فلسفة هيردر الأخلاقية: وهي تجنبه الحازم لكل ضروب الأحادية الأخلاقية والتي نشأت في العصور القديمة كما هو حال أفلاطون في محاورة بروتاجوراس (بالتحديد حجة أفلاطون عن وحدة الفضائل) وهي أحادية استمرت في عصر الحداثة مع كانط (لاسيما في التزامه بالمقولات الإلزامية وأنها المبدأ الأساس للأخلاق) وكذلك مع مذهب المنفعة (عبر التزام هذا المذهب بالسعادة وأنها المعيار الأساسي للأخلاق) ولصالح أخلاقه التعددية يلتزم هيردر بعدم الاختزال للقيم الأخلاقية والمثل، وهذه على الأرجح ميزة كبرى لفلسفة هيردر الأخلاقية.
وفي محصلة الأمر فإن نظرية هيردر الأخلاقية ذات أهمية لا على مستوى مضمونها فحسب ولكن فيما تهمله كذلك، فلايهتم هيردر إلا قليلاً بقضايا حرية الإرادة، وهو بالكاد يتطرق لوجودها أو لكونها شرطاً للمسؤولية الأخلاقية (فالحرية لديه هي حس استقلالي أو مرونة توجد في حدود قوانين الطبيعة وبالكاد تصل إلى تحرر محدود من هذه القيود إما عبر الغرائز المحدودة أو الحرية السياسية وهذان الأمران يوليهما هيردر اهتمامه). يتناقض هذا الموقف بشكل حاد مع العديد من فلاسفة الأخلاق في العصر الحديث كهيوم وكانط على سبيل العيّنة. ومهما يكن من أمر فإنه إذا ما نظرنا إلى قدماء الإغريق (مثل هوميروس) أو التقاليد الأخلاقية الصينية ولاحظناهما بمنظور واسع فقلما نجد مفهوماً يختص بحرية الإرادة أو أي ميل نحو القول بأن هذه الحرية ضرورية للمسؤولية الأخلاقية. وفوق ذلك قد أحاجج بأن موقف هيردر هنا – مثله مثل تلك التقاليد – يتمتع بميزة كبرى، فمفهوم حرية الإرادة وكون الأخلاق عالةٌ عليه، وسيطرة ذلك على الفلسفة والدين في الغرب منذ التراث المتأخر، قد اتضح أن ذلك كله مجانب للصواب تماماً.
9- فلسفة التاريخ
تتضح فلسفة التاريخ عند هيردر بشكل أساسي في عملين: أولهما “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وثانيهما “أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني”. إن فلسفة هيردر في التاريخ فريدة من نوعها بالنظر لتطويره تصوراً غائياً للتاريخ بوصفه إدراكاً تقدمياً لـ”العقل” و”الإنسانية” وهو مفهومٌ مهّد لظهور هيجل وأثر به تأثيراً قوياً بجانب آخرين، وعلى كل حال فإن هذا التصور ملتبس جداً عند التمعّن فيه، وليس من منجزات هيردر الهامّة في هذا الحقل.
لعل منجّز هيردر الأكثر أهمية هو تطويره للأطروحة السالف ذكرها والتي عارض بها بعض فلاسفة التنوير كهيوم وفولتير، وهو وجود الاختلافات الجذرية في المفاهيم بين الحقب التاريخية والثقافات والأفراد، فمفاهيم الناس ومعتقداتهم وقيمهم وإحساساتهم وغيرها من أمور، تختلف بصورة عميقة بين حقبة زمنية وأخرى، وبين ثقافة وأخرى. تسود هذه الأطروحة في “حول تغيّر الذائقة “ 1766 وتستمر طوال مشوار هيردر الفكري، وأثرت بشكل بالغ فيمن تبعه كالأخويّن شليجل وشلايرماخر وهيجل ونتشه ودلتاي.
يمضي هيردر في اسكتشاف تجريبي وسط عالم التنوعات العقلية للحد الذي تضبط به هذه الأطروحة نظام التاريخ. يهتم هيردر قليلاً بالأفعال والأحداث السياسية والعسكرية في التاريخ ويركز بدلاً من ذلك على “دواخل” الفاعلين في التاريخ، وهو تركيز معتمد وواعٍ من قبل هيردر، وبواسطة ذلك يحتل علم النفس والتأويل -وبصورة حاسمة – مكانةً جوهرية بوصفهما أداتا المنهج التأريخي عند هيردر.
لهيردر أسبابه الفلسفية العميقة وراء هذا الخيار واتخاذ علمي النفس والتأويل كمرجعين للتأريخ. ففي البداية لديه مبررات سلبية موجهة نحو التأريخ السياسي والعسكري التقليدي. فلمَ ينبغي على التأريخ منذ البدء أن يوجه اهتمامه نحو المنجزات والأحداث العسكرية والسياسية العظمى؟ ثمة أجوبة محتملة وعديدة لهذا الأمر. أولاً: هي منجزات مبهرة وبناءة تربوياً. بيد أن هيردر لا يقبل ذلك، فهو ينكر الانفعال المحض والفضول كمحفزَين للكتابة التأريخية. وثمة سبب آخر وهو عداؤه للسلطوية والعسكرتارية، كما أن تبنيه للإنسانية (مفتوحة الحدود) دفعته لاعتبار الاستبداد السياسي والحرب و”الإمبراطورية” والتي شكلت غالبية الأفعال والأحداث (العظمى) غير ناجعة تربوياً، بل بغيضة. وقد يترك لنا ذلك نوعين من الدوافع خلف الكتابة التأريخية محل السؤال: ثانياً: إن فحص مسار هذه الأفعال والأحداث يكشف بعض المعاني في التاريخ. ثالثاً: من شأن هذا أن يقودنا إلى إضاءات سببية كافية تمكننا من شرح الماضي وقد تتيح لنا التنبؤ بالمستقبل أو حتى التحكم به. لايزال هيردر متشككاً حيال هذه الإطارات المنطقية وتتضح شكوكيته في النص القديم من “الغابات الحرجة” 8-1767 حيث قدم فيه نقده لهذه الإطارات المنطقية. رابعاً: وتحت تأثير شكيَّة كانط وهيوم حيال المعرفة السببية، يمضي هيردر نحو توكيد البحث عن السبب الكافي ” فالرؤية التاريخية تتوقف حين تبدأ النبوة “وترتحل كتاباته المتأخرة عن هذا الموقف المبكر وذلك لأسباب جلية، لكنه في المجمل يبقى مخلصاً لها (للمزيد من التفاصيل انظر للقسم الثالث من ملحق للنقاش).
إن حجج هيردر ضد هذه الإطارات موجزة في الرسائل 121-122 بدءاً من المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”(وقد ذكِرت بالكامل وبشكل منفرد في موضع آخر). وما يكمل هذا الموقف السلبي تجاه التاريخ التقليدي (العسكري/ السياسي) هو ادعاؤه الأهمية البالغة، بينما يملك هيردر أسبابه الإيجابية للتركيز على دواخل الحياة الإنسانية في التاريخ. يكمن أول الأسباب في اهتمام هيردر البحت بهذا الموضوع (مع أنه وكما هو مذكور آنفاً فإن هذا ليس بالسبب الكافي بنظره) والسبب الثاني هو اكتشاف هيردر للتنوع الجذري في الأفهام الإنسانية وأن لهذا الجانب مداه الواسع وغير المستكشف، وهو حقلٌ مثير للتحديات البحثية، الأمر الذي غفلت عن إدراكه الأجيال السابقة من المؤرخين. والسبب الثالث اعتقاد هيردر بأن دراسة ذهنيات الناس من خلال الأدب، والفن البصري، وهلم جرا.. سيكشف بصورة عامة عن طبيعتهم الأخلاقية في أفضل حالاتها (وهذا ما يتناقض بحدَّة مع دراسة تاريخهم السياسي والعسكري) وهذا ما تستقى منه الفوائد في سبيل التنوير الأخلاقي. والسبب الرابع يكمن في الدوافع الأخلاقية لنزعة هيردر العالمية والمساواتية، حيث أدت به لدراسة عقليات الناس في الأدب والفن البصري وما إلى ذلك، وهذا ما يتناقض بحدّة مع دراسة التاريخ المقتصر على النخب العسكرية والسياسية، أمرٌ سيقودنا لتعزيز التعاطف مع الشعوب بل ومع كافة الطبقات الاجتماعية بما في ذلك الطبقات الدنيا. أخيراً؛ فإن دراسة التاريخ ” الداخلي” للناس لهو أمر هام كأداة لتحسين ذواتنا غير الأخلاقية. السبب الخامس يعزز فهمنا لأنفسنا، وثمة سبب وجيه لذلك وهو أن مناقضة المرء لنفسه عبر استكشاف رؤى الآخرين له من الخارج ستدفعه لإدراك ماهو كوني وثابت أو على العكس سيدرك ماهو متميز ومتنوع. والأمر الآخر أنه من أجل إنضاج رؤيتنا الذاتية سنحتاج لإدراك أصولنا التاريخية وكيف أضحت على ماهي عليه (وهنا منهج الوراثيات الشهير لهيردر والذي سيتم شرحه بالكامل). السبب السادس هو اعتقاد هيردر بأن البحث الدقيق في المثل (غير الأخلاقية) للعصور الماضية قد يخدمنا في إثراء مثلنا وسعادتنا. يجد هذا الدافع عند هيردر تطبيقاً واسعاً في أعماله، ومن ضمن الأمثلة ما استكشفه هيردر في الأدب القديم في “الشذرات” يحتل في جزء كبير منه استنباط هيردر للعديد من الدروس حول تطوير الأدب الألماني الحديث.
إن تركيز هيردر على “دواخل” الفاعلين في التاريخ وتشديده المستمر على علم النفس والتأويل كطرائق لفهم التاريخ قد مهدّ وبشكل مبهر لمجيء دلتاي وأثر عليه بقوة، كذلك فالإطارات العقلية كما هو موضح أعلاه قد تفوقت على ماجاء به دلتاي خاصة في المنحى الإيجابي لهيردر. وأحد إسهامات هيردر الأساسية في فلسفة التاريخ يكمن في تبصره للاختلاف العقلي الجذري radical mental difference ولاسيما منهجه الوراثي آنف الذكر، وهو اختراع ثوري أثبت قيمته الجوهرية بشكل ضخم لدى فلاسفة مهمين ولاحقين على هيردر كهيجل ونتشه وفوكو.
إن منهج هيردر الوراثي genetic method هو أولاً وقبل كل شيء طريقة من أجل فهم أو شرح أفضل للمشهد النفساني والممارسات المتضمنة لما هو نفساني، وبالأخص طرائق لفهم ماهو شخصي للفرد، ولفهم ماهو ذاتي كذلك. أنجز هذا المنهج إسهامه المميز لفهم أفضل حيال المشاهد والسلوكيات بما في ذلك الفرد نفسه، عبر ماهو طبيعي (وليس ماهو ديني أو أسطوري أو متعال) وكيفية تطور ماهو طبيعي في الفرد تاريخياً منذ الأصول القديمة والسابقة على كل ماهو حاضر، وكيف انبثَّت في سلسلة من التحولات.
طوّر هيردر هذا المنهج مبدئياً أواخر الستينات من القرن الثامن عشر في علاقته بالشعر واللغة، ولم ينشر كتابه “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” 1764الذي تضمن تصوره المبكر لهذا المنهج وتطبيقه على الشعر. ثم نشر بعدها بمدة قصيرة كتابه “الشذرات” عام 8-1767 بعد تنقيحه لهذا المنهج وطبقه على اللغة، يليه تطبيق المنهج على القيم الأخلاقية ومسائل أخرى. لهذا فإنه في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 قد ركز بشكل كبير على القيم الأخلاقية والجمالية والائتمانية prudential، ليطور المقياس الأكبر للأطروحة الوراثية القائلة بأن التاريخ يتكون من سلسلة كبرى من الثقافات (مثل الثقافة الأبوية الشرقية/ الثقافة المصرية/ الثقافة الفينيقية/ الثقافة اليونانية/ الثقافة الرومانية وهلم جرا) والتي انبنت فوق بعضها بصورة تراكمية وولدت في محصلة الأمر الثقافة الأوروبية الحديثة (والتي احتار بإزائها بشكل كبير) فعلى سبيل المثال يرى هيردر أن الثقافة اليونانية هي تركيبٌ بين ثقافة الطاعة الشرقية المصرية مضافٌ إليها الثقافة الفينيقية الحرَّة وقد سبقتا اليونان، ثم مررت هذا التركيب إلى الثقافات الأوروبية الحديثة. أما هيجل وخصوصاً في “فينمنولوجيا الروح” 1807 ونتشه لاسيما في “جينالوجيا الأخلاق” 1887 وتلاهما فوكو قد استخدموا هذا المنهج وعملوا على تعديله بطرق مختلفة.
كيف يمكن لمنهج هيردر أن يطور من فهم الذات؟ إنه يطمح إلى ذلك عبر طريقتين متمايزتين وتؤسسان معاً لما نستطيع تسميته بالنموذج الأساسي للتفسير الوراثي. إن الإسهام الأول لهذا المنهج في فهم الذات يقع تقريباً في حيازة الشخص لمفاهيمه، ومعتقداته، وأحاسيسه، وتقاليده، وأشكاله الفنية وهلم جرا، وألا يقارنها مع رؤى أخرى تفتقر إليها أو التي تملك خيارات مختلفة، فمن شأن ذلك أن يدفع الشخص للمجازفة بجعل قناعاته كونية لا غني عنها، أو أن يتغاضى عن مزايا الشخصيات الأخرى. يتضاد المنهج الوراثي مع هذين النمطين من إساءة فهم الذات، عبر جعل المرء مطلعاً على المراحل التاريخية المبكرة التي تفتقر للمفاهيم ذات الصلة الخ، يداً بيد مع المراحل التاريخية المتوقعة لا بالشكل الذي يحوزه المرء لكن عبر صيغة مختلفة، فيصبح من الممكن أن تدرك المحليَّة وإمكانية الاستغناء عن المفاهيم الخ، في السؤال ومقارنة بعضهم البعض لكشف ماهو مميز في الشخصية.
يتكون الإسهام الثاني لمنهج فهم الذات في مستواه الأساسي عبر أمرين: أولهما أن المفاهيم محل السؤال، عِوضاً عن كونها فطرية (ومن ثم حاضرة العقول البشرية) أو حتى في كونها مكتسبة من العدم وتشكلت في نقطة من التاريخ، فإنها في الحالتين نتاج تطورات تاريخية لم توجد من قبل أبدا، بل وجدت فقط ضمن تشكلات متنوعة؛ والأمر الثاني أن هذه التطورات التاريخية قد شكلت المفاهيم. وعلى مستوى ثانوي فإنه من العادة أن يفسر أحدهما بالآخر ضمن خصوصية الذاتية. على سبيل المثال فإن الشعر الغنائي ضمن هذا المنهج قد بدأ كتعبير عن المشاعر واستمر على هذا النحو في تحولاته، ومثل ذلك فإن اللغات تطورت منذ نشأتها البدائية إلى أن تعقدت على نحو مهول؛ وبالمثل فإن الثقافة الحديثة وما تحمله من قِيم قد انبثقت عن ثقافات وقيم مبكرة عبر سلسلة من التراكمات والتحولات.
وأخيراً فإن هيردر مبهر في إدراكه لمشكلة التاريخ والصورة التي رسمها عنه (مع أنه لم يحل هذه المشكلة وإنما اشتبك معها) بما في ذلك مقارنته بين الثقافات كمنطقة للاختلافات العميقة في العقلية الإنسانية. وهذه هي مشكلة الشكيّة Skepticism (للمزيد من التفاصيل انظر القسم الرابع من ملحق النقاش).
10- الفلسفة السياسية عند هيردر
لايعتبر هيردر فيلسوفاً سياسياً ضمن التفكير المعتاد. لكنه أحد الذين قدّرت مثلهم السياسية ودوفع عن مواقفه السياسية، كما كانت أفكاره التي ركز عليها ذات ديمومة أكثر من أي فيلسوف ألماني آخر من تلك الحقبة. كانت معالجة هيردر الأكثر تطوراً للفلسفة السياسية في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته، وذلك في كتاب استحثت كتابته الثورة الفرنسية عام 1789 ” رسائل من أجل تقدم الإنسانية” 7-1793 (بما في ذلك المسودة المبكرة عام 1792 التي اكتسب أهميتها من خلال إفصاحه الواضح عن آراءه حيال السياسات الداخلية).
ماهي السمات الأساسية لفلسفة هيردر السياسية؟ لنبدأ أولاً مع المثل السياسية. الشق الأول منها يخص السياسة الداخلية والشق الثاني يخص السياسة الدولية. ففي السياسة الداخلية يبدو هيردر المسن ليبرالياً، جمهورياً، ديمقراطياً، ومساواتياً Egalitarian (ينبغي ملاحظة الظروف التاريخية حيث تندر هذه المواقف وتحملها هيردر على مسؤوليته الشخصية). إن ليبرالية هيردر راديكالية على نحو خاص إذ تؤيد حرية التفكير والتعبير (وهذا يشمل حرية المعتقد) ولديه أسبابه العديدة لهذا الموقف: أولاً يشعر هيردر أن هذه الحرية تنسَب لكرامة البشر الأخلاقية. ثانياً: يعتقد أن هذه الحرية ضرورية للإدراك الذاتي للأفراد. ثالثاً: يجد هيردر أن قدرات الناس محدودة في إدراك الحقيقة ولن يتم ذلك إلا عبر تنافس مستمر بين وجهات النظر المتعارضة فيحققون تقدماً نحو الحقيقة (استعار جون ستيوارت مل هذه الآراء لاحقاً واستقى معظمها من فلهلم فون هومبولت لتكوين نظريته حول حرية التفكير والتعبير في كتاب “عن الحرية“).
التزم هيردر أيضاً بالجمهورية والديمقراطية (تبنى الحق الدستوري وبشكل أوسع صلاحية من كانط على سبيل المثال) ولهيردر أسبابه المختلفة لهذا الموقف الذي استوحاه من نزعة المساواة لديه لأجل الصالح العام لكافة أعضاء المجتمع. فأولاً: يشعر هيردر بالصواب التام في القول إن على جموع الناس أن تتشارك في الحكومة لا أن تفرض عليهم. ثانياً: يعتقد أن من شأن ذلك خدمة مصالحهم الأخرى فالناس محكومون وحاكمون معاً. ثالثاً: يؤمن هيردر أن ذلك كفيل بتقليص الحروب التي تستعر بسبب النظم الأوروبية الاستبدادية، ولاتفيد سوى قلة من الحكام الذين يشنون الحرب لتقع كلفتها الباهضة على الشعب.
أخيراً فإن المساواتيةegalitarianism لدى هيردر تمتد لما هو أبعد من ذلك، فهو لا يرفض الاختلافات الطبقية ولا المِلكية الخاصة، كما لا يرفض عدم المساواة بالكليّة. إن ما يعارضه هيردر هو الاضطهاد الطبقي التراتبي hierarchical ويحاجج بأن أفراد المجتمع يملكون قدرات تمكنهم من الإدراك الذاتي، ويجب أن ينالوا الفرصة لاستغلال هذه القدرات، ويصر هيردر على ضرورة تدخل الحكومة لتوكيد نيل هذه الفرص، كأن تضمن الحكومة التعليم للجميع وحداً أدنى من المعيشة للفقراء.
أما ما يخص السياسة الدولية فإنه عادة ما ينظر لهيردر بأنه ” قومي ” وأحياناً ما هو أسوأ (قومي ألماني) وهذا ما قام به على سبيل المثال روبرت إرجاجنج R.Ergang في “هيردر وأصول القومية الألمانية”1931وكارل بوبرفي “المجتمع المفتوح وأعداؤه” 1945. ثمة فلاسفة من تلك الحقبة يستحقون هذا التصنيف مثل فيشته، لكن من المضلل، ومن الجائر، جعل هيردر كذلك. وعلى النقيض من هذا، كان هيردر ككانط، ذا موقف عولمي حِيال السياسة الدولية، ومهمومٌ بجميع البشر. يعود ذلك وبشكل كبير لمِثال الإنسانية لديه. ولهذا في “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” ينقل هيردر من فينولون Fénelon مؤيداً له: ” أحب عائلتي أكثر من نفسي، وأحب وطني أكثر من عائلتي، وأحب الإنسانية أكثر من وطني” (HPW389). وفوق هذا فإن عولمة هيردر لربما كانت أكثر نقاء من كانط الذي تقوّض طرحه بسبب تحيزاته العديدة التي انتمى لها، وبالأخص عنصريته، وعداؤه للسامية، وكراهيته للمرأة (Kleingeld 2013). على النقيض، كان هيردر حراً من هذه التحيزات، وبلا شك فقد عمل بلا كلل على مواجهتها.
أيضاً فقد ألحَّ هيردر على احترام الجماعات القومية والحفاظ عليها وتطويرها. وينبغي أن نطمئن لذلك للأسباب التالية: (1) يجد هيردر في الأمر ضرورة لحفظ الجماعات القومية بالتساوي ولا يتعلق الأمر بألمانيا وحدها! (في رسائل من أجل تقدم الإنسانية يرفض هيردر بشكل قاطع كل فكرة عن “الشعب الأفضل Favoritvolk ” كما ذَكَر) HPW 394. (2) إن ” الأمة” موضع البحث هنا ليست عرقية بل لغوية وثقافية (في كتاب الأفكار وبمواضع أخرى يرفض هيردر تماماً مفهوم العرق وينتقده). (3) لا يسعى هيردر إلى إلغاء التثاقف بين الأمم ولا يتبنى الجمود، بل يرحب بالتلاقح الثقافي والتداخل اللغوي والتنمية الثقافية واللغوية. (4) لا يدل اعتراف هيردر بالجماعات القومية على وجود مركزية لديه، أو نزعة نحو الدولة العسكرية (في الأفكار ومواضع أخرى يؤيد بقوة اختفاء الدولة العسكرية واستبدالها بحكومة فيدرالية مرنة وذات تسليح محدود). (5) بالإضافة لهذا فإن إصرار هيردر على احترام الجماعات القومية يرافقه شجب للصدامات العسكرية، والاستكشافات الاستعمارية، وكافة أنواع الإيذاء بين الأمم، ويطلب عوضاً عن ذلك: التعاون السلمي والتنافس التجاري والاجتهاد العلمي وذلك كله بغرض الفائدة المتبادلة؛ وهو نداء نحو الأمم كي تعمل بجدية لمساعدة بعضها بعضا.
لهيردر أسبابه التي اضطرته نحو الإصرار على احترام الجماعات القومية، وهي: (1) إن ما يلزم من التنوع العميق في القيم بين الأمم استحالة التجانس وعدم قيامه عملياً. (2) يلزمنا هذا التنوع بأن قيام التجانس لن يحدث طواعيةً بل عبر القسر الخارجي. (3) إن المحاولات لإنجاز التجانس في الواقع العملي – عبر أوروبا الاستعمارية على سبيل المثال – أو عبر أية صيغة قسرية أخرى، سيخفي دوافع للهيمنة والاستعمار (4) وفوق ذلك فإن التنوع الأممي إيجابي وثمين، سواء من حيث قيمته الذاتية أو من خلال توفيره للأفراد حس الانتماء المحلي الأصيل.
ما من شك في أن عولمة هيردر التعددية ذات أهمية، وهي بديل جذاب للعولمة التجانسية المبنية على أوهام ترتبط إما باحتمالية وجود قيم كونية مشتركة، وهو ما هيمن على عصر التنوير ولا زال رائجاً حتى اليوم، سواء بين الفلاسفة (لا سيما في العالم الناطق بالإنجليزية) أو في المنظمات السياسية الدولية كالأمم المتحدة.
ثمة جانب آخر ذا أهمية في فلسفة هيردر السياسية ويتعلق بالسياسة الداخلية والدولية، وهو ميله الشديد لمِثال الإنسانية على حساب مِثال حقوق الإنسان الشائع في زمنه (لمزيد من التفاصيل انظر القسم الثالث من ملحق النقاش).
وها نحن ذا وقد مررنا على المثل السياسية المتنوعة التي شكّلت أرضيَّة هيردر السياسية، تبقت قضية أخيرة تحتاج للنظر وقد تواجه بمعارَضة، وهي أن كل ما تقدم ذكره لا يبلغ منزلة النظرية السياسية كما هو شأن فلاسفةٍ ألمان آخرين ممن عاصروا هيردر وزودونا بنظريات سياسية، وهذا صحيح في شق (ويمكن الدفاع عنه فلسفياً) وباطل في شق آخر.
يتعلق الشق الصحيح بأنه بالفعل لا وجود لنظرية ميتافيزيقية كبرى تدعم موقف هيردر، لا وجود لديه لنظرية أفلاطونية للمثل، ولا توجد علاقة بين المؤسسات السياسية لديه و”اللحظات ” في المنطق الهيجلي، ولا وجود لـ” استنباط” للمؤسسات السياسية من طبائع الذات أو الإرادة التي عند فيشته أو هيجل. وهذا متعمد عند هيردر بالنظر إلى شكه حيال هذا الضرب من الميتافيزيقا. أفليس هذا الأمر ناجعٌ فلسفياً؟
كما لا يعطي هيردر أي اعتبار كي يزعم من خلاله تبرير المؤسسات الأخلاقية بالنسبة لموقفه السياسي ولا يدعي امتلاك بصيرة ثاقبة في هذا الشأن (مثلما هو الحال على سبيل العينة مع نظرية كانط ومقولاته الأمرية أو نظرية رولز عن الوضع الأصلي) وهذا، مرة أخرى، متعمدٌ من جانب هيردر وفقاً لنزعته العاطفية في الأخلاق ورفضه للنظريات الزائفة والمضرة. أفليس هيردر محقاً للمرة الثانية في تغييبه لهذا الاعتبار، وبالتالي فالأمر ناجعٌ فلسفياً؟
ولا يتعاطف هيردر مع النظريات السياسية الأساسية والمرهِقة كالحقوق الطبيعية، وماهية الطبيعة، والعقد الاجتماعي، والإرادة العمومية، وطوباويات المستقبل. ولكن ولمرة أخرى فإن لهيردر أسبابه الوجيهة والدقيقة خلف تشكيكه بهذه الأفكار، وهذا ما يظهر أنه ناجعٌ هو الآخر.
هذا إذن هو المنطق السليم للاعتراض؛ أن هيردر ينقصه بالتأكيد “نظرية سياسية” من هذه الأنواع، لكنه يفتقر إليها من حيث المبدأ ولعله كان محقاً في فعلته هذه.
وعلى صعيد آخر، وضمن منطق مختلف، فإنه لمن الزائف أن نقول بافتقار هيردر لـ”النظرية السياسية” لأنه بالفعل يملك “نظرية سياسية” من نوع مختلف وربما أكثر قيمة. أولاً: يستمر موقف هيردر من خلال تجريبيته العامة في الفلسفة السياسية، وهو تجريبي بعمق في بياناته. فعلى سبيل العينة وكما يمكن ملاحظته في “أطروحة حول التأثير المتبادل بين السياسة والعلوم” 1780 أطروحة هيردر تهتم هنا بأهمية حرية التعبير والتفكير، والمنافسة بين الرؤى التي تجعل ذلك ممكناً بغية تحقيق تقدم فكري يبنى بشكل كبير على المثال التاريخي لليونان القديمة وبالتحديد أثينا، أي على النقيض من المجتمعات التالية عليها كروما التي افتقرت إلى الحرية والتنافس في البحث. وفي مسودة 1792 من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” وصف هيردر الثورة الفرنسية ومحاولاتها لتأسيس ديمقراطية حديثة بأنها “تجربة” يمكن الإفادة منها (على سبيل المثال التعلم من كون الديمقراطية قابلة للانتشار بنجاح إلى أمم أكبر بكثير من أثينا القديمة). ثانياً: وبانسجام مع نزعته العاطفية في الأخلاق، يدرك هيردر وبذكاء أن موقفه السياسي يتكئ بشكل تام على العواطف الأخلاقية التي تخصه، ولكي تنجح هذه النظرية عليها أن تتكئ على عواطف الآخرين أيضاً. على سبيل المثال في المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يشدد هيردر علىتغير مواقف الناس أخلاقياً وكذلك تغير مشاعرهم، وهذا ما يلعب دوراً جوهرياً في تأييد موقف هيردر وإدراكه السياسي. إن هذا الموقف لهيردر يعفيه من التنظير السياسي، ولا يمنعه فحسب من التقعيد المعرفي للحدوس الأخلاقية موضع التساؤل بل يعد بحلول مؤثرة ومختصرة لما قد يبدو لمشكلات عصية على الدماغ البشري، كالتنظير حيال طرائق وأسباب العواطف الأخلاقية للناس وكيف ينبغي أن تصاغ لخدمة المِثَال ideal الذي يتوافق مع ميله السياسي. أما نقاش هيردر حيال “الميول” السياسية في المجموعة العاشرة من الرسائل كنموذج على تنظيره، فإنه يهتم بالطرائق لا الأسباب. وأما بعض تنظيرات هيردر الشاملة للأسباب (كالتعليم، ووجود القدوات من الأفراد، والقوانين، والأدب، وما إلى ذلك) فقد نوقشت فيما تقدّم من هذه المقالة.
إن هذين الضربين من التنظير السياسي، أي التنظير التجريبي والتنظير العاطفي الأخلاقي، قد تطورا بعمق في روع هيردر، ولعلهما الأكثر تطورا من بين النقاط الأخرى. وباختصار، فإنه بالمدى الذي تكون فيه نظرية هيردر السياسية سطحية، تستعير عبارة نتشه ” السطحي – الخارج من العمق ” ( في حين تبدو فيه الصيغ المألوفة للفلسفة السياسية عَميقة- خارجة من السطحية). وضمن منطق مختلف وأكثر أهمية؛ فإن نظرية هيردر ليست سطحية نظرياً على الإطلاق.
11- فلسفة الدين عند هيردر
كانت الفلسفة الألمانية في زمن هيردر ملتزمة بلعبة المصالحة مع أفكار التنوير، خصوصاً الأفكار التي تتعلق بالعلم الطبيعي الحديث، والدين (المسيحية على نحو خاص). لقد لعب ليبنتز وكانط وهيجل وشلايرماخر وكثير غيرهم هذه اللعبة، واقترح كل منهم مصالحته الخاصة بين الدين والتنوير وهيردر جزء من هذه اللعبة هو الآخر. لم تكن هذه باللعبة الممتعة للفلاسفة. لكن حتى القرن التاسع عشر وجدت الفلسفة الألمانية الشجاعة للتصدي لهذه المعضلة، والانتقال من خطاب مدافع عن الدين والمسيحية إلى خطاب ينتقدهما بشكل شامل (المثالين الأبرز هما ماركس ونتشه) ففرض هذا الأمر قيوداً على فلسفة هيردر عن الدين وأثر بقيمتها (ينطبق ذلك على الفلاسفة المذكورين آنفا).
مما ينبغي ملاحظته أن فلسفة هيردر في الدين متنورة ومتقدمة للغاية بصورة عامة، سواء في مرحلته المبكرة أو المتأخرة. كان ثمة انفصال في المنتصف، لاسيما بين عامي 1771-1776 ففي باكبيرج Bückeburg وأثناء انغماس هيردر في اللامعقول الديني (وهو اتجاهٌ يرفض العقل ويؤسس المعتقد الديني على الإيمان وحده) كانت هذه خاصية يتمتع بها صديقه هامان، وحدث ذلك نتيجة ما ندعوه اليوم بالانهيار العصبي الطفيف (وهذا موثق في مراسلاته آنذاك) وهو أمر ينبغي إهماله.
بالرغم من هذه السمات في فلسفة الدين عند هيردر فإن لديه إسهاماته الهامة، وهي كذلك بالنظر لقيمتها الجوهرية، وتأثيرها، أو الأمرين معاً.
من إسهامات هيردر (المهمة بالنظر لتأثيرها) هي الإسبينوزية الجديدة. إن تعاطف هيردر وارتباطه بأعمال سبينوزا يعود في قدامته على الأقل إلى عام 1769. والعرض الرئيسي لهذه الأفكار يقع في كتاب ” الإله: شيء من المحادثات” المنشور سنة 1787. نشر هيردر هذا العمل أثناء انتشار كتاب ياكوبي Jacobi “رسائل عن مذهب اسبينوزا” 1785 حيث كشف ياكوبي عن الفيلسوف والناقد والمسرحي المبجل ليسنج Lessing والذي منحه هيردر بالتحديد فائق احترامه، واعترف له قبل موته بفترة وجيزة أنه تخلى عن المفاهيم الأرثذوكسية الدينية لمصلحة الاسبينوزية. حاجج ياكوبي بنفسه، وبشكل حاد، أن الاسبينوزية وكل المذاهب القائمة على العقل، تتضمن بداخلها الإلحاد والجبرية، وينبغي نبذها لأجل الوثبة نحو الإيمان leap of faith واعتناق اللاهوت المسيحي التقليدي. كان كتاب ياكوبي، ومثله رد موسى مندلسن عليه، قد تنازعا حول نعت ليسنج بالاسبنيوزية، ورغم سلامة نواياهما فقد أحدث ذلك جلبة لدى العامة. في كتابه “الإله: شيء من المحادثات” يؤيد هيردر نعت ياكوبي وليسنج له بتطوير نسخته من “الاسبينوزية” حين عدّل الأصل في جوانب جوهرية منه، ويعود ذلك بشكل كبير لتفادي اعتراضات ياكوبي.
يتشارك هيردر مع اسبينوزا في أطروحته الأساسية حول الواحدية. ومثل اسبينوزا فإن هيردر يساوي المبدأ الواحد الشامل مع الإله (وهذا ما يستدعي التساؤل حول اتهام ياكوبي له بالإلحاد). ولكن في حين يحدد اسبينوزا هذا المبدأ الواحد الشامل بأنه الجوهر فإن هيردر بدلاً من ذلك يحدده بأنه قوة أو قوة أولية. هذا التعديل الجوهري يتضمن تعديلات أخرى يجدها هيردر جذابة، وتشمل ما هو آت: (1) في حين سعى اسبينوزا إلى فهم مبدأ الواحد – وهو موضع التساؤل- بأنه شيء غير فاعل فإن مراجعة هيردر تحيله إلى الفاعلية. (2) تنسب نظرية سبينوزا الفكر إلى المبدأ موضع السؤال (= الواحد “المترجم”) ولكن ترفض المبادئ ذات المقاصد أو ذات العقل. على نقيض ذلك يرى هيردر أن للمبدأ مقاصد، وبما أن فلسفة العقل عند هيردر، في عمومها، تطابق بين العقل والقوة فإن تحديده للمبدأ موضع السؤال بأنه قوة، سيحمل معه تضميناً بأنه عقل (لا يصرح هيردر بذلك في كتابه “الإله: شيء من المحادثات”لكن بعد سنوات قليلة في كتاب “عن روح المسيحية”1798 يصف الإله بصراحة أنه روح Geist وعقل) فعبر هذه الوسائل يعيد هيردر الإله الاسبينوزي (وبهذه الطريقة ينقض تهمة ياكوبي له بالإلحاد). (3) بينما يتصور اسبينوزا الطبيعة بشكل ميكانيكي متسقاً مع ماضيه الفكري الديكارتي (وهذا ما يستدعي تهمة ياكوبي عن الجبرية) فإن هيردر (بالرغم من عدم درايته بماهية القوى) يميل إلى تصور القوى تعمل في الطبيعة وأنها قوى حية أو عضوية (وهو تصور يدين به لليبنتز). (4) يعتقد هيردر أن نظرية اسبينوزا الأصلية تحتوي ما هو مرفوض من ثنائية ديكارت، فالقوى في طبيعتها تتمظهر في حركة الأجسام الممتدة. (5) يرسم هيردر مخططاً تفصيلياً للطبيعة بوصفها نظاماً للقوى الحية مبني على القوة الأولية، أي الإله، وهو مخطط يلعب دوراً هاماً في هذا النظام الذي تتعارض فيه القوى كي يجذبها هذا المغناطيس، فيتصف هذا النظام بالنمو الذاتي ليتجه إلى رتبة أعلى فأعلى من الكمال.
إبان الربع الأخير من القرن الثامن عشر ونحو مطلع القرن التاسع عشر جاءت موجة الاسبينوزية الجديدة لتجتاح الأدب والفلسفة في ألمانيا: فبالإضافة إلى ليسنج وهيردر كان ثمة اسبينوزيون جدد بمن فيهم جوته وشيلنج وهيجل وشلايرماخر وهولدرلن ونوفاليس وفريدريش شليجل. كانت هذه الموجة نتيجة تبني هيردر للاسبينوزية الجديدة في كتابه “الإله: شيء من المحادثات” (أدرك جوته تأثر هيردر بالاسبينوزية قبل هذا الكتاب) ومن ثم فإنها قد سادت على استدراكات هيردر على اسبينوزا.
وأيّما كان من أمر، فإن إسهام هيردر الأكثر أهمية لفلسفة الدين يتعلق بتأويل الإنجيل. وبهذا الصدد – وكما ذكرنا آنفاً- فإن هيردر يمجد العلمانية الصارمة. كان هذا هو موقفه في الستينات من القرن الثامن عشر، ففي تلك الحقبة حاجج بشدة لأجل روح جاليليو، وألا يكون للوحي سلطانه على العلم الطبيعي، ومع ذلك فلم يكن هيردر معارضاً للروح الدينية بقدر ما كان يأمل أن يستقل العلم الطبيعي، فهو باستقلاله هذا قد يصادق على الدين. كما أقام هيردر حالة من التوازي في استقلالية التأويل؛ فالمعتقدات والشرائع الدينية لا تتدخل في تأويل النصوص حتى وإن كانت نصوصاً مقدسة، بل إن الإنجيل نفسه يجب أن يتم تأويله ككتاب من صنع البشر، وبنفس الأدوات الهرمونيطيقية الصارمة التي يتم توظيفها في تأويل النصوص القديمة الأخرى. إن كل تنوير ديني ليتأتى نتيجة هذا التأويل، وعليه ألا يلج هذه الفعالية التأويلية بنفسه، ثم بقي هذا الموقف سائداً عند هيردر حتى مرحلته المتأخرة.
أما المبدأ العام القائل بأن الإنجيل ينبغي تأويله بنفس الطريقة التي تؤول بها النصوص الأخرى، فلم يكن شائعاً في زمن هيردر بقدر ما شاع بعده، كما لم يكن هو سببه بالكامل، فعبر تبني هذا المبدأ كان هيردر واعياً باتباعه للعديد من علماء الإنجيل المحدثين، من نافلة إرنستي Ernesti ومايكليز Michaelis وسيملر Semler. وعلى كلٍّ فقد كانت علمانية هيردر متينة ومتطرفة أكثر منهم، وسبب ذلك تخلي هيردر عن كل قداسة تلهٍم المفسر، وفوق ذلك التخلي عن كل فرضية تقول بأن الإنجيل وهو كلمة الله يجب أن تصح وتثبت على الدوام (للمزيد من التفاصيل انظر للقسم السادس من ملحق النقاشات).
هناك مبدأ تأويلي آخر وهام عند هيردر يتقارب مع علمانيته الصارمة، وهو إصراره على مقاومة مفسري الإنجيل لإغراء قراءة الكتاب المقدس بصورة رمزية (باستثناء حالات قليلة نسبياً كالأمثال في العهد الجديد، حيث يتضح الدليل من النص بجلاءٍ حول الكاتب ونيّته في إيصال المعنى بصورة رمزية) وفي كتابه “عن ابن الإله مخلص العالم” 1797 يمنحنا هيردر، وبتبصر، تشخصياً عاماً عن غواية التفسير الرمزي وصعوده: فعبر تغير تاريخ المعتقدات والقيم لدى الناس أدى ذلك إلى التعارض بين ما تحتويه النصوص التقليدية وما تتضمنه معتقدات الناس وقيمهم، ومع ذلك لازالوا ينتظرون من هذه النصوص أن تكون صائبة، ثم يحاولون المطابقة بين الأمرين عبر القراءات الرمزية.
إن التزام هيردر بالعلمانية الصارمة والقراءة التأويلية (غير الرمزية) للنصوص الإنجيلية قاده إلى اكتشافات تأويلية تخص الإنجيل وذات أهمية بالغة، فقام بتطبيق مناهج تأويل معيارية normal على العهد القديم مكنته من تمييز وتحديد الأجناس الشعرية المختلفة للعهد القديم للحد الذي تفوق فيه على منجزات كل من سبقه. ونجد نفس الالتزام في استعداده الدائم لاكتشاف ماهو زائف ومضطرب في الإنجيل، وهذا ما أتاح له الإتيان بملاحظاتٍ تأويلية هامة حول المفاهيم العبرية القديمة عن الموت ومابعد الحياة والعقل والجسد، وكون هذه المفاهيم قد تغيرت بشكل حاسم بمرور الوقت (للمزيد حول هذه المنجزات التأويلية انظر على وجه الخصوص كتابه “في روح الشعر العبري”) كما إن رفض هيردر للتأويل المجازي – غير المضمون- سمح له باستبدال التفسير الشائع لنشيد الإنشاد من كونه رمزية دينية إلى كونه شعر غزلي بسيط، وهو ما يعد سليماً ومقبولاً اليوم.
وعلى نحو مشابه يتعلق بالعهد الجديد، التزم هيردر بتطبيق مناهج تأويلية معيارية، تشمل استعداده الدائم لاكتشاف الزيف والاضطراب الذي مكنه من التعاطي مع كتاب الأناجيل الأربعة بوصفهم أفراداً من البشر لا بوصفهم أفواهاً للإله، وقد فعل ذلك لإدراك الاضطراب بين مواقفهم، وبغية البرهنة على تواريخ الأناجيل بشكل صائب للمرة الأولى (فالأول هو مرقس، وفي المنتصف متّى ولوقا، والأخير هو يوحنا) وقام هيردر بذلك لإعطاء تصور صحيح وواسع عن نشأة الإنجيل عبر الخطب الشفوية وعلاقتها المحتملة بعضها ببعض (وهي إنجازات احتفظ بها هيردر في عملين متأخرين بين عامي 1796-1797 في كتابَي “عن مخلص البشرية “ و “عن ابن الإله مخلص العالم”).
إن علمانية هيردر الصارمة وتصديه للتأويل الرمزي قد تم تبنيهما بعد فترة وجيزة من قبل شلايرماخر، الذي أيّد مبدأ تفسير النصوص المقدسة على ضوء مؤلفيها من البشر وذلك على غرار هيردر، وأن تطبق عليها نفس المناهج التي تطبق على النصوص العادية، فالتزم شلايرماخر بهذا النهج لا سيما فيما يتعلق باكتشاف الاضطرابات والتزييفات في الإنجيل.
ومنجزات هيردر في هذا الحقل لها سمة المأساة الشخصية التي لا ترحم، ولكن كما ذكر آنفاً فإنه لم يعمد على الإطلاق إلى تمجيد الضمير والفكر في الإصرار على استقلالية العلم والتفسير الطبيعي من أجل تقويض الدين بوجه عام أو المسيحية على نحو خاص. فعلى خلاف ذلك، كان يأمل ويرجو أن هذين الضربين من الاستقلالية سيدعمان الدين والمسيحية في نهاية المطاف. ومهما يكن من أمر فإن هذا الأمل قد خاب بطريقة مؤلمة. فالعلم الطبيعي المستقل قد أثار الإشكال حول الدين عموماً والمسيحية بشكل خاص. كما أن سياسة هيردر في قراءة الإنجيل عبر مناهج معيارية تراه مجموعة من النصوص البشرية بما يعتريها من نواقص، قاد ذلك على نحو متزايد إلى تقويض مزاعم الإنجيل في سلطته الفكرية (من شواهد ذلك نشر ديفيد فريدريش شتراوس لكتاب “حياة المسيح” 1835-1836) وكثيرٌ مما أنجزه هيردر أخيراً في هذا الحقل سيسوءه، ولن يرحب به.
12- تأثيره الفكري
هانحن أولاء وقد ألقينا نظرة على المنجزات الرئيسية للفيلسوف هيردر، وصرنا في موضع أفضل للنظر لا إلى قيمتها الجوهرية فحسب ولكن كي نلقي نظرة على أثرها الهائل. فحين نطِل على بداية هذه المقالة سنرى التأثير الذي أحدثه في الفلسفة وما تجاوزها للحد الذي امتد فيه إلى تأسيس نظم معرفية بكاملها (للمزيد من التفاصيل انظر القسم السابع من ملحق النقاشات).
13. المرشد نحو أدبيات هيردر
كتابات عامة:
Adler and Koepke 2009 (an excellent collection of articles covering a wide range of topics); Beiser 1987 (ch. 5 covers several subject helpfully, including Herder’s philosophies of language, mind, and religion); Berlin 1976 (concise and excellent); Clark 1955 (detailed and useful, though unimaginative); Forster forthcoming (covers the subjects treated in this article in more detail); Gillies 1945 (not philosophically sophisticated, but good on Herder’s relation to literature and on his influence); Greif, Heinz, and Clairmont 2016 (a useful reference work); Haym 1880 (a classic, detailed intellectual biography; still by far the best general book on Herder available); Heise 1998 (a good short introduction); Irmscher 2001 (an excellent short introduction); Nisbet 1970 (a helpful general account of Herder’s views about science); Sauder 1987 (contains helpful contributions on a wide range of topics); Wiese 1939 (a helpful overview).
حياة هيردر الفكرية:
Adler 1968; Beiser 1987 (ch. 5); Berlin 1976; Clark 1955; Haym 1880
أسلوبه الفلسفي:
Adler 2009; Berlin 1976; Clark 1955; Haym 1880; Zammito 2001 (an excellent, thorough study)
برنامجه الفلسفي العام:
Heinz 1994; Zammito 2001 (very good on this subject)
فلسفة اللغة:
Aarsleff 1982; Coseriu 2015; Forster 2010, 2011a, 2013; Hacking 1988, 1994; Sapir 1907 (an excellent discussion of the Treatise on the Origin by an important twentieth-century linguist); Taylor 1991, 1996, 2016
نظرية التأويل (الهرمونيطيقا):
Forster 2010 (especially chs. 1–5), 2011a (especially ch. 9), 2016; Gjesdal 2004, 2017; Irmscher 1973 (a very influential article that attempts to assimilate Herder’s position to Gadamer’s, an ambition that is both interpretively and philosophically controversial); Willi 1971 (a helpful treatment of Herder’s approach to interpreting the Old Testament)
نظرية الترجمة:
Berman 1984; Forster 2010 (ch. 12); Huber 1968; Huyssen 1969; Kelletat 1984 (a helpful treatment of Herder’s interest in world literature, and of his theory and practice of translation); Purdie 1965; Sauder 2009
اللغويات والأنثروبولوجيا:
Broce 1986; Coseriu 2015; Forster 2010 (ch. 6), 2011a (especially ch. 4); Gjesdal 2013; Mühlberg 1984; Pross 1987; Zammito 2001
فلسفة العقل:
Beiser 1987 (ch. 5); Forster 2011c
الجماليات:
Forster 2010 (chs. 1, 3, and 5), 2011a (ch. 6), 2016; Gjesdal 2017; Guyer 2007; Irmscher 1987; Mayo 1969; Norton 1991 (helpful both on aspects of Herder’s aesthetic theory and on his general relation to the Enlightenment); Wiora 1953
فلسفة الأخلاق:
Berlin 1976; Booher 2015; Crowe 2012; DeSouza 2012a, 2012b, 2014; Forster 2017b and forthcoming; Sikka 2011
فلسفة التاريخ:
Barnard 2003; Beiser 2003; Bollacher 1994; Forster 2011b, 2012a; Gadamer 1942; Irmscher 1984, 2010; Lovejoy 1948 (helpful and concise); Maurer 1987; Meinecke [1936] 1972 (ch. 9 on Herder is very helpful); Otto and Zammito 2001; Staedelmann 1928; Wells 1960; Zammito 2009
الفلسفة السياسية:
Barnard 1965 (chs. 3–5 cover Herder’s political thought very well); Beiser 1992 (ch. 8 on Herder’s political philosophy is excellent); Berlin 1976; Bernasconi 1995; Ergang 1931 (helpful on Herder’s political thought and on his intellectual influence, but marred by a false assimilation of Herder’s nationalism to later German nationalism, and by an unduly warm assessment of such a position); Forster 2010 (ch. 7), 2017a; Sikka 2011
فلسفة الدين:
Bell 1984; Forster 2012b; Lindner 1960; Vollrath 1911; Willi 1971
تأثير هيردر:
Ergang 1931; Forster 1998, 2010, 2011a, 2011b, 2011c, 2012a, 2012b, 2012c, 2016, 2017b; Gillies 1945; Harris 1972; Heinz 1997; Jacoby 1911; Taylor 1975; Zammito 1992, 1997
مراجع
نصوص أساسية بالألمانية: هناك طبعتان رئيسيتان بالألمانية لأعمال هيردر.
Johann Gottfried Herder Sämtliche Werke, B. Suphan et al. (eds.), Berlin: Weidmann, 1877–
[G] Johann Gottfried Herder Werke, U. Gaier et al. (eds.), Frankfurt am Main: Deutscher Klassiker Verlag, 1985–
[B] Johann Gottfried Herder Briefe, W. Dobbek and G. Arnold (eds.), Weimar: Hermann Böhlaus Nachfolger, 1977
ترجمات إنجليزية:
On World History: Johann Gottfried Herder, an Anthology, Hans Adler and Ernest A. Menze (eds.), Armonk, NY: M.E. Sharpe, 1996. Contains short excerpts on history from a variety of works, prominently including the Ideas.
J.G. Herder on Social and Political Culture, F.M. Barnard (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 1969. Includes (partial) translations of Herder’s
Journal (1769)
Treatise on the Origin of Language (1772)
This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity (1774)
Dissertation on the Reciprocal Influence of Government and the Sciences (1780)
Ideas for the Philosophy of the History of Humanity (1784–91)
plus a very helpful introduction.
Against Pure Reason: Writings on Religion, Language, and History, Marcia Bunge (trans. & ed.), Minneapolis: Fortress Press, 1993.
God: Some Conversations, Frederick H. Burkhardt (ed.), New York: Veritas Press, 1940. Reprinted Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1962.
Outlines of a Philosophy of the History of Man, T. Churchill (ed.), London: J. Johnson/L. Hansard, 1803. (This is a translation of the Ideas.)
[HPW] J.G. Herder: Philosophical Writings, Michael N. Forster (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2002. Contains translations of
How Philosophy Can Become More Universal and Useful for the Benefit of the People (1765), pages 3–30
Fragments on Recent German Literature (1767–8), (excerpts on language), pages 33–64
Treatise on the Origin of Language (1772), pages 65–164
On Thomas Abbt’s Writings (1768), (selections concerning psychology), pages 167–177
On the Cognition and Sensation of the Human Soul (1778), pages 187–244
On the Change of Taste (1766), pages 247–256
Older Critical Forestlet (1767/8), (excerpt on history), pages 257–267
This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity, pages 272–358
Letters for the Advancement of Humanity (1792), (excerpts), pages 370–424
as well as other pieces.
Sculpture: Some Observations on Shape and Form from Pygmalion’s Creative Dream, Jason Gaiger (ed.), Chicago: The University of Chicago Press, 2002. (This is a translation of Plastik [1778].)
Reflections on the Philosophy of History of Mankind, Frank E. Manuel (ed.), Chicago: The University of Chicago Press, 1968. Contains excerpts from Churchill’s 1803 translation of the Ideas.
The Spirit of Hebrew Poetry, James Marsh (ed.), Burlington, VT: Edward Smith, 1833.
Johann Gottfried Herder: Selected Early Works, 1764–7, Ernest A. Menze, Karl Menges, Michael Palma (eds.), University Park, PA: Pennsylvania State University Press, 1992. Contains several early essays, including On Diligence in Several Learned Languages (1764), and selections from the Fragments.
Selected Writings on Aesthetics, Gregory Moore (ed.), Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006. Contains
Critical Forests (1769), first and fourth books
Shakespeare (1773)
On the Influence of the Belles Lettres on the Higher Sciences (1781)
On Image, Poetry, and Fable (1787)
and several other pieces on aesthetics.
On the Origin of Language, John H. Moran and Alexander Gode (eds.), Chicago: The University of Chicago Press, 1986. Contains a partial translation of Treatise on the Origin of Language (1772).
German Aesthetics and Literary Criticism: Winckelmann, Lessing, Hamann, Herder, Schiller, Goethe, H.B. Nisbet (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 1985. Contains two pieces of Herder’s in aesthetics, including his important essay Shakespeare
دراسات:
Boeckh, August, 1877, Enzyklopädie und Methodologie der philologischen Wissenschaften (Encyclopedia and Methodology of the Philological Sciences), Leipzig: Teubner.
Ernesti, Johann August, 1761, Institutio interpretis Novi Testamenti, Leipzig: Weidmann.
Hegel, Georg, 1795/6, The Positivity of the Christian Religion, in his Early Theological Writings, T.M. Knox (trans.), Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1971.
–––, 1798–1800, The Spirit of Christianity and Its Fate, in his Early Theological Writings.
–––, 1807, Phenomenology of Spirit, A.V. Miller (trans.), Oxford: Oxford University Press, 1977.
–––, 1837, Reason in History, R.S. Hartmann (trans.), Upper Saddle River, NJ: Library of Liberal Arts, 1997.
–––, 1832, Science of Logic, A.V. Miller (trans.), Amherst, NY: Prometheus, 1991.
Hume, David, 1748, An Enquiry Concerning Human Understanding, London: Millar.
Jacobi, Friedrich, 1785, Über die Lehre des Spinoza in Briefen an Herrn Moses Mendelssohn (On the Doctrine of Spinoza in Letters to Mr. Moses Mendelssohn), Breslau: Löwe.
Kant, Immanuel, 1766, Dreams of a Spirit Seer, in his Theoretical Philosophy, 1755–1770, David Walford and Ralf Meerbote (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
–––, 1790, Critique of the Power of Judgment, Paul Guyer and Eric Matthews (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2000.
Mill, John Stuart, 1859, On Liberty, Stefan Collini (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
Nietzsche, Friedrich, 1873, On Truth and Lying in an Extra-moral Sense, in Friedrich Nietzsche on Rhetoric and Language, Sander L. Gilman, Carole Blair, and David J. Parent (trans. & ed.), New York: Oxford University Press, 1989.
–––, 1882/7, The Gay Science, Walter Kaufmann (trans.), New York: Vintage, 1974.
–––, 1886, Beyond Good and Evil, Walter Kaufmann (trans.), New York: Vintage, 1966.
–––, 1887, On the Genealogy of Morality, Maudemarie Clark and Alan Swensen (trans.), Indianapolis: Hackett, 1998.
Schlegel, Friedrich, 1795/7, On the Study of Greek Poetry (Über das Studium der griechischen Poesie), Stuart Barnett (trans.), Albany: State University of New York Press, 2001.
–––, 1808, On the Language and Wisdom of the Indians (Über die Sprache und Weisheit der Indier), in The Aesthetic and Miscellaneous Works of Friedrich von Schlegel, E. Millington (trans.), London: H. G. Bohn, 1848.
Schelling, Friedrich, 1792, Antiquissimi de prima malorum origine philosophematis explicandi tentamen criticum, in his Sämmtliche Werke, Stuttgart: Cotta, 1856–1861, div. 1, vol. 1.
–––, 1792/3, Ueber Mythen, historische Sagen und Philosopheme der ältesten Welt (On Myths, Historical Legends, and Philosophemes of the Oldest World), in his Sämmtliche Werke, div. 1, vol. 1.
–––, 1795, On the I as the Principle of Philosophy or On the Unconditional in Human Knowledge, F. Marti (trans. & ed.), Lewisburg: Bucknell University Press, 1980.
–––, 1795, Philosophical Letters on Dogmatism and Criticism, in his The Unconditional in Human Knowledge.
–––, 1797, Ideas for a Philosophy of Nature, Errol E. Harris and Peter Heath (trans.), Cambridge: Cambridge University Press, 1988.
–––, 1798, Von der Weltseele (On the World Soul), Hamburg: Perthes.
Strauss, David Friedrich, 1835–6, Das Leben Jesu, kritisch bearbeitet (The Life of Jesus Critically Examined), Tübingen: C.F. Osiander
مراجع ثانوية:
Aarsleff, Hans, 1982, From Locke to Saussure: Essays on the Study of Language and Intellectual History, Minneapolis, MN: University of Minnesota Press.
Adler, Emil, 1968, Herder und die deutsche Aufklärung, Vienna: Europa.
Adler, Hans, 2009, “Herder’s Style”, in Adler and Koepke 2009: 331–350.
Adler, Hans and Wulf Koepke (eds.), 2009, A Companion to the Works of Johann Gottfried Herder, Rochester, NY: Camden House.
Barnard, Frederick M., 1965, Herder’s Social and Political Thought: From Enlightenment to Nationalism, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2003, Herder on Nationality, Humanity, and History, Montreal: McGill-Queen’s University Press.
Beiser, Frederick C., 1987, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte, Cambridge, MA: Harvard University Press.
–––, 1992, Enlightenment, Revolution, and Romanticism: The Genesis of Modern German Political Thought, 1790–1800, Cambridge, MA: Harvard University Press.
–––, 2003, The German Historicist Tradition, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199691555.001.0001 esp. ch. 3.
Bell, David, 1984, Spinoza in Germany from 1670 to the Age of Goethe, London: Institute of Germanic Studies, University of London.
Berlin, Isaiah, 1976, Vico and Herder: Two Studies in the History of Ideas, New York: The Viking Press.
Berman, Antoine, 1984, L’Épreuve de l’étranger: Culture et traduction dans l’Allemagne romantique, Paris: Gallimard.
Bernasconi, Robert, 1995, “‘Ich mag in keinen Himmel, wo Weisse sind’: Herder’s Critique of Eurocentrism”, in Acta Institutionis Philosophiae et Aestheticae 13: 69–81.
Bollacher, Martin (ed.), 1994, Johann Gottfried Herder: Geschichte und Kultur, Würzburg: Königshausen und Neumann.
Booher, Charles Richard, 2015, Perfection, History, and Harmonious Individuality: Herder’s Ethical Thought, 1765–1791, Doctoral dissertation, SUNY at Syracuse. [Booher 2015 available online]
Broce, Gerald, 1986, “Herder and Ethnography”, Journal of the History of the Behavioral Sciences, 22(2): 150–170. doi:0.1002/1520-6696(198604)22:2<150::AID-JHBS2300220206>3.0.CO;2-H
Clark, Robert Thomas Jr., 1955, Herder: His Life and Thought, Berkeley: University of California Press.
Coseriu, Eugenio, 2015, Von Herder bis Humboldt, (Geschichte der Sprachphilosophie, Volume 2), Tübingen: Narr Franck Attempto.
Crowe, Benjamin D., 2012, “Herder’s Moral Philosophy: Perfectionism, Sentimentalism, and Theism”, British Journal for the History of Philosophy, 20(6): 1141–1161. doi:10.1080/09608788.2012.731243
DeSouza, Nigel, 2012a, “Language, Reason, and Sociability: Herder’s Critique of Rousseau,” Intellectual History Review 22/2 (2012): 221–240.
–––, 2012b, “Leibniz in the Eighteenth Century: Herder’s Critical Reflections on the Principles of Nature and Grace,” British Journal for the History of Philosophy 20/4 (2012): 773–795.
–––, 2014, “The Soul-Body Relationship and the Foundations of Morality: Herder contra Mendelssohn”, Herder Yearbook 12, Rainer Godel, Karl Menges, and Johannes Schmidt (eds.), Heidelberg: Synchron Wissenschaftsverlag der Autoren, 145–161.
Ergang, Robert Reinhold, 1931, Herder and the Foundations of German Nationalism, New York: Columbia University Press. Reprinted New York: Octagon Books, 1966.
Forster, Michael N., 1998, Hegel’s Idea of a Phenomenology of Spirit, Chicago: University of Chicago Press.
–––, 2010, After Herder: Philosophy of Language in the German Tradition, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2011a, German Philosophy of Language: From Schlegel to Hegel and Beyond, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:osobl/9780199604814.001.001
–––, 2011b, “Genealogy”, American Dialectic, 1(2): 230–250. [Forster 2011 available online]
–––, 2011c, “Ursprung und Wesen des Hegelschen Geistbegriffs”, in Andreas Arndt, Paul Cruysberghs, and Andrzej Przylebski (eds.), Hegel-Jahrbuch 2011, Berlin: Akademie Verlag, pages 213–229.
–––, 2012a, “Bildung bei Herder und seinen Nachfolgern”, in Klaus Vieweg and Michael Winkler (eds.), Bildung und Freiheit. Ein vergessener Zusammenhang, Paderborn: Schöningh.
–––, 2012b, “Herder and Spinoza”, in Eckart Förster and Yitzhak Y. Melamed (eds.), Spinoza and German Idealism, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9781139135139.005
–––, 2012c, “Herders Beitrag zur Entstehung der Idee romantisch”, in Michael N. Forster and Klaus Vieweg (eds.), Die Aktualität der Romantik, Berlin: LIT.
–––, 2013, “Herder’s Doctrine of Meaning as Use”, in Margaret Cameron and Robert J. Stainton (eds.), Linguistic Content: New Essays in the History of the Philosophy of Language, Oxford: Oxford University Press, pages 201–222. doi:10.1093/acprof:oso/9780198732495.003.0011
–––, 2016, “Historicizing Genre: The German Romantic Rethinking of Ancient Tragedy”, in M. Baumstark (ed.), Historisierung: Begriff—Geschichte—Praxisfelder, Berlin: de Gruyter.
· –––, 2017a, “Herder and Human Rights”, in Anik Waldow and Nigel DeSouza (ed.), Herder: Philosophy and Anthropology, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2017b, “Nietzsche on Morality as a ‘Sign Language of the Affects’”, Inquiry, 60(1–2): 165–188. doi:10.1080/0020174X.2016.1258146
–––, forthcoming, Herder’s Philosophy, Oxford: Oxford University Press.
Gadamer, Hans-Georg, 1942, Volk und Geschichte im Denken Herders, Frankfurt: Klostermann.
Gillies, Alexander, 1945, Herder (Modern Language Studies), Oxford: Blackwell.
Gjesdal, Kristin, 2004, “Reading Shakespeare—Reading Modernity”, Angelaki, 9(3): 17–31.
–––, 2013, “‘A Not Yet Invented Logic’: Herder on Bildung, Anthropology, and the Future of Philosophy”, in Klaus Vieweg and Michael N. Forster (eds.), Die Bildung der Moderne, Tübingen: Francke-Verlag, pages 53–69.
–––, 2017, Herder and the Enlightenment: The Beginnings of Modern Hermeneutics (1765–1774), Cambridge: Cambridge University Press.
Greif, Stefan, Marion Heinz, and Heinrich Clairmont (eds.), 2016, Herder Handbuch, Paderborn: Fink.
Guyer, Paul, 2007, “Free Play and True Well-Being: Herder’s Critique of Kant’s Aesthetics”, The Journal of Aesthetics and Art Criticism, 65(4): 353–368. doi:10.1111/j.1540-594X.2007.00269.x
Hacking, Ian, 1988, “Night Thoughts on Philology”, History of the Present, 1: 3–10. Reprinted in Hacking 2002: 140–151.
–––, 1994, “How, Why, When, and Where Did Language Go Public?” in Reading After Foucault: Institutions, Disciplines, and Technologies of the Self in Germany, 1750–1830, Robert Scott Leventhal (ed.), pages 31–50. Reprinted in Hacking 2002: 121–139.
–––, 2002, Historical Ontology, Cambridge MA: Harvard University Press.
Harris, H.S., 1972, Hegel’s Development: Toward the Sunlight 1770–1801, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198243588.001.0001
Haym, Rudolf, 1880, Herder nach seinem Leben und seinen Werken, Berlin: Gaertner.
Heinz, Marion, 1994, Sensualistischer Idealismus. Untersuchungen zur Erkenntnistheorie des jungen Herder (1763–1778), Hamburg: Felix Meiner.
––– (ed.), 1997, Herder und die Philosophie des deutschen Idealismus = Fichte-Studien-Supplementa (Volume 8), Amsterdam / Atlanta, GA: Editions Rodopi B.V..
Heise, Jens, 1998, Johann Gottfried Herder zur Einführung, Hamburg: Junius Verlag.
Huber, Thomas, 1968, Studien zur Theorie des Übersetzens im Zeitalter der deutschen Aufklärung 1730–1770, Meisenheim am Glan: Anton Hain.
Huyssen, Andreas, 1969, Die frühromantische Konzeption von Übersetzung und Aneignung, Zürich and Freiburg: Atlantis.
Irmscher, Hans Dietrich, 1973, “Grundzüge der Hermeneutik Herders”, in Bückeburger Gespräche über J.G. Herder 1971, Bückeburg: Grimme, pages 17–59.
–––, 1984, “Grundfragen der Geschichtsphilosophie Herders bis 1774”, in Bückeburger Gespräche über J.G. Herder 1983, Bückeburg: Grimme, pages 10–33.
–––, 1987, “Zur Ästhetik des jungen Herder”, in Sauder 1987: pages 43–76.
–––, 2001, Johann Gottfried Herder, Stuttgart: Reclam.
–––, 2010, “Gegenwartskritik und Zukunftsbild in Herders Auch eine Philosophie der Geschichte zur Bildung der Menschheit”, in his “Weitstrahlsinniges” Denken: Studien zu Johann Gottfried Herder, Würzburg: Königshausen und Neumann, pages 73–84.
Jacoby, Günther, 1911, Herder als Faust, Leipzig: Felix Meiner.
Kelletat, Andreas F., 1984, Herder und die Weltliteratur, Frankfurt am Main: Peter Lang.
Kleingeld, Pauline, 2013, Kant and Cosmopolitanism: The Philosophical Ideal of World Citizenship, Cambridge: Cambridge University Press.
Lindner, Herbert, 1960, Das Problem des Spinozismus im Schaffen Goethes und Herders, Weimar: Arion Verlag.
Lovejoy, Arthur O., 1948, “Herder and the Enlightenment Philosophy of History”, in his Essays on the History of Ideas, Baltimore, MD: Johns Hopkins Press. Reprinted New York: Capricorn Books, 1960, pages 166–182.
Mayo, Robert S., 1969, Herder and the Beginnings of Comparative Literature, Chapel Hill, NC: The University of North Carolina Press.
Maurer, Michael, 1987, “Die Geschichtsphilosophie des jungen Herder in ihrem Verhältnis zur Aufklärung”, in Sauder 1987: pages 141–155.
Meinecke, Friedrich, [1936] 1972, Historism: The Rise of a New Historical Outlook (Die Entstehung des Historismus), J.E. Anderson (trans.), New York: Herder and Herder.
Mühlberg, Dietrich, 1984, “Herders Theorie der Kulturgeschichte in ihrer Bedeutung für die Begründung der Kulturwissenschaft”, Jahrbuch für Volkskunde und Kulturgeschichte, 12 (1984), pages 9–26.
Nisbet, H.B., 1970, Herder and the Philosophy and History of Science, Cambridge, MA: Modern Humanities Research Association.
Norton, Robert Edward, 1991, Herder’s Aesthetics and the European Enlightenment, Ithaca, NY: Cornell University Press.
Otto, Regine and John H. Zammito (eds.), 2001, Vom Selbstdenken: Aufklärung und Aufklärungskritik in Herders “Ideen zur Philosophie der Geschichte der Menschheit”, Heidelberg: Synchron.
Popper, Karl R., 1945, The Open Society and its Enemies, London: Routledge.
Pross, Wolfgang, 1987, “Herder und die Anthropologie der Aufklärung”, in W. Pross (ed.), Johann Gottfried Herder: Werke, Munich: Hanser.
Purdie, Edna, 1965, Studies in German Literature of the Eighteenth Century: Some Aspects of Literary Affiliation, London: Athlone.
Sapir, Edward, 1907, “Herder’s ‘Ursprung der Sprache’”, Modern Philology, 5(1): 109–142. doi:10.1086/386734.
Sauder, Gerhard (ed.), 1987, Johann Gottfried Herder 1744–1803, Hamburg: Felix Meiner.
–––, 2009, “Herder’s Poetic Works: His Translations and His Views on Poetry”, in Adler and Koepke 2009: 305–330.
Sikka, Sonia, 2011, Herder on Humanity and Cultural Difference: Enlightened Relativism, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511783012
Staedelmann, Rudolf, 1928, Der historische Sinn bei Herder, Halle: Max Niemeyer Verlag.
Taylor, Charles, 1975, Hegel, Cambridge: Cambridge University Press.
–––, 1991, “The Importance of Herder”, in E. and A. Margalit (eds.), Isaiah Berlin: A Celebration, Chicago: The University of Chicago Press.
–––, 1996, “Language and Human Nature”, in his Human Agency and Language: Philosophical Papers I, Cambridge: Cambridge University Press.
–––, 2016, The Language Animal: The Full Shape of the Human Linguistic Capacity, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Vollrath, Wilhelm, 1911, Die Auseinandersetzung Herders mit Spinoza, Darmstadt: C.F. Winter.
Wells, G.A., 1960, “Herder’s Two Philosophies of History”, Journal of the History of Ideas, 21(4): 527–537. doi:10.2307/2708100
Wiese, Benno von, 1939, Herder: Grundzüge seines Weltbildes, Leipzig: Bibliographisches Institut.
Willi, Thomas, 1971, Herders Beitrag zum Verstehen des Alten Testaments, Tübingen: J.C.B. Mohr.
Wiora, Walter, 1953, “Herders Ideen zur Geschichte der Musik”, in Erich Keyser (ed.), Im Geiste Herders, Kitzingen am Main: Holzner.
Zammito, John H., 1992, The Genesis of Kant’s Critique of Judgment, Chicago: University ofChicago Press.
–––, 1997, “Herder, Kant, Spinoza und die Ursprünge des deutschen Idealismus”, in Heinz 1997: pages 107–144.
–––, 2001, Kant, Herder, and the Birth of Modern Anthropology, Chicago: The University of Chicago Press.
–––, 2009, “Herder and Historical Metanarrative: What’s Philosophical About History?” in Adler and Koepke 2009: 65–92.
كتابات عامة:
Adler and Koepke 2009 (an excellent collection of articles covering a wide range of topics); Beiser 1987 (ch. 5 covers several subject helpfully, including Herder’s philosophies of language, mind, and religion); Berlin 1976 (concise and excellent); Clark 1955 (detailed and useful, though unimaginative); Forster forthcoming (covers the subjects treated in this article in more detail); Gillies 1945 (not philosophically sophisticated, but good on Herder’s relation to literature and on his influence); Greif, Heinz, and Clairmont 2016 (a useful reference work); Haym 1880 (a classic, detailed intellectual biography; still by far the best general book on Herder available); Heise 1998 (a good short introduction); Irmscher 2001 (an excellent short introduction); Nisbet 1970 (a helpful general account of Herder’s views about science); Sauder 1987 (contains helpful contributions on a wide range of topics); Wiese 1939 (a helpful overview).
أدوات أكاديمية
How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.
مصادر أخرى على الإنترنت
Herder Bibliography, maintained by Tino Markworth.
مداخل ذات صلة
cosmopolitanism | Dilthey, Wilhelm | dualism | egalitarianism | Hamann, Johann Georg | Hegel, Georg Wilhelm Friedrich | hermeneutics | history, philosophy of | Humboldt, Wilhelm von | Kant, Immanuel | Kant, Immanuel: aesthetics and teleology | liberalism | Mill, John Stuart | nationalism | naturalism | Nietzsche, Friedrich | physicalism | rationalism vs. empiricism | relativism | religion: philosophy of | Schelling, Friedrich Wilhelm Joseph von | Schlegel, Friedrich | Schleiermacher, Friedrich Daniel Ernst | skepticism | Spinoza, Baruch | Wolff, Christian
المصدر: https://hekmah.org/%D9%87%D9%8A%D8%B1%D8%AF%D8%B1/
1- حياة هيردر وأعماله
يوهان جوتفريد هيردر (1744- 1803) من مواليد مورينجين شرقي بروسيا. نشأ في ظروف متواضعة حيث كان والده مدرساً. التحق عام 1762 بجامعة كونيجسبرج ودرس مع كانط الذي منحه امتيازات خاصة بالنظر لقدراته الفكرية المتوقدة. كما ارتبط في هذه الفترة بصداقة استمرت مدى الحياة مع فيلسوف اللامعقول هامان Hamann. في عام 1764 غادر كونيجسبرج لينال وظيفة التعليم المدرسي في ريجا Riga فكتب هناك مقالته المرجعية ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس” (1765) ونشر كتابه الرئيسي الأول الذي يهتم بفلسفة اللغة والأدب ” شذرات في الأدب الألماني الحديث ” (1767-8)؛ ثم نشر كتاباً مهماً في الجماليات ” الغابات الحرجة ” (1769). في عام 1769 استقال من وظيفته وارتحل أولاً إلى فرنسا ثم ستراتسبورج حيث التقى بجوته الشاب عام 1770 والذي تأثر بهيردر تأثراً قوياً. وفي عام 1771 فاز هيردر بجائزة برلين الأكاديمية نظير عمله البارز “مقالة في أصل اللغة” المنشور عام 1772. وعمل بين عامي 1771-1776 واعظاً في قاعةٍ تابعة للبيت الحاكم في بوكيبيرج Bückeburg. أهم أعماله هذه الفترة هي مقالته “شكسبير ” عام 1773وكذلك مقالته الرئيسية والأولى عن فلسفة التاريخ ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني ” عام 1774. في عام 1776 تم تعيينه مشرفاً على رجال الدين اللوثريين في فيمار ويعود الفضل لجوته في ذلك، وقد احتفظ هيردر بهذا المنصب طيلة حياته. نشر هيردر في هذه الفترة مقالة هامة في فلسفة العقل ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية” عام 1778. وأنجز عملاً بالغ الأثر عن العهد القديم بعنوان ” في روح الشعر العبري ” 1772-1773. أما عمله المطوَّل في فلسفة التاريخ فكان ” أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني ” 1784-1791 بالإضافة لمقالة ذات تأثير كبير في فلسفة الدين “الإله: شيء من المحادثات” (1787) وثمة عمل ألَّفه هيردر في الفلسفة السياسية تجاوب فيه مع الثورة الفرنسية بعنوان “رسائل من أجل تقدم الإنسانية “ 1793-1797. وسلسلة من الكتابات المسيحية تتعلق بالعهد الجديد (1794-1798) وأتمَّ عملين يعارضان فلسفة كانط النقدية، وهما: “النقد لنقد العقل المحض ” (1799) وقد وجهه ضد الفلسفة النظرية لنقد العقل المحض لكانط والمؤلَّف سنة 1781-1787 والكتاب الثاني “كاليجوني Calligone“وجهه هيردر ضد جماليات كانط الواردة في كتاب نقد مَلَكة الحكم (كانط 1790). يضاف لذلك كتابات أخرى في مشواره الفكري علاوةً على الأعمال المذكورة.
كانت أعمال هيردر المبكرة هي أفضل ما أنتج، وفي كتابه “عن المعرفة والإحساس” (وهي مقالة تعج بالعناوين المختصرة) ذكر هيردر الآتي: ” إن العمل الأول للكاتب له طابع الجرأة وعادة ما يكون أفضل مالديه .. فوهجه مشع، وروحه مثل إشراقة الفجر“. (الكتابات الفلسفية: 219) وسواء أكان كلام هيردر صحيحاً أم لا، فإن ما قاله ينطبق عليه.
2- أسلوب هيردر الفلسفي
تعد نصوص هيردر الفلسفية سهلة القراءة مقارنة بمعاصريه. يتجنب هيردر الرطانة الاصطلاحية ويكتب نصوصاً زاخرة بالحيوية ومليئة بالأمثلة عِوضاً عن الأسلوب الجاف والمجرد. ليس لهيردر نسق كبير ومعقد كي يتيح للقارئ رصده ومتابعته، ومع ذلك فإن نصوص هيردر ذات فرادةٍ قد تحجب الفهم الملائم عن القارئ وتحول دون إيلاء هيردر قدره المستَحَق، ومن الأجدى للقارئ أن يفطن لذلك.
علينا أن نقول في البداية أن كتابات هيردر تبدو عاطفية وغير منضبطة نحوياً، للحد الذي قد تنتمي فيه إلى الخطاب العادي وليس النص الفلسفي. لا شك أن هذا مقصود من قبل هيردر الذي تعمَّد الفجاجة والسير بهذا الاتجاه في مسودَّاته. ولهيردر أسبابه الفلسفية وراء ذلك: (1) من شأن ذلك أن ينشر كتاباته على نطاق واسع ويثير اهتمام الناس، وهو هدف جاد بالنسبة له خصوصاً أن الفلسفة – باعتقاده – يجب أن تحظى بدور اجتماعي بارز. (2) يرى هيردر تفوق الخطاب الشفوي من الناحية التعبيرية على حساب الكتابة. (3) من أهم أطروحاته المركزية في فلسفة العقل؛ أن الفكر لا ينفصل عن الإرادة أو الشعور، وأن ضروب الفكر- كالكتابة الأكاديمية التقليدية – حين تنحّي الشعور، تصبح شائهة ورديئة، بخلاف الخطاب العفوي والكتابة التي تحتذي به. (4) يعارض هيردر كل تقييد معجمي ونحوي للغة، ويقف ضد الطاعة العمياء للقواميس والكتب، ويرى أن هذا التقييد معادٍ للإبداع والابتكار اللغوي، وسيء أيضاً للفكر، بحكم أن الفكر معتمدٌ على اللغة وما تتيحه من مساحة، وهذا ما يعود بالضرر على النزعة الإبداعية والتجديدية للفكر نفسه.
ثمة ميزة أخرى لنصوص هيردر الفلسفية وهي طبيعتها غير المنظَّمة، وهذا متعمّد من قبل هيردر أيضاً، فكان هيردر معارضاً للكتابة النسقية في الفلسفة وهذا ما يتضح لنا في ملاحظاته وحتى في عناوين كتبه (شذرات من كذا، أفكار، إلخ) فكان هيردر في موقف مضاد من النسقية الشائعة في كتابات سبينوزا وولف وكانط وفيشته وشيلنج وهيجل. وقد أبدى هيردر معارضته لنموذج النظرية الشاملة هذا الذي يشتق فيه الجزء من الكل بشكل صارم، وأسبابه خلف هذا الموقف المعارض تكمن في التالي: (1) يشك هيردر في جدوى هذه الأشكال النسقية، فهي غير خلاقة وتدفع نحو الوهم. (2) يعتقد هيردر أن البناء النسقي يقود إلى إنهاء البحث قبل أوانه، وبالأخص حال توفر الأدلة التجريبية المستجدة إذ تهملها الأنساق أو تعمل على تشويهها، وبمجرد التدقيق بهذه الأنساق ستبرز لنا هاتين الملحوظتين. إن هجوم هيردر المدعَّم ضد هذا النوع من النسقية قد أسس لتقاليد مضادة في الفلسفة الألمانية (وهو ما يتضمن لاحقاً فريدريك شليجل، ونتشه، وفتجنشتاين، وأدورنو).
وفي الضفة الأخرى يَدين هيردر لنسقية أكثر تواضعاً، أي النظرية المتماسكة في ذاتها والمدعَّمة بالحِجاج (وهي نقطة مهمة تناقض ما جاء به هامان Hamann الذي انتقده هيردر لفشل مقالته عام 1765 وعنوانها ” ترانيم الفتنة Dithyrambic Rhapsody “). كان هيردر على الدوام سائراً على هذا النموذج المتشعب، لهذا فشرح هيردر يتطلب المزيد من الاطلاع على كتاباته وإعادة بناء أفكاره أكثر من الفلاسفة الآخرين. وأياً يكن، فإن قصور هيردر النسقي له بواعثه الحقيقية: فأولاً وحينما يظهر عدم التماسك في كتاباته فإن سبب ذلك يرجع لطريقته الحِوارية في الكتابة حيث يعرض لوجهتي نظر متعارضتين، وفي هذه الحالة سيكون من الشنيع اتهامه بالتهافت أو الانتقاص منه بسبب ذلك. أيضاً وفي حالات أقل، ومن خلال أسلوبه في الحوارات وعدم اكتراثه بإيضاح موقفه فيها، فإن هذا ما يتسبب باتهامه بعدم التماسك وهو بريء من ذلك (مثل كتابيه “ قابلية الفلسفة لأن تصبح كونية ونافعة للناس” و “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني“). ولهيردر بواعث جادة خلف هذا النهج الحواري الذي يتخلل كتاباته: (1) فأحياناً يبدو الدافع متعلقاً بمسائل دينية أو سياسية حساسة بالكاد تسمح له بتوضيح موقفه، مما يحدوه إلى عرضها ضمن حوارات وكأنها ليست له، وهذا ما يجنبه كثيراً من المشاكل. (2) ثمة سبب فلسفي أعمق وهو أن هيردر يتبنى طريقة ماقبل الكانطية (والتي استلهمها من الشكاك القدماء) في أن أحسن طريقة للفيلسوف نحو تقصي الحقيقة هي أن يعرض وجهات النظر المتعارضة في موضوع ما، فيتقدم للأمام، آملاً أن يبلغ الحقيقة عبر هذين الرأيين وهما يمتحنان بعضهما ويعدلان قصورهما (وهي فكرة وجدت صداها عند جون ستيوارت مل في أطروحته المركزية “في الحرية” 1859). وهذا ما يولد دافعاً أقوى من جانب هيردر لتبني الطريقة الحوارية حتى وإن لم تفِد هيردر في النتائج القطعية، فبإمكانه من خلال ذلك أن يطرح سؤالاً بلاغياً فيما إذا كان ذلك سيشكل أي اختلاف في مسار البشرية وسعيها لكشف الحقيقة فيما لو كانت هذه المواقف المتنوعة والمتعارضة تتقدم بنا عبر أشخاص مختلفين أو عبر شخص واحد؟ أيضاً فإن ما يظهر باستمرار من تجاهل هيردر للحجج ليس سوى تجاهل لحجج من نوع محدد. فعلى سبيل المثال يلتزم هيردر بشكل عام بالتجريبية ويعارض القِبلية في الفلسفة، وهذا ما يحدو به إلى تلافي الحجج القِبلية المألوفة في الفلسفة كي يلتزم بالنزعة العاطفية في الأخلاق sentimentalism والتي قادته إلى الامتناع عن الحجاج المعرفي في الأخلاق.
3- برنامجه الفلسفي العام
بالغت الأدبيات الثانوية في حجم تأثير هامان على هيردر (وهذا ما فعله إيزايا برلين) وبخلاف هامان فإن تأثير كانط كان مبكراً وعميقاً ودائماً. وعلى أي حال فإن كانط المؤثر بهيردر هو كانط قبل المرحلة النقدية أواسط الستينات من القرن الثامن عشر. لم يتأثر هيردر بكانط النقدي الذي اشتبك معه هيردر حول مابعد النقد وكتاب كاليجوني، في سجالاتٍ عامة سادها التشويش واللاجدوى.
تناقضت بعض الآراء الرئيسية في فكر كانط (ماقبل المرحلة النقدية) في الستينات من القرن الثامن عشر، مع ما تبناه كانط في مرحلته النقدية، ومنها: النزعة الشكية لدى كانط ذات المسحة البيرونية، كذلك نسخته التجريبية الخاصة، والمنحى العاطفي في الأخلاق والذي أفاده من هيوم. لقد تبنى هيردر هذه الاتجاهات في الستينات من القرن الثامن عشر واستمر عليها طيلة مشواره الفكري. ولا يجدر بنا القول إن دَين هيردر تجاه كانط سببه تضليل كانط الفلسفي له في البداية، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح.
إن مقالة هيردر عام 1765 وعنوانها “قابلية الفلسفة لأن تصبح كونية ونافعة للناس ” لهي نص مهم في معرفة دَين هيردر تجاه كانط، كما يمكن أن نستنبط منها المسار العام لفلسفة هيردر. لقد كتب هيردر هذه المقالة تحت تأثر بالغ بكانط وبالأخص مقالة كانط عام 1766 ” أحلام عراف الأرواح ” والذي أرسل منه كانط نسخة لهيردر قبل نشره (Herder reports B2:259).
تجيب مقالة هيردر على سؤالٍ خصصت له جمعية بيرن في سويسرا جائرة، وهو: ” كيف يمكن لحقائق الفلسفة أن تصبح كونية ونافعة للناس؟” وكان إدراك السؤال عميقاً في روح الفلسفة الشعبية والتي تنافس الفلسفة الأكاديمية في العالم الناطق بالألمانية. وكاد كانط أن ينتسب للفلسفة الشعبية في تلك الحقبة، والأمر ذاته ينطبق على هيردر بدليل اختياره الإجابة على هذا السؤال. لكن في هذه الحالة سيكون هذا الانتساب للفلسفة الشعبية دائماً مدى الحياة وهو ما يعني نفعها لكافة الناس وارتباطها بهم، وهو نموذج سارت عليه فلسفة هيردر.
خدمت هذه المقالة نموذج هيردر الإنساني وحاججت من أجل إرساء منعَطفين حادَّين في الفلسفة، كان أحدهما مستمراً معه طيلة مشواره الفلسفي، ويتعلق برفض الميتافيزيقا التقليدية متماشياً مع حجة كانط في“ أحلام عراف الأرواح” وهاهنا تقريب حجة هيردر وفق التالي: (1) عندما تخوض الميتافيزيقا التقليدية في التجربة المتعالية وما تتضمنه من معرفة تجريبية، وأخلاق اعتيادية، ومنطق حدسي، ورياضيات، فإنها تتورط في ادعاءات لا حل لتناقضاتها. ومن ثم تسقط في البيرونية (الشكوكية). إن إشكالية الشك تتعلق بقضيتين تتساويان في الإقناع مما يؤدي لتعليق الحكم. قال هيردر: ” إنني أوجه ما أكتبه نحو الشكاكين البيرونيين ” [HPW8] ويذهب هيردر إلى الإضافة لشذراته بين عامي 1767-1768 حقيقة أن النظرية التجريبية الواسعة في مفاهيمها ومصطلحاتها وكذلك الميتافيزيقا التقليدية، تفتقدان للأساس التجريبي المنشود الذي يمنح المعقولية، مما يجعل التجريبية والميتافيزيقا خاويتين من المعنى، والوهم المرتبط بالمعنى يتعلق باللغة وما تلعبه من دور في خلق أوهام المعنى ومن ثم نبذ المعطيات التجريبية. (2) ليست الميتافيزيقا خاوية من المعنى بسبب ما تقدم فحسب، بل إنها ضارة، لأنها تشتت انتباه أتباعها وتبعدهم عن القضايا التي يجدر بهم التركيز عليها؛ وأهمها الطبيعة التجريبية والمجتمع الإنساني. (3) أما المعرفة التجريبية، أو الفهم الصحي والقويم، فهما متحرران من هذه المشاكل، وعلى الفلسفة أن تتأسس وتمتثل وفقاً للتجربة.
يتجه المنعطف الثاني والحاد في فكر هيردر نحو الأخلاق، ويدين هذه المرة أيضاً لكانط في مرحلته ماقبل النقدية، ويذهب أبعد منه في هذا الاتجاه. تتلخص دعاوى هيردر في التالي: (1) إن الأخلاق مسألة عواطف لا مسألة عقل. (2) إن النظريات العقلية حيال الأخلاق والتي تبناها عقلانيو تلك المرحلة مثل وولف، أو من سبقه كـ أفلاطون وكانط النقدي، أو من تلاه مثل جورج إدوارد مور، كلها مبنية على خطأ، ولن تفضي إلى استنارة أخلاقية أو تطور بهذا الصدد. (3) والسيء في الأمر، وهنا يذهب هيردر أبعد من كانط القديم، يتعلق في كون هذه النظريات مضرة بالأخلاق، فهي تعمل على إضعاف العاطفة الأخلاقية مع أنها حاضنة الأخلاق. ففي مقالتيه ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني “ و “عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية ” يقدم هيردر أسبابه حول رفضه التنظير المجرد للأخلاق، وأنه يضعف العواطف في عمومها لاسيما الأخلاقية منها (ولعل هذا أقل الأسباب إقناعاً من قبل هيردر) كذلك يتضح أن النظريات المعرفية والإدراكية cognitive غير مقنعة بتاتاً وتشوه سمعة الأخلاق، إذ سيفكر الناس أخلاقياً ضمن خطوط عقلانية. ذكرَ هيردر: “لو كان هذا أفضل ما توصل إليه الخبراء بهذا الشأن في شرح وتبرير الأخلاق فلا بد وأن تكون الأخلاق زائفة وسأفعل ما يحلو لي وأتجاهلها “. إن هذه النظريات الإدراكية تشتت الانتباه عن المصدر الحقيقي للأخلاق أي العواطف، فهي ليست مجرد صورة مجردة ومتخيلة بقدر ما هي مجموعة من الآليات السببية التي ترسخ وتحفظ العاطفة الأخلاقية. (4) يسعى هيردر وفقاً لهذا المسار البنائي إلى الاستكشاف النظري وإشاعة تطبيق الآليات السببية للعاطفة. ففي كتابه ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس” يشدد هيردر بشكل رئيسي على طرائق التعليم ويتبنى الوعظ الترغيبي ويربطه بالأخلاق. ولكن في مواضع أخرى يتبنى آليات أخرى ويدعو لها. وهذا يشمل تأثير القدوات من الأفراد، والشرائع المرتبطة بالأخلاق، والأدب (ومعه صور أخرى من الفن) فنال الأدب حيزاً من تفكير ونظر هيردر، ووجد في الأدب محفزاً للأخلاق من عدة جهات، فلا يقتصر الأمر على التوجيهات الأخلاقية المباشرة، ولكن أيضاً من خلال خلود الأدب وقدرته على خلق القدوات (مثل المسيح في العهد الجديد) وكذلك عبر معايشة القراء للحياة الوجدانية لدى الآخرين؛ وهو الأمر الذي يعزز من تعاطفهم (وهذا هو الدافع الخفي خلف نشره لكتاب الأغاني الشعبية Volkslieder 1774/1779-9) وهي مجموعة من قصائد مترجمة لشعراء من أرجاء العالم. إن تطوير هيردر لهذه النظرية وتطبيقاتها الأخلاقية البيداغوجية قد استمر معه طيلة حياته وبلا كلل.
4- فلسفة اللغة، والتأويل، والترجمة عند هيردر
ما كتبه هيردر في “مقالة في أصل اللغة ” والمنشور عام 1772 هو الأشهر من بين أعماله في فلسفة اللغة على الإطلاق. مع ذلك، يحتل هذا العمل مكانة دونية بين ما كتبه هيردر إذا ما قورن بأعماله الأخرى كالشذرات أو مقالة عن المعرفة والإحساس، فلا ينبغي لذلك أن يغيب عن البال.
تهتم مقالة هيردر حول أصل اللغات بالسؤال عن أصل اللغة، وحول إمكانية تفسير هذا الأصل عبر الطبيعة والإنسان (لا كما ادعى يوهان زوسميلش عندما أعطى اللغة مصدراً مقدساً). يحاجج هيردر لصالح الأصل الطبيعي للغة وتبدو حجته مقنعة بهذا الصدد، خاصة حين يستمد حججه الإيجابية من كتاب الشذرات. لكنها حججٌ قد لا تثير اهتمام الفيلسوف الحديث تجاه آراء هيردر اللغوية، فهي تصبطغ بخلفية هيردر الدينية والتي لم تعد تهمنا، فما يهمنا حقاً هي ثلاث نظريات طورها هيردر: فلسفة اللغة (وتدخل في صميم طبيعة اللغة والفكر والمعنى) ونظرية التأويل، ونظرية الترجمة. تتواجد هذه النظريات متناثرة في أعمال كثيرة لهيردر. وسوف نلقي الضوء على سماتها الأساسية.
4-1 فلسفة اللغة: اللغة، الفكر، المعنى
كان هيردر في منتصف الستينات من القرن الثامن عشر، في منشورَيه “ فهم العديد من اللغات المعلومة ” 1764 و” الشذرات ” 1767-1768 قد أوجد ثلاث أطروحاتٍ في هذا المجال:
1- إن الفكر يعتمد بشكل جوهري على اللغة وهي التي تشكل حدوده، فالمرء لا يمكنه التفكير إلا عبر اللغة، ولا يمكنه التفكير دون قدرته على التعبير اللغوي (تسيدت هذه الأطروحة كتابه المذكور “فهم العديد من اللغات المعلومة” وكتاب ” الشذرات” ويحسب لهيردر أنه لا يتطرف في طرحه، أما أطروحاته الفلسفية غير الرائجة فوجدت من يناصرها من اللاحقين، لكونها تعرّف الفكر باللغة المألوفة، أو اللغة الباطنة).
2- إن المعنى أو المفاهيم، لا الأشياء، هي من حيث المبدأ تابعة للغة، والتي ساواها التقليد الفلسفي بالأشياء؛ كما حدث مع القديس أوغسطين ونظرية المثل الأفلاطونية، أو كما هو شأن الأفكار العقلية والذاتية لدى لوك وهيوم. لكن بدلاً من ذلك فإن قضية استعمال الكلمات وهي الأطروحة السائدة في كتاب الشذرات وهي محاججة هامة طورها هيردر.
3- إن بناء المفاهيم يرتبط بعلاقة متينة مع الإدراك الحسي والعاطفي. وعلى نحو أكثر دقة، يطور هيردر نظرية ” شبه تجريبية” عن المفاهيم المرتبطة بالحِس وكونه المصدر والقاعدة لجميع مفاهيمنا، لكننا رغم ذلك قادرون على إنتاج مفاهيم ميتافيزيقية غير تجريبية ومشتقة من التجربة بنفس الوقت، لذا فإن جميع مفاهيمنا تعتمد أساساً على الحِس بشكل أو بآخر (للمزيد عن هذه الأطروحة، انظر خصوصاً: “مقالة في أصل اللغة” و “عن المعرفة والإحساس ” و “ما بعد النقد“).
انقلبت الأطروحتان الأولى والثانية بشكل كبير على ماهو سائد حيال العلاقة الثنائية بين اللغة من جهة، والفكر (أو المعنى) من جهة أخرى، فقد كانت هذه النظرية الثنائية مهيمنة على القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومن ثم فإن أطروحتي هيردر قد أسستا لفلسفة اللغة كما نعرفها اليوم. ولقد تم تقريض هامان Hamann نظير تقديمه هاتين الأطروحتين الثوريتين وأنه من أفاد هيردر (وهذا ما كتبه إيزايا برلين) لكن هذا خاطئ؛ فهيردر بالأصل هو من تبنى النظريتين في منتصف الستينات من القرن الثامن عشر، أما هامان فهو متأخر، ولم يتبناهما إلا لاحقاً وتحت تأثير هيردر.
أما الأطروحة الثالثة (شبه التجريبية) فلاقت انتشاراً وقبولاً أقل من سابقتيها من قبل فلاسفة اللغة اليوم. وأيّما كان الأمر فإنها قد لا تخلو من الصحة، فعلى النقيض من ظاهر هذه النظرية فإنها لا تتعارض مع نظرية تكييف المعاني مع استعمال الكلمات، والاحتمال الأرجح أن الأساس الحديث حول الشك باللغة والمهتم بالمعنى قد يجانب الصواب (كما هو الحال مع التوجه الفريجي/ الفتجنشتايني/ الضد نفساني).
بجانب إسهامات هيردر التأسيسية في فلسفة اللغة، فإن هذه الأطروحات الثلاث تشكل القاعدة المتينة لنظرياته عن التأويل والترجمة، وهذا ما سيتم التطرق له.
4-2 نظرية التأويل (الهرمونيطيقا) عند هيردر
نظريات هيردر عن التأويل والترجمة ذات بصيرة ثاقبة، فحين كان فلاسفة التنوير ومؤرخوه البارزين كهيوم وفولتير يعتقدان دوماً بأن ” لا جديد في عالم الإنسانية في كل الأزمنة والأمكنة، فالتاريخ لا يطلعنا على أي جديد أو فريد من نوعه” (1748-القسم الثامن، الجزء الأول ص 65) كان هيردر قد اكتشف – أو على الأقل رأى بوضوح أكثر من غيره – أن هذا خاطئ، وأن الناس من حِقب تاريخية وثقافات مختلفة يدينون للتنوع الهائل في مفاهيمهم ومعتقداتهم وقِيمهم من خلال الإحساسات المعرفية والعاطفية. وأدرك هيردر أيضاً أن هذه التنوعات – وإن لم تكن صارخة لحد كبير – تقع بين الأفراد أنفسهم حتى داخل المرحلة الزمنية والثقافة الواحدة. وهذه المواقف من تبني الاختلاف سائدة في كثير من أعمال هيردر (انظر مثلاً: “في تغير الأذواق” 1766 و “ نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” و ” عن المعرفة والإحساس “) وسنطلق على هذه الأعمال مجتمعةً اسم ]مبدأ الاختلاف العقلي الجذري[.
عند النظر لهذا المبدأ، والتمعن في الخليج الذي يفصل بين تفكير المفسر والمتلقي الذي ستصل إليه الرسالة، فإن التأويل بهذه الحالة مهمة صعبة للغاية، ويتطلب جهوداً استثنائية من قبل المفسر (انظر بهذا الصدد نقاش هيردر عن العبرية القديمة في مقاله عن” أصل اللغة”). يواجه المفسر – بوجهٍ خاص – إغواءً في سبيل إخضاع الأفكار لرأيه أو لرأي غيره، وهو ما يتعين عليه مقاومته (وهي فكرة سائدة في ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على سبيل المثال).
حين نأخذ هذه التحديات في الحسبان، وكيف يمكن للمفسر أن يحظى بتأويل دقيق، سنجد أن أجوبة هيردر تضم نقاطاً عديدة:
تدعم أطروحات هيردر الثلاث في فلسفة اللغة مجمل نظريته عن التأويل وتجيب عن جزء من السؤال عن مدى دقة التأويل. ومما تتضمنه أطروحته أن الفكر عالة على اللغة ومقيّد بها، وأن لغة النص المؤوَّل مرتبطة بطبيعة أفكار المترجم أو المفسر، لهذا فلا يتعين على المفسّر أن يقلق حيال المادة (موضع التأويل) وما تحتويه من غوامض الأفكار، ولا أن يحمل هَم الأفكار ذات الصياغة المبعثرة وكيف سيعبر عنها بلغته. يرتبط المعنى، وفق أطروحة هيردر، باستعمال الكلمات، والمهمة الأساسية للتأويل تتطلب ترسيخ نص مؤوَّل عبر بيان مفرداته واستعمالاتها، ومن ثم كشف معانيها. وأخيراً فإن مضمون أطروحة هيردر ” شبه التجريبية ” يهتم بالمفاهيم التي يدركها المؤوِّل (أو المفسّر) حول مادته المترجَمة ومفاهيمها، وهذا ما يستوجب استعادة أصول النص ضمن مادته الأصلية وما يرتبط به من شعور.
يتبنى هيردر أيضاً ثلاثة مبادئ هامة حول نظريته في التأويل والتي ساهمت بالجواب عن سؤال (التأويل الدقيق) وهذه المبادئ هي:
مبدأ علمانية التأويل: وهو على النقيض من التقليد الشائع في زمن هيردر حيث الارتباط بالإنجيل. يرى هيردر عدم الاعتماد على الفرضيات والطرائق الدينية في التأويل، حتى في النصوص المقدسة. ويجب الاعتماد – بدلاً من ذلك – على ماهو علماني (وهو مبدأ ساد كتابات هيردر في تأويله للإنجيل أواخر السبعينات من القرن الثامن عشر).
مبدأ التأويل وفق الجنس الأدبي: فبالإضافة لطبيعة معاني النص، على التأويل أن يتعرف على جنس النص genre (أي مجموعة الأهداف والقوانين التي يسعى النص لإدراكها والتكيف معها). أما فيما يخص المعاني فإن الأجناس تتنوع من عصر لعصر، ومن ثقافة لأخرى، بل ومن فرد لآخر، لهذا سيواجه المؤوّل غواية دائمة في إخضاع جنس النص لما هو مألوف لديه من أجناس يعرفها (مثل استيعاب التراجيديا الشكسبيرية وفق تراجيديا سوفقليس، أو العكس) وهذا المبدأ يسود في كتاب هيردر “الغابات الحرجة”عام 1769 ويتجلى بصورة كلاسيكية في مقالته “شكسبير” عام 1773.
مبدأ المنهجية التجريبية في التأويل: على التأويل أن يضع ولاءه دوماً للملاحظات الدقيقة حول الأدلة اللغوية وغيرها من البراهين، ينطبق هذا على تحقيق المؤول لاستعمال الكلمات بغية اكتشاف المعاني (وهي المسألة السائدة في كتاب الشذرات) فعلى المؤول أن يفعل ذلك وهو يحدس نفسية كاتب النص، وعند محاولته ترسيخ الجنس الأدبي للمؤلف، وأيضاً حين يخمن الأهداف والشروط التي أسست لذلك كله (انظر: كتابات توماس آبت 1768 وخصوصاً مقالة هيردر عن شكسبير).
ستبدو هذه المبادئ منطقية بما يكفي إلى الآن، لكن يمضي هيردر أبعد من ذلك، ويقيم مبادئ تأويلية أخرى لربما كانت شديدة الحساسية والإرهاف خاصة حين نسمع بها للمرة الأولى، ومهما يكن، أرغب بإيضاح حقيقة أنها مبادئ صارمة.
يقترح هيردر (خاصة في كتاب” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على سبيل المثال) أن نتبنى التعاطف Einfühlung أو ” الشعور بمسلك الكاتب “. معنى ذلك أنه يتعين على المفسر أن يقوم بإسقاطاته النفسية على النصوص (وهذا ما ارتآه فريدريك ماينيكه Friedrich Meinecke) وعلى كل حال فإن هذه ليست فكرة هيردر الرئيسية بالتحديد وإلا فسيصل الأمر إلى الاستسلام المريض لأفكار المفسر على حساب النص، وهذا ما سيعارضه هيردر أكثر من سواه. إن ما يمكن استنباطه من ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني ” أن هيردر يعتقد بأن العقل البشري يخوض بحثا شاقاً في البحث الفلسفي والتاريخي. ولذلك علينا أن نسأل: ماهي القيمة الثمينة لرمزية التعاطف Einfühlung؟ وسنجد أن للتعاطف خمسة أركان: فأولاً يتضمن التعاطف تبايناً حاسماً بين عقلية المفسِّر والنص الذي يفسره، أشبه بالخليج الواسع، الأمر الذي يجعل من التأويل مهمةً جد مضنية وشاقة (وهذا يعني أن ثمة مَنفَذ ينبغي الولوج إليه من قبل المفسّر لفهم طريقة المؤلف). ثانياً يتضمن مفهوم التعاطف، وبالأخص في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني “دعوة نحو الشعور بالنص من خلال البحث الشامل، وهو بحث في استخدام اللغة داخل النص، وكذلك بحث في السياقات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. ثالثاً يزعم مفهوم التعاطف – من منطلق نظرية هيردر (شبه التجريبية) عن المفاهيم – أنه لكي تفهَم لغة النص المزمع تفسيره وتأويله، على المفسِّر أن يعيد إنتاج النص ضمن مخيلة ذات إحساسات مدرِكة ومتعاطفة. رابعاً يحتوي الكتاب المذكور على تحذير من تسلط المترجم – أو المؤول – على الذين يقوم بتأويلهم وترجمتهم، كما يعارض – وبنفس القدر – الميل نحو التطابق معه identification وأن من شأن ذلك تشويه عمل المفسر، فينبغي تجنب هذا الخطأ. خامساً وأخيراً يتعين على المفسر (والمؤول) أن يكافح لتطوير إمكاناته في الممارسة اللغوية، وأن يراعي وقائع السياق والإحساسات المرتبطة به، للدرجة التي يضاهي بها المؤلف الأصلي في تلقائيته وعفويته، وأن يضع في حسبانه تلقي الجمهور على ضوء هذه المعطيات (وهذا ما يتطلب من المترجم والجمهور معاً تبني فينمنولوجيا الشعور لا مجرد الإدراك العقلي).
يضاف لذلك إصرار هيردر على مبدأ الشمول Holism في الممارسة التأويلية (كما هو الحال في كتابه ” الغابات الحرجة”). يعتمد هذا المبدأ على دوافع عديدة، منها الآتي: (1) إن النصوص المجتزأة عادة ما تكون غامضة بطرق شتى (وهذا مرده إلى الخلفية اللغوية واحتمالاتها الكثيرة) وعلى المفسر أن يكشف هذا الغموض عبر التماس ما يرشده في النص المجاور. (2) قد تثير هذه المشكلة طائفة من المعاني اللغوية المحتملة لنص ناجز، لا سيما إذا كان المفسر يتبنى منظورا مختلفاً بشكل تام، وهذا ما يعمق من إدراك هذه المشكلة. كيف سيتعامل المفسر مع هذه الطائفة من المعاني وبأي لفظ مناسب سيعبّر؟ سيتطلب ذلك حشد المفسر للعديد من الاستعمالات اللغوية لهذا اللفظ أو ذاك، ومحاولة استقراء النظام الحاكم للألفاظ. من شأن هذا التحشيد اللغوي أن يذهب بالمفسر نحو سياقات أبعد حيث تستخدم الألفاظ بشكل مختلف (مثل أجزاء أخرى من النص أو النظر في مصادر أخرى للمؤلف أو القراءة لمعاصريه). (3) عادةً ما يعمد المؤلفون إلى إنشاء كتبهم ضمن وحدة عضوية، يوصلون من خلالها أفكارهم لا بشكل مجتزأ ولكن كي تترابط أفكارهم وتتناسب لتشكل كلاً متماسكاً. تفشل القراءات التي تدرك هذه الوحدة في أن تعثر على التأويل المناسب فتفقد ماهو جوهري في المعاني، لتبقى الأفكار موضع تساؤل ومثلها المعاني المجتزأة ستفقد إضاءتها الهامة.
في كتابَي ” حول كتابات توماس أبت On Thomas Abbt’s Writings ” و ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية”وكذلك في مواضع أخرى، يبتكر هيردر إحدى أهم إسهاماته: وهو إلزام التأويل بأن يولي تركيزه نحو استخدام المؤلف لألفاظه word-usage عبر الانتباه إلى نفسيَّة المؤلف. يقدم هيردر أسباباً متنوعة خلف هذا المسعى النفساني منه (وكثير من هذه الأسباب شرحها بوضوح من أتى بعده كشيلارماخر وفريدريش شليجل) وهذه الأسباب هي: (1) يتبنى هيردر نظريته (شبه التجريبية) عن المفاهيم كما ذكرنا سابقاً، وفحواها أنه لكي تدرَك مفاهيم المؤلف فسينبغي للمفسر أن يستعين بمخيلته للشعور بالمؤلف. (2) شدَّد كوينتين سكينر Quentin Skinner مؤخراً، على أن فهم المعنى اللغوي أثناء التطبيق، أو النص، لهو أمر ضروري من أجل الاستيعاب. علاوة على أنه يتوجب فهم نوايا الخطاب. فعلى سبيل العيّنة؛ لو التقيت بأحدهم على ضفاف بحيرة متجمدة وقال: ” إن الجليد رقيق هناك ” فإنني سأستوعب تماماً ما قاله. ولكن هل هدفه هو إطلاعي على المعلومة أو التحذير أو التهديد أو المزاح؟ (3) يميل سكينر إلى القول بأنه يمكن للمرء أحياناً تحديد المعنى اللغوي قبل رصد نوايا المؤلف كما هو حال المثال المذكور عن البحيرة. ولكن هل يصلح ذلك في مجمل الأحوال؟ إن هيردر يقول بالنفي ويبدو محقاً في قولته هذه، لأن المعنى وفق صياغةٍ ما Formula يبقى غامضاً (طبقاً لتعدد احتمالات المعنى وخلفياته) ولكي نتعرف على المعنى المناسب على المرء يتوجه نحو الأجزاء الكبرى من النص ويطرح الفرضيات hypothesis المستوحاة منه آخذاً بالاعتبار نوايا المؤلف (كالخوض في الموضوع الذي يعالجه المؤلف) وهذا سبب إضافي كي يهتم المفسر بنفسيَّة المؤلف. (4) وكما ذكِر سابقاً، فإن هيردر يقول بإيصال المؤلف لأفكاره لا من خلال الأجزاء وحدها، ولكن عبر دمج الأجزاء معاً عبر وحدة نصية، وإنه لمن الضروري للمفسّر أن يعثر على هذه المعاني في ذاتها وكون ذلك أمر حاسم لكشف غموض النص في كثير من أجزاءه. (5) يشير هيردر في النصف الثاني من كتابه إلى الاختلاف الجذري بين عقلي المؤلف والمفسّر، ووجوب إقرار هذا التفاوت الفردي حتى بالنسبة لمن عاشوا في نفس الحِقبة والثقافة، وهو الأمر الذي يلح على ضرورة التفسير النفساني. عادةً ما يواجه هيردر مشكلة الندرة النسبية ونقص التنوع في النصوص وذلك في الاستخدام الفعلي للمفردات الماثلة أمامه كي يمكن له استنتاج قاعدة الاستخدام التي تشكل معناها، لهذا يلجأ هيردر لمعونة إضافية وهي نفسية المؤلِّف التي قد تزوده بذلك.
في كتابيه ” حول كتابات توماس أبت” و ” عن المعرفة والإحساس في الروح الإنسانية”ومواضع أخرى، يشير هيردر إلى أن التفسير – لا سيما في الجانب النفساني – يتطلب من المفسر مهارة التكهن divination وهذا مبدأ هو الآخر سيبدو مربكاً وحساساً عندما نسمع عنه للمرة الأولى، وقد يفهم منه أن هيردر يقصد ضرباً من النبوة ذات المصدر الديني والمعصومة من الخطأ. لكن المقصد أمر آخر وهو أكثر منطقية، وهو اتخاذ فرضية تحتوي بعض القرائن التجريبية المتوفرة، والمضي لما هو أبعد منها، حيث يمكن تكذيبها، كما يمكن نبذها، أو مراجعتها حين يتم تفنيدها.
وأخيراً ينوه هيردر بمسألة إضافية حين يتعلق الأمر بالطابع العام للتأويل: فمن بعد هيردر تم طرح السؤال بوضوح حول ما إذا كان التأويل فناً أو عِلماً؟ ولم يجاوب هيردر على هذه القضية بما يشفي الغليل، لكن ميوله نحو تقارب التأويل بالعلم الطبيعي أقوى من غيرها. ولديه عدة أسباب خلف اتباعه لهذا الميل: (1) يفترض هيردر مثل كثير من معاصريه أن المعنى الذي يستبطنه المؤلف في نصوصه لهو ذو طابع موضوعي يمكن بحثه على غرار جهود العلماء لدى بحثهم في مواد الطبيعة. (2) إن صعوبة التأويل الناجمة عن الاختلاف الجذري بين عقليتي المؤلف والمفسِّر، والحاجة المستمرة إلى مقاربة منهجية تتسم بالتعقيد والمشقة في حالات عديدة؛ يشير ذلك كله إلى التشابه في زوايا كثيرة بين التأويل والعلم الطبيعي. (3) الدور الذي تلعبه فرضية التكهن divination أثناء التأويل، تؤسس لنقطة أبعد نحو التشابه مع العلم الطبيعي. (4) حتى مادة التأويل وفق رؤية هيردر ليست مختلفة كثيراً عن تلك التي يتعامل معها العلم الطبيعي. فهذا الأخير يبحث في المجريات الطبيعية القابلة للملاحظة؛ من أجل تحديد القوى الكامنة والفاعلة في المجريات الطبيعية. لكن مع الأخذ في الحسبان أن التأويل يبحث ماهو قابل للملاحظة في فيزياء الإنسان لفظاً وسلوكاً، من أجل تحديد القوى الكامنة والفاعلة أيضاً (يتعرف هيردر وبوضوح على الشروط العقلية مثل إدراك المفاهيم وأنها قوى forces).
أحدثت نظرية هيردر في التأويل أثراً كبيراً ونافعاً في] الهرمونيطيقا [ من بعده، وأوشك شلايرماخر أن يستمد نظريته بالكامل من هيردر خصوصاً في محاضراته الشهيرة عن الهرمونيطيقا والتي أقامها في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. إن شلايرماخر – في مواضع أساسية ومعروفة من هرمونيطيقاه – كإسهاماته في التأويل اللغوي والنفساني وتحديده للتكهّن أداةً رئيسية في اشتغاله، لهي أمور يدين بها لهيردر بالكامل. وفوق ذلك؛ عندما يختلف شلايرماخر مع وجهة نظر هيردر ” أحياناً ” فإن رأي هيردر – غالباً ما يتفوق فلسفياً على شلايرماخر عند التحقيق.
وحين يؤخذ في الاعتبار تأثير هيردر الحاسم على هرمونيطيقا شلايرماخر فإن ذلك سيقودنا إلى تأثير هيردر غير المباشر على تلميذ شلايرماخر العظيم وهو أوجست بوك صاحب ” موسوعة ومنهج العلوم الفلسفية ” والمنشورة عام 1877 بعد وفاته. أعاد بوك إنتاج نظرية شلايرماخر مع إيضاحات قليلة، وتحول عمله هذا إلى المرجع الرئيسي والمنهجي لعلماء الكلاسيكيات وغيرهم. لقد فارق بوك نظرية أستاذه شلايرماخر في ناحية واحدة ذات أهمية، وهي تبنيه للتأويل ضمن الجنس الأدبي generic interpretation وذلك فيما يخص جوانب التأويل التي ميزها شلايرماخر والمتصلة بشكل وثيق بما قرره هيردر.
4-3 نظرية الترجمة
طوّر هيردر في الشذرات (1767-8) نظرية هامة وجديدة حيال الترجمة، ونالت صداها الكبير والمثمر في المجالين النظري والتطبيقي للترجمة في ألمانيا. وفيما يلي بعض المفاتيح الأساسية لأطروحته في الترجمة:
تواجه الترجمة تحدياً صعباً (كما التأويل) بالنظر إلى ظاهرة الاختلاف الجذري بين عقلية المؤلف والمترجم. إن الترجمة تعاني هذه الصعوبة بالذات لأن المفاهيم عميقة الاختلاف بين الحقب التاريخية والثقافات، بل ويحصل هذا الاختلاف بين فردين من حقبة تاريخية متزامنة وثقافة واحدة. نتيجة لذلك؛ تبدو الترجمة مهمة صعبة للغاية. إن الترجمة لتواجه سبيلين محتَملين: أولهما ما يدعوه هيردر بالنهج الرخو lax (حين تنحرف اللغة والفكر بسبب الترجمة) وثانيهما النهج التكييفي accomodating approach (حين يتكيف النص المترجَم مع النص الأصلي). يرفض هيردر النهج الأول، وسبب رفضه يعود لفشل هذا النهج في تحقيق الهدف الأصلي والمقبول من الترجمة، أي: الإخلاص في نقل الدلالة semantic faithfulness.
يرفض هيردر – على وجه التحديد – ذلك الإطار العلمي الذي ناصره درايدن Dryden وآخرون، والقائل بأنه على الترجمة أن تزودنا بـ ” العمل كما لو كان مكتوباً ضمن اللغة المنقول إليها، لا ضمن لغته الأصلية”. عارض هيردر ذلك، ففي حالة ترجمة هوميروس مثلاً، لم يكن له أن يكتب عمله ضمن اللغة الحديثة. لهذا السبب حاجج هيردر بأنه يتعين على المترجم أن ينزح نحو الضفة الأخرى، أن ” يهضم ” النص، فكيف له أن ينجز ذلك؟ ثمة سبيل نحو ذلك وهو أن يتمتع المترجم بالخبرة التأويلية، فهذا ما يشترطه هيردر. وثمة سبيلٌ آخر أقل وضوحاً قد طوره هيردر من أجل تجاوز العقبات المتعلقة بتعارض المفاهيم بين اللغة الأصلية واللغة المنقول إليها، وهذا الأمر – تقنياً – له أهمية قصوى، وقد يبدو الأمر مستحيلاً للوهلة الأولى (وهذا ما افترضه بشكل خاطئ فلاسفةٌ متأخرون كدونالد ديفيدسن D.Davidson) فكان هيردر – متكئاً على فلسفته اللغوية الجديدة- قد أوجد الحل لهذه المعضلة: فالمفاهيم والمعاني تعتمد على الاستعمال اللغوي word-usage ومن أجل أن نعيد إنتاج المفهوم بشكل تقريبي ومرضي إلى اللغة المنقول إليها، خاصة إن كانت تفتقد هذا المفهوم. على المترجم أن يعثر على المفردة الأقرب في اللغة المنقول إليها، ويحوِّر استعمالها أثناء ترجمته بما يعزز المحاكاة للمفهوم الأصلي. تتطلب هذه التقنية وعلى نحو أساسي أن تترجَم المفردة في النص الأصلي بشكل موحّد مهما تكاثرت مواضعها في النص الأصلي (والأمر نفسه في اللغة المنقول إليها فلا تستخدم هذه المفردة لترجمة معان أخرى من النص الأصلي). إن هذا النهج من هيردر أبعد ما يكون عن التطبيق في الترجمة؛ بعيد للحد الذي قلما نجده في الترجمات. وأيما كان الأمر، فإن هيردر يستخدم هذا الأمر بدقة في ترجماته، ومثله من تبعه في هذا التقليد وتبناه في ترجماته (مثل شلايرماخر وفرانز روزنزويج ومارتن بوبر).
يعي هيردر جيداً أن استخدام نهج ” التحوير bending ” سيؤدي لا محالة إلى صعوبة قراءة هذا النوع من الترجمة مقارنة بالنهج الرخو lax (كأن تستخدم مفردات عدة للتعبير في اللغة المنقول إليها لأجل ترجمة مفردة واحدة من النص الأصلي). وعلى كل حال فإن هيردر يجد الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ من أجل إنجاز أكبر دقة دلالية. وثمة سبيل آخر يتبناه هيردر لتحقيق الدقة الدلالية، وهو سبيل الصياغة الموسيقية musical formللعمل الأدبي (أي الوزن، والإيقاع، والجِناس، والسجع) وكما هو متوقع، فإن هدفه من وراء ذلك لهو في جزء منه دلالي، وعلى وجه التحديد: الدقة الجمالية، وتبلغ الدقة درجة إيصال التعبيرات الشعورية التي تتأثر بطرائق العمل الأدبي وملامحه الموسيقية، وهي أيضاً دلالية في جانبٍ منها: فيرى هيردر أن الصيغة الموسيقية والمضمون الدلالي مرتبطان ولا ينفصمان، وإدراك الهدف من الدقة الدلالية يشترط عدم الإخلال بالصياغة الموسيقية. فلماذا يعتقد هيردر أن الصيغة الموسيقية والمضمون الدلالي مرتبطان لهذا الحد؟ لديه سببان: يكمن السبب الأول في أن الصياغات الموسيقية تحمل معانيها بداخلها (تأمل على سبيل المثال الدلالات الهزلية والماجنة لقصائد الليمريك limerick) والسبب الثاني كما ذكرنا سابقاً هو اعتقاد هيردر أن الصيغة الموسيقية أساسية في التعبير عن الشعور، ولكن كما رأينا مسبقاً فإن المشاعر مرهونة بمعانيها (وهنا نقطة القوة في نظريته شبه التجريبية حول فلسفة اللغة) ومن ثم فإن ترجمة الصيغة الموسيقية لهي أمر هام جدا من أجل إيصال معاني المفردات والجمل أثناء الترجمة.
الهدف التقليدي من الترجمة هو إعادة إنتاج المعاني بدقة، والوفاء بشرط الجمالية في الأسلوب وجمالية التعبير عن الشعور، يضاف إلى ذلك أن النهج التكييفي والمشار إليه سابقاً ضروري أيضاً لأجل إنجاز أهداف أعظم وأهم مثل إثراء اللغة المنقول إليها (من ناحية المفاهيم والصياغة الموسيقية) إذ يحاجج هيردر بشكل مقنع حول تفريط الترجمة الرخوة بهذه الفرصة للإثراء، بينما تستثمر الترجمة التكييفية ذلك.
وثمة هدف آخر بعيد المدى يكمن في تشجيع قراء الترجمة على احترام الآخر والثقافة العالمية. وهو أمرٌ يتطلب من الترجمة أن تعيد إنتاج معاني ” الآخر the Other ” وصياغاته الموسيقية في أحسن وجه ممكن.
يعتقد هيردر بأن أفضل صور تكييف الترجمة تشترط على المترجم أن يتحلى بحس العبقرية. أي أن يكون مبدعاً وبمهارة كافية تؤهله لإشباع المتطلبات الثقيلة لمثل هذا النوع من الترجمة، وأن يبتكر مفاهيم جديدة وصياغات موسيقية في اللغة المنقول إليها ضمن ما يقتضيه الحال. بغض النظر عن التزام هيردر بأهمية هذا النوع من الترجمة (وهو ما تم شرحه على أنه التزام منه بالهدف الأساسي والتقليدي للترجمة في إعادة إنتاج المعاني) فإن هيردر يبدو متحرراً إزاء أشكال الترجمة أو النقل بين اللغات بوجهٍ عام، وهذا يشمل على سبيل العيّنة ذلك التمييز الذي أقامه حول الترجمة Übersetzung وتناسبها مع التقليد Nachbildung أو التجديد Verjüngung وإمكانية المترجم تبني ذلك كله. إن هيردر يسمح بإمكانية التنويع في الصيغ وأن أفضلها ما كان موازياً لأسلوب المؤلف او الجنس الأدبي المقصود، وما كان متوافقاً مع أغراض المترجم (أو الناقل).
إن نظرية هيردر في الترجمة كما تم إيجازها وكما برهن عليها تطبيقياً مثل ترجمته لأغاني شكسبير الشعبية Popular songs قد نالت ثمارها الكبرى وصداها الأوسع في جيل بأكمله من منظرّي الترجمة وممارسيها من الألمان، بمن فيهم يوهان هينريش فوس Johann Heinrich Voss المترجم العظيم لهوميروس، وأوجست فلهلم شليجل (المنظّر الكبير للترجمة ومترجم شكسبير) وجوته (وهو منظّر لامع للترجمة) وفلهلم فون همبولت Humboldt (مترجم ومنظّر بارز للترجمة) وشلايرماخر (منظّر مهم للترجمة وأعظم المترجمين الألمان للمحاورات الأفلاطونية). إن مبدأ هيردر في الإخلاص للدلالة (المذكور آنفاً) والمرتبط بإعادة إنتاج الصياغة الموسيقية قد أحدث أثراً قوياً فيمن خلفه. أما مبدأ التحوير bending في استخدام الكلمات ولأجل التكيف مع المفاهيم الصعبة، فكان أقل اتباعاً، ولم يتبناه إلا شلايرماخر وقلةً معه.
تدين فلسفة هيردر كثيراً، في اللغة والتأويل والترجمة، للسابقين عليه. ففلسفته في اللغة على سبيل المثال تدين لكرستيان وولف وليبنتز وسبينوزا وإرنستي Ernesti بينما تدين نظريته في الترجمة لتوماس أبت. ومهما يكن من أمر، وحتى حين يستعير هيردر من غيره، فإنه يضيف كثيراً من التحسين والتهذيب، وهو ما جعل إسهاماته جليلة.
5- دور هيردر في ولادة اللسانيات والأنثروبولوجيا
قامت فلسفة هيردر بدور حيوي وإسهام مهم في ولادة حقلين أكاديميين لم يوجدا في زمنه، ونشهد اليوم وجودهما، وهما: اللسانيات Linguistics والأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology وجاء إسهامه هذا من خلال فلسفته في اللغة والتأويل علاوةً على مبادئه الفلسفية التي طورها (للمزيد من التفاصيل انظر القسم الأول من الملحق).
6- فلسفة العقل عند هيردر
في كتابه “عن المعرفة والإحساس” 1778 وفي مواضع أخرى من مؤلفاته، يحتل هيردر موقعاً مميزاً في فلسفة العقل، وفي التالي بيانٌ لأبرز معالم هذا الموقع.
ففيما يتعلق بمشكلة الجسم والعقل، حاول هيردر أن يتبنى عدة مواقف أثناء مسيرته الفكرية، لكن ما استقر عليه هو الموقف الطبيعي والمضاد للثنائية. في كتابه “عن المعرفة والإحساس “ حاول إلغاء الفصل الحاد بين ماهو عقلي وما هو جسماني بطريقتين: الأولى عندما قدَّم نظرية العقل وأن المعطيات العقلية تتشكل عبر قوى Kräfte تتمظهر في السلوك الجسدي للبشر، تماماً مثل الأجسام الفيزيائية وما تشتمل عليه من قوى تتمظهر في حركة الأجسام. يتبنى هيردر موقفاً محايداً تجاه السؤال عن ماهية القوى، باستثناء اعتقاده بقدرة هذه القوى على تحفيز الأجسام للحركة وكونها المصدر الحقيقي لذلك (وهي قوى لا تقبل الاختزال). ومن ثم سيتعين القول وبصورة صارمة أن هذا يعفي نظرية هيردر من انتقادات شائعة (مثل ما ذكره نيزبت H.B.Nisbet وفريدريك بايسر Beiser من اتهامات بأنها قوى حيوية). إن مضمون هذه النظرية التي قدمها هيردر له مزاياه بالمقارنة مع أضدادها من النظريات: (1) تربط النظرية – من جهة المفهوم – بين المعطيات العقلية وما يتجاوب معها من السلوك الجسدي، وهذا ما يبدو صحيحاً، ويفضي إلى تفوق هذه النظرية على النظريات الثنائية dualistic ونظريات الهوية بين العقل والدماغ mind-brain theories . (2) وعلى جانب آخر تتفادى هذه النظرية اختزال المعطيات العقلية إلى مجرد سلوك جسدي، وهذا ما يبدو صحيحاً أيضاً، فنحن نعايش حالات ذهنية ليس لها سلوك أو تمظهر جسدي على الإطلاق، وهذا ما يؤسس لتفوق هذه النظرية على حساب النظريات السلوكية. (3) وما هو أكثر من ذلك، أن موقف هيردر المحايد تجاه مصدر القوة (العقلية) قد ينبئ عن إدراكه لأهمية دور المفاهيم (وهذا ما استثمره أتباع علم النفس الوظيفي في محاججة التعدد الإدراكي realizability argument) ومع أن المفاهيم العقلية والمعطيات الذهنية تتضمن مصادر للسلوك إلا أنها لا تحتوي شيئاً عن طبيعة هذا المصدر.
وثانياً؛ يحاول هيردر أن يفسر العقل من خلال ظاهرة الإثارة ]ريتس Reiz [ وهي ظاهرة تم التعرف عليها مؤخرا عن طريق العالم النفساني ألبريشت فون هالر Albrecht Von Haller ومن أمثلتها – وفق النموذج المعرفي لديه – تقلص الأنسجة العضلية أثناء استجابتها للمحفز الجسدي، أو ارتخائها بعد زوال المؤثر، وهي ظاهرة نفسانية تتجلى ثم تتسرب إلى العقل وخصائصه. ثمة غموض في موقف هيردر هنا: فهو يقاوم الاختزالية الفيزيائية ولكنه على الضد من القول بأن الإثارة ذات طابع نفساني محض أو أنها ذات سلطة على العقل. ومهما يكن من حال، ففي مسودته لكتاب ” عن المعرفة والإحساس” عام 1775 وحتى في مواضع من الكتاب المطبوع، بقي هذا موقفه. وأما من وجهة النظر الحديثة، فإن هذه ميزة أقوى لصالح هيردر (مع أننا اليوم وبالطبع نرغب في إعادة صياغتها على نحو مختلف وأن ندعوها بالعملية الفسيولوجية المًعقدة عِوضاً عن الإثارة).
هذا المسار الثاني من تفكير هيردر يبدو أمام عقبات من المسار الأول (القِوَى forces) ولكن بالطبع يجب تخطي هذه العقبات حين نأخذ في الحسبان حِياد هيردر تجاه ماهية القوى، فهذا المسار الثاني من تفكيره قد يملأ ” الصندوق الأسود” عن القوى المًفترضة لا سيما في المصطلحات الفيزيائية. بعبارة أخرى، يظهر لنا – لا من ناحية المفاهيم لكن بشكل شَرطي- أن القوى محل السؤال هي تفاعلات فسيولوجية.
وتقطع فلسفة العقل عند هيردر شوطاً نحو أطروحة أخرى مهمة: وهي أن العقل له طابع الوحدة unity ولا يوجد فصلٌ حاد بين مَلَكات العقل، فتناقضت هذه الأطروحة مع نظريات سولزر Sulzer وكانط. لم تكن هذه الأطروحة جديدة عند هيردر وسبقه إليها العقلانيون، بالأخص وولف Wolff (وقد ذكر هيردر دَينه تجاه وولف في مسودة 1775). تتجلى أصالة هيردر في رفضه اختزال العقلانيين للحِس والإرادة لصالح العقل؛ فجاء بأطروحته عن الوحدة unity وقال بالتجريبية عِوضاً عن المنهجية القِبلية apriorist way وأضاف بعداً معيارياً لهذا المنهج؛ فليس العقل يعمل هكذا، بل عليه أن يعمل كذلك. إن هذه السمة للعقل قد تبدو مضطربة خاصة حين ننظر إليها للوهلة الأولى، فالعقل يعمل وفق طبيعته الصميمة، فما المبرر في أن نصف له معياراً يعمل بموجبه؟ وكيفما كان الأمر، فإن فكرة هيردر تظل متماسكة، لأن العقل – حتى معيارياً – لا يخالف طبيعته، فالبشر يتصرفون وكأن كل مَلَكة faculty يمكن فصلها عن الثانية، بيد أن هذا سيؤدي لشطط كبير في العقل، فينبغي تجنب هذا الافتراض.
إن إطروحة هيردر عن وحدة العقل تعتمد في مجملها على أربعة أفكار واضحة تتعلق بالعلاقة الوثيقة بين وظائف ملكات العقل، بينما تظهر الأخطاء نتيجة مقاومة هذه الأفكار، وهي أفكار مدعّمة بالتجربة وتمنحها القاعدة الإمبريقية.
تتعلق الفكرة الأولى بالعلاقة بين الفكر واللغة: ليست اللغة في طبيعتها تكشف الفكر فحسب لكنها – كما نوَّهنا سابقاً- تحدد الفكر، فالفكر يعتمد على اللغة، ويذهب هيردر لما هو أبعد من ذلك ويبني فكرته على أساس من الدليل التجريبي (على سبيل المثال الأطفال وتطور فكرهم بالتزامن مع اكتسابهم للمزيد من اللغة). إن الجانب المعياري من هذا الموقف الهيردري يكمن في السقوط الحر للفكر إذا ما انفصل عن قيود اللغة، ومثل هذه القطيعة ستؤدي إلى الخواء.
وتتعلق الفكرة الثانية بالعلاقة الوثيقة والمتبادلة بين المعرفة والإرادة، أو العواطف. إن الزعم بأن الإرادة يجب أن تتبع المعرفة لهو أمر لا يثير التحفظ كثيراً، لكن يحاجج هيردر حول عكس ذلك، وأن المعرفة بكاملها تتبع – ويجب أن تتبع- الإرادة والعواطف، وبكل تأكيد لا يجب أن تكون التبعية لمجرد عواطف نسبية وهزيلة. يهتم هيردر على نحو خاص بمواجهة الفكرة القائلة بأن الأعمال النظرية في الفلسفة والعلوم منفصلة – أو يجب أن تنفصل – عن الإرادة والعواطف، أما هيردر ومن موقفٍ ينطلق من أرضية تجريبية فلا يعتقد بهذا الانفصال مهما تظاهرت هذه المعارف بذلك، بل إن محاولة فصل الفلسفة والعلم عن الإرادة والعواطف سيعمل على إفقارها وإضعافها. أما دعامات طرح هيردر في موقفه هذا فذات طبيعة تجريبية أيضاً.
تتمحور الفكرة الثالثة حول العلاقة الوثيقة والمتبادلة بين الفكر والإحساس. إن التصورات والمعتقدات من جهة، والإحساس من جهة ثانية، ليتصلان ببعضهم وفق هيردر، لهذا يتقدم هيردر بنظريته شبه التجريبية عن المفاهيم المذكورة سابقاً، والتي تقول بأن مفاهيمنا جميعها (ومثلها جل معتقداتنا) تعتمد على الحس بشكل أو بآخر. والعكس صحيح في الاتجاه الآخر (وهنا يستبق هيردر عملاً مهماً في فلسفة القرن العشرين) فيحاجج هيردر بأن شخصية الإنسان البالغ في إحساساتها تعتمد على مفاهيمه ومعتقداته. وبشكل معياري، يرى هيردر أن إلغاء هذا الاعتماد المتبادل سيؤدي لا محالة إلى الشطط الفكري، فعلى سبيل المثال وكما هو مذكور سابقاً، يعتقد هيردر بأن الميتافيزيقيين يقومون بجهدٍ عبثي في محاولتهم لقطع العلاقة بين المفاهيم والتجربة، وموقفه في هذه القضية بأسرها مبني على عوامل تجريبية.
أما الفكرة الرابعة في العلاقة الوثيقة والمتبادلة تختص بالوحدة بين مَلَكات الحس تحديداً. يشتمل رأي هيردر على القول بأن طبيعتنا الحيوانية الباطنة تحتوي على كتلة بدائية من الإدراكات الحسية والمشاعر العاطفية (مع أننا بخلاف الحيوانات نملك القدرة المميزة على تعطيل ذلك مؤقتاً وهي قدرة تدعى التعقل Besonnenheit) يحاجج هيردر في أمر آخر وهو أن الإدراكات الحسية تشكل وحدة بحد ذاتها ويتخذ موقفيه هذين على أرضية تجريبية، فعلى وجه التحديد يقول هيردر أن الوحدة الكامنة خلف مَلَكات الإدراك الحسي تظهر أثناء المواقف غير المألوفة والحالات المَرَضية. وطبقاً لذلك يحاجج هيردر على سبيل المثال أن اعتماد حاسة ناضجة – كالبصر- على حاسة اللمس، يظهر لنا من خلال تطور حاسة البصر لدى الأطفال الصغار مثلما تتشافى حاسة البصر بعد خضوع الأعمى لعملية جراحة، كما هي حالة الأعمى مع الطبيب تشاسيلدن Cheselden’s blind man.
يخطو هيردر نحو ما هو أبعد في فلسفة العقل، ويحاجج بأن المعنى اللغوي في أصله ذا طابع اجتماعي، وكذلك الفكر وجوانب الحياة العقلية (بحكم أنها تنكشف أساساً ضمن مقتضيات المعنى) ومن ثم فالنفس بحد ذاتها تعتمد على تعريف هويتها وفق المجتمع (بحكم ارتباطها بالفكر والجوانب العقلية للبشر). إن خصوصية موقف هيردر تبدو ذات منطلق تجريبي. ومنذ ذلك الحين تزعمت تقليداً عريقاً في الطموح نحو البرهنة على أن المعنى والفكر، إلخ.. ماهي إلا مأسسة اجتماعية (على سبيل العيّنة هيجل وفتجنشتاين وكريبكي Kripke وبورج Burge وبراندوم) وعلى كل حال فإن هذه المطامح لم توفق كما يبدو، وأن موقف هيردر الطَّموح هو وحده من يجدر قبول محاولته.
وهيردر هنا في حالة تجاذب لا تعارض مع مبدأ الاجتماعية sociality فهو يرى أنه – حتى ضمن ثقافة وحقبة واحدة – ستظل العقول تحت حكم قانون الطابع الفردي في عمقها، وتختلف بشكل كبير بين بعضها، وإضافة لذلك فإنه يقول بالحاجة لتوجيه علم نفس خاص بالفردانية individuality وهذه فكرة هامة أثرت بمن تلاه من المفكرين القاريّين (مثل شلايرماخر ونتشه وبروست وسارتر ومانفريد فرانك). يقدم هيردر هذا الطرح فقط لأجل القاعدة التجريبية، وعلى النقيض فإن لشلايرماخر وفرانك موقف قوي يدَّعي تأسيس الفردانية كحقيقة كونية وقِبلية a priori. ومهما كان الأمر، فإن موقف هيردر – مرة أخرى – هو الأكثر إقناعاً.
وأخيراً فإن هيردر مثل سابقيه في التقليد العقلاني ومثل كانط، يرفضون بشدة الفكرة الديكارتية حول شفافية النفس، وبدلاً منها يصرون على أن ما يحدث في العقل أمرٌ غير واعٍ، لهذا فمعرفة النفس تحظى بإشكال عميق على الدوام. وهذا موقف آخر يفرض نفسه قسراً على هيردر وقد أثر بكثير ممن جاء بعده من المفكرين.
إن فلسفة هيردر عن العقل تدين بالكامل لسابقيه، خصوصاً ذوي التقليد العقلاني. ولكنه اتخذ طرقاً جديدة وأصيلة، فنظريته مهمة بحد ذاتها، وطبقها كثيرون ممن جاؤوا بعده من المتأثرين به، بمن فيهم هيجل وشلايرماخر ونتشه.
7- الجماليات عند هيردر
كان هيردر على عكس أستاذه كانط ذو الاهتمام المحدود بالأدب والفن، وهما موضوعان عالجهما في نقد ملَكة الحكم 1790 وبطرحٍ يوحي بالضعف. أما هيردر فكان مولعاً بالفن والأدب وعلى معرفة عميقة بهما، وكثمرة لهذا الاهتمام كان بمقدوره الإثراء عبر مجموعةٍ أصيلة ومهمة من الأفكار حيال الفن والأدب. لقد حاز هيردر قصب السبق، وتبعته كثرةٌ من الجيل الرومنسي (بالأخص فريدريك وأوجست فلهلم شليجل) ومعهما هيجل.
تنبأ هيردر بمجيء الرومنسيين وأثر بهم بشكل كبير. ومن بين المواقف الصاخبة والمشهورة للرومنسيين تقديرهم للأدب والفن على حساب الجوانب الأخرى من المعرفة (كالعلم والدين والأخلاق) ولكن هيردر كان قد تبنى هذا الموقف قبلهم. أولاً لقد كان هيردر منذ فترة مبكرة يحاجج أن الأغنية song هي أصل اللغات جميعها (وبالتالي هي أصل الفكر) وثانياً في مقالاته العديدة مثل “مقالة في أصل اللغة”وخصوصاً مقالة “في الصورة والشعر والحِكاية”عام 1787 يجد هيردر أن اللغة أساساً رمزية ومجازية بطبيعتها، وأن النحو عادةً ما يستمد ضمائر الجنسين من الطبيعة، كما تتضمن اللغة – وعلى نطاق واسع -نقلاتٍ إبداعية من الموضوع object نحو الاستثارة الحسية ثم إلى الصورة التي يخلقها الفرد، ومن الفرد إلى الفكر واللغة، وهذا ما يسم اللغة بطابع الشعرية poetic. ثالثاً في بعض أعمال هيردر مثل “ محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” عام 1764 وكتاب ” في روح الشعر العبري “ حاجج هيدر أن الشعر أساسي للدين منذ البداية. وفي مواضع أخرى حاجج بأن الفن (غير اللغوي) كالنحت، أدى وظيفة حيوية في التعليم الأخلاقي، ومن المؤكد أن له أهمية أكبر من الآليات التربوية الأخرى (كالقوانين).
ما هي أبرز إسهامات هيردر في الجماليات إضافة لما ذكر؟ إن هيردر يتشكك حيال قِبلية ومنهجية الجماليات لا سيما عند مبتكر منهج الجماليات أي الفيلسوف العقلاني بومجارتن Baumgarten التي كان قد أنجزها في زمن هيردر. وبدلاً من تبني ذلك، نادى بالأخذ بالنهج التصاعدي bottom-up أو التجريبية من أسفل إلى أعلى، وبات موقفه نابذاً لـ “سستامية” الجماليات. صحيحٌ أنه بدا مشواره الفكري متبنياً بعض المنهجية الجمالية لا سيما في “الغابات الحرجة” 1769 وأتم محاججاته بشأن منهجه الجمالي المصغّر: حيث الموسيقى تتعقب المواضيع في الزمان، بينما النحت والرسم مكانيان بشكل خالص، أما الشعر فهو حِس وروح وقوّة. تنتمي الموسيقى، ومعها النحت والرسم، إلى الحواس وحدها (أي السمع والشعور والرؤية، بالتتابع) فيما لا يعتمد الشعر على الحواس فقط بل يرتبط بالمخيلة؛ وفي اللحظة التي توظف فيها الموسيقى الإشارات الطبيعية natural signs حصراً، فإن الشعر يوظّف إشارات اللطف والإقناع. وإنه لمن الصواب أن نقول إن هذا المنهج تم تبنيه (وبتعديلات طفيفة) من قِبَل شلايرماخر في محاضراته الجمالية، وتم النظر إليه – مؤخراً فحسب- كإنجاز رئيسي لهيردر في الجماليات (مثل ما ذكره روبرت نورتن Robert Norton) ولكن أدرك هيردر وبسرعة بعد صياغة هذا المنهج أنه ساذج، وأن إنجازه الحقيقي في الجماليات مختلف ويغاير ذلك.
فلنشرع الآن في تتبع إنجازات هيردر الحقيقية. أحد هذه الإنجازات يتعلق بالصلة بين الفن واللغة. كما رأينا سابقاً فإن فلسفة هيردر اللغوية تلتزم بفكرتين: أن الفكر يتبع اللغة على نحو جوهري ويتقيد بها، وأن المعنى مرهون بالاستخدام اللغوي. إن هذا يستدعي أسئلة محددة: فهذه الأفكار تقطع برويَّة مع فرضيّات التنويرEnlightenment من أن الفكر والمعنى من حيث المبدأ مستقلان عن كل مادة وعن كل المدركات الحسية وآثارها. ووفقاً لما قاله تشارلز تايلور يمكننا أن ننعت هذا المذهب بـ” التعبيرية” (أي تأثير الحواس على الفكر والمعنى: المترجم) ولكن ما الصيغة الملائمة التي يجدر بالتعبيرية أن تتخذها بالضبط؟ هل هي اعتماد الفكر والمعنى على الرموز الخارجية بشكل تام مثل اللغة(بالمعنى العادي للغة)؟ أم اعتماد الفكر على وسائط رمزية واسعة تشمل الرسم والنحت بجانب اللغة ومن ثم سيتسنى للمرء الاستمتاع بأفكاره التي لم يستطع التعبير عنها لغوياً من خلال وسيط رمزي آخر؟ فلنسمي الاتجاه الأول التعبيرية المحدودة narrow expressivism والاتجاه الثاني التعبيرية الواسعة broad expressivism.
أيّد هامان في كتابه “ ما بعد النقد Metacritique “نسخةً من التعبيرية الواسعة، ولكنه بنفس الوقت يؤيد الفكرتين سالفتي الذكر عن فلسفة اللغة، بينما تبنى هيردر التعبيرية المحدودة. وبعد نزاع شديد حول هذا الموضوع، خضع هيردر للتعبيرية المحدودة وعمله الأساسي هنا هو كتاب “الغابات الحرجة” فأثناء تأليفه لهذا الكتاب كان ملتزماً بالفكرتين السابقتين عن اللغة، وكما قد يتراءى لنا فإن هيردر منذ بداية كتابه وهو يتبنى التعبيرية المحدودة. وعلى كل حال لم يكن انتماؤه للتعبيرية كافياً، بل ولم يكن متماسكاً. فهو في البداية يؤيد صيغة هشة من إنكار قدرة الفنون (غير اللغوية) على التعبير عن الأفكار على الإطلاق. وعندما نضع في الاعتبار هذه الهشاشة مع عدم الإقناع في رأيه، فإن هيردر منذ البداية يلتزم القول (وبصورة أكثر معقولية) بأن الفنون البصرية كثيراً ما تعبّر عن الأفكار، فعلى سبيل المثال يتدخل هيردر في نزاعٍ بين ليسنج Lessing ووينكيلمان Wincklemann حول السؤال عن مدى قدرة الفنون اللغوية على التعبير (لاسيما الشعر) وكذلك الفنون البصرية (لاسيما النحت) وأعلوية الفنون البصرية بما يخدم حجة وينكلمان عن الفن البصري. إن عدم الرضا والهشاشة هنا ينتجان من غفلة هيردر عن حقيقة واحدة: وهي أنه من الممكن التوفيق بين التعبيرية المحدودة من جهة وقدرة الفكر على الإسهام في الفنون غير اللغوية من جهة ثانية. بعبارة أخرى من خلال الإصرار على أن الأفكار المعبر عنها بفنون غير لغوية يجب أن ترتبط وتتقيد بمهارة الفنان في التعبير اللغوي. على أي حال، في زمن كتابة هيردر للأجزاء الأخيرة من “الغابات الحرجة” كان قد وجد الحل في الجزء الثالث، عبر تركيزه على مثالٍ إرشادي محدد، فلاحظَ أن الصور المنقوشة على العملات اليونانية ذات طبيعة مجازية allegorical. وأثناء كتابته للجزء الرابع كان على استعداد للقول بما يشابه ذلك عن الرسم أيضاً، فيتحدث مثلاً عن ” الحس، والرمز، والقصة/التاريخ، مستودعة جميعها في اللوحة” (G2:313) وفي عام 1788 توسع في هذه القناعة ليشمل النحت أيضاً. وفي مقالة ” النحت” عام 1778 تخلى عن التصور الحسي المحض تجاه النحت والذي سيطر على كتابه ” الغابات الحرجة” وقال عِوضاً عن ذلك أن النحت في جوهره تعبيري ويتطلب تأويلاً من الروح. ولن يلزمه هذا بعد الآن في التنكر لمبدأه في كون الفكر معتمدٌ على اللغة ومقيدٌ بها، ويرى أن الأفكار المعبَّر عنها في النحت ذات مصدر لغوي:
” يقف التمثال في ظلام الليل ويتلمس صورة الآلهة. إن قصص الشعراء تسبقه، وهي في داخله” (G4:317).
يلي ذلك في “الرسائل اللاهوتية” عامي 1780-1781 و” رسائل من أجل تقدم الإنسانية “ يتبنى هيردر نفس الحل مع الموسيقى وآلاتها.
يتضمن الموقف الأخير الذي بلغه هيردر عن ” الفنون غير اللغوية” وكونها مرتبطة بالعقل واللغة على نحو مختلف، ففي الجزء الرابع من ” الغابات الحرجة” (والذي لم تتم طباعته إلا في القرن التاسع عشر بعد وفاة هيردر) يطور هيردر في هذا الكتاب طرحه حول الإدراك البشري وأنه في جوهره مرتبط بالمفاهيم والمعتقدات، وعلى أثر ذلك يرتبط باللغة، وهذا ما يتضمن بالطبع ارتباط الفنون “غير اللغوية” باللغة. الفنون غير اللغوية، إذن، تعتمد بشكل مضاعَف على الفكر واللغة، لأنها تعبر هي الأخرى عن أفكارٍ تفترض مقدماً وجودها في المعرفة.
مع هذا المنجَز من جانب هيردر، وصيغته المنقحة من ” التعبيرية المحدودة” واختلافها عن تعبيرية هامان الواسعة، فإننا سنكون بإزاء نظريتين متنافستين. إن من شأن المنظّرين الألمان في القرنين التاسع عشر والعشرين، من نافلة (هيجل، شلايرماخر، ديلتاي، وجادامير) أن ينقسموا بعمق تجاه هاتين النظريتين وما يتعلق بهما، حيث لازالت القضية مهمة حتى اليوم. فيما لا تزال الاعتبارات الفلسفية المرتبطة بهذا الأمر ذات صعوبة. وقد حاججت في موضع آخر بما أعتقده وهو أن هيردر ذو الموقف السليم.
يحتوي موقف هيردر هنا العديد من التضمينات الهامة بشأن الهرمونيطيقا. كرؤيته الهامة حول الفكر والمعنى واللغة وكونهم يؤدون أدواراً أساسية لا في الأدب وحده وإنما في الفن غير اللغوي هو الآخر. وبالنسبة لهيردر فإن مجالَي (الأدب والفن غير اللغوي) يحتويان على تحديات تأويلية ]هرمونيطيقية[ متشابهة، ويتطلبان نفس الحلول التأويلية. ثمة إسهام آخر ومهم لهيردر في الجماليات ويكمن في تاريخانيته، أو بشكل أوسع يكمن في تعرفه على الاختلاف العقلي والجذري بين الحقب التاريخية والثقافات وحتى الأفراد. وحين يؤخذ هذا الموقف التاريخاني حيال الأدب والفن فإنه سيتمخض عن خمس محددات أساسية:
أولاً: وكما هو مذكور آنفاً فإن هيردر يعتقد بكون المفاهيم والمعتقدات والقيم، الخ.. تتنوع جميعها بين الحِقب التاريخية والثقافات والأفراد، وينطبق هذا بوضوح على الأدب بوجهٍ خاص. أيضاً وكما رأينا فإن الفنون غير اللغوية كالرسم والنحت والموسيقى، تتضمن رؤى وتعبيرات عن المفاهيم والمعتقدات والقيم، وتلتزم بها.
ثانياً: يعتقد هيردر بأن الجنس الأدبي – في كونه مجموعة من الأغراض والشروط – لهو أمر جوهري في أي عمل أدبي أو فني. لكنه يعتقد أيضاً باختلاف الأجناس الأدبية بعمق وذلك في الحِقب التاريخية المختلفة (وهو اختلاف يسري بين الثقافات والأفراد كذلك) ولا يعني هذا موت الأجناس الأدبية وولادة أخرى حديثة فحسب، إذ يعني أيضاً أن التجانس الأدبي يستمر عبر إخفاء الاختلافات الهامة. يحاجج هيردر بشكل تفصيلي وعلى سبيل المثال في مقالته “شكسبير” 1773 أن الجنس الأدبي للتراجيديا اليونانية يختلف عن التراجيديا الشكسبيرية في وقتٍ افترض فيه الشراح على الدوام تماثلهما، بينما الاختلاف عميق ويتأسس على أغراضٍ وشروط مختلفة. كذلك في ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 يحاجج هيردر ضد وينكلمان Winckelmann الذي ماثَل بين أجناس نحت الجسد عند قدماء اليونان والمصريين الفراعنة، فاليونان يضعون نصب أعينهم أن الغرض من هذا الجنس الفني هو تصوير الحياة الدنيوية بجمالها وجاذبيتها، أما المصريون فتبنوا غرضاً مناقضاً في الأجناس الفنية ليوصلوا أفكارهم عن الموت والخلود.
ثالثاً: يحاجج هيردر أن نشأة الأدب غالباً ما تكون حِسية في صميمها، ولكن مع تقدم التاريخ تتحول صوب ماهو فكري. في مقالته المبكرة ” في القصيدة “ 1764-1765 وفي ” محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” يشرح هيردر هذا التطور وفق تضاؤل المشاعر القوية (مثل الخوف) وتزايد التعقيد الفكري والعلمي، وينظر لهذا التحول على أنه تراجع. لاحقاً وفي “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يستبقي هيردر الجانب الوصفي في هذا الأمر، ولكن يراجع المفهوم لإقرار التراجع: كلما كان الشعر أكثر حسية عند الأقدمين فسيكون مضمونه الفكري أكثف عند المحدِثين، وكلاهما ضربٌ من الشعر يختلف عن الآخر، بيد أن لهما نفس الأهمية رغم هذا الاختلاف.
رابعاً: يجد هيردر في القيم الاستاطيقية – مثل الجَمال- أنها مشاعر، وأن المشاعر موضع السؤال تتنوع على نحو هام بين كل حقبة، وثقافة، وفرد. تسود هذه الفكرة في كتابه ” في القصيدة” حيث يناقش الاختلافات الرئيسية في الشعور بالجمال عبر حِقبٍ وثقافات مختلفة، أي على سبيل المثال بين زمنهِ وزمن قدماء الإغريق. تسود هذه الفكرة أيضاً في مقالة “ حول تغيّر الذائقة ” 1766 فيضيف بقوله إن التغيرات في بعض الأحيان متطرفة بما يكفي لتصل إلى الانقلاب التام.
خامساً: يرى هيردر أن الجانب الأساسي في وظيفة الأدب والفن يكمن في إيصال القيم الأخلاقية. لكن عليها – بجانب ذلك- أن تلاحظ أن القيم الأخلاقية المراد تبليغها غالباً ما تختلف على نحو عميق بين الحقب والثقافات والأفراد. في كتابه ” محاولة لتأريخ الشعر الغنائي “يحاجج بشكل ثاقب عن الشعر اليوناني القديم، لاسيما هوميروس، وأنه احتوى قِيماً أخلاقية مختلفة للغاية عن تلك التي نتبناها.
إن هذه الإضاءات التاريخانية عن الأدب والفن ذات أهمية بالغة في ذاتها. فهي تملك مضامين عميقة حيال التأويل والتقييم الأدبي والفني لا بالنسبة لهيردر فقط ولكن بشكل واقعي كذلك. فلننظر الآن عن كثب في اثنتين منهما بهذا السياق.
تهتم الإضاءة الأولى بالاختلاف الجذري في المفاهيم والمعتقدات والقيم وما إلى ذلك. استخدم الأدب هذه الأشياء لغوياً، ومبادئ هيردر العامة في الهرمونيطيقا وتأويل النصوص والخطاب اللغوي تتعاطى مع الاختلاف الجذري (كما نوقِش مسبقاً) وتنطبق بالطبع على الأدب بوجه خاص. وفقاً لذلك وفي “الغابات الحرجة” يشدد هيردر على أهمية التعمق في عالم هوميروس اللغوي والمفهومي عبر مقاربة فيلولوجية حذرة؛ فمن الضروري دائماً تأويل الملامح المحلية في العمل الأدبي مثل الفقرات السخيفة (كحال ثيراسيتس في الإلياذة ج2: 211-227) وعلى ضوء العمل بكامله (مثلما يتصل الأمر بتأويل قصائد هوراس) يبدو حل المشكلة المتعلقة بالفهم الشمولي – عوضاً عن تأويل الأجزاء بشكل منفصل – أمراً يتعلق بالاشتغال داخل النص بشكل منفصل من أجل بلوغ التأويل الشامل لجميع الأجزاء، ثم تطبيق التأويل الوقتي provisional لعموم النص بغية تنقيح كل جزء على حدة، وهكذا إلى مالانهاية.
ولكون هيردر يعتقد بأن أشكال الفن غير اللغوية من رسمٍ ونحت وموسيقى وما يماثلها، تفترض مسبقاً، بل وتعبر عن مفاهيم ومعتقدات وقيمٍ تبني أساساتها على اللغة. يؤمن هيردر أن المبادئ الهرمونيطيقة ]التأويلية[ الكبرى والمرتبطة بالأعمال اللغوية، والتي تشتغل على حل الاختلاف الجذري بين الأفهام، تسهم أيضاً- وبشكل جوهري- في تأويل هذه الفنون. وأكثر من ذلك فإن الفهم ضروري لمقدمات فقرة من الأدب أو الفن وما يتعلق بهما من تعابير من أجل تقييم العمل بشكل سليم، وهذا الضرب من الهرمونيطيقا له مقاربته بالغة الأهمية، لا بهدف التأويل فحسب ولكن لأجل التقييم أيضاً.
ومثالنا الثاني يهتم بالجنس الأدبي genre فيرى هيردر أن الغرض من تأليف العمل الفني هو تجسيد الجنس الأدبي، وهذا أمر حاسم عند المفسّر كي يتعرف على الجنس الأدبي ليفهمه. لماذا يعتقد هيردر بضرورة التعرف على الجنس الأدبي كي يفهَم؟ لدى هيردر ثلاثة أسباب على الأقل (وكلها أسباب وجيهة):
أولاً: تحديد الجنس للعمل الأدبي أمر جوهري وأساسي لفهم العمل ومحتوياته (وهذا مثل فهم منطوق الخطاب في الجملة وكونه ضروري لفهم الجملة ومضامينها). ثانياً: بما أن المؤلف ينوي تجسيد جنس أدبي بعينه، ثم ستتكشف بعض معاني العمل لا بصورة صريحة في أحد الأجزاء، وبدلاً من ذلك تتكشف من خلال التجسيد في الجنس الأدبي. ثالثاً: إن التعرف بشكل سليم على الجنس الأدبي يحسم الأمر حيال التأويل الدقيق للأشياء المعبّر عنها بوضوح في أجزاء العمل.
وكما ذكرت سابقاً، يقدم هيردر رؤية تاريخانية هامة عن الجنس الأدبي هنا: إنه يدرك وحدة الجنس الأدبي ضمن اختلاف الحقب التاريخية والثقافات والأفراد. ومثال ذلك ” التراجيديا اليونانية” وأيضاً ” التراجيديا الشكسبيرية ” أو النحت الفرعوني ونظيره النحت اليوناني، فهذا الشكل (=الجنس الأدبي: المترجم) عادة ما يخفي الاختلافات الهامة. ولهذا الأمر تبعات مهمة للتأويل، فهو يقود هيردر إلى رفض حازم للمقاربة القِبلية في التعرف على الجنس الأدبي، بما في ذلك القِبلية المطلقة ورفضه أن تتعرف على الجنس الأدبي ولو على سبيل الملاحظة الجزئية. إن رفض هيردر يعود لإغراء القِبلية –لاسيما النسبية منها- حيث تسمح للمرء أن يلاحظ الأمثلة والنماذج المحدودة ويستثني أخرى، فيتخيل المرء الجنس الأدبي وفقاً لذلك ويبني تصوره له. وطبقاً للمنظور التاريخاني عند هيردر فإن هذا ما يتمخض دوماً عن نتائج كارثية.
بدلاً من القبلية ووفقاً لهيردر فإن المفسّر يجدر به مقاربة الجنس الأدبي ضمن آلية تجريبية دقيقة. ومن المتوقع أن يتطلب ذلك فحص العمل الأدبي عن كثب لأجل اكتشاف الأغراض الأدبية والشروط التي يعمل وفقاً لها. كما يتطلب أخذ العوامل التي أنتجت النص في الحسبان كالسياق الاجتماعي والتكوين التاريخي للجنس الأدبي مقارنة بما سبقه من أجناس. إضافة لهذا كله قد يتضمن الانتباه إلى الآراء الصريحة للمؤلف أو الفنان حيال الجنس الأدبي الذي يخوض به.
يشدد هيردر على أن التعرف الناجح على الجنس في العمل الأدبي يؤدي إلى نتائج هامة في التأويل ومدى سلامته، ويؤدي أيضاً لتقييمه بشكل ناجع. يقع الشراح الفرنسيون في خطأ تأويلي حين يقرأون شكسبير وفي أذهانهم – مسبقاً – جنس أدبي يخص عالماً قديماً لا ينتمي في الحقيقة لشكسبير. بل وعلى هذا الأساس الخاطئ يعتمدون التقييم evaluation فيفترضون بصورة زائفة أن شكسبير يتوق إلى تقمص نفس الأغراض والشروط للجنس الأدبي الذي يتبناه أرسطوطاليس وأن سبب نجاحه جاء بواسطة هذا التقمص. وبالمثل فإن وينكلمان Winchlemann يقع في خطأ تأويلي هو الآخر حين ينسب للمصريين ” ضِمنياً” نفس المفهوم اليوناني للجنس الفني في النحت، وأيضاً وعلى هذا الأساس (الخاطئ) يقيّم العمل؛ فيفترض – وهو مخطئ- توق المصريين إلى إدراك الغرض اليوناني من الجنس الفني ويلومهم على إخفاقهم في ذلك، ويغفل عن نجاحهم في إدراك جنسهم الفني مختلف الشروط الذي استلهموه وأدركوه.
قاد نهج هيردر التاريخاني في التأويل والنقد الأدبي والفني إلى تقدم هائل في هذين المجالين. وكمثال على ذلك تمكن الأخوان شليجل (بفضل هيردر) من فهم التراجيديا بعمق أكبر مما كان في السابق. ومكَّن ذلك فريدريش شليجل من تطوير تأريخ جديد ومعقد للفن (خاصة في عمله عن اللوحات في اللوفر والمعمار الكاتدرائي) وبفضل هيردر تم التمهيد في القرنين التاسع عشر والعشرين لدراسة التراجيديا وتاريخ الفن.
ولدى هيردر أفكار هامة عن مسألة يجدها الكثيرون ذات مكانة مركزية في الاستاطيقا، وهي الجمال. يطور هيردر معايير الجمال في هذا المقام (من ناحية العلاقة مع الفن وماهو أكثر عمومية منه) وينص على تنوعها بين الحقب التاريخية والثقافات. وهو الأمر المعتاد بالنسبة له منذ بواكير أعماله مثل كاليجوني Calligone (حيث تصدى بهذا العمل لكتاب نقد ملكة الحكم لكانط). وفي “الغابات الحرجة”وكذلك في كاليجوني يحاجج هيردر من حين لآخر- شأنه شأن مفكرين آخرين سبقوه كهيوم- أن ثمة وحدة أعمق في معايير الجمال عبر الحقب التاريخية والثقافات، ولكن موقفه الأسبق بقي الأكثر إقناعاً.
الفكرة الثانية والهامة لهيردر عن الجمال، قد طورها في “الغابات الحرجة” ثم كررها مرة أخرى في “ كاليجوني” وتتعلق تحديداً بمفهوم الجمال. يحاجج هيردر بشكل مقنع أن أصول المفهوم تكمن في الخبرة البصرية (ويعتقد أن هذا ما تشير إليه العلاقة بين الجذر اللغوي في كلمتي الجميل schön والمظهر أو ما يسطع Schein) بيد أن هذه الخبرة تم تمديدها من نطاقها البدائي لتغطي بالفعل “كل ماله أثر ممتع للروح” فبواسطة هذه الحاسة “البصر.. يوجز الصورة والتمثل وغرور الروح”. لهذا فإن الجمال يصبح مصطلحا نتملكه للتأكيد على ما نجده ممتعاً في علاقته بالحواس الأخرى، وطبعا يشمل ذلك الحياة العقلية على نحو واسع (G2:289–291). وهناك فكرة ثالثة ومهمة طورها هيردر وهي أن الجمال في الحقيقة أقل أهمية في الأدب والفن مما يظن، فهذا التقليص من أهمية الجمال لا يقدم عليه هيردر بسبب رؤيته الجينالوجية الاختزالية وحدها، والمذكورة سلفاً، ولكن لأن تصوره الجمالي ذا نموذج مستوحى من الرومانسية والذي ينص على المهام الأساسية للأدب والفن في علاقتهما مع اللغة، والفكر، والدين، والأخلاق. عبر هذا الإصرار المتأصل لدى هيردر في وظيفة المعنى والفكر ودورها الهام حتى في الفنون غير اللغوية، يسعى هيردر إلى تقليص دور الجمال بشكل متزايد وباضطراد. في أعماله المبكرة مثل ” في الشعر” و ” الغابات الحرجة “يتعامل هيردر مع الجمال وكونه مركزياً في الاستاطيقا، ولكن تغير رأيه في المرحلة التي كتب فيها كاليجوني وقال بأن الجمال غير ضروري للفن كما كان يظن. يحاجج هيردر على وجه التحديد في كاليجوني بأن الفن يرتبط على نحو جوهري بالتعليم والتكوين الثقافي Bildung(لاسيما في النواحي الأخلاقية).
وأخيرا علينا أن نلتفت إلى أطروحة هيردر حول الأدب والفن ووظيفتيهما الأخلاقيتين في التعليم. في مقال “حول تأثير الفن الشعري على أخلاق الناس في العصور القديمة والحديثة ” 1778و “حول تأثير النصوص الجمالية على العلوم العليا ” 1781وكذلك “كاليجوني” فإن هيردر لا يرى هذه وظائف جوهرية للجماليات فحسب ولكن يعتقد بأن للأدب تأثير قوي يفوق سواه من وسائل التربية بما في ذلك القانون.
لا يقتصر موقف هيردر الدقيق حيال الدور الأخلاقي للأدب والفن على مجرد التبني ولكن يمتد للحث على ذلك أيضاً. فيخصص هيردر ثلاثة طرق واضحة تمكن الأدب والشعر من الإسهام في تكوين الشخصية الأخلاقية. يتم ذلك أولاً ” عبر القوانين الشفيفة through light rules ” أو بعبارة أخرى من خلال التعبير الدقيق عن المفاهيم الأخلاقية. وثانياً وبشكل أكثر أهمية ضمن رؤية هيردر أن تقدّم القدوات الأخلاقية في وهجٍ من الإيجابية لتدفع الناس نحو محاكاتهم. وثالثاً عبر إيصال ضروب التجربة العملية تسهم في بناء الشخصية الأخلاقية، ومن ثم تحث على اكتسابها، فمن دون هذا سيكون اكتسابها عسيراً عبر خوض الدروب الصعبة والمؤلمة واجتراح التجربة الساذجة. إضافة لما سبق فإن هيردر في مواضع أخرى يضمِّن طريقة رابعة يسهم بها الأدب في التكوين الأخلاقي: إنه مبدأ أساسي يستبطن كتابه “الأغاني الشعبية” فبواسطة الكشف المتجلي للحيوات الداخلية للآخرين من الناس – كالمخاوف والآمال والمتع – إزاء الجمهور أو القراء، سيتسنى للأدب أن يستثير التعاطف تجاه الشخوص الأدبية ويغرس الانحياز الأخلاقي في نفوس الناس تجاههم. وخامساً يضيف هيردر في “كاليجوني” نقطة أبعد من ذلك تتعلق بالفنون غير اللغوية، فالفن البصري يملك قوة تجسيد النماذج الأخلاقية بشكل جذاب عبر تقديمها مقولبة في الجمال الجسدي، وبالمثل فإن الموسيقى ذات قوة في التأثير السلوكي سواء في الخير أو السقم، فهذا يعتمد على المبادئ التي تناط بها.
إن تصور هيردر حول تكوين الشخصية الأخلاقية يشمل دوراً جوهرياً للأدب وللفن من حيث هما كذلك وما ينبغي عليهما أن يكونا، كما يمنح هيردر معياراً لتقييم الأعمال الأدبية. لهذا فعندما يدون ملاحظاته في الأعمال المذكورة آنفا يذكر أن الشعر الحديث على نقيض الشعر القديم قد خسر وظيفته، ويذكر ذلك عبر نقد قوي للشعر الحديث. ويطبق هذا المعيار كأساس نقدي لأعمال محددة لأصدقائه شيمة جوته وشيلر اللذان اعتبرهما محايدان أخلاقياً (أو حتى غير أخلاقيَّين) في المحتوى.
8- فلسفة الأخلاق عند هيردر
طور هيردر فلسفة أخلاقية ناضجة وذات تأثير تاريخي، وتكونت من مجموعة من القضايا شملت مابعد الأخلاق meta-ethics أو حتى النظام الأولي للأخلاق. وسنمعن النظر الآن في المسألة الأولى.
مثل فلسفته عن العقل، فإن موقف هيردر حيال مابعد الأخلاق لهو طبيعي naturalistic في روحه، وهذا الموقف مثير للجدل في زمن هيردر كما سيتضح لدينا. فمثلاً كان في تجاوبه مع مندلسن Mendelssohn عام 1769 فيما يتعلق بمفاهيم سبولدنج Spalding ومندلسن الدينية والمهمومة بالحياة الآخرة ونداءها للإنسانية Bestimmung وهو المفهوم الذي عارضه هيردر بحدة لصالح المفهوم الدنيوي للأخلاق.
وكما هو مذكور انفاً فإن هيردر يتمسك بالموقف العاطفي فيما يخص طبيعة الأخلاق: فعِوضاً عن المعرفة الموضوعية (مثلما هو شأن النظرية الأخلاقية الأفلاطونية) أو مجموعة من الإسعافات المنطقية من قِبل العقل الكوني (وهذا شأن النظرية النقدية الكانطية) فإن الأخلاق عند هيردر هي في الأصل تعبيرٌ عن العواطف البشرية. لقد اعتنق هيردر هذا الموقف في “كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”1765 وواصل ذلك في كتابه “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”1774 إذ عادة ما يشير هيردر إلى العواطف موضع التساؤل بأنها ميول Neigungen ويحتفظ بنفس الرأي في “رسالة من أجل تقدم الإنسانية” 7-1793 إذ ينعتها في هذا الكتاب بأنها المواقف Gesinnungen.
اعتنق هيردر هذا الرأي من أستاذه وهو كانط ماقبل النقدي، والذي تبنى صورة من النزعة العاطفية sentimentalism في كتابه “أحلام عراف الأرواح ” 1766 فعبر كانط يمكن تتبع العاطفية في التقليد العاطفي البريطاني وبالأخص هيوم الذي وجدت حجته العاطفية صداها في نقاط عديدة من “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” فالحكم الأخلاقي في طبيعته يحفز، بينما الحكم العقلي غير محفز، والعاطفة وحدها تملك الحافزية، ومن ثم فالحكم الأخلاقي يجب أن يتكون من العواطف بصورة جوهرية.
ومهما كان الأمر فإن عاطفية هيردر هي على الأرجح ليست فجة مثلما كان الحال عند هيوم، فيدرك هيردر أن المعرفة (أو المفاهيم والمعتقدات) تؤدي دوراً هاماً في الاخلاق، وهذا ما نجده في “الغابات الحرجة” 1769 حيث يحاجج هيردر ضد فجاجة النظريات الأخلاقية التي تجرد العواطف من كل معرفة، ويحاجج بالتأكيد في الجزء الرابع أن الإحساسات هي في مجملها مفاهيم ومعتقدات حبلى بالنظريات. ويمكن أن نرى في “حول المعرفة والإحساس” 1778 أن نتشه اعتنق هذه النظرية المعقدة عن العواطف وأخذها من هيردر.
تكمن أصالة موقف هيردر في أرخنة العواطف الأخلاقية historicizing موضع السؤال، وذلك بالنظر إليها عبر تنوعها الكبير بين حقبة تاريخية وأخرى، وبين ثقافة وأخرى، وحتى بين فرد وآخر. يمجّ هيردر هذا الموقف لا سيما في “حول تغير الذائقة “ 1766 فهو على سبيل المثال يذهب بعيداً لحد القول بأن العواطف الأخلاقية موضع السؤال تبدو أحياناً متناقضة ما بين حقبة وثقافة وفرد حيث تمدح هنا وتستجهن هناك. ويمكن العثور على هذا الموقف الصارم في كتاباته المنشورة. هذا الموقف من جانب هيردر يجعل مذهبه العاطفي مختلفاً عن هيوم، كما يفصله عن نتشه (المتأثر بهيردر وبشكل قوي).
وثمة أطروحة حاسمة يقدرها هيردر وهي أن العواطف الأخلاقية مشروطة بالمجتمع وتتناسب معه وتتوافق مع طبيعته ونمط حياته، وهذه أطروحة مركزية في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” لهذا يحاول هيردر أن يبرز القيم الأخلاقية ضمن حقبها الزمنية وثقافاتها، ويجدها قابلة للفهم ضمن مسوغاتها الكامنة في شخصية المجتمع ونمط الحياة الذي تنتسب إليه. فعلى سبيل العينة كان قدامى المصريين يتحلون بأخلاق الكفاح والولاء المدني لمجتمعهم الزراعي/ الصناعي/ الحضري ونمط الحياة الذي يتمتعون به. أما الرومان فكانت لهم أخلاق الشجاعة، والتعقل، والوطنية، بما يتوافق مع مجتمعهم ذو الطبيعة العسكرية والحربية، وما إلى ذلك. إن هذه الأطروحة تعزز حجة هيوم حيال النزعة العاطفية sentimentalism عبر إجلاء المواقف الأخلاقية طبقاً لوظيفتها الاجتماعية وبمعزل عن الوقائع الأخلاقية (ومنهج هيردر هنا سيجد صداه لاحقاً لدى نتشه).
ثمة إسهام رئيس لهيردر في حقل مابعد الأخلاق meta-ethics في تطبيقه لمنهج الوراثيات وكونها توضح نطاق الأخلاق. يستند هذا المنهج على تاريخانية هيردر ويرمي إلى إدراك الظاهرة العقلية عبر تتبع أصولها التاريخية وكيفية تطورها عبر سلسلة من التوسطات intermediate forms. طور هيردر هذه الطريقة أولاً في منتصف السبعينات من القرن الثامن عشر على نقد الأجناس الأدبية في كتاب “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” و” شذرات في الأدب الألماني الحديث” بالتتابع، ثم مضى في تطبيق ذلك على الأخلاق والقيم الأخرى في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حين حاول – بشكل فج– أن يظهر الأخلاق السلطوية لقدماء العبريين وأنها التي أرست القواعد، ثم برزت أخلاق المصريين في الكفاح والولاء المدني، ومهدت الطريق للفينيقيين وأخلاق الحرية والانفتاح؛ فتلاهم الإغريق وآلفوا بين الأخلاق السابقة وجعلوا منها أخلاقاً للمدنية والحرية؛ فأتت روما وعدلت هذا التراث جاعلة منه أخلاقاً للقيم الشجاعة والتعقل والوطنية، وبعيد سقوط الإمبراطورية الرومانية طورت قبائل الشمال – يداً بيد مع المسيحية- طائفةً من القيم الثرية شملت الشجاعة والإيمان والصدق وتقديس الآلهة والعفة وشرف الفروسية. أخيراً، فإن الأخلاق الأوروبية الحديثة قد انبثقت نتاج هذه التقاليد جميعها. وهذا المنهج من هيردر من أجل الشرح والإسهام في الأخلاق سيتم تبنيه وتطويره من قبل هيجل ونتشه (خصوصاً في كتابه “عن جينالوجيا الأخلاق” 1887) ومثلهما فعل فوكو.
هناك بعد آخر وهام في مابعد الأخلاق meta-ethics عند هيردر وسبق التطرق له، يتمثل بالوضعية المعقدة التي طورها في ” كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”حيث النزعة العاطفية هي العِلة الصحيحة لطبيعة الأخلاق؛ وبالتالي فالمعرفة غير مفيدة كعلة للأخلاق ولايمكن التأسيس عليها ولا مقاربة الأخلاق عبرها، بل وأكثر من ذلك هي ضارة حين تستثير الشك بالأخلاق وتشتت الناس عن المنابع الحقيقية للأخلاق وتصدهم عن تعزيزها. وعلى الفلسفة الأخلاقية إذن أن تتعرف على المنابع الحقيقية وتعززها؛ أي تلك الآليات السببية المولدة للأخلاق والمحفزة على العواطف الأخلاقية.
وكما ذكِر سالفاً فإن كتاب “كيف يمكن للفلسفة أن تصبح عالمية ونافعة للناس”يشدد على صيغ تربوية وأساليب عاطفية في الوعظ تتصل بهذا المقام، وكلاهما نشاطان مضى هيردر في التنظير لهما بإسهاب في مواضع أخرى. لكنهما مجرد جزئين لنظرية أوسع وممارسة بيداغوجية أخلاقية ترمي لترسيخ العواطف الأخلاقية، وهو ما طوره هيردر طوال مشواره الفكري، الأمر الذي استهلك جهد هيردر وأصبح مشروعاً مركزياً وفارِقاً لديه. يضاف لذلك الآلية السببية التي تعرف عليها هيردر ودعمها، والتي تتضمن تأثير الأخلاق على الأفراد القدوات؛ والقانون، والأدب (علاوة على الفنون الأخرى).
أنفق هيردر حياته بلا كلل في تطويره لهذه النظرية بكاملها مع تطبيقه للبيداغوجيا الأخلاقية، ولعلها أسست لإسهامه الفلسفي الأبرز للبيداغوجيا الأخلاقية والتي تتشابه بشكل مذهل مع تلك التي طورها بروتاجوراس في العصور القديمة (أي كما حفظتها لنا محاورة أفلاطون العظيمة “بروتاجوراس”).
ومما يمكن ملاحظته في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”أن هيردر يعتقد بأن لمشروعه هذا إلحاح تاريخي يوم صدوره؛ فالقيم الأخلاقية التي اعتنقها الناس منذ عصري النهضة والإصلاح، مثل محبة الإنسانية، والحرية، والشرف، باتت قيماً جوفاء، وفقدت رسوخها الأصيل في العواطف الأخلاقية، ولهذا فشلت في أداء وظيفتها الاجتماعية وأخفقت في التجاوب معها.
الجانب الأخير والمهم من مابعد أخلاقيات هيردر، يسود خصوصاً في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وينساب عبر عدة وضعيات مابعد أخلاقية تم ذكرها مسبقاً، وبالأخص: النزعة العاطفية sentimentalism وأطروحته حول التنوع العميق في العواطف الأخلاقية بين الحقب والثقافات والأفراد، وكذلك أطروحته عن ملائمة التنوع الأخلاقي الذي يبرز في مختلف المجتمعات وشتى أنماط الحياة. لا مبرر إذن لإبداء مقارنات تقويمية بين نسق أخلاقي وآخر، كالقول بأن أخلاقاً معينة أفضل من الأخرى، وهذا ما تضمنته ملاحظة هيردر الشهيرة في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حيث القيم جميعها مهمة:
” إن كل المقارنات تثبت أنها إشكالية في محصلة الأمر… لكل أمةٍ محورٌ لسعادتها الخاصة بها، مثلما أن لكل سطح كروي مركز خاص لجاذبيته! ” HPW 296-297)).
ربما كانت هذه النسبية إحدى إسهامات هيردر الرئيسية في فلسفة الأخلاق. وأيما كان الأمر فإنها أيضاً إشكالية؛ سواء بالنسبة لعلاقتها مع الأجزاء الأخرى من فلسفة هيردر أو في جوهرها الخاص (للمزيد من التفصيل انظر للقسم الثاني من ملحق النقاشات).
لننظر الآن وبشكل موجز إلى مواقف هيردر المميزة حيال النظام الأولي للأخلاق، ففي هذا المستوى طور هيردر مواقف في غاية الأهمية، وتأتي أهميتها لقيمتها الجوهرية ولتأثيرها على من تلاه.
أحد أهم المبادئ الأساسية والأصيلة والجذابة فيما طوره هيردر هو ما يمكن تسميته بـ” العولمة التعددية” والتي تتضاد مع ” العولمة التجانسية”. إن النزعة العالمية قد بلغت مداها في زمن هيردر واتصلت في ماضيها مع المذهب الكلبي والرواقية في العالم الوثني اليوناني. يمجد هذا التقليد صيغة تجانسية من النزعة العالمية؛ صيغة تضمن المساواة الأخلاقية والاحترام لجميع البشر وتقوم فقط على أساس افتراضي يشترك فيه البشر في معظم سماتهم النفسية (والأخلاقية على وجه الخصوص). وكان التنويرون السابقون على هيردر – بمن فيهم كانط – قد تبنوا هذا الموقف، وفوق ذلك كانت هذه النسخة من النزعة العالمية قد استمرت في تسيدها لدى فلاسفة الأخلاق والمؤسسات البارزة حتى يومنا هذا كما هو شأن منظمة الأمم المتحدة. وثمة مشكلة كبرى في هذه الصيغة من النزعة العالمية: تكمن في الافتراض القائل بأن البشر يتشابهون بشكل كبير في صفاتهم النفسية والأخلاقية مع أن هذا قول زائف (ومحاولة جعل هذا القول صحيحاً تستوجب الكثير من الاعتساف والإكراه). أدرك هيردر هذه المشكلة، فلم يغرِق وليد العولمة في مياه التجانس، وعِوضاً عن فعل ذلك طوّر صيغة مميزة من ” التعددية “ العالمية: أي الالتزام باحترام أخلاقي منصِف حيال جميع البشر، بغض النظر عن مدى تنوع نفسياتهم وتعدد قيمهم الأخلاقية بشكل خاص (وهذا بالتأكيد من الأسباب). يسود هذا الموقف لدى هيردر في كتاب “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” وتدعم هذه النزعة العالمية التعددية موقف هيردر القوي ضد الإمبريالية والاستعمار في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وكتاب “أفكار في فلسفة التاريخ الإنساني” وكتاب “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”.
هناك مبدأ أخلاقي ثان لهيردر يستحق ذكره في هذا المقام ويتقارب مع مبدأ الإنسانية [Humanität] الذي طوره في كتابَي الأفكار و الرسائل. لهذا المبدأ جانبين أحدهما وصفي، ويتضمن وحدة الجنس البشري وما يطفو على سطحه من اختلاف بين الأعراق، وثمة جانب معياري آخر يتضمن النزعة العالمية cosmopolitanism ويشتمل على قواعد تخص المعاملة الحسنة (مثل عدم القتل/ عدم الإيذاء الجسدي/ عدم خداع الناس) ويعمل بكونه بديلاً لمفهوم حقوق الإنسان فهذا المفهوم الأخير يتأسس ضمن رؤية عالمية يشيح عنها هيردر نظره لأسباب كثيرة (طالع جزء الفلسفة السياسية).
ثمة مكوّن جدير بالذكر يخص النظام الأولي للأخلاق عند هيردر وذلك في نموذجه للتعليم Bildung يتجلى في استقلالية الذات والتطور الفردي في جميع القدرات للشخص ضمن كلٍّ متناغم. وقد فعّل هيردر هذا النموذج في كتاباته منذ 1769. في كتاب “عن المعرفة والإحساس” عمَّق هيردر الأصول الفلسفية لهذا النموذج: أي لأهمية الاستقلالية الإنسانية والحرية وأنهما تتوافقان مع قوانين الطبيعة (وهي أهمية تتقارب مع ما كتبه في “مقالة في أصل اللغة” حيث السمة المميزة للإنسانية هي المرونة والتحرر من الحتم عبر الغرائز المحدودة) فهذه النظرية شبه التجريبية من ليبنتز والمتعلقة بالفردية هي سمة عامة لكل الطبيعة بما في ذلك الطبيعة الإنسانية كحالة خاصة: كما تؤخذ بالاعتبار أهمية الاستقلالية بالنسبة للمَلكات النفسية والتي تدعم بدورها مكوِّن (الكل المتناغم) للنموذج. هذا النموذج الذي سيتحول لاحقاً إلى مصدر تأثير هائل لفلاسفة لاحقين كشيلر وهيجل وفلهلم فون همبولت (والذي رأى في إدراك النموذج هدفاً أسمى للدولة وبالتأكيد غاية للكون).
وفوق هذه المثل الأخلاقية اللافتة للنظر، التزم هيردر أيضاً بمجموعة من الأفكار المألوفة خاصة تلك المتعلقة بالتقليد الأخلاقي المسيحي، كالشفقة، والحب، والغفران، والصدق، والعدالة، والمساواة. ومع أنها مألوفة بحد ذاتها لكن هذه المثل تساعدنا في استيعاب إحدى مزايا فلسفة هيردر الأخلاقية: وهي تجنبه الحازم لكل ضروب الأحادية الأخلاقية والتي نشأت في العصور القديمة كما هو حال أفلاطون في محاورة بروتاجوراس (بالتحديد حجة أفلاطون عن وحدة الفضائل) وهي أحادية استمرت في عصر الحداثة مع كانط (لاسيما في التزامه بالمقولات الإلزامية وأنها المبدأ الأساس للأخلاق) وكذلك مع مذهب المنفعة (عبر التزام هذا المذهب بالسعادة وأنها المعيار الأساسي للأخلاق) ولصالح أخلاقه التعددية يلتزم هيردر بعدم الاختزال للقيم الأخلاقية والمثل، وهذه على الأرجح ميزة كبرى لفلسفة هيردر الأخلاقية.
وفي محصلة الأمر فإن نظرية هيردر الأخلاقية ذات أهمية لا على مستوى مضمونها فحسب ولكن فيما تهمله كذلك، فلايهتم هيردر إلا قليلاً بقضايا حرية الإرادة، وهو بالكاد يتطرق لوجودها أو لكونها شرطاً للمسؤولية الأخلاقية (فالحرية لديه هي حس استقلالي أو مرونة توجد في حدود قوانين الطبيعة وبالكاد تصل إلى تحرر محدود من هذه القيود إما عبر الغرائز المحدودة أو الحرية السياسية وهذان الأمران يوليهما هيردر اهتمامه). يتناقض هذا الموقف بشكل حاد مع العديد من فلاسفة الأخلاق في العصر الحديث كهيوم وكانط على سبيل العيّنة. ومهما يكن من أمر فإنه إذا ما نظرنا إلى قدماء الإغريق (مثل هوميروس) أو التقاليد الأخلاقية الصينية ولاحظناهما بمنظور واسع فقلما نجد مفهوماً يختص بحرية الإرادة أو أي ميل نحو القول بأن هذه الحرية ضرورية للمسؤولية الأخلاقية. وفوق ذلك قد أحاجج بأن موقف هيردر هنا – مثله مثل تلك التقاليد – يتمتع بميزة كبرى، فمفهوم حرية الإرادة وكون الأخلاق عالةٌ عليه، وسيطرة ذلك على الفلسفة والدين في الغرب منذ التراث المتأخر، قد اتضح أن ذلك كله مجانب للصواب تماماً.
9- فلسفة التاريخ
تتضح فلسفة التاريخ عند هيردر بشكل أساسي في عملين: أولهما “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” وثانيهما “أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني”. إن فلسفة هيردر في التاريخ فريدة من نوعها بالنظر لتطويره تصوراً غائياً للتاريخ بوصفه إدراكاً تقدمياً لـ”العقل” و”الإنسانية” وهو مفهومٌ مهّد لظهور هيجل وأثر به تأثيراً قوياً بجانب آخرين، وعلى كل حال فإن هذا التصور ملتبس جداً عند التمعّن فيه، وليس من منجزات هيردر الهامّة في هذا الحقل.
لعل منجّز هيردر الأكثر أهمية هو تطويره للأطروحة السالف ذكرها والتي عارض بها بعض فلاسفة التنوير كهيوم وفولتير، وهو وجود الاختلافات الجذرية في المفاهيم بين الحقب التاريخية والثقافات والأفراد، فمفاهيم الناس ومعتقداتهم وقيمهم وإحساساتهم وغيرها من أمور، تختلف بصورة عميقة بين حقبة زمنية وأخرى، وبين ثقافة وأخرى. تسود هذه الأطروحة في “حول تغيّر الذائقة “ 1766 وتستمر طوال مشوار هيردر الفكري، وأثرت بشكل بالغ فيمن تبعه كالأخويّن شليجل وشلايرماخر وهيجل ونتشه ودلتاي.
يمضي هيردر في اسكتشاف تجريبي وسط عالم التنوعات العقلية للحد الذي تضبط به هذه الأطروحة نظام التاريخ. يهتم هيردر قليلاً بالأفعال والأحداث السياسية والعسكرية في التاريخ ويركز بدلاً من ذلك على “دواخل” الفاعلين في التاريخ، وهو تركيز معتمد وواعٍ من قبل هيردر، وبواسطة ذلك يحتل علم النفس والتأويل -وبصورة حاسمة – مكانةً جوهرية بوصفهما أداتا المنهج التأريخي عند هيردر.
لهيردر أسبابه الفلسفية العميقة وراء هذا الخيار واتخاذ علمي النفس والتأويل كمرجعين للتأريخ. ففي البداية لديه مبررات سلبية موجهة نحو التأريخ السياسي والعسكري التقليدي. فلمَ ينبغي على التأريخ منذ البدء أن يوجه اهتمامه نحو المنجزات والأحداث العسكرية والسياسية العظمى؟ ثمة أجوبة محتملة وعديدة لهذا الأمر. أولاً: هي منجزات مبهرة وبناءة تربوياً. بيد أن هيردر لا يقبل ذلك، فهو ينكر الانفعال المحض والفضول كمحفزَين للكتابة التأريخية. وثمة سبب آخر وهو عداؤه للسلطوية والعسكرتارية، كما أن تبنيه للإنسانية (مفتوحة الحدود) دفعته لاعتبار الاستبداد السياسي والحرب و”الإمبراطورية” والتي شكلت غالبية الأفعال والأحداث (العظمى) غير ناجعة تربوياً، بل بغيضة. وقد يترك لنا ذلك نوعين من الدوافع خلف الكتابة التأريخية محل السؤال: ثانياً: إن فحص مسار هذه الأفعال والأحداث يكشف بعض المعاني في التاريخ. ثالثاً: من شأن هذا أن يقودنا إلى إضاءات سببية كافية تمكننا من شرح الماضي وقد تتيح لنا التنبؤ بالمستقبل أو حتى التحكم به. لايزال هيردر متشككاً حيال هذه الإطارات المنطقية وتتضح شكوكيته في النص القديم من “الغابات الحرجة” 8-1767 حيث قدم فيه نقده لهذه الإطارات المنطقية. رابعاً: وتحت تأثير شكيَّة كانط وهيوم حيال المعرفة السببية، يمضي هيردر نحو توكيد البحث عن السبب الكافي ” فالرؤية التاريخية تتوقف حين تبدأ النبوة “وترتحل كتاباته المتأخرة عن هذا الموقف المبكر وذلك لأسباب جلية، لكنه في المجمل يبقى مخلصاً لها (للمزيد من التفاصيل انظر للقسم الثالث من ملحق للنقاش).
إن حجج هيردر ضد هذه الإطارات موجزة في الرسائل 121-122 بدءاً من المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”(وقد ذكِرت بالكامل وبشكل منفرد في موضع آخر). وما يكمل هذا الموقف السلبي تجاه التاريخ التقليدي (العسكري/ السياسي) هو ادعاؤه الأهمية البالغة، بينما يملك هيردر أسبابه الإيجابية للتركيز على دواخل الحياة الإنسانية في التاريخ. يكمن أول الأسباب في اهتمام هيردر البحت بهذا الموضوع (مع أنه وكما هو مذكور آنفاً فإن هذا ليس بالسبب الكافي بنظره) والسبب الثاني هو اكتشاف هيردر للتنوع الجذري في الأفهام الإنسانية وأن لهذا الجانب مداه الواسع وغير المستكشف، وهو حقلٌ مثير للتحديات البحثية، الأمر الذي غفلت عن إدراكه الأجيال السابقة من المؤرخين. والسبب الثالث اعتقاد هيردر بأن دراسة ذهنيات الناس من خلال الأدب، والفن البصري، وهلم جرا.. سيكشف بصورة عامة عن طبيعتهم الأخلاقية في أفضل حالاتها (وهذا ما يتناقض بحدَّة مع دراسة تاريخهم السياسي والعسكري) وهذا ما تستقى منه الفوائد في سبيل التنوير الأخلاقي. والسبب الرابع يكمن في الدوافع الأخلاقية لنزعة هيردر العالمية والمساواتية، حيث أدت به لدراسة عقليات الناس في الأدب والفن البصري وما إلى ذلك، وهذا ما يتناقض بحدّة مع دراسة التاريخ المقتصر على النخب العسكرية والسياسية، أمرٌ سيقودنا لتعزيز التعاطف مع الشعوب بل ومع كافة الطبقات الاجتماعية بما في ذلك الطبقات الدنيا. أخيراً؛ فإن دراسة التاريخ ” الداخلي” للناس لهو أمر هام كأداة لتحسين ذواتنا غير الأخلاقية. السبب الخامس يعزز فهمنا لأنفسنا، وثمة سبب وجيه لذلك وهو أن مناقضة المرء لنفسه عبر استكشاف رؤى الآخرين له من الخارج ستدفعه لإدراك ماهو كوني وثابت أو على العكس سيدرك ماهو متميز ومتنوع. والأمر الآخر أنه من أجل إنضاج رؤيتنا الذاتية سنحتاج لإدراك أصولنا التاريخية وكيف أضحت على ماهي عليه (وهنا منهج الوراثيات الشهير لهيردر والذي سيتم شرحه بالكامل). السبب السادس هو اعتقاد هيردر بأن البحث الدقيق في المثل (غير الأخلاقية) للعصور الماضية قد يخدمنا في إثراء مثلنا وسعادتنا. يجد هذا الدافع عند هيردر تطبيقاً واسعاً في أعماله، ومن ضمن الأمثلة ما استكشفه هيردر في الأدب القديم في “الشذرات” يحتل في جزء كبير منه استنباط هيردر للعديد من الدروس حول تطوير الأدب الألماني الحديث.
إن تركيز هيردر على “دواخل” الفاعلين في التاريخ وتشديده المستمر على علم النفس والتأويل كطرائق لفهم التاريخ قد مهدّ وبشكل مبهر لمجيء دلتاي وأثر عليه بقوة، كذلك فالإطارات العقلية كما هو موضح أعلاه قد تفوقت على ماجاء به دلتاي خاصة في المنحى الإيجابي لهيردر. وأحد إسهامات هيردر الأساسية في فلسفة التاريخ يكمن في تبصره للاختلاف العقلي الجذري radical mental difference ولاسيما منهجه الوراثي آنف الذكر، وهو اختراع ثوري أثبت قيمته الجوهرية بشكل ضخم لدى فلاسفة مهمين ولاحقين على هيردر كهيجل ونتشه وفوكو.
إن منهج هيردر الوراثي genetic method هو أولاً وقبل كل شيء طريقة من أجل فهم أو شرح أفضل للمشهد النفساني والممارسات المتضمنة لما هو نفساني، وبالأخص طرائق لفهم ماهو شخصي للفرد، ولفهم ماهو ذاتي كذلك. أنجز هذا المنهج إسهامه المميز لفهم أفضل حيال المشاهد والسلوكيات بما في ذلك الفرد نفسه، عبر ماهو طبيعي (وليس ماهو ديني أو أسطوري أو متعال) وكيفية تطور ماهو طبيعي في الفرد تاريخياً منذ الأصول القديمة والسابقة على كل ماهو حاضر، وكيف انبثَّت في سلسلة من التحولات.
طوّر هيردر هذا المنهج مبدئياً أواخر الستينات من القرن الثامن عشر في علاقته بالشعر واللغة، ولم ينشر كتابه “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” 1764الذي تضمن تصوره المبكر لهذا المنهج وتطبيقه على الشعر. ثم نشر بعدها بمدة قصيرة كتابه “الشذرات” عام 8-1767 بعد تنقيحه لهذا المنهج وطبقه على اللغة، يليه تطبيق المنهج على القيم الأخلاقية ومسائل أخرى. لهذا فإنه في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 قد ركز بشكل كبير على القيم الأخلاقية والجمالية والائتمانية prudential، ليطور المقياس الأكبر للأطروحة الوراثية القائلة بأن التاريخ يتكون من سلسلة كبرى من الثقافات (مثل الثقافة الأبوية الشرقية/ الثقافة المصرية/ الثقافة الفينيقية/ الثقافة اليونانية/ الثقافة الرومانية وهلم جرا) والتي انبنت فوق بعضها بصورة تراكمية وولدت في محصلة الأمر الثقافة الأوروبية الحديثة (والتي احتار بإزائها بشكل كبير) فعلى سبيل المثال يرى هيردر أن الثقافة اليونانية هي تركيبٌ بين ثقافة الطاعة الشرقية المصرية مضافٌ إليها الثقافة الفينيقية الحرَّة وقد سبقتا اليونان، ثم مررت هذا التركيب إلى الثقافات الأوروبية الحديثة. أما هيجل وخصوصاً في “فينمنولوجيا الروح” 1807 ونتشه لاسيما في “جينالوجيا الأخلاق” 1887 وتلاهما فوكو قد استخدموا هذا المنهج وعملوا على تعديله بطرق مختلفة.
كيف يمكن لمنهج هيردر أن يطور من فهم الذات؟ إنه يطمح إلى ذلك عبر طريقتين متمايزتين وتؤسسان معاً لما نستطيع تسميته بالنموذج الأساسي للتفسير الوراثي. إن الإسهام الأول لهذا المنهج في فهم الذات يقع تقريباً في حيازة الشخص لمفاهيمه، ومعتقداته، وأحاسيسه، وتقاليده، وأشكاله الفنية وهلم جرا، وألا يقارنها مع رؤى أخرى تفتقر إليها أو التي تملك خيارات مختلفة، فمن شأن ذلك أن يدفع الشخص للمجازفة بجعل قناعاته كونية لا غني عنها، أو أن يتغاضى عن مزايا الشخصيات الأخرى. يتضاد المنهج الوراثي مع هذين النمطين من إساءة فهم الذات، عبر جعل المرء مطلعاً على المراحل التاريخية المبكرة التي تفتقر للمفاهيم ذات الصلة الخ، يداً بيد مع المراحل التاريخية المتوقعة لا بالشكل الذي يحوزه المرء لكن عبر صيغة مختلفة، فيصبح من الممكن أن تدرك المحليَّة وإمكانية الاستغناء عن المفاهيم الخ، في السؤال ومقارنة بعضهم البعض لكشف ماهو مميز في الشخصية.
يتكون الإسهام الثاني لمنهج فهم الذات في مستواه الأساسي عبر أمرين: أولهما أن المفاهيم محل السؤال، عِوضاً عن كونها فطرية (ومن ثم حاضرة العقول البشرية) أو حتى في كونها مكتسبة من العدم وتشكلت في نقطة من التاريخ، فإنها في الحالتين نتاج تطورات تاريخية لم توجد من قبل أبدا، بل وجدت فقط ضمن تشكلات متنوعة؛ والأمر الثاني أن هذه التطورات التاريخية قد شكلت المفاهيم. وعلى مستوى ثانوي فإنه من العادة أن يفسر أحدهما بالآخر ضمن خصوصية الذاتية. على سبيل المثال فإن الشعر الغنائي ضمن هذا المنهج قد بدأ كتعبير عن المشاعر واستمر على هذا النحو في تحولاته، ومثل ذلك فإن اللغات تطورت منذ نشأتها البدائية إلى أن تعقدت على نحو مهول؛ وبالمثل فإن الثقافة الحديثة وما تحمله من قِيم قد انبثقت عن ثقافات وقيم مبكرة عبر سلسلة من التراكمات والتحولات.
وأخيراً فإن هيردر مبهر في إدراكه لمشكلة التاريخ والصورة التي رسمها عنه (مع أنه لم يحل هذه المشكلة وإنما اشتبك معها) بما في ذلك مقارنته بين الثقافات كمنطقة للاختلافات العميقة في العقلية الإنسانية. وهذه هي مشكلة الشكيّة Skepticism (للمزيد من التفاصيل انظر القسم الرابع من ملحق النقاش).
10- الفلسفة السياسية عند هيردر
لايعتبر هيردر فيلسوفاً سياسياً ضمن التفكير المعتاد. لكنه أحد الذين قدّرت مثلهم السياسية ودوفع عن مواقفه السياسية، كما كانت أفكاره التي ركز عليها ذات ديمومة أكثر من أي فيلسوف ألماني آخر من تلك الحقبة. كانت معالجة هيردر الأكثر تطوراً للفلسفة السياسية في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته، وذلك في كتاب استحثت كتابته الثورة الفرنسية عام 1789 ” رسائل من أجل تقدم الإنسانية” 7-1793 (بما في ذلك المسودة المبكرة عام 1792 التي اكتسب أهميتها من خلال إفصاحه الواضح عن آراءه حيال السياسات الداخلية).
ماهي السمات الأساسية لفلسفة هيردر السياسية؟ لنبدأ أولاً مع المثل السياسية. الشق الأول منها يخص السياسة الداخلية والشق الثاني يخص السياسة الدولية. ففي السياسة الداخلية يبدو هيردر المسن ليبرالياً، جمهورياً، ديمقراطياً، ومساواتياً Egalitarian (ينبغي ملاحظة الظروف التاريخية حيث تندر هذه المواقف وتحملها هيردر على مسؤوليته الشخصية). إن ليبرالية هيردر راديكالية على نحو خاص إذ تؤيد حرية التفكير والتعبير (وهذا يشمل حرية المعتقد) ولديه أسبابه العديدة لهذا الموقف: أولاً يشعر هيردر أن هذه الحرية تنسَب لكرامة البشر الأخلاقية. ثانياً: يعتقد أن هذه الحرية ضرورية للإدراك الذاتي للأفراد. ثالثاً: يجد هيردر أن قدرات الناس محدودة في إدراك الحقيقة ولن يتم ذلك إلا عبر تنافس مستمر بين وجهات النظر المتعارضة فيحققون تقدماً نحو الحقيقة (استعار جون ستيوارت مل هذه الآراء لاحقاً واستقى معظمها من فلهلم فون هومبولت لتكوين نظريته حول حرية التفكير والتعبير في كتاب “عن الحرية“).
التزم هيردر أيضاً بالجمهورية والديمقراطية (تبنى الحق الدستوري وبشكل أوسع صلاحية من كانط على سبيل المثال) ولهيردر أسبابه المختلفة لهذا الموقف الذي استوحاه من نزعة المساواة لديه لأجل الصالح العام لكافة أعضاء المجتمع. فأولاً: يشعر هيردر بالصواب التام في القول إن على جموع الناس أن تتشارك في الحكومة لا أن تفرض عليهم. ثانياً: يعتقد أن من شأن ذلك خدمة مصالحهم الأخرى فالناس محكومون وحاكمون معاً. ثالثاً: يؤمن هيردر أن ذلك كفيل بتقليص الحروب التي تستعر بسبب النظم الأوروبية الاستبدادية، ولاتفيد سوى قلة من الحكام الذين يشنون الحرب لتقع كلفتها الباهضة على الشعب.
أخيراً فإن المساواتيةegalitarianism لدى هيردر تمتد لما هو أبعد من ذلك، فهو لا يرفض الاختلافات الطبقية ولا المِلكية الخاصة، كما لا يرفض عدم المساواة بالكليّة. إن ما يعارضه هيردر هو الاضطهاد الطبقي التراتبي hierarchical ويحاجج بأن أفراد المجتمع يملكون قدرات تمكنهم من الإدراك الذاتي، ويجب أن ينالوا الفرصة لاستغلال هذه القدرات، ويصر هيردر على ضرورة تدخل الحكومة لتوكيد نيل هذه الفرص، كأن تضمن الحكومة التعليم للجميع وحداً أدنى من المعيشة للفقراء.
أما ما يخص السياسة الدولية فإنه عادة ما ينظر لهيردر بأنه ” قومي ” وأحياناً ما هو أسوأ (قومي ألماني) وهذا ما قام به على سبيل المثال روبرت إرجاجنج R.Ergang في “هيردر وأصول القومية الألمانية”1931وكارل بوبرفي “المجتمع المفتوح وأعداؤه” 1945. ثمة فلاسفة من تلك الحقبة يستحقون هذا التصنيف مثل فيشته، لكن من المضلل، ومن الجائر، جعل هيردر كذلك. وعلى النقيض من هذا، كان هيردر ككانط، ذا موقف عولمي حِيال السياسة الدولية، ومهمومٌ بجميع البشر. يعود ذلك وبشكل كبير لمِثال الإنسانية لديه. ولهذا في “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” ينقل هيردر من فينولون Fénelon مؤيداً له: ” أحب عائلتي أكثر من نفسي، وأحب وطني أكثر من عائلتي، وأحب الإنسانية أكثر من وطني” (HPW389). وفوق هذا فإن عولمة هيردر لربما كانت أكثر نقاء من كانط الذي تقوّض طرحه بسبب تحيزاته العديدة التي انتمى لها، وبالأخص عنصريته، وعداؤه للسامية، وكراهيته للمرأة (Kleingeld 2013). على النقيض، كان هيردر حراً من هذه التحيزات، وبلا شك فقد عمل بلا كلل على مواجهتها.
أيضاً فقد ألحَّ هيردر على احترام الجماعات القومية والحفاظ عليها وتطويرها. وينبغي أن نطمئن لذلك للأسباب التالية: (1) يجد هيردر في الأمر ضرورة لحفظ الجماعات القومية بالتساوي ولا يتعلق الأمر بألمانيا وحدها! (في رسائل من أجل تقدم الإنسانية يرفض هيردر بشكل قاطع كل فكرة عن “الشعب الأفضل Favoritvolk ” كما ذَكَر) HPW 394. (2) إن ” الأمة” موضع البحث هنا ليست عرقية بل لغوية وثقافية (في كتاب الأفكار وبمواضع أخرى يرفض هيردر تماماً مفهوم العرق وينتقده). (3) لا يسعى هيردر إلى إلغاء التثاقف بين الأمم ولا يتبنى الجمود، بل يرحب بالتلاقح الثقافي والتداخل اللغوي والتنمية الثقافية واللغوية. (4) لا يدل اعتراف هيردر بالجماعات القومية على وجود مركزية لديه، أو نزعة نحو الدولة العسكرية (في الأفكار ومواضع أخرى يؤيد بقوة اختفاء الدولة العسكرية واستبدالها بحكومة فيدرالية مرنة وذات تسليح محدود). (5) بالإضافة لهذا فإن إصرار هيردر على احترام الجماعات القومية يرافقه شجب للصدامات العسكرية، والاستكشافات الاستعمارية، وكافة أنواع الإيذاء بين الأمم، ويطلب عوضاً عن ذلك: التعاون السلمي والتنافس التجاري والاجتهاد العلمي وذلك كله بغرض الفائدة المتبادلة؛ وهو نداء نحو الأمم كي تعمل بجدية لمساعدة بعضها بعضا.
لهيردر أسبابه التي اضطرته نحو الإصرار على احترام الجماعات القومية، وهي: (1) إن ما يلزم من التنوع العميق في القيم بين الأمم استحالة التجانس وعدم قيامه عملياً. (2) يلزمنا هذا التنوع بأن قيام التجانس لن يحدث طواعيةً بل عبر القسر الخارجي. (3) إن المحاولات لإنجاز التجانس في الواقع العملي – عبر أوروبا الاستعمارية على سبيل المثال – أو عبر أية صيغة قسرية أخرى، سيخفي دوافع للهيمنة والاستعمار (4) وفوق ذلك فإن التنوع الأممي إيجابي وثمين، سواء من حيث قيمته الذاتية أو من خلال توفيره للأفراد حس الانتماء المحلي الأصيل.
ما من شك في أن عولمة هيردر التعددية ذات أهمية، وهي بديل جذاب للعولمة التجانسية المبنية على أوهام ترتبط إما باحتمالية وجود قيم كونية مشتركة، وهو ما هيمن على عصر التنوير ولا زال رائجاً حتى اليوم، سواء بين الفلاسفة (لا سيما في العالم الناطق بالإنجليزية) أو في المنظمات السياسية الدولية كالأمم المتحدة.
ثمة جانب آخر ذا أهمية في فلسفة هيردر السياسية ويتعلق بالسياسة الداخلية والدولية، وهو ميله الشديد لمِثال الإنسانية على حساب مِثال حقوق الإنسان الشائع في زمنه (لمزيد من التفاصيل انظر القسم الثالث من ملحق النقاش).
وها نحن ذا وقد مررنا على المثل السياسية المتنوعة التي شكّلت أرضيَّة هيردر السياسية، تبقت قضية أخيرة تحتاج للنظر وقد تواجه بمعارَضة، وهي أن كل ما تقدم ذكره لا يبلغ منزلة النظرية السياسية كما هو شأن فلاسفةٍ ألمان آخرين ممن عاصروا هيردر وزودونا بنظريات سياسية، وهذا صحيح في شق (ويمكن الدفاع عنه فلسفياً) وباطل في شق آخر.
يتعلق الشق الصحيح بأنه بالفعل لا وجود لنظرية ميتافيزيقية كبرى تدعم موقف هيردر، لا وجود لديه لنظرية أفلاطونية للمثل، ولا توجد علاقة بين المؤسسات السياسية لديه و”اللحظات ” في المنطق الهيجلي، ولا وجود لـ” استنباط” للمؤسسات السياسية من طبائع الذات أو الإرادة التي عند فيشته أو هيجل. وهذا متعمد عند هيردر بالنظر إلى شكه حيال هذا الضرب من الميتافيزيقا. أفليس هذا الأمر ناجعٌ فلسفياً؟
كما لا يعطي هيردر أي اعتبار كي يزعم من خلاله تبرير المؤسسات الأخلاقية بالنسبة لموقفه السياسي ولا يدعي امتلاك بصيرة ثاقبة في هذا الشأن (مثلما هو الحال على سبيل العينة مع نظرية كانط ومقولاته الأمرية أو نظرية رولز عن الوضع الأصلي) وهذا، مرة أخرى، متعمدٌ من جانب هيردر وفقاً لنزعته العاطفية في الأخلاق ورفضه للنظريات الزائفة والمضرة. أفليس هيردر محقاً للمرة الثانية في تغييبه لهذا الاعتبار، وبالتالي فالأمر ناجعٌ فلسفياً؟
ولا يتعاطف هيردر مع النظريات السياسية الأساسية والمرهِقة كالحقوق الطبيعية، وماهية الطبيعة، والعقد الاجتماعي، والإرادة العمومية، وطوباويات المستقبل. ولكن ولمرة أخرى فإن لهيردر أسبابه الوجيهة والدقيقة خلف تشكيكه بهذه الأفكار، وهذا ما يظهر أنه ناجعٌ هو الآخر.
هذا إذن هو المنطق السليم للاعتراض؛ أن هيردر ينقصه بالتأكيد “نظرية سياسية” من هذه الأنواع، لكنه يفتقر إليها من حيث المبدأ ولعله كان محقاً في فعلته هذه.
وعلى صعيد آخر، وضمن منطق مختلف، فإنه لمن الزائف أن نقول بافتقار هيردر لـ”النظرية السياسية” لأنه بالفعل يملك “نظرية سياسية” من نوع مختلف وربما أكثر قيمة. أولاً: يستمر موقف هيردر من خلال تجريبيته العامة في الفلسفة السياسية، وهو تجريبي بعمق في بياناته. فعلى سبيل العينة وكما يمكن ملاحظته في “أطروحة حول التأثير المتبادل بين السياسة والعلوم” 1780 أطروحة هيردر تهتم هنا بأهمية حرية التعبير والتفكير، والمنافسة بين الرؤى التي تجعل ذلك ممكناً بغية تحقيق تقدم فكري يبنى بشكل كبير على المثال التاريخي لليونان القديمة وبالتحديد أثينا، أي على النقيض من المجتمعات التالية عليها كروما التي افتقرت إلى الحرية والتنافس في البحث. وفي مسودة 1792 من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” وصف هيردر الثورة الفرنسية ومحاولاتها لتأسيس ديمقراطية حديثة بأنها “تجربة” يمكن الإفادة منها (على سبيل المثال التعلم من كون الديمقراطية قابلة للانتشار بنجاح إلى أمم أكبر بكثير من أثينا القديمة). ثانياً: وبانسجام مع نزعته العاطفية في الأخلاق، يدرك هيردر وبذكاء أن موقفه السياسي يتكئ بشكل تام على العواطف الأخلاقية التي تخصه، ولكي تنجح هذه النظرية عليها أن تتكئ على عواطف الآخرين أيضاً. على سبيل المثال في المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يشدد هيردر علىتغير مواقف الناس أخلاقياً وكذلك تغير مشاعرهم، وهذا ما يلعب دوراً جوهرياً في تأييد موقف هيردر وإدراكه السياسي. إن هذا الموقف لهيردر يعفيه من التنظير السياسي، ولا يمنعه فحسب من التقعيد المعرفي للحدوس الأخلاقية موضع التساؤل بل يعد بحلول مؤثرة ومختصرة لما قد يبدو لمشكلات عصية على الدماغ البشري، كالتنظير حيال طرائق وأسباب العواطف الأخلاقية للناس وكيف ينبغي أن تصاغ لخدمة المِثَال ideal الذي يتوافق مع ميله السياسي. أما نقاش هيردر حيال “الميول” السياسية في المجموعة العاشرة من الرسائل كنموذج على تنظيره، فإنه يهتم بالطرائق لا الأسباب. وأما بعض تنظيرات هيردر الشاملة للأسباب (كالتعليم، ووجود القدوات من الأفراد، والقوانين، والأدب، وما إلى ذلك) فقد نوقشت فيما تقدّم من هذه المقالة.
إن هذين الضربين من التنظير السياسي، أي التنظير التجريبي والتنظير العاطفي الأخلاقي، قد تطورا بعمق في روع هيردر، ولعلهما الأكثر تطورا من بين النقاط الأخرى. وباختصار، فإنه بالمدى الذي تكون فيه نظرية هيردر السياسية سطحية، تستعير عبارة نتشه ” السطحي – الخارج من العمق ” ( في حين تبدو فيه الصيغ المألوفة للفلسفة السياسية عَميقة- خارجة من السطحية). وضمن منطق مختلف وأكثر أهمية؛ فإن نظرية هيردر ليست سطحية نظرياً على الإطلاق.
11- فلسفة الدين عند هيردر
كانت الفلسفة الألمانية في زمن هيردر ملتزمة بلعبة المصالحة مع أفكار التنوير، خصوصاً الأفكار التي تتعلق بالعلم الطبيعي الحديث، والدين (المسيحية على نحو خاص). لقد لعب ليبنتز وكانط وهيجل وشلايرماخر وكثير غيرهم هذه اللعبة، واقترح كل منهم مصالحته الخاصة بين الدين والتنوير وهيردر جزء من هذه اللعبة هو الآخر. لم تكن هذه باللعبة الممتعة للفلاسفة. لكن حتى القرن التاسع عشر وجدت الفلسفة الألمانية الشجاعة للتصدي لهذه المعضلة، والانتقال من خطاب مدافع عن الدين والمسيحية إلى خطاب ينتقدهما بشكل شامل (المثالين الأبرز هما ماركس ونتشه) ففرض هذا الأمر قيوداً على فلسفة هيردر عن الدين وأثر بقيمتها (ينطبق ذلك على الفلاسفة المذكورين آنفا).
مما ينبغي ملاحظته أن فلسفة هيردر في الدين متنورة ومتقدمة للغاية بصورة عامة، سواء في مرحلته المبكرة أو المتأخرة. كان ثمة انفصال في المنتصف، لاسيما بين عامي 1771-1776 ففي باكبيرج Bückeburg وأثناء انغماس هيردر في اللامعقول الديني (وهو اتجاهٌ يرفض العقل ويؤسس المعتقد الديني على الإيمان وحده) كانت هذه خاصية يتمتع بها صديقه هامان، وحدث ذلك نتيجة ما ندعوه اليوم بالانهيار العصبي الطفيف (وهذا موثق في مراسلاته آنذاك) وهو أمر ينبغي إهماله.
بالرغم من هذه السمات في فلسفة الدين عند هيردر فإن لديه إسهاماته الهامة، وهي كذلك بالنظر لقيمتها الجوهرية، وتأثيرها، أو الأمرين معاً.
من إسهامات هيردر (المهمة بالنظر لتأثيرها) هي الإسبينوزية الجديدة. إن تعاطف هيردر وارتباطه بأعمال سبينوزا يعود في قدامته على الأقل إلى عام 1769. والعرض الرئيسي لهذه الأفكار يقع في كتاب ” الإله: شيء من المحادثات” المنشور سنة 1787. نشر هيردر هذا العمل أثناء انتشار كتاب ياكوبي Jacobi “رسائل عن مذهب اسبينوزا” 1785 حيث كشف ياكوبي عن الفيلسوف والناقد والمسرحي المبجل ليسنج Lessing والذي منحه هيردر بالتحديد فائق احترامه، واعترف له قبل موته بفترة وجيزة أنه تخلى عن المفاهيم الأرثذوكسية الدينية لمصلحة الاسبينوزية. حاجج ياكوبي بنفسه، وبشكل حاد، أن الاسبينوزية وكل المذاهب القائمة على العقل، تتضمن بداخلها الإلحاد والجبرية، وينبغي نبذها لأجل الوثبة نحو الإيمان leap of faith واعتناق اللاهوت المسيحي التقليدي. كان كتاب ياكوبي، ومثله رد موسى مندلسن عليه، قد تنازعا حول نعت ليسنج بالاسبنيوزية، ورغم سلامة نواياهما فقد أحدث ذلك جلبة لدى العامة. في كتابه “الإله: شيء من المحادثات” يؤيد هيردر نعت ياكوبي وليسنج له بتطوير نسخته من “الاسبينوزية” حين عدّل الأصل في جوانب جوهرية منه، ويعود ذلك بشكل كبير لتفادي اعتراضات ياكوبي.
يتشارك هيردر مع اسبينوزا في أطروحته الأساسية حول الواحدية. ومثل اسبينوزا فإن هيردر يساوي المبدأ الواحد الشامل مع الإله (وهذا ما يستدعي التساؤل حول اتهام ياكوبي له بالإلحاد). ولكن في حين يحدد اسبينوزا هذا المبدأ الواحد الشامل بأنه الجوهر فإن هيردر بدلاً من ذلك يحدده بأنه قوة أو قوة أولية. هذا التعديل الجوهري يتضمن تعديلات أخرى يجدها هيردر جذابة، وتشمل ما هو آت: (1) في حين سعى اسبينوزا إلى فهم مبدأ الواحد – وهو موضع التساؤل- بأنه شيء غير فاعل فإن مراجعة هيردر تحيله إلى الفاعلية. (2) تنسب نظرية سبينوزا الفكر إلى المبدأ موضع السؤال (= الواحد “المترجم”) ولكن ترفض المبادئ ذات المقاصد أو ذات العقل. على نقيض ذلك يرى هيردر أن للمبدأ مقاصد، وبما أن فلسفة العقل عند هيردر، في عمومها، تطابق بين العقل والقوة فإن تحديده للمبدأ موضع السؤال بأنه قوة، سيحمل معه تضميناً بأنه عقل (لا يصرح هيردر بذلك في كتابه “الإله: شيء من المحادثات”لكن بعد سنوات قليلة في كتاب “عن روح المسيحية”1798 يصف الإله بصراحة أنه روح Geist وعقل) فعبر هذه الوسائل يعيد هيردر الإله الاسبينوزي (وبهذه الطريقة ينقض تهمة ياكوبي له بالإلحاد). (3) بينما يتصور اسبينوزا الطبيعة بشكل ميكانيكي متسقاً مع ماضيه الفكري الديكارتي (وهذا ما يستدعي تهمة ياكوبي عن الجبرية) فإن هيردر (بالرغم من عدم درايته بماهية القوى) يميل إلى تصور القوى تعمل في الطبيعة وأنها قوى حية أو عضوية (وهو تصور يدين به لليبنتز). (4) يعتقد هيردر أن نظرية اسبينوزا الأصلية تحتوي ما هو مرفوض من ثنائية ديكارت، فالقوى في طبيعتها تتمظهر في حركة الأجسام الممتدة. (5) يرسم هيردر مخططاً تفصيلياً للطبيعة بوصفها نظاماً للقوى الحية مبني على القوة الأولية، أي الإله، وهو مخطط يلعب دوراً هاماً في هذا النظام الذي تتعارض فيه القوى كي يجذبها هذا المغناطيس، فيتصف هذا النظام بالنمو الذاتي ليتجه إلى رتبة أعلى فأعلى من الكمال.
إبان الربع الأخير من القرن الثامن عشر ونحو مطلع القرن التاسع عشر جاءت موجة الاسبينوزية الجديدة لتجتاح الأدب والفلسفة في ألمانيا: فبالإضافة إلى ليسنج وهيردر كان ثمة اسبينوزيون جدد بمن فيهم جوته وشيلنج وهيجل وشلايرماخر وهولدرلن ونوفاليس وفريدريش شليجل. كانت هذه الموجة نتيجة تبني هيردر للاسبينوزية الجديدة في كتابه “الإله: شيء من المحادثات” (أدرك جوته تأثر هيردر بالاسبينوزية قبل هذا الكتاب) ومن ثم فإنها قد سادت على استدراكات هيردر على اسبينوزا.
وأيّما كان من أمر، فإن إسهام هيردر الأكثر أهمية لفلسفة الدين يتعلق بتأويل الإنجيل. وبهذا الصدد – وكما ذكرنا آنفاً- فإن هيردر يمجد العلمانية الصارمة. كان هذا هو موقفه في الستينات من القرن الثامن عشر، ففي تلك الحقبة حاجج بشدة لأجل روح جاليليو، وألا يكون للوحي سلطانه على العلم الطبيعي، ومع ذلك فلم يكن هيردر معارضاً للروح الدينية بقدر ما كان يأمل أن يستقل العلم الطبيعي، فهو باستقلاله هذا قد يصادق على الدين. كما أقام هيردر حالة من التوازي في استقلالية التأويل؛ فالمعتقدات والشرائع الدينية لا تتدخل في تأويل النصوص حتى وإن كانت نصوصاً مقدسة، بل إن الإنجيل نفسه يجب أن يتم تأويله ككتاب من صنع البشر، وبنفس الأدوات الهرمونيطيقية الصارمة التي يتم توظيفها في تأويل النصوص القديمة الأخرى. إن كل تنوير ديني ليتأتى نتيجة هذا التأويل، وعليه ألا يلج هذه الفعالية التأويلية بنفسه، ثم بقي هذا الموقف سائداً عند هيردر حتى مرحلته المتأخرة.
أما المبدأ العام القائل بأن الإنجيل ينبغي تأويله بنفس الطريقة التي تؤول بها النصوص الأخرى، فلم يكن شائعاً في زمن هيردر بقدر ما شاع بعده، كما لم يكن هو سببه بالكامل، فعبر تبني هذا المبدأ كان هيردر واعياً باتباعه للعديد من علماء الإنجيل المحدثين، من نافلة إرنستي Ernesti ومايكليز Michaelis وسيملر Semler. وعلى كلٍّ فقد كانت علمانية هيردر متينة ومتطرفة أكثر منهم، وسبب ذلك تخلي هيردر عن كل قداسة تلهٍم المفسر، وفوق ذلك التخلي عن كل فرضية تقول بأن الإنجيل وهو كلمة الله يجب أن تصح وتثبت على الدوام (للمزيد من التفاصيل انظر للقسم السادس من ملحق النقاشات).
هناك مبدأ تأويلي آخر وهام عند هيردر يتقارب مع علمانيته الصارمة، وهو إصراره على مقاومة مفسري الإنجيل لإغراء قراءة الكتاب المقدس بصورة رمزية (باستثناء حالات قليلة نسبياً كالأمثال في العهد الجديد، حيث يتضح الدليل من النص بجلاءٍ حول الكاتب ونيّته في إيصال المعنى بصورة رمزية) وفي كتابه “عن ابن الإله مخلص العالم” 1797 يمنحنا هيردر، وبتبصر، تشخصياً عاماً عن غواية التفسير الرمزي وصعوده: فعبر تغير تاريخ المعتقدات والقيم لدى الناس أدى ذلك إلى التعارض بين ما تحتويه النصوص التقليدية وما تتضمنه معتقدات الناس وقيمهم، ومع ذلك لازالوا ينتظرون من هذه النصوص أن تكون صائبة، ثم يحاولون المطابقة بين الأمرين عبر القراءات الرمزية.
إن التزام هيردر بالعلمانية الصارمة والقراءة التأويلية (غير الرمزية) للنصوص الإنجيلية قاده إلى اكتشافات تأويلية تخص الإنجيل وذات أهمية بالغة، فقام بتطبيق مناهج تأويل معيارية normal على العهد القديم مكنته من تمييز وتحديد الأجناس الشعرية المختلفة للعهد القديم للحد الذي تفوق فيه على منجزات كل من سبقه. ونجد نفس الالتزام في استعداده الدائم لاكتشاف ماهو زائف ومضطرب في الإنجيل، وهذا ما أتاح له الإتيان بملاحظاتٍ تأويلية هامة حول المفاهيم العبرية القديمة عن الموت ومابعد الحياة والعقل والجسد، وكون هذه المفاهيم قد تغيرت بشكل حاسم بمرور الوقت (للمزيد حول هذه المنجزات التأويلية انظر على وجه الخصوص كتابه “في روح الشعر العبري”) كما إن رفض هيردر للتأويل المجازي – غير المضمون- سمح له باستبدال التفسير الشائع لنشيد الإنشاد من كونه رمزية دينية إلى كونه شعر غزلي بسيط، وهو ما يعد سليماً ومقبولاً اليوم.
وعلى نحو مشابه يتعلق بالعهد الجديد، التزم هيردر بتطبيق مناهج تأويلية معيارية، تشمل استعداده الدائم لاكتشاف الزيف والاضطراب الذي مكنه من التعاطي مع كتاب الأناجيل الأربعة بوصفهم أفراداً من البشر لا بوصفهم أفواهاً للإله، وقد فعل ذلك لإدراك الاضطراب بين مواقفهم، وبغية البرهنة على تواريخ الأناجيل بشكل صائب للمرة الأولى (فالأول هو مرقس، وفي المنتصف متّى ولوقا، والأخير هو يوحنا) وقام هيردر بذلك لإعطاء تصور صحيح وواسع عن نشأة الإنجيل عبر الخطب الشفوية وعلاقتها المحتملة بعضها ببعض (وهي إنجازات احتفظ بها هيردر في عملين متأخرين بين عامي 1796-1797 في كتابَي “عن مخلص البشرية “ و “عن ابن الإله مخلص العالم”).
إن علمانية هيردر الصارمة وتصديه للتأويل الرمزي قد تم تبنيهما بعد فترة وجيزة من قبل شلايرماخر، الذي أيّد مبدأ تفسير النصوص المقدسة على ضوء مؤلفيها من البشر وذلك على غرار هيردر، وأن تطبق عليها نفس المناهج التي تطبق على النصوص العادية، فالتزم شلايرماخر بهذا النهج لا سيما فيما يتعلق باكتشاف الاضطرابات والتزييفات في الإنجيل.
ومنجزات هيردر في هذا الحقل لها سمة المأساة الشخصية التي لا ترحم، ولكن كما ذكر آنفاً فإنه لم يعمد على الإطلاق إلى تمجيد الضمير والفكر في الإصرار على استقلالية العلم والتفسير الطبيعي من أجل تقويض الدين بوجه عام أو المسيحية على نحو خاص. فعلى خلاف ذلك، كان يأمل ويرجو أن هذين الضربين من الاستقلالية سيدعمان الدين والمسيحية في نهاية المطاف. ومهما يكن من أمر فإن هذا الأمل قد خاب بطريقة مؤلمة. فالعلم الطبيعي المستقل قد أثار الإشكال حول الدين عموماً والمسيحية بشكل خاص. كما أن سياسة هيردر في قراءة الإنجيل عبر مناهج معيارية تراه مجموعة من النصوص البشرية بما يعتريها من نواقص، قاد ذلك على نحو متزايد إلى تقويض مزاعم الإنجيل في سلطته الفكرية (من شواهد ذلك نشر ديفيد فريدريش شتراوس لكتاب “حياة المسيح” 1835-1836) وكثيرٌ مما أنجزه هيردر أخيراً في هذا الحقل سيسوءه، ولن يرحب به.
12- تأثيره الفكري
هانحن أولاء وقد ألقينا نظرة على المنجزات الرئيسية للفيلسوف هيردر، وصرنا في موضع أفضل للنظر لا إلى قيمتها الجوهرية فحسب ولكن كي نلقي نظرة على أثرها الهائل. فحين نطِل على بداية هذه المقالة سنرى التأثير الذي أحدثه في الفلسفة وما تجاوزها للحد الذي امتد فيه إلى تأسيس نظم معرفية بكاملها (للمزيد من التفاصيل انظر القسم السابع من ملحق النقاشات).
13. المرشد نحو أدبيات هيردر
كتابات عامة:
Adler and Koepke 2009 (an excellent collection of articles covering a wide range of topics); Beiser 1987 (ch. 5 covers several subject helpfully, including Herder’s philosophies of language, mind, and religion); Berlin 1976 (concise and excellent); Clark 1955 (detailed and useful, though unimaginative); Forster forthcoming (covers the subjects treated in this article in more detail); Gillies 1945 (not philosophically sophisticated, but good on Herder’s relation to literature and on his influence); Greif, Heinz, and Clairmont 2016 (a useful reference work); Haym 1880 (a classic, detailed intellectual biography; still by far the best general book on Herder available); Heise 1998 (a good short introduction); Irmscher 2001 (an excellent short introduction); Nisbet 1970 (a helpful general account of Herder’s views about science); Sauder 1987 (contains helpful contributions on a wide range of topics); Wiese 1939 (a helpful overview).
حياة هيردر الفكرية:
Adler 1968; Beiser 1987 (ch. 5); Berlin 1976; Clark 1955; Haym 1880
أسلوبه الفلسفي:
Adler 2009; Berlin 1976; Clark 1955; Haym 1880; Zammito 2001 (an excellent, thorough study)
برنامجه الفلسفي العام:
Heinz 1994; Zammito 2001 (very good on this subject)
فلسفة اللغة:
Aarsleff 1982; Coseriu 2015; Forster 2010, 2011a, 2013; Hacking 1988, 1994; Sapir 1907 (an excellent discussion of the Treatise on the Origin by an important twentieth-century linguist); Taylor 1991, 1996, 2016
نظرية التأويل (الهرمونيطيقا):
Forster 2010 (especially chs. 1–5), 2011a (especially ch. 9), 2016; Gjesdal 2004, 2017; Irmscher 1973 (a very influential article that attempts to assimilate Herder’s position to Gadamer’s, an ambition that is both interpretively and philosophically controversial); Willi 1971 (a helpful treatment of Herder’s approach to interpreting the Old Testament)
نظرية الترجمة:
Berman 1984; Forster 2010 (ch. 12); Huber 1968; Huyssen 1969; Kelletat 1984 (a helpful treatment of Herder’s interest in world literature, and of his theory and practice of translation); Purdie 1965; Sauder 2009
اللغويات والأنثروبولوجيا:
Broce 1986; Coseriu 2015; Forster 2010 (ch. 6), 2011a (especially ch. 4); Gjesdal 2013; Mühlberg 1984; Pross 1987; Zammito 2001
فلسفة العقل:
Beiser 1987 (ch. 5); Forster 2011c
الجماليات:
Forster 2010 (chs. 1, 3, and 5), 2011a (ch. 6), 2016; Gjesdal 2017; Guyer 2007; Irmscher 1987; Mayo 1969; Norton 1991 (helpful both on aspects of Herder’s aesthetic theory and on his general relation to the Enlightenment); Wiora 1953
فلسفة الأخلاق:
Berlin 1976; Booher 2015; Crowe 2012; DeSouza 2012a, 2012b, 2014; Forster 2017b and forthcoming; Sikka 2011
فلسفة التاريخ:
Barnard 2003; Beiser 2003; Bollacher 1994; Forster 2011b, 2012a; Gadamer 1942; Irmscher 1984, 2010; Lovejoy 1948 (helpful and concise); Maurer 1987; Meinecke [1936] 1972 (ch. 9 on Herder is very helpful); Otto and Zammito 2001; Staedelmann 1928; Wells 1960; Zammito 2009
الفلسفة السياسية:
Barnard 1965 (chs. 3–5 cover Herder’s political thought very well); Beiser 1992 (ch. 8 on Herder’s political philosophy is excellent); Berlin 1976; Bernasconi 1995; Ergang 1931 (helpful on Herder’s political thought and on his intellectual influence, but marred by a false assimilation of Herder’s nationalism to later German nationalism, and by an unduly warm assessment of such a position); Forster 2010 (ch. 7), 2017a; Sikka 2011
فلسفة الدين:
Bell 1984; Forster 2012b; Lindner 1960; Vollrath 1911; Willi 1971
تأثير هيردر:
Ergang 1931; Forster 1998, 2010, 2011a, 2011b, 2011c, 2012a, 2012b, 2012c, 2016, 2017b; Gillies 1945; Harris 1972; Heinz 1997; Jacoby 1911; Taylor 1975; Zammito 1992, 1997
مراجع
نصوص أساسية بالألمانية: هناك طبعتان رئيسيتان بالألمانية لأعمال هيردر.
Johann Gottfried Herder Sämtliche Werke, B. Suphan et al. (eds.), Berlin: Weidmann, 1877–
[G] Johann Gottfried Herder Werke, U. Gaier et al. (eds.), Frankfurt am Main: Deutscher Klassiker Verlag, 1985–
[B] Johann Gottfried Herder Briefe, W. Dobbek and G. Arnold (eds.), Weimar: Hermann Böhlaus Nachfolger, 1977
ترجمات إنجليزية:
On World History: Johann Gottfried Herder, an Anthology, Hans Adler and Ernest A. Menze (eds.), Armonk, NY: M.E. Sharpe, 1996. Contains short excerpts on history from a variety of works, prominently including the Ideas.
J.G. Herder on Social and Political Culture, F.M. Barnard (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 1969. Includes (partial) translations of Herder’s
Journal (1769)
Treatise on the Origin of Language (1772)
This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity (1774)
Dissertation on the Reciprocal Influence of Government and the Sciences (1780)
Ideas for the Philosophy of the History of Humanity (1784–91)
plus a very helpful introduction.
Against Pure Reason: Writings on Religion, Language, and History, Marcia Bunge (trans. & ed.), Minneapolis: Fortress Press, 1993.
God: Some Conversations, Frederick H. Burkhardt (ed.), New York: Veritas Press, 1940. Reprinted Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1962.
Outlines of a Philosophy of the History of Man, T. Churchill (ed.), London: J. Johnson/L. Hansard, 1803. (This is a translation of the Ideas.)
[HPW] J.G. Herder: Philosophical Writings, Michael N. Forster (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2002. Contains translations of
How Philosophy Can Become More Universal and Useful for the Benefit of the People (1765), pages 3–30
Fragments on Recent German Literature (1767–8), (excerpts on language), pages 33–64
Treatise on the Origin of Language (1772), pages 65–164
On Thomas Abbt’s Writings (1768), (selections concerning psychology), pages 167–177
On the Cognition and Sensation of the Human Soul (1778), pages 187–244
On the Change of Taste (1766), pages 247–256
Older Critical Forestlet (1767/8), (excerpt on history), pages 257–267
This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity, pages 272–358
Letters for the Advancement of Humanity (1792), (excerpts), pages 370–424
as well as other pieces.
Sculpture: Some Observations on Shape and Form from Pygmalion’s Creative Dream, Jason Gaiger (ed.), Chicago: The University of Chicago Press, 2002. (This is a translation of Plastik [1778].)
Reflections on the Philosophy of History of Mankind, Frank E. Manuel (ed.), Chicago: The University of Chicago Press, 1968. Contains excerpts from Churchill’s 1803 translation of the Ideas.
The Spirit of Hebrew Poetry, James Marsh (ed.), Burlington, VT: Edward Smith, 1833.
Johann Gottfried Herder: Selected Early Works, 1764–7, Ernest A. Menze, Karl Menges, Michael Palma (eds.), University Park, PA: Pennsylvania State University Press, 1992. Contains several early essays, including On Diligence in Several Learned Languages (1764), and selections from the Fragments.
Selected Writings on Aesthetics, Gregory Moore (ed.), Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006. Contains
Critical Forests (1769), first and fourth books
Shakespeare (1773)
On the Influence of the Belles Lettres on the Higher Sciences (1781)
On Image, Poetry, and Fable (1787)
and several other pieces on aesthetics.
On the Origin of Language, John H. Moran and Alexander Gode (eds.), Chicago: The University of Chicago Press, 1986. Contains a partial translation of Treatise on the Origin of Language (1772).
German Aesthetics and Literary Criticism: Winckelmann, Lessing, Hamann, Herder, Schiller, Goethe, H.B. Nisbet (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 1985. Contains two pieces of Herder’s in aesthetics, including his important essay Shakespeare
دراسات:
Boeckh, August, 1877, Enzyklopädie und Methodologie der philologischen Wissenschaften (Encyclopedia and Methodology of the Philological Sciences), Leipzig: Teubner.
Ernesti, Johann August, 1761, Institutio interpretis Novi Testamenti, Leipzig: Weidmann.
Hegel, Georg, 1795/6, The Positivity of the Christian Religion, in his Early Theological Writings, T.M. Knox (trans.), Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1971.
–––, 1798–1800, The Spirit of Christianity and Its Fate, in his Early Theological Writings.
–––, 1807, Phenomenology of Spirit, A.V. Miller (trans.), Oxford: Oxford University Press, 1977.
–––, 1837, Reason in History, R.S. Hartmann (trans.), Upper Saddle River, NJ: Library of Liberal Arts, 1997.
–––, 1832, Science of Logic, A.V. Miller (trans.), Amherst, NY: Prometheus, 1991.
Hume, David, 1748, An Enquiry Concerning Human Understanding, London: Millar.
Jacobi, Friedrich, 1785, Über die Lehre des Spinoza in Briefen an Herrn Moses Mendelssohn (On the Doctrine of Spinoza in Letters to Mr. Moses Mendelssohn), Breslau: Löwe.
Kant, Immanuel, 1766, Dreams of a Spirit Seer, in his Theoretical Philosophy, 1755–1770, David Walford and Ralf Meerbote (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
–––, 1790, Critique of the Power of Judgment, Paul Guyer and Eric Matthews (trans. & ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2000.
Mill, John Stuart, 1859, On Liberty, Stefan Collini (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
Nietzsche, Friedrich, 1873, On Truth and Lying in an Extra-moral Sense, in Friedrich Nietzsche on Rhetoric and Language, Sander L. Gilman, Carole Blair, and David J. Parent (trans. & ed.), New York: Oxford University Press, 1989.
–––, 1882/7, The Gay Science, Walter Kaufmann (trans.), New York: Vintage, 1974.
–––, 1886, Beyond Good and Evil, Walter Kaufmann (trans.), New York: Vintage, 1966.
–––, 1887, On the Genealogy of Morality, Maudemarie Clark and Alan Swensen (trans.), Indianapolis: Hackett, 1998.
Schlegel, Friedrich, 1795/7, On the Study of Greek Poetry (Über das Studium der griechischen Poesie), Stuart Barnett (trans.), Albany: State University of New York Press, 2001.
–––, 1808, On the Language and Wisdom of the Indians (Über die Sprache und Weisheit der Indier), in The Aesthetic and Miscellaneous Works of Friedrich von Schlegel, E. Millington (trans.), London: H. G. Bohn, 1848.
Schelling, Friedrich, 1792, Antiquissimi de prima malorum origine philosophematis explicandi tentamen criticum, in his Sämmtliche Werke, Stuttgart: Cotta, 1856–1861, div. 1, vol. 1.
–––, 1792/3, Ueber Mythen, historische Sagen und Philosopheme der ältesten Welt (On Myths, Historical Legends, and Philosophemes of the Oldest World), in his Sämmtliche Werke, div. 1, vol. 1.
–––, 1795, On the I as the Principle of Philosophy or On the Unconditional in Human Knowledge, F. Marti (trans. & ed.), Lewisburg: Bucknell University Press, 1980.
–––, 1795, Philosophical Letters on Dogmatism and Criticism, in his The Unconditional in Human Knowledge.
–––, 1797, Ideas for a Philosophy of Nature, Errol E. Harris and Peter Heath (trans.), Cambridge: Cambridge University Press, 1988.
–––, 1798, Von der Weltseele (On the World Soul), Hamburg: Perthes.
Strauss, David Friedrich, 1835–6, Das Leben Jesu, kritisch bearbeitet (The Life of Jesus Critically Examined), Tübingen: C.F. Osiander
مراجع ثانوية:
Aarsleff, Hans, 1982, From Locke to Saussure: Essays on the Study of Language and Intellectual History, Minneapolis, MN: University of Minnesota Press.
Adler, Emil, 1968, Herder und die deutsche Aufklärung, Vienna: Europa.
Adler, Hans, 2009, “Herder’s Style”, in Adler and Koepke 2009: 331–350.
Adler, Hans and Wulf Koepke (eds.), 2009, A Companion to the Works of Johann Gottfried Herder, Rochester, NY: Camden House.
Barnard, Frederick M., 1965, Herder’s Social and Political Thought: From Enlightenment to Nationalism, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2003, Herder on Nationality, Humanity, and History, Montreal: McGill-Queen’s University Press.
Beiser, Frederick C., 1987, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte, Cambridge, MA: Harvard University Press.
–––, 1992, Enlightenment, Revolution, and Romanticism: The Genesis of Modern German Political Thought, 1790–1800, Cambridge, MA: Harvard University Press.
–––, 2003, The German Historicist Tradition, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199691555.001.0001 esp. ch. 3.
Bell, David, 1984, Spinoza in Germany from 1670 to the Age of Goethe, London: Institute of Germanic Studies, University of London.
Berlin, Isaiah, 1976, Vico and Herder: Two Studies in the History of Ideas, New York: The Viking Press.
Berman, Antoine, 1984, L’Épreuve de l’étranger: Culture et traduction dans l’Allemagne romantique, Paris: Gallimard.
Bernasconi, Robert, 1995, “‘Ich mag in keinen Himmel, wo Weisse sind’: Herder’s Critique of Eurocentrism”, in Acta Institutionis Philosophiae et Aestheticae 13: 69–81.
Bollacher, Martin (ed.), 1994, Johann Gottfried Herder: Geschichte und Kultur, Würzburg: Königshausen und Neumann.
Booher, Charles Richard, 2015, Perfection, History, and Harmonious Individuality: Herder’s Ethical Thought, 1765–1791, Doctoral dissertation, SUNY at Syracuse. [Booher 2015 available online]
Broce, Gerald, 1986, “Herder and Ethnography”, Journal of the History of the Behavioral Sciences, 22(2): 150–170. doi:0.1002/1520-6696(198604)22:2<150::AID-JHBS2300220206>3.0.CO;2-H
Clark, Robert Thomas Jr., 1955, Herder: His Life and Thought, Berkeley: University of California Press.
Coseriu, Eugenio, 2015, Von Herder bis Humboldt, (Geschichte der Sprachphilosophie, Volume 2), Tübingen: Narr Franck Attempto.
Crowe, Benjamin D., 2012, “Herder’s Moral Philosophy: Perfectionism, Sentimentalism, and Theism”, British Journal for the History of Philosophy, 20(6): 1141–1161. doi:10.1080/09608788.2012.731243
DeSouza, Nigel, 2012a, “Language, Reason, and Sociability: Herder’s Critique of Rousseau,” Intellectual History Review 22/2 (2012): 221–240.
–––, 2012b, “Leibniz in the Eighteenth Century: Herder’s Critical Reflections on the Principles of Nature and Grace,” British Journal for the History of Philosophy 20/4 (2012): 773–795.
–––, 2014, “The Soul-Body Relationship and the Foundations of Morality: Herder contra Mendelssohn”, Herder Yearbook 12, Rainer Godel, Karl Menges, and Johannes Schmidt (eds.), Heidelberg: Synchron Wissenschaftsverlag der Autoren, 145–161.
Ergang, Robert Reinhold, 1931, Herder and the Foundations of German Nationalism, New York: Columbia University Press. Reprinted New York: Octagon Books, 1966.
Forster, Michael N., 1998, Hegel’s Idea of a Phenomenology of Spirit, Chicago: University of Chicago Press.
–––, 2010, After Herder: Philosophy of Language in the German Tradition, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2011a, German Philosophy of Language: From Schlegel to Hegel and Beyond, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:osobl/9780199604814.001.001
–––, 2011b, “Genealogy”, American Dialectic, 1(2): 230–250. [Forster 2011 available online]
–––, 2011c, “Ursprung und Wesen des Hegelschen Geistbegriffs”, in Andreas Arndt, Paul Cruysberghs, and Andrzej Przylebski (eds.), Hegel-Jahrbuch 2011, Berlin: Akademie Verlag, pages 213–229.
–––, 2012a, “Bildung bei Herder und seinen Nachfolgern”, in Klaus Vieweg and Michael Winkler (eds.), Bildung und Freiheit. Ein vergessener Zusammenhang, Paderborn: Schöningh.
–––, 2012b, “Herder and Spinoza”, in Eckart Förster and Yitzhak Y. Melamed (eds.), Spinoza and German Idealism, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9781139135139.005
–––, 2012c, “Herders Beitrag zur Entstehung der Idee romantisch”, in Michael N. Forster and Klaus Vieweg (eds.), Die Aktualität der Romantik, Berlin: LIT.
–––, 2013, “Herder’s Doctrine of Meaning as Use”, in Margaret Cameron and Robert J. Stainton (eds.), Linguistic Content: New Essays in the History of the Philosophy of Language, Oxford: Oxford University Press, pages 201–222. doi:10.1093/acprof:oso/9780198732495.003.0011
–––, 2016, “Historicizing Genre: The German Romantic Rethinking of Ancient Tragedy”, in M. Baumstark (ed.), Historisierung: Begriff—Geschichte—Praxisfelder, Berlin: de Gruyter.
· –––, 2017a, “Herder and Human Rights”, in Anik Waldow and Nigel DeSouza (ed.), Herder: Philosophy and Anthropology, Oxford: Oxford University Press.
–––, 2017b, “Nietzsche on Morality as a ‘Sign Language of the Affects’”, Inquiry, 60(1–2): 165–188. doi:10.1080/0020174X.2016.1258146
–––, forthcoming, Herder’s Philosophy, Oxford: Oxford University Press.
Gadamer, Hans-Georg, 1942, Volk und Geschichte im Denken Herders, Frankfurt: Klostermann.
Gillies, Alexander, 1945, Herder (Modern Language Studies), Oxford: Blackwell.
Gjesdal, Kristin, 2004, “Reading Shakespeare—Reading Modernity”, Angelaki, 9(3): 17–31.
–––, 2013, “‘A Not Yet Invented Logic’: Herder on Bildung, Anthropology, and the Future of Philosophy”, in Klaus Vieweg and Michael N. Forster (eds.), Die Bildung der Moderne, Tübingen: Francke-Verlag, pages 53–69.
–––, 2017, Herder and the Enlightenment: The Beginnings of Modern Hermeneutics (1765–1774), Cambridge: Cambridge University Press.
Greif, Stefan, Marion Heinz, and Heinrich Clairmont (eds.), 2016, Herder Handbuch, Paderborn: Fink.
Guyer, Paul, 2007, “Free Play and True Well-Being: Herder’s Critique of Kant’s Aesthetics”, The Journal of Aesthetics and Art Criticism, 65(4): 353–368. doi:10.1111/j.1540-594X.2007.00269.x
Hacking, Ian, 1988, “Night Thoughts on Philology”, History of the Present, 1: 3–10. Reprinted in Hacking 2002: 140–151.
–––, 1994, “How, Why, When, and Where Did Language Go Public?” in Reading After Foucault: Institutions, Disciplines, and Technologies of the Self in Germany, 1750–1830, Robert Scott Leventhal (ed.), pages 31–50. Reprinted in Hacking 2002: 121–139.
–––, 2002, Historical Ontology, Cambridge MA: Harvard University Press.
Harris, H.S., 1972, Hegel’s Development: Toward the Sunlight 1770–1801, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198243588.001.0001
Haym, Rudolf, 1880, Herder nach seinem Leben und seinen Werken, Berlin: Gaertner.
Heinz, Marion, 1994, Sensualistischer Idealismus. Untersuchungen zur Erkenntnistheorie des jungen Herder (1763–1778), Hamburg: Felix Meiner.
––– (ed.), 1997, Herder und die Philosophie des deutschen Idealismus = Fichte-Studien-Supplementa (Volume 8), Amsterdam / Atlanta, GA: Editions Rodopi B.V..
Heise, Jens, 1998, Johann Gottfried Herder zur Einführung, Hamburg: Junius Verlag.
Huber, Thomas, 1968, Studien zur Theorie des Übersetzens im Zeitalter der deutschen Aufklärung 1730–1770, Meisenheim am Glan: Anton Hain.
Huyssen, Andreas, 1969, Die frühromantische Konzeption von Übersetzung und Aneignung, Zürich and Freiburg: Atlantis.
Irmscher, Hans Dietrich, 1973, “Grundzüge der Hermeneutik Herders”, in Bückeburger Gespräche über J.G. Herder 1971, Bückeburg: Grimme, pages 17–59.
–––, 1984, “Grundfragen der Geschichtsphilosophie Herders bis 1774”, in Bückeburger Gespräche über J.G. Herder 1983, Bückeburg: Grimme, pages 10–33.
–––, 1987, “Zur Ästhetik des jungen Herder”, in Sauder 1987: pages 43–76.
–––, 2001, Johann Gottfried Herder, Stuttgart: Reclam.
–––, 2010, “Gegenwartskritik und Zukunftsbild in Herders Auch eine Philosophie der Geschichte zur Bildung der Menschheit”, in his “Weitstrahlsinniges” Denken: Studien zu Johann Gottfried Herder, Würzburg: Königshausen und Neumann, pages 73–84.
Jacoby, Günther, 1911, Herder als Faust, Leipzig: Felix Meiner.
Kelletat, Andreas F., 1984, Herder und die Weltliteratur, Frankfurt am Main: Peter Lang.
Kleingeld, Pauline, 2013, Kant and Cosmopolitanism: The Philosophical Ideal of World Citizenship, Cambridge: Cambridge University Press.
Lindner, Herbert, 1960, Das Problem des Spinozismus im Schaffen Goethes und Herders, Weimar: Arion Verlag.
Lovejoy, Arthur O., 1948, “Herder and the Enlightenment Philosophy of History”, in his Essays on the History of Ideas, Baltimore, MD: Johns Hopkins Press. Reprinted New York: Capricorn Books, 1960, pages 166–182.
Mayo, Robert S., 1969, Herder and the Beginnings of Comparative Literature, Chapel Hill, NC: The University of North Carolina Press.
Maurer, Michael, 1987, “Die Geschichtsphilosophie des jungen Herder in ihrem Verhältnis zur Aufklärung”, in Sauder 1987: pages 141–155.
Meinecke, Friedrich, [1936] 1972, Historism: The Rise of a New Historical Outlook (Die Entstehung des Historismus), J.E. Anderson (trans.), New York: Herder and Herder.
Mühlberg, Dietrich, 1984, “Herders Theorie der Kulturgeschichte in ihrer Bedeutung für die Begründung der Kulturwissenschaft”, Jahrbuch für Volkskunde und Kulturgeschichte, 12 (1984), pages 9–26.
Nisbet, H.B., 1970, Herder and the Philosophy and History of Science, Cambridge, MA: Modern Humanities Research Association.
Norton, Robert Edward, 1991, Herder’s Aesthetics and the European Enlightenment, Ithaca, NY: Cornell University Press.
Otto, Regine and John H. Zammito (eds.), 2001, Vom Selbstdenken: Aufklärung und Aufklärungskritik in Herders “Ideen zur Philosophie der Geschichte der Menschheit”, Heidelberg: Synchron.
Popper, Karl R., 1945, The Open Society and its Enemies, London: Routledge.
Pross, Wolfgang, 1987, “Herder und die Anthropologie der Aufklärung”, in W. Pross (ed.), Johann Gottfried Herder: Werke, Munich: Hanser.
Purdie, Edna, 1965, Studies in German Literature of the Eighteenth Century: Some Aspects of Literary Affiliation, London: Athlone.
Sapir, Edward, 1907, “Herder’s ‘Ursprung der Sprache’”, Modern Philology, 5(1): 109–142. doi:10.1086/386734.
Sauder, Gerhard (ed.), 1987, Johann Gottfried Herder 1744–1803, Hamburg: Felix Meiner.
–––, 2009, “Herder’s Poetic Works: His Translations and His Views on Poetry”, in Adler and Koepke 2009: 305–330.
Sikka, Sonia, 2011, Herder on Humanity and Cultural Difference: Enlightened Relativism, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511783012
Staedelmann, Rudolf, 1928, Der historische Sinn bei Herder, Halle: Max Niemeyer Verlag.
Taylor, Charles, 1975, Hegel, Cambridge: Cambridge University Press.
–––, 1991, “The Importance of Herder”, in E. and A. Margalit (eds.), Isaiah Berlin: A Celebration, Chicago: The University of Chicago Press.
–––, 1996, “Language and Human Nature”, in his Human Agency and Language: Philosophical Papers I, Cambridge: Cambridge University Press.
–––, 2016, The Language Animal: The Full Shape of the Human Linguistic Capacity, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Vollrath, Wilhelm, 1911, Die Auseinandersetzung Herders mit Spinoza, Darmstadt: C.F. Winter.
Wells, G.A., 1960, “Herder’s Two Philosophies of History”, Journal of the History of Ideas, 21(4): 527–537. doi:10.2307/2708100
Wiese, Benno von, 1939, Herder: Grundzüge seines Weltbildes, Leipzig: Bibliographisches Institut.
Willi, Thomas, 1971, Herders Beitrag zum Verstehen des Alten Testaments, Tübingen: J.C.B. Mohr.
Wiora, Walter, 1953, “Herders Ideen zur Geschichte der Musik”, in Erich Keyser (ed.), Im Geiste Herders, Kitzingen am Main: Holzner.
Zammito, John H., 1992, The Genesis of Kant’s Critique of Judgment, Chicago: University ofChicago Press.
–––, 1997, “Herder, Kant, Spinoza und die Ursprünge des deutschen Idealismus”, in Heinz 1997: pages 107–144.
–––, 2001, Kant, Herder, and the Birth of Modern Anthropology, Chicago: The University of Chicago Press.
–––, 2009, “Herder and Historical Metanarrative: What’s Philosophical About History?” in Adler and Koepke 2009: 65–92.
كتابات عامة:
Adler and Koepke 2009 (an excellent collection of articles covering a wide range of topics); Beiser 1987 (ch. 5 covers several subject helpfully, including Herder’s philosophies of language, mind, and religion); Berlin 1976 (concise and excellent); Clark 1955 (detailed and useful, though unimaginative); Forster forthcoming (covers the subjects treated in this article in more detail); Gillies 1945 (not philosophically sophisticated, but good on Herder’s relation to literature and on his influence); Greif, Heinz, and Clairmont 2016 (a useful reference work); Haym 1880 (a classic, detailed intellectual biography; still by far the best general book on Herder available); Heise 1998 (a good short introduction); Irmscher 2001 (an excellent short introduction); Nisbet 1970 (a helpful general account of Herder’s views about science); Sauder 1987 (contains helpful contributions on a wide range of topics); Wiese 1939 (a helpful overview).
أدوات أكاديمية
How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.
مصادر أخرى على الإنترنت
Herder Bibliography, maintained by Tino Markworth.
مداخل ذات صلة
cosmopolitanism | Dilthey, Wilhelm | dualism | egalitarianism | Hamann, Johann Georg | Hegel, Georg Wilhelm Friedrich | hermeneutics | history, philosophy of | Humboldt, Wilhelm von | Kant, Immanuel | Kant, Immanuel: aesthetics and teleology | liberalism | Mill, John Stuart | nationalism | naturalism | Nietzsche, Friedrich | physicalism | rationalism vs. empiricism | relativism | religion: philosophy of | Schelling, Friedrich Wilhelm Joseph von | Schlegel, Friedrich | Schleiermacher, Friedrich Daniel Ernst | skepticism | Spinoza, Baruch | Wolff, Christian
المصدر: https://hekmah.org/%D9%87%D9%8A%D8%B1%D8%AF%D8%B1/