Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

إلياس مرقص المثقف الفيلسوف. قراءة في ترسيمته النظرية

(لامبالاة الفلاسفة تشبه الهدوء السائد في دولة الطاغية، هدوء الموت الذي هو أكثر فتكًا بالإنسان من الاقتتال) ([1]).

جان جاك روسو

 

مقدمة

يروي جان بوتوريل في كتابه الممتع (أعزائي المحتالين) أن فرانسوا ميتران الذي كان قد انتُخب قبل وقت قصير رئيسًا للجمهورية، وتلقَّى من مرغريت تاتشر دعوة لزيارة المملكة المتحدة، طلب أن يلتقي بعدد من مثقفي البلد. أجابه موظفو 10 داونينغ ستريت بأنهم ربما يجدون له كتَّابًا أو مؤرخين أو فلاسفة أو باحثين، ولكن ليس مثقفين.

ويضيف: (المثقفون يتمتعون في فرنسا بمكانة خاصة، يمكن إرجاعها إلى عصر الأنوار. وإرجاع تجذرها إلى إميل زولا وقضية دريفوس. إنهم ليسوا رجال معرفة أو علوم، فحسب. لا شك في أنهم يستطيعون تطوير مستوى المعرفة، وتقليص حدود المجهول، لكن مساهمتهم في قضايا الجدل الذي يخوضه المجتمع هي التي تصنع الفرق، والتي توصلهم إلى مرتبة المثقف المرموقة. يتمتع فولتير بمكانة خاصة لأنه، إضافة إلى مؤلفاته، وقف إلى جانب القضايا الإنسانية العامة باسم الفكرة التي كونها عن العدالة، حين اتُّهم جان كالاس، ذلك البروتستنتي زورًا، بسبب انتمائه الديني، بقتل ابنه ([2]). والتزام فيكتور هوجو السياسي، سواء تعلق الأمر بدفاعه عن الجمهورية، أو نضاله ضد حكم الإعدام، أو تصدِّيه للقضايا الاجتماعية، لا يجعل منه كاتبًا عظيمًا فحسب، بل أحد عمالقة البانثيون الفرنسي.. ولم يكتب مالرو عن الجمهوريين الإسبان وحسب، بل وقف إلى جانبهم) ([3]).

بهذا المعنى لصفة المثقف، وبدلالة المكانة المرموقة التي يحتلها المثقفون أو ينبغي أن يحتلوها، عندنا، ننظر إلى إلياس مرقص بصفته مثقفًا أسهم إسهامًا عميقًا وأحدث فرقًا، في قضايا الفكر والسياسة، في الحركة السياسية السورية بوجه خاص، كالفرق الذي يحدثه المبدعون في مختلف المجالات؛ إذ كان غنيًا عن السلطة والشهرة. علاوة على اهتمامه بالفلسفة وتاريخها تمثُّلًا ونقدًا، وعمله على الارتقاء بمستوى المعرفة إلى أفق العصر، والتزامه المبدئي بالدفاع عن كرامة الإنسان وحريته وعن الحقوق المدنية والسياسية، ووقوفه إلى جانب المفقرين والمهمشين، وتعرية الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي جعلتهم كذلك. فلعله أول مفكر سوري، وقد يكون أول مفكر عربي، بحسب ما نعرف، فسَّر الانحطاط والركود والاستبداد الكلي، بتدهور الشرط الإنساني عمومًا، وتدهور شرط المرأة، أو الشرط النسوي، على الخصوص. ومن ثم، فهو أول مفكر سوري، بحسب ما نعلم، وضع الإنسان، الفردَ الإنسانيَّ العيانيّ، الرجلَ والمرأةَ، على السواء، في مركز اهتمامه ومركز منظومته الفكرية التي نحاول تعيين إحداثياتها من خلال الخرائط المتتالية التي كان يرسمها فكره النيِّر، في أثناء حواراته ومقارباته، وسجالاته أيضًا، مع الاتجاهات الفكرية السياسية، ومع الأحزاب والتيارات الشيوعية والقومية.

ولا نخفي أن غايتنا من هذا التفريق انتشال صفة المثقف من درك الإسفاف والابتذال اللذين بلغتهما في ظل الاستبداد والتسلط، وكلبية المستبدين والمتسلطين كبارًا وصغارًا الذين لا يعرفون سوى أن يحكموا، وينهبوا، وتماهي (فقهاء) السلطة، على اختلاف أشكالها، بسادتهم وأولياء نعمتهم. لذلك، رأينا في إلياس مرقص نموذجًا للمثقف الفيلسوف يُحتذى به على صعيدي المعرفة والأخلاق، ويُنتقَد أيضًا.

هموم إلياس مرقص، المثقف المهموم، انبثقت من سورية، بلا شك، من سورية، ومن العالم العربي، من الجمهورية العربية المتحدة، وما حملته من آمال، ومن انفصال شطريها، من هزيمة حزيران (1967) وما تلاها من هزائم، سميت انتصارات، وانبثقت بوجه خاص من إدراكه العميق لتدهور الشرط الإنساني. لكنَّ سورية في العالم، وفي التاريخ. رؤيته تجاوزت سورية والعالم العربي، من أجل سورية والعالم العربي، أو العالم الإسلامي، وكلهم في العالم والتاريخ، كلياتٍ عينيةً، في كلية عينية كبرى هي الجماعة الإنسانية، وهذا ما سماه الفيلسوف الألماني كنت (الاستعمال العمومي للعقل)([4])، وهو مبدأ الحياة الأخلاقية، ومبدأ الاستنارة والتنوير. هذا المبدأ أساسي، إن لم نقل إنه المبدأ الأساس في فكر إلياس مرقص، مبدأ الكونية والمعاصرة، كما ستبين هذه المقاربة.

كلمة العقل في عبارة كنت وفي منظومة مرقص، لا تنفي إمكان خطأ الذات، فالعقل ليس معصومًا عن الخطأ، كما صورته خطابات (العقل والعقلانية)، وحوَّلته إلى مقولة تفاضلية، وجعلت من (العقل الغربي) مرجعية معيارية، ومن (العقل البرهاني) نموذجًا أعلى، في الثقافة العربية، بغض النظر عن شروط الحياة الإنسانية، مع أن (العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس) حسب ديكارت. العقل وحده، مفصولًا عن الأخلاق، لا يتجه بالضرورة نحو الحق والخير والجمال، أو نحو العدالة والفضيلة. فلعل مزية إلياس مرقص، اقتران العقل والأخلاق في فكره وممارسته، انطلاقًا من المبدأ، مبدأ (استقلال الوجدان وحرية الضمير)، ومبدأ (الجهاد الأكبر)، أو مراجعة الفكر على الواقع، والأهداف على النتائج.

هل أخطأ إلياس مرقص في هذه القضية أو تلك، في هذا الموقف أو ذاك؟ لو كان بيننا، وسألناه، لقال: أجل. فقد كان يرى أن للخطأ قيمة بيداغوجية، تعليمية وتربوية وأخلاقية، على الرغم من كونه جرحًا معرفيًا وأخلاقيًا، في العقل والضمير، لا يُعالج إلا بنقد الذات، وأن له مصدرين: مصدر معرفي، ومصدر اجتماعي – اقتصادي سياسي. وكان يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن معرفة الإنسان ناقصة دومًا، وما من معرفة تامة سوى تلك المكتوبة في الغريزة (المعلومات المنقوشة في الشفرة الجينية للكائن الحي). المعرفة الناقصة، معرفة الإنسان، مفتوحة على التجدد والنمو إلى ما لا نهاية. وكان يقول: (إما أن نريد الفكر وإما ألَّا نريده، إذا كنا نريده فأهلًا وسهلًا بالخطأ، وأهلًا وسهلًا بالباطل، ولننفه بالدحض من أساسه، منهجيًا، بالتناصت والتجابه والمتابعة، ومن حق أي إنسان أن يخطئ) ([5]).

عندما واتاني الحظ وتعرفت به عام 1970، وكنت قد فرغت للتو من قراءة كتابه (نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن)، وكنت معجبًا به أي إعجاب، ذكرت له ذلك في أول حديث بيننا في بيته باللاذقية، فقال: (لقد استعملت النفي، في هذا الكتاب، ولكنني لم أصل إلى نفي النفي)، ففهمت أنه لم يعد راضيًا عن الكتاب أو عن بعضه. سبب ذلك، ربما، أن فكر لينين كان ما يزال، حتى ذلك الوقت، نموذجًا مرجعيًا لنقد ستالين، وقد أفاض مرقص في نقده، بل في تفنيده.

ربما فوَّت إلياس مرقص، وصديقه ياسين الحافظ، اللحظة الليبرالية في سورية، بعد تجربتهما القصيرة في الحزب الشيوعي، وتأثرهما بما أسمياه (المناخ (النهضوي)، الذي دشنته ثورة 1952 في مصر، فانتقلا من قضية أممية، ما فوق سورية، إلى قضية (قومية)، ما فوق سورية (sup Syrian)، ولكنهما، رأيا في الثورة المصرية ما هو أهم وأبعد من السطح السياسي. رأى مرقص أن الثورة نقلت مصر من مجتمع الـ 2,5 بالمئة إلى المجتمع المصري الكلي، بإجراءات الإصلاح الزراعي والتأميم، وإدماج الكتلة الشعبية التي كانت مهمشة ومستغلة وهامدة أو غير مرئية، في عالم الثقافة والسياسة، وعدّا بناء سد أسوان، وشق قنوات الري، وتوليد الكهرباء ووضع مصر على سكة التصنيع، إضافة إلى (تسييس الشعب)، إرهاصات بثورة اشتراكية تنجز مهمات الثورة الديمقراطية. لذلك قرر مرقص والحافظ الوقوف إلى جانب عبد الناصر مع النقد (التحالف مع النقد). ولكن هذا الأخير، أي النقد، أدى بعد هزيمة 1967 إلى استعادة الليبرالية ماركسيًا ووطنيًا ووحدويًا ([6])، وأكاد أقول استعادة النسغ الحي في الماركسية والمسالة القومية على السواء، أعني الإنسية والعقلانية العقلانية ([7])، أو العقلانية النقدية، والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المواطِنة والمواطن، والمجتمع المدني (البورجوازي)، على قاعدة الإصلاح الزراعي والتصنيع، وسيرورة الاندماج الاجتماعي.

لموقف مرقص والحافظ من الناصرية جذر شعبي، قوامه الرهان على حركة شعبية واسعة، تتصدى لفعل تاريخي كلي، (ثورة قومية ديمقراطية ذات أفق اشتراكي)، يقول مرقص: (… الجماهير بحسب تعريفي هي الكتل الشعبية الكبرى زائد فكرة التقدم، (والتقدم عنده هو النمو، النمو الإنساني، أو التنمية الإنسانية الشاملة)، بهذا المعنى، أصر على أن العصر الناصري والحركة الجماهيرية الناصرية هي الكتل الشعبية الكبرى زائد فكرة التقدم. وهذا التعريف هو مدخل لفهم تلك المرحلة وتلك الحركة والأخطاء المرتكبة في المستويات المختلفة) ([8]).

لا تُنكر على إلياس مرقص حماسته للتقدم، ولكن يمكن أن يؤخذ عليه أنه لم يتنبه للظاهرة الجماهيرية، بما هي مَعْلم من معالم التسلطية أو التوتاليتارية التي بدأت تتشكل في قلب النظام الناصري، واستطالته البدوية الليبية، ثم في نظام البعث في سورية والعراق. الحماسة تحجب النظر، ولعلها نوع من التعصب الإيجابي، إذا جاز التعبير. ولكن مرقص والحافظ ميزا عروبة عبد الناصر من قومية البعث (المشرقية، العنصرية)، وبادرا إلى نقدها وتفنيدها، ونقد سلطتها وسياساتها. وفي الأحوال جميعها، حين بزغت الناصرية وصعد نجمها لم يكن إلياس مرقص قد شفي بعد من الدوغمائية الماركسية اللينينية الستالينية. فقد اعترف بشجاعة تحسب له بأنه كان دوغماتيًا في مرحلة من مراحل حياته الفكرية والسياسية، (من منا لم يكن كذلك في يوم من الأيام، على افتراض أننا لسنا كذلك اليوم؟) لعل مرد ذلك الظن الذي ما يزال سائدًا أن العقيدة هي ما يوحد الجماعة والحزب، وما يوحد الأمة.

مقدمات الرؤية الفلسفية

من أبرز المسائل التي يحسن التوقف عندها لاستكشاف البنية الفلسفية الباطنة في أعمال مرقص، مسألتان أساسيتان وتأسيسيِّتان، تبنى عليهما المسائل الأخرى سائرها. أولاهما مسألة (منطق التاريخ ومعقولية الواقع)، والثانية مسألة المعرفة/ العمل. في الأولى يقول إلياس مرقص: (البشر ينتجون وجودهم الاجتماعي (الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي)؛ هذا الإنتاج خاضع لمنطق، وله تاريخ. وجود البشر مُنتَج، ناتج، نتيجة: مجتمعهم ناتج ونتيجة؛ لا وجودهم ولا مجتمعهم بدهية أصلية) ([9]). ويتبنى موقف إنغلز من قولة هيغل: (كل ما هو واقعي عقلي، وكل ما هو عقلي واقعي)، وكان هيغل قد ذهب إلى أبعد من ذلك، في قوله: الشكل، في مغزاه الأعمق، هو العقل، بوصفه معرفة نظرية، والمضمون، في مغزاه الأعمق، هو العقل، بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان الواقع فيزيقيًا أم أخلاقيًا). ولكن مرقص كان يركز على تعريف الواقع بأنه إمكاني أو احتمالي، وهذا فارق جوهري عن الهيغلية، وعن الماركسية (العلمية) أيضًا، فقد أخذ مرقص بمقولة هايزنريرغ: (عشوائية الصغائر تحمل انتظامية الكبائر)، ومقولة اتصال الزمان والمكان عند آينشتاين.

أجل، البشر ينتجون أشكال وجودهم، الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، ويصنعون تاريخهم؛ لكنهم لا يصنعون تاريخهم، ولا حتى أشكال وجودهم، على هواهم، بحسب مأثور ماركس، ولا ينجحون، في تحسين أوضاعهم أو تغييرها، إلا إذا توافقت حركتهم العامة مع منطق التاريخ وممكنات الواقع. البشر كافة هم من يفعلون ذلك، أفراد الجماعات البشرية نساءً ورجالًا، لا (الأمم)، ولا (الشعوب)، ولا (الدول) ولا الملوك و(العظماء)، ولا أي قوة مفارقة لفكر البشر وعملهم. الأمم والشعوب والدول نتيجةُ إنتاجِ البشر أشكال وجودهم، ومعها الأديان والعقائد والمذاهب والعلوم والتقنيات والآداب والفنون وما شئتم. هذا، كي لا يدخل في الأوهام أن شخصًا يمكن أن يبني دولة ([10])، أو أن يؤسس (شعبًا) أو (أمة)، كما هو مألوف في أيديولوجياتنا وسردياتنا. البشر يصنعون عالمهم، عالم الإنسان، مجتمعاتٍ ودولًا؛ العالم غير الطبيعة. العالم مصنوع من فكر البشر وعملهم، ومجبول بلحمهم ودمهم. المجتمع هو الإنسان مموضعًا، وكذلك الدولة (ماركس). المجتمعات تنتج السياسة أو فنون التدبير، وتنتج السلطات، على أنواعها، وتنتج الدول. الأمم والشعوب والدول ليست بدهيات أصلية، ليست جواهر بلا أعراض متغيرة أو ماهيات بلا أشكال متغيرة، وليست أزلية وأبدية، أو خالدة. الأمة نسيج تاريخي من علاقات اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، متغيرة على الدوام، والدولة شكل وجودها السياسي والأخلاقي.

الأمة نتيجة؛ (النتيجة)، الناتج، مقولة في (الموضوعي). التاريخ، تاريخ الإنتاج الاجتماعي للحياة الإنسانية، هو تاريخ الشغل، وتنويعة على أشكال الشغل الواعي والهادف. التاريخ هو فاعلية البشر ونتائج أفعالهم، (توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى). هذه مقدمة أولى وأولية، لرفع السحر عن العالم، وتعيين مسؤولية الأفراد عن إنسانيتهم أولًا، وعن مجتمعاتهم وأوطانهم ثانيًا، وعن بيئتهم، بما هي شرط وجوهم ثالثًا، وعن مصير الإنسانية أخيرًا، وهذا من أبرز معاني التنوير.

نميل إلى الظن بأن وجود البشر المادي بدهية أصلية، أو معطى طبيعي، أو نتاج الطبيعة، وقد حدس بذلك الأقدمون (الإنسان حيوان عاقل)، لكن أشكال وجودهم ليست كذلك، ليست بدهيات أصلية. فليس هنالك وجود خالص أو مطلق؛ الوجود الخالص عدم خالص، بحسب هيغل؛ الوجود المُعيَّن انوجاد، نتوج، تشكُّل، تموضع، بلغة مرقص، ولا يكون تشكُّلٌ وانحلالٌ وتشكلٌ جديدٌ.. من دون وحدة الوجود والعدم، في (كليَّة عينية)، هي الكائن، بصفته وحدة الوجود والعدم، وحدة الحياة والموت، وحدة الشكل والمضمون، وحدة الروح والمادة، وحدة الفرد والنوع، وحدة الأنوثة والذكورة. الوحدة هوية اختلاف؛ والاختلاف هو وحدة الحرية والضرورة.

البشر كائنات طبيعية تحافظ على حياتها غريزيًا، وتعيد إنتاجها غريزيًا، (ضرورة طبيعية)، لكنهم يمتازون من سائر الكائنات الحية بأنهم يغيِّرون أشكال وجودهم، ويغيِّرون أشكال الطبيعة ذاتها، أمهم الأصلية، أو مصدر وجوهم (حرية مدنية). الحرية المدنية ليست محض (وعي الضرورة)، بل العمل على الانفكاك من إسارها، أي إنها نفي الضرورة، نفيًا إيجابيًا، قوامه إنتاج ضرورة جيدة، وهكذا، إلى ما لا نهاية. لكن وعي الضرورة، بل فهمها وعقلها مقدمة لازمة في كل مرة.

لا نظن بأن مرقص يقول غير ذلك: وجود البشر منتَج طبيعي، ناتج طبيعي، ووجودهم الاجتماعي منتَج تاريخي، ناتج تاريخي، وليس بداهة أصلية، وكل ناتج صائر. يمتاز البشر بقدرتهم على التحسُّن الذاتي، وتجاوز أوضاعهم، أو تغيير شروط حياتهم باطِّراد، هنا تتموضع الحرية. البشر يحسِّنون أنواع النبات والحيوان، وهم يتحسَّنون بقدراتهم الذاتية. سيرورة التحسُّن الذاتي المطَّرد، مع انتكاسات وتراجعات من حين إلى حين، هي قوام التاريخ.

تاريخ أي مجتمع يصنعه أفراد المجتمع كافة، ذكورًا وإناثًا، رجالًا ونساء، بالتساوي، أجل بالتساوي في القيمة النوعية، لا الكمية، للعمل البشري المجرَّد، عمل الرأس واليدين، لا العمل المشخَّص. وهو ليس تاريخ الملوك والأباطرة والخلفاء والأمراء والسلاطين، ولا تاريخ الأنبياء والقديسين. هذه المقدمة ضرورية للتفكير في السرديات أو الحكايا المسماة تاريخًا ونقدها، ولنقد مقولة (دور الفرد في التاريخ)، (نابليون أو ستالين أو هتلر أو حافظ الأسد)، ونقد الكاريزما المنسوبة إلى أفراد بأعيانهم، وتحطيم الأوثان وطرد الأشباح؛ إذ لكل فرد دور في التاريخ، إيجابيًا كان هذا الدور أم سلبيًا، نشطًا كان الفرد أم هامدًا، منظورًا أم غير منظور، من (الخاصة) أم من (العامة)، مع أخذ واقع الاختلاف والتفاوت في الحسبان، وإلا كيف يتقدم هذا المجتمع ويتأخر ذاك؟ مقولة دور الفرد في التاريخ مستخلصة من تاريخ بطركي، استبدادي، مؤسس على التفاوت والتفاضل والامتيازات ومنطق القوة والغلبة والضعف والمغلوبية، وعلى الاصطفاء الاجتماعي القائم على هذه الأسس ذاتها.

حين يتحدث إلياس مرقص عن الفكر، يتحدث عن (فكر الناس) الذين يتوافرون على استعدادات وملكات متساوية، يرجع تفتحها أو كبحها إلى شروط الحياة الاجتماعية، على اختلاف أشكالها. وحين يتحدث عن العمل، يتحدث عن (عمل الناس)، وعن الجذور الشعبية للفلسفة. الماركسية، في نظره: (ترد الاعتبار للحلم، للخيال، للحدس، للشعور، للعاطفة، لما كان يُعتبر في الفلسفة الكلاسيكية (أقارب فقراء) للعقل. الماركسية تردّ الاعتبار للمعرفة الشعبية، لمعرفة الإنسان العادية، تُسقط أرستقراطية (المعرفة) و(العلم) … (نحن بالطبع مع الاعتقاد الشعبي (الساخن والبارد والأحمر والمالح موجود ونيِّف) ومع نقد كلمة موجود وكل الكلمات. نحن هنا مع التجربيّة الشعبية ضد التجربية الفلسفية، بما فيها ديموقريط، ولكننا مع نقد كلمة وجود وكل الكلمات) ([11]). المقولات والمفاهيم الفلسفية، عنده، ذات أصل شعبي، (جميع المقولات الفلسفية ذات أصل شعبي وعامي، وهي مقولات كبرى وشعبية جدًا، ويكررها الناس يوميًا، لكن الفلاسفة حوَّلوها. المادة بالفرنسية القديمة كانت تعني الحطب وعند الألمان المادة (شتوف Staff) تعني القماش، لكنها لم تعد تعني ذلك، مع أن كلمة شتوف (Stoff) بقيت تعني القماش..) ([12]).

المفهومات المركزية في ترسيمة إلياس مرقص هي: 1 – الإنسان (الفرد الإنساني، الرجل والمرأة، مجموع علاقاته وعلاقاتها الاجتماعية، وعالم الإنسان، أي المجتمع والدولة، في الوقت نفسه، إذ لا وجود اجتماعيًا للفرد الإنساني خارج المجتمع والدولة والجماعة الإنسانية، المجتمع والدولة هما الإنسان مموضعًا). 2 – التاريخ (توقيع الممكنات) 3 – التقدم (النمو والتحسن الذاتي)، وهذه الثلاثة مؤسسة على:

الروح، الفكر، النفس، الجسد، بكلمة واحدة ومعنى واحد (الإنسان)،

الشغل – العمل، (التاريخ)،

الإنتاج – التملك، (التقدم). والممارسة (براكسيس) هي المحك والمرجع، بصفتها شكل التوسط بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان.

تملي علينا قراءتنا مفهومًا آخر هو الفعل أو الفاعلية، بهدف استحضار الانفعال والانفعالية أو الجانب العميق، المغمور من الذاتية، القاع الذي تتشكل فيه إمكانات الفعل. لأننا، بخلاف ما هو شائع من تقليل قيمة الانفعال، نرى أنه هو ما يهيئ إمكان الفعل، إذ لا فعل بلا انفعال. ولهذا، في ظننا، أهمية قصوى في واقعنا المعيش، إذ يُنسب الفعل إلى الرجل، أو إلى الذكر عمومًا، والانفعال إلى المرأة أو إلى الأنثى عمومًا. ما يبرر هذه القراءة أن الإنسان فاعل بذاته، (مثل الله)، ومنفعل بغيره. من دون هذا الانفعال المحمول على العلاقات المتبادلة بين البشر والناتج منها، لا تكون أفعال الإنسان سوى أفعال غريزية، لتلبية حاجاته الطبيعية، أفعال ذات بلا آخر وأخرى أو هوية بلا ذات: عربي، مسلم، مسيحي، بعثي، شيوعي.. إلخ. لذلك يقال: الإنسان، الفرد الإنساني، هو (مجموع علاقاته الاجتماعية)، وهذه تتضمن علاقته بالطبيعة، التي غدت علاقة اجتماعية هي أيضًا.

التاريخ، تاريخ الإنتاج الاجتماعي لحياة البشر، هو تاريخ الشغل بوصفه الشغل العبدي. (اللحظة) المعنية منطق واقع وتاريخ. إنها في الديمومة والتوالي في كونية البشر، التي هي بسط في المكان والزمان (في المكان – الزمان). الانتقال من (قتل الإنسان والتهامه إلى أسره واستعباده)، من استهلاك لحمه إلى استهلاك قوة شغله، (هذا الانتقال) كان على امتداد آلاف السنين تقدمًا كبيرًا في كل مكان. إنه انطلاق التاريخ: الإنسان يخرج من الهمجية، من الحالة الغابية أو البرِّية.. قصة إبراهيم رمز ديني كبير، الأضاحي البشرية بقية تذكِّر بالهمجية الأولى، ولعلها لازمت الحضارات الكبرى جميعها في مختلف القارات. قصة إبراهيم تعلن انتهاء هذه البقية ([13]).

مقارنة ما تقدم بترسيمة (المراحل الخمس)، أو بترسيمة أوغست كونت (المرحلة الأسطورية – المرحلة الميتافيزيقية – المرحلة الوضعية)، قد تبيِّن معنى الرؤية التاريخية، والوعي التاريخي. العبودية مستمرة، حتى يومنا، في النظام الرأسمالي، وكانت كذلك في النظام الاشتراكي، وما تزال في بقاياه، يسميها المفكرون المعاصرون (العبودية الخفية)، علاوة على (العبودية الطوعية)، عبودية الإنسان لمنتجات فكره، تحت مقولة الإنسان الخليقة، لا الإنسان الخالق. على الرغم من (الثورة العلمية والتقنية)، والانقلاب الهائل للشغل في زمننا. يتساءل مرقص: (هل ينتهي (الشغل) ويتحول إلى (عمل)؟ هل ينعتق الإنسان من الشغل / العبء ويمضي إلى أمر شغلي أكثر ذاتية وإنسانية؟ التقنية تمكّن من ذلك. لكن الأمر مرهون بشيء غير التقنية‍‍ وهو في صلب سؤال الراهن).

المسألة الثانية مسألة المعرفة / العمل؛ المعرفة عمل بالقوة، والعمل معرفة متحققة بالفعل؛ العمل المشخص، من العمل المنزلي إلى العمل الصناعي، مرورًا بالعمل الزراعي وسائر الحرف، هو محكُّ المعرفة ومُختبَرُها، وعاملُ تصويبها وتصحيحها ومرجعُ نقدها. هذا أساس فكرة الممارسة (براكسيس) وحدٌّ عليها. ولكن لا معرفة إلا بالكليات. مفردات اللغة جميعها كليات، لا يمكن التعبير عن المفرد إلا بها، مع إشارة أو وصف أو إضافة أو إسناد.. إلخ. الكلمة التي تنسى أنها كلمة، تستمد دلالاتها مما تدل عليه أولًا، ومن علاقاتها بغيرها من الكلمات والأدوات، في الجملة ثانيًا، تتحول إلى وثن. الاسم، الرمز الذي ينسى أنه اسم ورمز يتحول إلى إله. رسالة إلياس مرقص هي التحرر من سحر الكلام، ووثنية المعرفة، وصنمية الفكر أو دوغمائيته، ولا فرق. نظن بأن سحر الكلام ووثنية المعرفة، عندنا، هما سر انقطاع المعرفة عن العمل، وغلبة مفهوم الشغل – الكدح والشقاء- الذي لا يجد الفرد ذاته الإنسانية إلا خارجه.

بالعمل، بالتجربة (الشعبية والعلمية)، بالممارسة (براكسيس) يتملَّك الإنسان عالمه، يؤنسن الطبيعة، فتصير الطبيعة إنسانية، كطبيعته الإنسانية، فلا ينفصل، مذ ذاك، تاريخُها عن تاريخه. الطبيعة التي هي موضوع للفكر والعمل وموضوعات الفكر والعمل سائرها تصير نسيج الذات الإنسانية، (تتذوَّت)، الطبيعة تتذوَّت، المادة تتذوَّت، والذات تتموضع (تتمودد). تموضع الذات شرط تذوُّت المادة. بقول آخر، لا ذات بلا موضوع. الذات بلا موضوع وعاء فارغ، ولكن قبل ذلك، لا ذات بلا أخرى وآخر، لا ذات بلا ندٍّ لها مختلف عنها، اختلاف الذوات هو مصدر الديالكتيك الإنساني أو الأخلاقي، مثلما اختلاف الذات عن الموضوع هو مصدر الديالكتيك المادي، ومبدأ البراكسيس. ثمة نكهة كنتية – هيغلية – فيورباخية في هذا الكلام، لا شك في ذلك، ولكن النكهة الماركسة أظهر، في الكتاب الأول من رأس المال: السلعة عمل متبلور؛ قيمتها التبادلية، في السوق، هي وقت العمل اللازم اجتماعيًا لإنتاجها؛ العمل أبو القيمة، والطبيعة أمها، العمل – الإنتاج، بالمعنى الواسع للكلمة أبو جميع القيم الاجتماعية، لذلك يصير المجتمع المصدر الوحيد للقيم، مثلما الطبيعة هي المصدر الوحيد للمعرفة. هذا هو مغزى العلمانية، قبل أي شيء آخر ([14]).

في ضوء هذه المقدمات، نزعم أن إلياس مرقص كان فيلسوفًا ماركسيا ديمقراطيًا، جدليًا، على صعيد المنهج، أو نظرية المعرفة؛ مع ماركس ضد ماركسية الأحزاب الشيوعية، ومع لينين ضد (اللينينية)، وضد (الماركسية اللينينية الستالينية)، وضد الستالينية بوجه خاص. ومع المنهج الجدلي (الديالكتي) ضد المذهب الوضعي، وضد التمذهب والانغلاق. (وصيته) الأخيرة، إذا جاز التعبير:

(على أي مفكر عربي جدي، أيًا كان ميدانه وأيًا كان عمله، وأيًا كان، بالتالي، خطابه إلى الناس، أن يختار، من المبدأ والمنطلق: إما الجدل، وإما الوضعانية والعلموية…إلخ. وهذا بالتلازم إما الديمقراطية وإما الليبرالية. وهو أيضًا، تحت المقولة الماركسية ولافتتها: إما الماركسية، وإما الاقتصادوية والميكانيكية والتجريبية، الدوغمائية و(كره الميتافيزيك). وبطبيعة الحال، بعد ذلك: وحدَه الجدلُ ينصف الفكرَ الوضعي الإيجابي، ووحده الموقفُ الديمقراطي ينصف الموقفَ الليبرالي. لا ديمقراطية بحذف الليبرالية. ولا معنى للنفي إذا لم يكن ولم يصر إيجابًا. ضد قبول العالم وضد نفيه المزعوم، ثمة موقف روحي وفكري واجب، هو النفي الإيجابي للعالم) ([15])، لكي يكون العالم لائقًا بالإنسان.

أسئلة مفتوحة

قراءة إلياس مرقص، اليوم، مناسبة لطرح الأسئلة، أسئلة الواقع التي طرحتها ثورات الربيع العربي، والأسئلة أهم من الأجوبة دومًا.

السؤال الأول: ما الأثر المُدرَك أو الآثار المُدرَكات اللاتي أحدثتها الماركسية في فكرنا وثقافتنا، وهل فلسفة ماركس مرجع من المراجع الضرورية، اليوم، لفهم عالم الحاجات والغايات وتدبير المصير، أو بصيغة أكثر عمومية، هل الفلسفة ضرورية اليوم لفهم عالم الحاجات والغايات وتدبير المصير؟ نقصد بالماركسية، وبالفلسفة عمومًا، رؤية مؤسَّسة على معقولية الواقع ومنطق التاريخ ومبادئ المساواة والحرية والعدالة، رؤية مبدؤها الإنسان وغايتها الإنسان، وفكر مبدؤه الكلمة وغايته الواقع. أو رؤية مؤسسة، ربما، على إدراك العلاقة بين الواقع والتاريخ. ولا أدري إذا كان ممكنًا اعتبار (الحاضر) مرادفًا لـ (الواقع) ومسرحًا للتاريخ، مفهومًا فهمًا صحيحًا، إذ الحاضر هو (اللحظة التي تملأ الوجود). نقصد بالفهم الصحيح للتاريخ تمثُّل مفهوم التاريخ على أنه (توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى)، بفاعلية البشر الواعية والهادفة، أو سيرورة / سيرورات النفي ونفي النفي). (توقيع الممكنات)، بتعبير إلياس مرقص، وهو تعبير ذو إيحاء أرسطي، يحيل على مقولتي: الوجود بالقوة والوجود بالفعل (إلياس يقول الانوجاد)، ويضع مبدأ الاحتمال، بدلًا من الحتمية والسببية البسيطة. ونقصد بفكرنا وثقافتنا ممارستَنا المعرفية والعملية: الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. يتعلق الأمر كله بالرهان الديمقراطي، بالمعنى الماركسي([16])، بصفته سمةَ عصرنا، وقضيتَه العامة، وأحد ممكنات واقعنا.

السؤال الثاني: هل من وجاهة في معارضة المذهب الوضعي، مذهب أوغوست كونت وتلاميذه وأتباعهم، وعلموية الماركسيين الدوغمائية (المذهبية أو العقدية)، بالديالكتيك (المادي – الروحي) والنفي الإيجابي للعالم، ونفي النفي؟ لقد صار ضروريًا إبراز الوجه الروحي (الإنساني) للديالكتيك، من خلال العلاقة الديالكتية بين الذات وتجلي ماهيتها الإنسانية في الأخرى والآخر، وتوديع الرؤية (الماديانية)، الوحيدة الجانب، للعلاقة الانعكاسية بين الذات والموضوع، المناسبة تمامًا، والمناسبة فقط، للاقتصاد السياسي. ندعي أن العلاقات المتبادلة بين الأفراد، ذكورًا وإناثًا، حاكمة على علاقاتهم بالأشياء وعلاقاتهم بالطبيعة وسيرورة أنسنتها، ولا يجوز، بأي حال من الأحوال، عدّ العلاقات الاجتماعية علاقات بين ذوات وموضوعات، لأنها علاقات بين ذوات وذوات فقط، فلا يسوغ أن يكون الإنسان موضوعًا لأي قوة خارجية وأي سلطة خارجية، بما في ذلك قوى الطبيعة.

من يرى أن الإنسان موضوع لقوى الطبيعة يفترض أن الطبيعة غائية كالإنسان. السماء لا تمطر من أجلنا، ولا تحرمنا من المطر، والعواصف ليست عملًا عدوانيًا تقوم به الطبيعة ضد البشر.. وهكذا. الطبيعة لا تتغيَّا سوى ذاتها. المشترك بين الإنسان والطبيعة الأولية هو القدرة الذاتية على الخلق والتجدُّد. ثمة فارق جذري بين فكرة الإنسان الخليقة، الإنسان الموضوع والأداة والوسيلة، وفكرة الإنسان الخالق، الإنسان الذات، الحر/ة حرية نسبية أو مدنية، والمستقل/ـة استقلالًا نسبيًا.

كل علاقة بين ذات وذات تُظهِر وجهًا أو أكثر من وجوه الذات، وبعدًا أو أكثر من أبعادها. في هذا السياق، نعد مبدأ التذاوت الجدلي وجهًا آخر إنسانيًا واجتماعيًا للبراكسيس. لقد فتح إلياس مرقص أمامنا هذا الأفق الإنساني، بمقولات: الروح، التملُّك، العمل التي اختُزلت في التناقض بين العمل ورأس المال، فلم يعد العمل (خاصية الإنسان المميزة) (ماركس) ومصدر القيم الاجتماعية والإنسانية الحاكمة على القيمتين: الاستهلاكية والتبادلية، ولم يعد شكل التوسط بين الذات والموضوع، إذ تحولت الذات إلى زائدة لحمية ملحقة بالآلة، ولم يعد العمل تملكًا روحيًا للعالم، بل تدنى إلى مستوى الكدح، وهذا شكل من أشكال الشقاء الإنساني، الذي يستدعي الأساطير والخرافات، ويستدعي الدين والعقائد الخلاصية.

السؤال الثالث: هل من علاقة بين الديمقراطية و(نظرية المعرفة)؟ أو بصيغة أخرى، هل ثمة نظرية معرفة ديمقراطية، يمكن أن تفيدنا في فهم الأوضاع السورية، من أجل تجاوزها، وهل الديالكتيك الروحي هو هذه النظرية أو صلبها؟ إضافة إلى وحدة الكينونة والصيرورة، إذ الأولى لحظة في مجرى الثانية، مثلما الوضعية الإيجابية لحظة من لحظات الديالكتيك، يمكن القول إن نظرية المعرفة الديمقراطية تتلخص في المبدأ القائل: لكي يطيعنا الواقع يجب أن نطيعه، مع الإشارة إلى أن هذا القول يحتمل تأويلين متناقضين: أولهما الإذعان لـ (الواقع) والاستسلام لمنطق التطور الموضوعي، والثاني توجيه المعرفة إلى استشفاف ممكنات الواقع واتجاهات حركته، والعمل على ترجيح أفضلها، ما يلبي حاجات المجتمع وتطلعاته بفعل جماعي مستنير. نظرية المعرفة الديمقراطية هي طريقة إنتاج الحقيقة اجتماعيًا وتشاركيًا، والعمل بمقتضاها. هذه العملية تقتضي توفير مساحة/ مساحات أخلاقية للحوار والمناقشة العامة في مسائل المعرفة وقضايا الواقع، استنادًا إلى منجزات الفكر البشري والخبرة الإنسانية، وتستلزم خطوتين متكاملتين: الأولى هي التوافق على وصف الأحداث والوقائع وتحديد الظواهر، من زوايا نظر مختلفة ومواقع مختلفة، بغية الإحاطة بجوانبها جميعها. والثانية مناقشة التأويلات المختلفة أو القراءات المختلفة للواقعة الواحدة أو الظاهرة الواحدة اعتمادًا على الأدلة والحجج العقلية المقبولة من الجميع، ما يسمح بالتوصل إلى رؤية مشتركة تكون أساسًا لعمل جماعي، ومرجعًا تشاركيًا لترشيد السياسات وتصويب المواقف. تحيلنا هذه العملية على تعلق إلياس مرقص بفكرة (السَّاحة العامة) اليونانية، (الأغورا) التي كانت تُناقَش فيها المسائل العامة، وتتعزز فيها روح المواطنة. الساحة في مقابل القصر، وحدٌّ له، وحدٌّ عليه.

السؤال الرابع: هل يمكن عدّ مفهوم التملُّك، تملُّك العالم بالمعرفة والعمل، الذي تُعدُّ الملكية الخاصة من أبرز أشكاله، الأساس الذي تقوم عليه تصوراتنا المفهومية، تصورات المفكرين والمثقفين وسائر الناس من الرجال والنساء؟ وهل يحيلنا ذلك على التضامن التاريخي بين الملكية الخاصة والسلطة، ودور الدين، وغيره من العقائد في تبريرهما، لإطلاق إمكان العدالة الاجتماعية أخلاقيًا وعمليًا؟ بقول آخر، هل تقتضي الأوضاع الراهنة العودة إلى مفهوم الاغتراب كما بسطة فويرباخ وأنضجه ماركس، في مخطوطات 1844، وفي رأس المال أيضًا، كما نزعم، لتفكيك الهويات القاتلة وإعادة المنزلة للإنسان الفرد، ذكرًا وأنثى، بصفته (النموذج الكامل للإنسان)، وأساس التنمية الإنسانية الشاملة وغايتها؟

السؤال الخامس: هل يسوغ التفكير في المجتمع المدني، من دون مقاربة السؤال السابق، وتفكيك البنى البطركية، وموضعة الحرية في علاقات أفقية وشبكية بين الأفراد والجماعات؟ وهل يكفي النظر إلى المجتمع المدني بوصفه (جماعة منظمة سياسيًا)، من دون أخذ التعارض الجدلي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في الحسبان؟ ثم ألا يحيل التعارض الجدلي المشار إليه على البنية الدينامية لكل من المجتمع المدني والدولة، وعلى آليات إنتاج السلطة وآليات اشتغالها وأشكال ممارستها؟ نذهب، في هذا السياق، إلى رؤية تركيبية للمجتمع المدني، بوصفه (مجتمع الحاجات) (هيغل)، و(مجتمع الغايات) (كنت)، و(المسرح الواقعي للتاريخ) (ماركس)، في الوقت ذاته، وبوصفه (فضاء من الحرية)، ومضمون الدولة السياسية، يحمل إمكانات التحول الديمقراطي.

في الأوضاع السورية والأوضاع المشابهة لها، المجتمع المدني (الحديث) ليس نقيض المجتمع الأهلي (التقليدي) بإطلاق، كما في الرؤية الثنوية المانوية، لأن المجتمع الأهلي هو الذي يحمل أجنَّة المجتمع المدني، لكن العلاقات والبنى الاجتماعية لا تنمو بسرعة نمو المعارف والعلوم والتقنيات التي يحتاج المجتمع إلى وقت غير قصير لاستيعابها وتمثلها. فلا يجوز رمي الطفل مع غسيله الوسخ، وإذا لم تكن الحداثة في خدمة الناس كافة، وهنا في خدمة أفراد المجتمع كافة، لا أهلًا بها ولا سهلًا. نرى أننا – نحن السوريين وأمثالنا من العرب وغير العرب – لسنا عاجزين عن اكتساب الحداثة، بما لها وما عليها، بل كنا، وما نزال، عاجزين عن المشاركة فيها، لأننا كنا وما نزال ممنوعين من المشاركة في تدبير شؤوننا العامة، وتقرير مصيرنا، في بلادنا.

السؤال السادس: إذا كانت المعرفة عملًا بالقوة، والعمل معرفة متحققة بالفعل، ألا يعد انفصال المعرفة المتجددة عن العمل، بوجه عام، في أوضاعنا، عاملًا رئيسًا من عوامل استمرار الاستبداد والتسلط، وانفصال العلم عن العمل بوجه خاص ([17])، عاملًا رئيسًا من عوامل التأخر التاريخي؟ هل يفسر انفصال المعرفة المتجددة عن العمل سيطرة البنى البطركية على الفضاء العام، وهيمنة الطابع الفقهي على الفكر العربي، وإنتاج السلفية والأصولية وإعادة إنتاجهما؟

السؤال السابع: هل ثمة صلة بين علاقة المعرفة بالعمل والنشاط الاجتماعي، من جهة وبين علاقة المعرفة بالسلطة من الجهة المقابلة؟ وكيف نفسر استمرار النموذج البطركي وانبثاق البطركية المحدثة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية؟ نرى أن العلاقة الأولى، علاقة المعرفة بالعمل والنشاط الاجتماعي، هي التي تضع قواعد إنتاج السلطة، وتعيِّن آليات اشتغالها وأشكال ممارستها. ونرجح، من ثم، أن تجدد المعرفة ونموها، شرطان رئيسان لتغيير قواعد إنتاج السلطة. فإن قوة السلب أو النفي التي تنطوي عليها المعرفة الواعية بذاتها، تضع المعرفة المتجددة دومًا في مواجهة السلطة المحافظة بطبيعتها. وإذا عدنا إلى قاموسنا القديم، يمكن القول: المعرفة المتجددة معرفة ثورية.

إذا كانت هذه الأسئلة مشروعة معرفيًا، وراهنة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا وأخلاقيًا، فإن البحث في مقاربتها في فكر إلياس مرقص قد يوصلنا إلى ما نسميه (البنية الفلسفية الباطنة) أو الخافية في أعماله، انطلاقًا من/ واستنادًا إلى مقولة (استقلال الوجدان وحرية الضمير)، أو مقولة الصفحة البيضاء التي لم يملَّ من ترديدها وعدها شرطًا لإنتاج معرفة تمكِّن إنشاء صورة الواقع، كما هو، في أذهان العاملات والعاملين عامة والفاعلات والفاعلين خاصة، في المجالات المختلفة.

البنية الفلسفية الباطنة في مؤلفات إلياس مرقص

تندرج مؤلفات إلياس مرقص معظمها في الجدل الاجتماعي والسياسي الذي كان دائرًا في سورية والعالم العربي حول الأمة والطبقة والثورة والوحدة والاشتراكية وتحرير فلسطين ومناهضة الإمبريالية.. إلخ. وقد تمخض هذا الجدل بعد هزيمة 1967 عن اتجاه نقدي، كان إلياس مرقص وياسين الحافظ وصادق جلال العظم وجورج طرابيشي وغيرهم من أبرز أعلامه، وكانت الماركسية اللينينية تمدهم بالأدوات النقدية، وتلون رؤاهم الاجتماعية والوطنية والقومية إلى هذا الحد أو ذاك. ولم يخف إلياس مرقص تأثره العميق بها، بصورة دوغمائية، في مرحلة باكرة من مراحل تطوره الفكري، قبل أن يتمثلها نقديًا في المراحل اللاحقة. لذلك يمكن القول إن رؤيته الفلسفية كانت تتشكل في خضم ذلك الجدل، ببعديه العربي والعالمي، ما يملي على الباحث استخلاص المبادئ المؤسِّسة لرؤيته الفلسفية ومنهجه النقدي من خلال المسائل والقضايا التي كانت موضوعًا لذلك الجدل. وقد لاحظ بعض الأصدقاء أن فلسفته شذرات مبثوثة في مؤلفاته وفي مقدمات الكتب التي ترجمها، وتحتاج إلى من يجمع شتاتها، ويكشف عن وحدتها النسقية أو المنظومية، وسنذهب هذا المذهب.

في هذا السياق لا يكفي وصف إلياس مرقص بأنه مفكر ماركسي أو قومي أو يساري، لأن كل وصف هو تحديد وتقليص، ومثله لا يُستنفَد في صفة أو عدة صفات، بل إن الكائن الإنساني الكلي لا يُستنفد، على الرغم من الموت الطبيعي، فنحن ما نزال نستنطق الفلاسفة الذين طواهم الموت الطبيعي، ونسألهم، ونسائلهم. وهذا مما يطرح إشكالية التراث الفلسفي الذي لا يمضي، بل يظل حاضرًا فينا ومعاصرًا لنا، ولسنا معاصرين له. لذلك، نفترض افتراضًا أن المبادئ الآتية هي قوام رؤيته الفلسفية ومنهجه النقدي:

الروح، التملك، العمل (التموضع والاغتراب)

انهمَّ إلياس مرقص بما نزعم أنه جذري عند كارل ماركس، وغيره من الفلاسفة، نعني (الانعتاق الإنساني) الذي يعدُّ (الانعتاقُ السياسيُّ) مقدمتَه وشرطَه اللازم. هذا المطلب مؤسس على مفهوم الاغتراب الذي عدَّه فويرباخ علة نشوء الدين، وعدَّه ماركس علة ظهور الملكية الخاصة، ورصد أشكاله العيانية التي بلغت ذروتها في التشيؤ، وتحوًّل العلاقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي إلى علاقات بين أشياء والعلاقات بين الأشياء إلى علاقات اجتماعية. ومن ثم، فإن انعتاق الإنسان من نير العبودية والاستغلال والتسلط والقهر يجب أن يكون مبدأ العمل الاجتماعي والسياسي، ومبدأ النمو الاقتصادي وغايته.

منذ اغترب الإنسان عن ذاته، لم يعد قادرًا على تعرُّفها الا بتوسط الدين الوضعي، والملكية الخاصة، وتقسيم العمل، وما نجم عن هذه جميعًا من مؤسسات. الإنسان لم يعد قادرًا على تعرُّف ذاته إلا من خلال وسيط خارجي، ولكنه مُستدخَل أو مُستبطَن استدخالًا أو استبطانًا يجعل الإنسان غير ما هو، لأن ماهيته، روحه، نفسه، حريته، جسده، أي فرديته وفرادته، قد نزعت منه، بإدراجه في نمط من أنماط الرمزية الاجتماعية ومرتبياتها الشاقولية. وقد صارت هذه التوسطات (العائلة، العشيرة، العرق، الإثنية، القومية، الدين الوضعي والحزب العقائدي.. إلخ) محددات خارجية لهوية مفصولة عن جذرها النوعي، الإنساني، وليست هوية اختلاف، بل هوية تجانس وهمي، نسلي أو عرقي أو إثني أو قومي أو ديني أو مذهبي. فالناس، حتى يومنا لا يسيطرون على نتائج أعمالهم وأفعالهم، لا بحكم الاستعباد والاستغلال والتسلط والقهر فقط، بل بحكم قصورهم الذاتي، بتعبر كنت، القصور الذي تضرب جذوره عميقًا في الاغتراب أيضًا ([18]). لذلك كان إلياس مرقص يسعى إلى أن تكون مسألة انعتاق الإنسان هي (المسالة العامة)، (في هذا الزمن الذي يتميز بكلية القهر وجدلية القهر: الظالم مظلوم، الراشد قاصر، الأكثرية أقلية، الفحل حريم. الأمة حريم. (الوحدة) تفتت، تناثر، حركة أحشائية) ([19]).

فكرة الروح التي كان مرقص يلح عليها، تستحضر فكرة اللاروح، فكرة الإنسان الأجوف، والعالم الأجوف و(الأرض اليباب) أو الخراب([20])، أو (سوريا الأسد) والسقوط الأخلاقي. هذا ما جعل الدين (روحَ عالمٍ غادره أو غادرته الروح، وعزاءً للمحرومين، وأفيونًا للشعب، بكلمات ماركس، وسلاحًا ماضيًا بأيدي المستبدين. وتستحضر أيضًا (الإنسان ذا البعد الواحد) الذي رسم ماركوزه صورته بإتقان، مستندًا على مفهوم التشيؤ، عند ماركس، والأفضل أن نقول مفهوم التشييء، أي جعل الإنسان شيئًا، موضوعًا، وأداة، ووسيلة. الروح أو (النفس هي موطن الحرية، وحاملة الحق (وحاملة الذوق، ومقياس الجمال)، حرية الإنسان ليست هبة من الدولة أو من السلطان، وليست هبة من جماعة أو مجتمع أو حزب. الإنسان يولد ومعه الحرية، أما الأسس النظرية لحقوق الإنسان فهي فكرة الاختلاف أو التباين والتمايز، وفكرة الفرد) ([21]).

الواقع؛ جدلية المكان والزمان

الواقع مفهوم غامض وملتبس بقدر ما يبدو واضحًا وبدهيًا، إذ يمكن أن يحيل على (الدنيا) في الرؤية الدينية، وعلى (العالم) في الرؤية العلمانية، نعني عالم الإنسان، أي المجتمع والدولة، ويمكن أن يحيل على الحاضر والراهن. فهو الوجود المتعيِّن أشكالًا اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية وجمالية، كما يبدو للناظرين إليه والناظرين فيه من زوايا مختلفة ومواقع مختلفة، بحيث لا ينفصل الناظر عن المنظور فيه، وجملة معقدة متآخذة ومتآثرة من السيرورات الذاهبة في كل اتجاه، والتي تعين مستوى التغيُّر الكمي والكيفي في كل لحظة معطاة.

تعريف الواقع على هذا النحو يعين ثلاثة مواقف مختلفة منه: موقف القبول التام، وموقف الرفض التام، وموقف القبول النسبي والرفض النسبي. الموقفان الأول والثاني متناظران على التضاد والإطلاق. أما الموقف الثالث فتركيب منهما في آن معًا، يسمح بوصف الواقع بأنه جدلي أو ديالكتي، ويسمح باعتبار الجدل أو الديالكتيك منطقَه، والفكر شكلَه، بوصفه جملة حية فائقة التركيب والتعقيد. الديالكتيك هنا علاقة الشكل بالمضمون الناتجة من اختلاف أفراده على كل صعيد. (الشكل في مغزاه الأعمق هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون في مغزاه الأعمق هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعًا فيزيقيًا أو أخلاقيًا) بحسب هيغل. ومن ثم، فإن الواقع كلية / كليات عينية، محددة بمدى تناسب الشكل والمضمون وتوافقهما. فإذا حصرنا معنى الواقع في دلالته على عالم الإنسان يمكن القول: إن الشكل، في مغزاه الأعمق هو الروح الإنساني، بوصفه معرفة نظرية، والمضمون في مغزاه الأعمق هو الروح الإنساني بوصفه الماهية الجوهرية للعالم، سواء كان العالم فيزيقيًا أم أخلاقيًا، وهذا ما يستدعي مفهوم (الاغتراب) بصفته مفهومًا تأسيسيًا لعلاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته بذاته، ومن ثم، بالعالم، وهي علاقة جدلية بامتياز. (المبدأ الأول في الاجتماع البشري هو الاختلاف، وكل اختلاف يضع فرقًا يمكن أن يرقى إلى تناقض جدلي، إلى ديالكتيك).

لا يبدو لنا قول إلياس مرقص: (إن مذهب ماركس الآتي بعد هيغل، أي على أساسه وأرضيته، هو (منطق الواقع) ([22])، منسجمًا مع مقولاته الأساسية؛ منطق الواقع هو العشوائية، التي تحمل انتظامات شتى، وفقًا لمبدأ المصادفة، التي تضع القانون، ومبدأ الاحتمال وقابلية التحقق، ومبدأ اللاتعيُّن الذي يحمل إمكان التعيُّن، (الماركسية لم تقل ذلك، ولكن، يمكنها أن تقوله، اليوم، إذا حدَّثت مقدماتها وافتراضاتها الأولية، استنادًا إلى منجزات العلوم الحديثة). منطق الواقع هو النمو والتطور الدائم والتغير المستمر، وهو منطق الاختلاف الذي به تتعيَّن الفروق والحدود، ومنه تتولد التعارضات. الصيغة السابقة لا تتسق مع قوله، في مكان آخر: (الماركسية سعيٌ وراء منطق الواقع)، وهي كذلك بالفعل، حين تصيب، وحين تخطئ. الواقع له منطق، منطقه هو، لا منطق الذوات. الواقع، العالم، هو… (المبتدأ) أو المُسنَد اليه، هو المرجع الأخير، لمعرفة الإنسان). حذفنا كلمة (الذات) من قوله: الواقع، العالم، هو الذات، (المبتدأ)…، لرفع الالتباس، ولكي لا تُعدَّ الذات الإنسانية موضوعًا.

الذات تتموْضع، والموضوع يتذَّوت، أجل، ولكن الذات لا تُستفَد في موضوع/ موضوعات فكرها وعملها، لأنها وحدة المتناهي (الفرد) واللامتناهي (الإنسان، النوع). يمكن التوقف مليًا عند عبارة (الواقع ذات وحياة)، أو (العالم ذات وحياة)، التي يكررها مرقص، ونفهم منها أن للواقع، للعالم، وجودَه المستقل عن الذات، عن وعي الذات، استقلالًا نسبيًا، وله منطقه المختلف عن منطق الذات، قبل أن تُدرِكه الذات وتفهمه وتعقله، وتستدخل موضوعيته وتستدمجها في ذاتها، فلا يعود مستقلًا عنها استقلالًا مطلقًا. الذات قبل إدراك الموضوع وتفهُّمِه وتعقُّلِه غيرُها بعد ذلك، وهكذا إلى ما لا نهاية، إلا بنهاية النوع. لا ذات بلا موضوع. الواقع، بهذه الحيثية، وحدة الذوات المختلفة، التي لكل منها علاقاتها الخاصة بالطبيعة والمجتمع والإنسان، سواء كانت هذه العلاقات مباشرة أم موسَّطة بالمنظمات والمؤسسات.

الواقع علائقي، شبكة فائقة التعقيد من العلاقات المتبادلة، الجدلية، الديالكتية، بعضنا يقول: التفاعلية، بين البشر أولا، ثم بين البشر والظواهر الطبيعية المتعالقة سببيًا و/ أو المتآنية أو المتزامنة. حين نقول: الواقع هو كذا وكذا، حين ندَّعي معرفة الواقع بجملته وكلِّيته العينية، لا نكون أكثر من عميان يصفون فيلًا، كل منهم يصف ما تقع يده عليه. الواقع، بصفته جملة علائقية، ليس ما ندركه بحواسنا فقط، ولا يخلو أن تخدعنا الحواس، بل هو ما يدركه كل منا إدراكًا عقليًا على نحو ما، وفقًا لموقعه الاجتماعي والزاوية التي ينظر منها إلى العالم إلى المجتمع والدولة، وإلى الإنسان، وإلى المرأة خاصة؛ هكذا يتشكل الوعي الذاتي، وتتشكل الذاتية، ذاتية الفرد وذاتية الجماعة، وذاتية الأمة.

(الواقع) بهذه الحيثية ليس حجة قطعية للمتكلم أو المتكلمة، على الرغم من شهادة الحواس، فقد يكون حجة عليه أو عليها. معرفة الواقع السوري، اجتماعيًا – اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا وأخلاقيًا، تقتضي حوارًا تفاعليا دائمًا بين سوريات مختلفات وسوريين مختلفين، ولا سيما المثقفات والمثقفين، ومناقشة عامة مفتوحة في وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والمنتديات والنوادي ومواقع التواصل الاجتماعي، وإلا سيظل كل منا نحن العميان، عميان البصيرة، يُخرج الواقعَ من رأسه بتعبير ياسين الحافظ.

الموضوعية/ الذاتية ورهان الحقيقة

الموضوعي والذاتي على الصعيد المفهومي حدَّان، يحد كل منهما الآخر، ويحدِّده، يؤثر فيه، ويتأثر به، ويتحول كل منهما إلى الآخر من دون أن يفقد استقلاله النسبي. وهذا هو المغزى العميق للديالكتيك (المادي)؛ الموضوع يشكِّل الذات، الذات تشكِّل الموضوع، مع كل خبرة جديدة، وكل تطور في الفكر والعمل، وكل تقدم يحرزه المجتمع. وهكذا تكون الهوية (كلِّية عينية)، هي وحدة الذات والموضوع، لا تكتمل، ولا تكتسب دلالتها الاجتماعية الخاصة، والإنسانية العامة، إلا بجدل الذات والآخر أو الأخرى، فتغدو الكلية العينية وحدة الأنا والآخر أو الأخرى.

لا موضوعية ولا ذاتية بلا تموْضع أو بلا تملُّك، أي بلا اندراج الروح الإنساني واندغامه في العالم، لكي يصير العالم عالم الروح الإنساني، عالم الإنسان.. الموضوعي ليس الشيء القائم خارج الذات أو الماثل أمامها، بل هو هذا، وصورته في الذهن، ومعناه، وقيمته. الموضوعي هو ما يمتلكه الإنسان بالمعرفة والعمل، بل بالمعرفة / العمل. لا موضوع بلا ذات هو موضوعها، ولا ذات بلا موضوع هو قوامها، وإلا كيف يمكن أن تمتلئ الذات بالوجود، وتغدو بيته الفسيح اللامتناهي. الحديث عن الطبيعة من دون الإنسان أو قبل الإنسان شيء آخر. منذ صار الإنسان بستانيًا للعالم، وقادرًا على تغيير مظاهر الطبيعة، صارت الطبيعة طبيعة الإنسان وذاته، طبيعة مؤنسنة، صرنا نسميها البيئة، ونسمي الإنسان منظومة بيئية (إيكولوجية)، بعد أن ودَّعنا الكوزموس وأساطير الخلق، إذا كنا قد ودعناها بالفعل.

الموضوعية، أشمل من العلمية، وتستغرقها، بلغة المناطقة؛ العلمي موضوعي، بلا شك، ولكنه لا يستنفد الموضوعي؛ لأن منجزات العلم مقدمات ضرورية للرؤية الموضوعية، مقدمات ضرورية، ومعطيات أولية للوعي الذاتي – الموضوعي، بصفته كيفية إدراك الوجود ومعرفة العالم وتمثُّله، وفقًا لشروط بيئية واجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية معطاة. لذلك نستبعد كلًا من الذاتية المطلقة أو الصرفة، والموضوعية المطلقة أو الصرفة، من دون أن نستبعد المطلق، الذي يدافع عنه مرقص دفاعًا جسورًا، بصفته، أي المطلق، حدًا للنسبي وحدًا عليه. (فمن ليس في فكره وفي روحه المطلق يحوِّل نسبيَّه إلى مطلق، وذلكم هو الاستبداد). هنا، لم يخش مرقص من اتهامه بالمثالية، لأن المثالية، في نظره ونظرنا، ليست تهمة، إلا لدى المادويين الوثنيين. الوثنية مادَّوية خرافية، (موضوعية) مطلقه، و(علمية) مطلقة، لذلك أسفرت في الاتحاد السوفييتي السابق واستطالاته الكاريكاتورية عن استبداد مطلق.

استقلال الوجدان وحرية الضمير

الوجدان من الوجود، يقصد باستقلال الوجدان الاستقلال الكياني للفرد، والمؤسسة والمجتمع والأمة والدولة والحزب أيضًا. الاستقلال مبدأ أولي، أساسه الأنطولوجي استقلال الإنسان عن الطبيعة، والعلاقات الطبيعية أو الروابط الأولية استقلالًا نسبيًا. من دونه لا يكون الضمير حرًا. حرية الضمير كانت في أساس العلمانية وأساس الفكر النقدي لأوهام الذات عن ذاتها وعن العالم. النقد الذي لا يتأسس على استقلال الوجدان وحرية الضمير أقرب ما يكون إلى السجال، فلا يرقى إلى ما يسميه كنت (الاستعمال العمومي للعقل)، الذي يتغيَّا الخير العام والمصلحة العامة، ويؤسس لحياة أخلاقية سليمة. (الحقيقة ليست موجودة مسبقًا، بل تبنى بالمناقشة بين الآراء التي فيها الخطأ والصواب).

استقلال الوجدان وحرية الضمير، تعنيان معًا الانفكاك الذاتي الحر من ربقة الأفكار والتصورات والعادات والتقاليد الموروثة، والأفكار السائدة، أو (العقل السليم)، (العقل المكوَّن) بتعبير لالاند، لكي تستطيع الذات أن تحكم في هذه الموروثات، لها أو عليها، ولكي تكف الخرافة عن كونها بيئة العقل والشعور وبيتهما. وقد تبين لنا بالتجربة الحية عدم القدرة على مقاربة المشكلة الطائفية، على سبيل المثال، أو الخرافة القومية (البعثية)، من دون استقلال الوجدان وحرية الضمير، لكي يمكن التفريق بين الإيمان الروحي والدين الوضعي، والإيمان العقلي وما يسميه إلياس مرقص (إيمان العجائز)، ولكي يمكن التفريق بين القومية، أي الوطنية، بصفتها منظومة حريات مدنية وحقوق مدنية يتمتع بها مواطنون أحرار ومواطنات حرائر، بغض النظر عن منابتهم الاجتماعية ومعتقداتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، وبين القومية العرقية، التي تولد الكراهية والعنف، وتؤدي إلى تفكك المجتمع، كما هي حالنا اليوم.

على الصعيد العملي دعا إلياس مرقص الأحزاب الشيوعية في العالم العربي إلى الاستقلال عن المركز السوفياتي (الأممي) لكي تسهم في إغناء الحركة الشيوعية العالمية، بدلًا من الاتكاء عليها والتبعية لها. ودعا هو وياسين الحافظ إلى استقلال المشروع النهضوي العربي (مشروع الثورة القومية الديمقراطية) عن الصراع الذي كان دائرًا بين المعسكرين والنظامين الاشتراكي والرأسمالي (الليبرالي)، علاوة على دعوته إلى ما كان يسميه (الجهاد الأكبر، ولحظة الأمية أو الصفحة البيضاء، أو لحظة الصفر، حامل اللانهاية، أو (حجاب الجهل) و(الشاهد المحايد)بحسب جون رولز، للتحرر من الأفكار والتصورات والأحكام المسبقة التي تربط الأفراد بالجماعات ما قبل المدنية وما قبل الوطنية، فتلغي ذواتهم وذواتهن، وتهدر إنسانيتهم وإنسانيتهن، ولم يألُ جهدًا في نقد هذه الأفكار والتصورات والأحكام.

وعلى الصعيد السياسي يمكن أن نعد سعيه إلى (تعريب الماركسية) أو ما سماه هو (الماركسية اللينينية العربية) سعيًا إلى الاستقلال الكياني. فالاستقلال في نظره مبدأ ومعيار، وشرط للانطلاق من الواقع العياني والاحتكام إليه، وليس تكتيكًا أو موقفًا عابرًا أو رد فعل.

الحوار هو طريق إنتاج الحقيقة

الحياة العملية تضعنا دائمًا أمام خيارين، في ترتيب علاقاتنا الاجتماعية وتدبير شؤوننا: إما أن نفكر معًا ونعمل معًا، في سبيل تحقيق مصالحنا المشتركة، وغاياتنا المشتركة، إذ هناك دومًا ما هو مشترك بين المصالح والغايات، بحكم وحدة الفرد والنوع، ووحدة الحياة الخاصة أو الشخصية والحياة العامة أو النوعية، وإما أن يمضي كل منا في تحقيق مصالحه وغاياته، بمعزل عن مصالح الآخرين وغاياتهم، وعلى حسابها. الخيار الأول هو خيار التشارك الحر الذي يقتضي الحوار والمناقشة من أجل التوصل إلى رؤية أو رؤى مشتركة وقيم ومعايير مشتركة للعمل والسلوك. وهذا ما نسميه الخيار الأخلاقي، خيار الذوات الحرة والمستقلة عن روابطها الأولية وانتماءاتها الموروثة، في مقابل الخيار النفعي الأناني الذي يفضي إلى ضرب من سينيكية مقيتة، ويمكن أن نسميه خيار الهويات الذي يصير بموجبه (الإنسان ذئب الإنسان)، لما ينطوي عليه من عنف مضمر أو صريح، أساسه استبعاد الآخر والأخرى.

الحوار هو السبيل الوحيد لتجديد المعرفة والثقافة، وهو، عند مرقص (طريق الوصول إلى الحقيقة الموضوعية، وطريق بناء ما يجب بناؤه وهدم ما يجب هدمه. وحتى يكون الحوار حوارًا يجب أن يذهب كل طرف إلى عرض كل أفكاره بوضوح وتفصيل، وألا يتهرب من تسمية الأشياء بأسمائها خوفًا من نعوت (النقد الهدام) و(المهاترات) الاتهامية، ويحب أن يتناول في عروضه وردوده جميع القضايا المطروحة في الحوار) ([23]).

وصف الحقيقة بالموضوعية يفترض أن ثمة حقيقة ذاتية، هي كل ما يظن أحدنا أنه حقيقة، إذ لا أحد يرغب أو يريد أن يكون على خطأ أو على باطل أو على ضلال، سواء تعلق الأمر بالاقتناع أم بالإيمان أو بالتعصب. لذلك فإن تعدد (الحقيقة) وتعدد تأويلاتها هما مما يجعل الحوار ضروريًا، للتوصل إلى حقيقة/ حقائق مشتركة، أي موضوعية. ولكن ما الذي يجعل الحوار ممكناَ؟ التعدد والاختلاف؛ التعدد ليس صفة الحقيقة الذاتية فقط، بل صفة الحقيقة الموضوعية أساسًا، بوصفها جملة الظواهر والأحداث والوقائع التي يدركها كل شخص من منظوره وموقعه. يمكن القول إن الحقيقة الموضوعية عند إلياس هي الحقيقة المشتركة أو التواصلية بين مختلفات ومختلفين، وهي نسبية ومتغيرة على الدوام. لا تنفصل رؤيته هذه للحقيقة الموضوعية عن رؤيته الاجتماعية السياسية التي قوامها التشارك الحر في الشؤون العامة وفي حياة الدولة.

يعارض إلياس أي شرط مسبق على الحوار والنقد من نوع (الموضوعية) و(النقد البناء)، ويخاطب الشيوعيين اللبنانيين قائلًا: (إن أسلوب الشتائم ليس أسلوبنا، أما (الموضوعية) و(الذاتية) و(النقد البناء) وعكسه، فليست مقررة سلفًا في وعينا ووعيكم). إذًا، بعد تأكيد الطابع الأخلاقي للحوار، يأتي تعريف الموضوعية والذاتية، وتفنيد مقولة (النقد البناء)، لأنها تخضع النقد لمعايير المتكلم الذاتية، لا للمبادئ العقلية والأخلاقية المشتركة؛ النقد المقبول هو ما يعده المتكلم نقدًا (بناء)، وفق معاييره الشخصية ومصلحته الشخصية. ولطالما كان هذا الشرط (الأخلاقي) على النقد لا أخلاقيًا، وقيدًا على حرية الرأي والضمير، تستغله السلطة لمنع أي نقد لا يتفق معها، ولا يخدم مصالحها. ويرى بعضهم أن (منع تداول الأفكار جريمة سياسية، ومنع الحوار، على نحو ما كان جاريًا في سورية، جريمة أخلاقية).

وإلى ذلك، كان إلياس يسمي الحوار على صعيد الفكر مشاجرة، لا بين الأفراد، بل بين الكليات ([24])، بين الكلمات/ المفهومات والمقولات. المشاجرة مجابهة معرفية، يعرض كل من المنخرطين فيها رؤيته وأفكاره وتصوراته بدقة ووضوح، فيدركون بأنفسهم، ما في آرائهم من وهم أو خطأ أو ضلال. الحوار شقيق الديالكتيك، ينتج حقيقة جديدة للمتحاورين جميعًا لأنها قائمة فيهم جميعًا، بتعبير إدغار موران. من دون حوار غير مشروط، ونقد غير مشروط، لا تتجدد المعرفة، ولا تنمو الثقافة. الشرط الأخلاقي للنقد مستمد من طبيعة النقد ذاتها، أعني التجرد والعدل، أو ما كان يسميه مرقص لحظة الأمية والصفحة البيضاء ([25])أو لحظة الصفر حامل اللانهاية. لحظة الأمية والصفحية البيضاء تعنيان التحرر من سلطة الأفكار المسبقة والتقاليد الموروثة. وهذا شبيه بما يسميه جون رولز (حجاب الجهل) و(الشاهد المحايد) ([26]).

مشاجرة الكليات تعني أن الكليات متشابكة، متعالقة، ليس بينها كليات مقدسة وأخرى مدنسة، العلاقات المتبادلة بينها أفقية وشبكية، وهذا ما يقتضي أن تكون العلاقات الاجتماعية أفقية وشبكية، قوامها الندية والتكافؤ. ثمة علاقة لا تنفصم بين البنى اللغوية/ المفهومية والبنى الاجتماعية. التحرر من سحر الكلام وسحر البيان هو المغزى الروحي للتحرر من العلاقات البطركية، العمودية والتفاصلية والتفاضلية. التحرر من سحر الكلام هو بالضبط مدخل للتعامل مع الأخرى والآخر تعاملًا ندِّيًا بصرف النظر عن محمولاته ومحمولاتها. هذا النوع من التعامل هو التذاوت الذي يبني جسور الثقة والتعاون، بدلًا من المتاريس. وهو إذا شئتم تحقيق لمبدأ التعارف القرآني: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل، لتعارفوا..). التعارف غاية يمكن تحقيقها دومًا، بلا أحكام مسبقة.

الرؤية والطريقة أو المنهج

أزعم أن رؤية إلياس مرقص إلى العالم، أي إلى المجتمع والدولة، وإلى مجتمع الأمم والدول، رؤية إنسية أو إنسانية، ترقى إلى إنسانوية (أي إلى مذهب). الإنسان، الفرد الإنساني، المرأة والرجل، في مركز الرؤية، مبدأ وغايةً. وهو في هذا على خُطا ماركس والإنسانويين قبله وبعده سائرهم. ولكنه لم يذوب الفرد في الطبقة أو في حركة البروليتاريا العالمية، التي لم تتأسس عالميتها، بعد ماركس، على (عالمية) الفرد الإنساني أو كونيته، بوصفه وحدة الفرد والنوع (سقراط إنسان). (عمومي العرب إنسان، العامل إنسان)، عمومي المجتمع والدولة إنسان. حرية الفرد وحقوقه مبادئ، هي معايير للحكم في المجتمع والدولة، لهما أو عليهما. الإنسان هو غاية التقدم = النمو، لا أداته ولا وسيلته. الاستبداد والتسلط يحولان الإنسان إلى أداة ووسيلة إلى موضوع هامد للاستبداد والاستغلال والتسلط والقهر، إلى حيوان بيولوجي مُستنفَد في قوة عمله، وفي كونه أداة إنتاج. هذا مؤدى العبودية الخفية في النظام الرأسمالي، كما أشار اليها إلياس، وعدَّها لحظة تقدمية أيضًا، في تاريخ مجبول بدم الانسان ولحمه، هو (دراما ومأساة).

هذا وثيق الصلة بمقولتي الذات والموضوع، ومؤثَّل في المنهج، في الديالكتيك أو نظرية المعرفة، بوصف الديالكتيك منطق العلاقة بين الذات والموضوع، وبين الذات والذات، وبين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان؛ الأولى تفضي إلى تواضع، أي إلى اتفاق الذوات وتوافقها معرفيًا وعلميًا، والثانية تفضي إلى تذاوت، أي إلى توافق الذوات ثقافيًا وأخلاقيًا. هذه الخلاصة للديالكتيك بوجهيه: التواضع والتذاوت، واقتران المعرفة بالأخلاق، هي ما يميز إلياس مرقص. موقفه من المرأة دليل ساطع على ذلك، والإنسان، المرأة والرجل، هو مجموع علاقاته الاجتماعية. كل فرد هو أو هي كائن كلي، أو كلية عينية، بلغة هيغل، أو منظومة إيكولوجية مستقلة، بلغة أحدث، والتأخر عنده يعني (تدهور الشرط الإنساني).

وحدة التاريخ البشري والفكر البشري

تتجلى وحدة التاريخ البشري عند مرقص في رؤيته ما الثورة وما التغير الاجتماعي – الاقتصادي والسياسي والثقافي والأخلاقي. فأول ثورة في تاريخ النوع البشري، عنده، هي نشوء الاجتماع البشري، وهي ثورة ما تزال مستمرة إلى يومنا وستظل مستمرة، انطلاقًا من واقع أن المجتمع من إنتاج التاريخ أو من إنتاج نفسه، ولا فرق، وليس بدهية أصلية أو جوهرًا ثابتًا، وكذلك الأمة والدولة. وهو في حالة تشكل دائمة لا تفتر ولا تني ولا تكتمل، وفق مبدأ النتوج والصَّيْر (كل كائن ناتج وصائر). البشر ينتجون حياتهم الاجتماعية في كل وقت. والثورة الثانية هي الثورة النيوليتية، أو الثورة الزراعية، والثالثة هي الثورة الصناعية الحديثة والمعاصرة. كل واحدة من هذه الثورات تفضي إلى التي تليها بخط صاعد إلى أعلى، وذاهب إلى الأمام، مع تراجعات وانتكاسات بمثل ما نشهده اليوم في غير مكان.

لكن التاريخ في المحصلة هو ارتقاء وتقدم من البداوة إلى الحضارة فالمدنية، وهو تاريخ شامل، مع تفاوت في النمو، أسبابه كثيرة ومتنوعة، لا تستبعد منها الشروط الطبيعية، ولكن العامل الرئيس في التفاوت هو الشرط الإنساني، أو مدى تحسن الحياة الإنسانية نوعًا وكمًا.

لا يماري مرقص في الطابع الغربي للحداثة، ولكنه يعدُّها محرزًا إنسانيًا عامًا، بحكم كونية الإنسان وكونية العقل. وحدة التاريخ البشري تضع وحدة الفكر البشري، أو تفترضها؛ فقد كان ضد التصنيف، وضد تنسيب الفكر والثقافة، وافتراض عقول متبانية، (عقل غربي وعقل عربي، أو عقل برهاني وعقل بياني..) لأن البشر يتوافرون على استعدادات متساوية وملكات متشابهة، لكن شروط حياتهم متباينة، وهم محكومون بهذه الشروط التي صنعوها بأنفسهم، ولكن ليس على هواهم، وقادرون، من ثم، على تجاوزها. وكان يظن أن تجدد المعرفة والثقافة والانفتاح على منجزات الفكر البشري ومعطيات الخبرة الإنسانية شرطان لازمان لا لتجاوز الشروط الموضوعية فقط، بل للمشاركة الإيجابية في الثقافة الإنسانية. فإن عامَّ الفكر العربي والثقافة العربية هو الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية، وخاص الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية هما الفكر العربي والثقافة العربية. فليس إنسانيًا أبدًا وليس مسوغًا استعلاء ثقافة على أخرى أو امتيازها وعدّها مرجعًا ومعيارًا للثقافات سائرها.

فكرة التقدم أو النمو

فكرة التقدم عند إلياس مرقص تعني النمو المطَّرد والتحسن الذاتي التدريجي. هذا لا يعني ركونه إلى نزعة تطورية، تهمل دور (الوعي والإرادة والتنظيم) أو تقلل من شأنها، بل يعني التقاطه لما كان يسميه منطق الواقع ومنطلق التاريخ الحاكمين على آليات التغيير أو التغير الاجتماعي، بما في ذلك الثورات أو القفزات والطفرات. ويعني، من جانب آخر، إقامة الحد على مفهوم الثورة. الثورة عنده عمل تاريخي كلي، ومسار، لكن ليس بالمعنى الذي يقصده علماء الاقتصاد بالمسار، بل بما هو، أي المسار، عمليات نفي إيجابي متتابعة للعالم، لذلك ميز ثلاثة مواقف/ اتجاهات تؤثر في المسار: موقف القبول السلبي، وموقف النفي السلبي، وموقف القبول الإيجابي والنفي الإيجابي. النفي عنده ليس نفيًا إن لم يكن نفيًا إيجابيًا للعالم.

لكن الأهم من ذلك، أن فكرة التقدم عنده مؤسسة على قابلية التحسن الذاتي، لدى الإنسان، وهي قابلية مشتركة بين أفراد النوع جميعهم بلا استثناء. هذا مما يوجه النظر إلى الشروط التاريخية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، التي تكبح هذه القابلية، أو تخنقها، ويوجه النظر إلى العمل على تغيير هذه الشروط. من هنا، يتضح معنى القول: إن نمو المجتمع المدني رهان على الممكنات الأخلاقية للأسرة والمدرسة، رهان على التربية التي يوليها مرقص أهمية خاصة.

المجتمع المدني والدولة السياسية (الإمكانات الأخلاقية للأسرة)

المجتمع المدني هو الفضاء الممتد بين الأسرة أو العائلة وبين الدولة أو المجتمع السياسي. هذا الفضاء مجالات يسعى فيها الأفراد إلى تلبية حاجاتهم المتطورة باستمرار وإشباعها، ويلاحقون فيها أهدافهم وغاياتهم، وما تعيِّنه تلك المساعي وهذه الملاحقات من علاقات متبادلة، تكتسب مضامين اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية هي نسيج الحياة الاجتماعية. وهو يعني، في مكان معين وزمن معين، النزعة الجمهورية الدستورية، ويعني في مكان آخر الروح التطوعية المحلية المدعومة بمعايير غير رسمية من التضامن والثقة والتشارك والتعاون. فإن كلًا من هذين التوجهين الفكريين (المتكاملين) يسعى إلى تنظير المجتمع المدني بوصفه ميدانًا للفعل الحر الديمقراطي الذي يعين حدود سلطة الدولة، ويحد من غلوائها وتجاوزاتها وتدخلها في الحيوات الشخصية للأفراد والأسر وفي التنظيمات المدنية ([27]).

مفهوم المجتمع المدني لا ينفصل عن تاريخه، بوصف التاريخ ليس الماضي بالمعنى التقليدي للزمن بل هو عملية/ عمليات الانحلال والتشكل التي تجري في الحاضر، بفعل البشر الذي ينتجون أشكال وجوهم المادية والروحية، بالتلازم الضروري. لكن هذا الإنتاج صار محكومًا ببنية الدولة الحديثة التي تميل أكثر فأكثر إلى التدخل في حياة مواطنيها ومواطناتها وتحديد خياراته بذرائع مختلفة، منها الإرهاب، و(المصلحة القومية) … ما يجعل قضية المجتمع المدني وتجديد العقد الاجتماعي راهنين على الصعيد العالمي، بما في ذلك الدول المتقدمة. فقلّما يتنبه الباحثون والباحثات إلى العلاقة الطردية بين الحرية التي يتمتع بها المواطنون والمواطنات سيادة القانون: كلما اتسع نطاق الحرية يتسع نطاق القانون، ويضيق مجال تدخل السلطة في حياة الأفراد والتنظيمات الاجتماعية.

(البشرية، يقول مرقص، وصلت إلى أكبر مفترق في تاريخها، منذ ظهور النوع. (المسار) أوصل البشرية، على الأقل قسمًا منها، إلى (المجتمع المدني)، مع تنافيات خطيرة، بين الأمم، وداخل الأمم، ومع تسلُّح، وخراب البيئة الحية أو الكوكب الحي والمؤنسن. بات من الضروري الانتقال إلى شيء آخر) ([28]). نفترض أن هذا الشيء الآخر هو المجتمع الديمقراطي، بالمعنى الذي بسطه كارل ماركس، ولم يتوقف عنده ماركسيو بلادنا، كما توقف عنده إلياس مرقص، وأن هذا الانتقال الضروري إلى شيء آخر هو مسؤولية كل فرد، في المجتمع الذي ينتمي إليه والدولة التي ينتمي إليها انتماءً هو الشكل العياني للانتماء الجذري، الأولي والنهائي، إلى الجماعة الإنسانية. هذا هو الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من الجملة الاسمية: سقراط إنسان: الفرد الإنساني، سقراط، هو الإنسان، ضد مثال الإنسان المجرد، ضد تجريد الإنسان إلا من أجل تعيين وتحديد جديدين، ليسا نهائيين على الإطلاق (إنسان متحضر، متمدن، رعية، مواطن.. بالتذكير والتأنيث). وهذا تجريد ضروري لإدراك مفهوم المواطِن/ــة، بما هو أو هي (تجريد الفرد الطبيعي)، وإدراك مفهوم الدولة، بما هي (تجريد المجتمع المدني). هذا الإدراك لا يزال قاصرًا في ثقافتنا وملتبسًا أي التباس. ومن هنا تنبع التباسات الهوية.

انطلاقًا من رؤيته الإنسانية، يمكن القول إن رهان إلياس مرقص، في رؤيته للمجتمع المدني والدولة السياسية، كان منعقدًا على الممكنات الأخلاقية للأسرة، من حيث نمو العلاقات الإنسانية المتبادلة بين أفرادها، ولا سيما علاقة الرجل بالمرأة، ومن خلال التربية والتعليم، اللذين يفعلان فعل السحر في تحويل الفرد الطبيعي إلى كائن اجتماعي. لا يكفي الإصلاح الزراعي والتصنيع لتشكل مجتمع مدني. لا بد من تغير بنية الأسرة وعلاقات السلطة، التي تنبثق منها، بتغير نمط العلاقات الاجتماعية، ولا بد من تفتح إمكاناتها الأخلاقية بتجدد المعرفة والثقافة واقترانهما بالعمل وعملية الإنتاج الاجتماعي، في ظل شروط تنموية مناسبه محورها الإنسان.

نرى في هذا السياق، أن مرقص تبنى موقف ماركس من المجتمع المدني وعلاقته الجدلية بالدولة، وأن رهانه الإنساني يتوقف على هذه العلاقة. وكان ينظر إلى علاقة المجتمع المدني بالدولة على أنها علاقة المضمون بالشكل، بوصف الدولة، عند ماركس، هي (الحياة الأخلاقية للشعب)، أو حياته النوعية (= الإنسانية). وقد تجلى ذلك في اهتمامه بكتابات ماركس الأولى، وظنه أن كتاب رأس المال متصل بها بصلات وثيقة.

المجتمع المدني والدولة السياسية الصائرة ديمقراطيةً حدان جدليان في كلية عينية، لا يكون أحدهما بدون الآخر، ولا ينتفي إلا بانتفائه، ويتحول كل منهما إلى الآخر، فينتج من هذا التحول تركيب جديد، ليس أيًا منهما قبل هذه العملية المطردة التي لا تتوقف ولا تكتمل إلا بزوال التناقض بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، بحيث يغدو المجتمع المدني مجتمعًا سياسيًا، والمجتمع السياسي مجتمعًا مدنيًا، ومن ثم، فإن ما يسميه الشيوعيون التبسيطيون (اضمحلال الدولة) هو في الوقت ذاته اضمحلال المجتمع المدني، وانحلالهما معًا في الجماعة المؤنسنة.

نتساءل، في هذا السياق، ونستغرب، لمَ لمْ ينتقد إلياس مرقص كتاب لينين (الدولة والثورة) الذي تتردد فيه عبارة (تحطيم الدولة)، لا تحطيم الجهاز فقط عشرات المرات، من دون وعي أن تحطيم الدولة هو تحطيم المجتمع لإقامة سلطة الحزب، لا دكتاتورية البروليتاريا. وهذا ما نجح فيه ستالين أي نجاح، وما كان له أن ينجح لولا ما تسميه حنة أرندت (قتل الشخصية القانونية في المواطن (والمواطنة)، ثم قتل شخصيته (وشخصيتها) الأخلاقية). وكنا ننتظر من مرقص أن يفسر الركود، الذي انتهى إليه الاتحاد السوفييتي السابق قبل تفككه وزواله، بتدهور الشرط الإنساني، كما فسر الركود التاريخي للمجتمعات العربية، ولم يتدارك ذلك إلا بعد البريسترويكا.

ننقل عن مرقص قوله: (إشكالية المجتمع البرجوزي – المدني أساسيّة عند ماركس الشاب، حيث ترتبط بفكرة الانخلاع والشغل المنخلع والملكية الخاصة و(اليهودية) (المسالة اليهودية، مخطوطات الاقتصاد السياسي والفلسفة). ولكن ماركس يؤكد، منذ ذلك الحين (1844)، ضد شيوعية المساواة والشيوعية الفظة، أن هذا المجتمع المدني وهذا الانخلاع – أي جملة تقسيم الشغل والتبادل والملكية الخاصة إلخ – تقدّم تاريخي هائل، مرحلة أولى كونية للإنسان، شرط وأساس التقدّم اللاحق.

من المجتمع المدني إلى المجتمع الإنساني، من المجتمع البرجوازي إلى الإنسانية الاجتماعية أو الاشتراكية، والمطلوب تحويل العالم. في الإيديولوجيا الألمانية، ماركس – بصدد (المجتمع المدني) – يواصل ويعدّل اتجاه المسالة اليهودية ومخطوطات 1844، يؤكّد التاريخ، (يبسط تعاليم المادية التاريخية)، يؤكد التقدم، الوجه الإيجابي في المجتمع المدني – البرجوازي الذي ينتصر في الطور البرجوازي الحديث منهيًا الطور الإقطاعي. التاريخ الكلي يمكن تلخيصه أو تكثيفه في: 1- الطور البشري الأوّل، شبه الطبيعي، شبه الحيواني، الشيوعي البدائي. 2. نظام الملكية الخاصة، أنماط الملكية الخاصة، المجتمع البرجوازي الحديث 3. الاشتراكية ٍأو الشيوعية. في نص المقدمة الشهيرة (1859)، حيث عرض ماركس خلاصة مبادئ المادية التاريخية أو التصوُّر المادي للمجتمع وتاريخه، (المجتمع المدني) هو دائرة ما تحت السياسة والحقوق والدين والفلسفة. مفتاح الفهم هو في هذه الدائرة. في المدخل (1857)، المجتمع البرجوازي الحديث هو مفتاح فهم التشكلات السابقة …).

مقارنة بالأوضاع (الشرقية) (وإلى حد كبير مع الأوضاع الإقطاعية الغربية)، (المجتمع المدني) يعني سقوط العشيرة والقبيلة والطائفة والملّة وإمبراطورية القبائل والملل والقرى والحالات – (الطبقات (- الدول – الولايات وقيام (الفرد) و(المجتمع) و(الدولة)، انفصال أو تعارض المحتوى (المجتمع البرجوازي، مجتمع الطبقات classes بالمعنى الاقتصادي المحض) والشكل (الدولة الواحدة الديمقراطية اللادينية التي صارت شكلًا واحدًا وحيدًا. الثورة الاشتراكية والمذهب الماركسي يرتكزان على هذه الأرضية. الرأسمالية هي أول طور عالمي حقًا في التاريخ، الرأسمالية عالمية (واللاتساوي والاستغلال من أمة على أمة، من غرب على شرق إلخ جزء من هذه العالمية، شكل هذه الوحدة التناقضية).

الثورة الاشتراكية في بلدان الشرق أمامها أولًا مهمات الثورة البرجوازية. الثورة البرجوازية المحققة في أوروبا لها قيمة كونية، إنها فَرْض على الجميع. في بلدان الشرق، إن أية ثورة (اشتراكية) تتصوّر أنها تقفز من فوق المهمات البرجوازية لا تقيم اشتراكية، بل تنتكس إلى العشيرة والملّة والاستبدادية تحت غطاء (أحمر). الثورة الديمقراطية عالمية. عصر الإمبريالية يجدّدها وينمّيها. الغرب ينتكس عن مُثَل القرن الثامن عشر الخالدة حقًا التي يجب أن تتوقْعَن، وأن تتحقَّق بشريًا عالميًا في المحتوى.

إن فكرة «المجتمع المدني – البرجوازي (تؤكد الهوية والمادية والانبساط ضد تصوُّر للتاريخ، هوائي، طيرَاني، مثالي، يعتقد أنه المادية التاريخية، وهو بالأصح تاريخانية غير مادية و(شرقية) غير مجدية. ونفهم أن وراء وتحت شطح الفكر البرجوازي التقدمي والثوري، وراء دعوى أن المجتمع البرجوازي (الملكية الخاصة، حق التصرُّف، الفرد، حرية العمل والتجارة، المبادرة الفردية والمشروع الخاص، إلخ إلخ) هو الوضع الطبيعي والعقلي والأزلي إلخ، وهي الدعوى التي يبتذلها البرجوازي العامي في عصر الإمبريالية، نفهم أن وراء هذا الشطح وقائع وحقائق، يجدر بنا أن نستوعبها، لا أن نرمي الحق مع الباطل والمعرفة مع التصويف».

أوردنا هذا الاقتباس على طوله، على نحو ما فعلنا في كتابنا (المجتمع المدني هوية الاختلاف)، لسببين: أولهما، لنبين مركزية فكرة المجتمع المدني في منظومة مرقص الفلسفية، المجتمع المدني، الذي عامُّه إنسانٌ، ومفردُه إنسانُ، وهذه إضافة إلياس مرقص اللامعة، التي تفسر وصف ماركس للمجتمع المدني بأنه (الإنسان موضعًا)، ووصفه للدولة بأنها الحياة النوعية للشعب، أو حياته الأخلاقية. والثاني لظننا بغموض المفهوم والتباسه في ثقافتنا المعاصرة بوجه عام، وثقافة النخبة بوجه خاص، انطلاقًا من تجربتنا في (لجان إحياء المجتمع المدني). وإلى ذك نتساءل: لمَ أغفل إلياس مرقص إمكان (الديمقراطية الاجتماعية) المؤسسة على العدالة الاجتماعية، ببعديها المتلازمين: المساواة والحرية، وعلى إنصاف الفئات (الأقل حظًا)، ما دامت الاشتراكية والشيوعية أفقًا بعيدًا؟

الديمقراطية؛ حقوق الإنسان والمواطن/ـة

الديمقراطية هي الإمكان الأخلاقي للمجتمع المدني – البورجوازي، إمكان تحوله إلى مجتمع ديمقراطي، قوامه العدالة الاجتماعية، بما هي تركيب من الحرية والمساواة، يحقق مزيدًا من الاتساق بين المجتمع المدني والدولة. أو بتعبير آخر، هو نمو الديمقراطية في أحشاء الدولة الليبرالية، دولة الحق والقانون والمؤسسات التي عدَّها إلياس مرقص، ونعدُّها معه، مقدمة ضرورة للدولة الديمقراطية. الديمقراطية، من ديموس، الشعب، كما عرفها ماركس، هي حقيقة المَلَكيَّة، حقيقة أي نظام حكم ومعيار علاقته بالمجتمع، أي معيار علاقة الشكل السياسي بالمضمون الاجتماعي. ومن ثم، تكون الدولة غير الديمقراطية تناقضًا في ذاتها، لا محض دولة ناقصة فقط. التناقض هنا بين عمومية المجتمع المدني وكليته (عمومية المضمون وكليته) وخصوصية الدولة (خصوصية الشكل وجزئيته) وجزئيتها، نعني الدولة التي تحتكرها فئة من فئات المجتمع، عائلة أو عشيرة أو طائفة مذهبية أو طبقة أو طغمة أو حزب. عمومية الدولة تتأتى من البعد النوعي (الإنساني) لكل فرد من أفراد المجتمع المدني، لذلك رأى ماركس أن الأسرة والمجتمع المدني يحوِّلان نفسيهما بنفسيهما إلى دولة سياسية. هذا معنى الرهان على الممكنات الأخلاقية للأسرة والمجتمع المدني.

ديمقراطيو بلادنا المناهضون للعلمانية، لا يرون في الديمقراطية سوى صندوق الانتخاب الذي يحمل الأكثرية، الإثنية أو المذهبية، إلى السلطة. العالم عند هؤلاء عالمان، عالم الأكثرية صاحبة المكانة والجدارة والاستحقاق، وعالم الأقلية/ الأقليات، (كسور الأمة)، وهوامشها، التي لا ترقى كلها إلى الواحد، العدد الصحيح. الأكثرية أمة قائمة بتمامها وكمالها، عربية أو إسلامية، أو شيء منهما معًا. يقول مرقص عن هؤلاء: (هناك محبون للديمقراطية (يعرفون) أن الديمقراطية هي تغليب الأكثرية على الأقلية، هكذا قرؤوا، تعلموا: جملة مستقيمة، كالمدفع، ماذا قبلها، ماذا بعدها، أية أكثرية، أية أقلية؟ هذا لم (يقرؤوه). مع أن بعضهم خبير بـ (دساتير البلاد المتمدنة).

إذًا، لنقل أن الديمقراطية هي، في الموقع الأول، تغليب الواحد، مجتمعًا وفردًا، وتغلب ممكن لفرد واحد على إجماع (المواطنين). فإذا ما أجمع سكان (بلد متمدن)، مثلًا فرنسا، وقرروا أن فلانًا من الناس لا يجوز أن يرشح نفسه لأعلى منصب في الدولة، لأنه لا يؤمن بالله أو لأنه يؤمن به، أو لأنه يكره التاريخ الوطني والجبنة الوطنية، والنبيذ الوطني، ويحب أكل الأفاعي السامة، فإن الدستور سيغلب هذا المواطن الواحد على المجموع، بدون ذلك لن يكون هناك المواطن ولن يكون مواطنون.

وإذا لم يُسرَّ هذا المجموع بانكساره فسيكون عليه أولًا أن يغير الدستور إلى شبه دستور، بتعبير آخر: الديمقراطية تقيم مفهوم الإنسان ومفهوم المواطن، الديمقراطية تقيم الواحد، هذا الواحد الذي ليس عددًا، الديمقراطية تغلب الإنسان والمواطن على الرعية، أو بتغبير آخر: إنها تغلّب المواطن وحسب على (المواطن الصالح). الديمقراطية مفهوم، شكل، إعراب، إعلام، مفهوم معقول بمفهومات. منطق قبل أي حساب، يعقل ويربط كل حساب.

في الديمقراطية، النغم المسلطن، هو مفهوم الإنسان، مفهوم المواطن، هوية، تماثل. المواطن = الوطن. واحد، واحدة، كل، وكل واحد. أن نرضى بتخفيض 0.01 بالمئة (واحد بالألف) من البشر والمواطنين بمقدار 1 بالمئة هذا معناه واتجاهه ومآله الأخير تخفيض الجميع تخفيضًا لا نهاية له. هذا الزمن صعب، إنه غير طبيعي! إنه زمن كلي وكوني. ثمة كلية قهر وجدلية قهر: الأكثرية أقلية، الراشد قاصر، والفحل حريم. والأمة قاصرة، الأمة أقلية، الأمة حريم. والمرأة في قلب الموضوع).

وحدة الأنوثة والذكورة، وتكافؤ المرأة والرجل

رأى إلياس مرقص أن التأخر التاريخي الذي نتخبط في وحوله، نتيجة مباشرة من نتائج تدهور الشرط الإنساني، بوجه عام وتدهور الشرط الإنساني للمرأة بوجه خاص. يقول في هذا: (.. هناك شرط المرأة، الشرط النسوي، وتدهورُه في وقت مبكر، أي انحدار العلاقة الأكثر طبيعيةً والأكثر روحيةً، بين الإنسان والإنسان، والتي هي معيار الارتقاء المدني والإنساني). من ثم، فإن العائلة أو الأسرة في واقعها ومستقبلها، محكومة بهذا الشرط. (مستقبلنًا، شكْلُه طوعًا واختيارًا رجل امرأة. إذا كانت العائلة امتدادًا أو محضَ امتداد لخط نسلي فحلي في الزمن المجرد، فالنزوع المستقبلي مضروب في نواة الاجتماع البشري، في صميم الأمة). لو أن إلياس مرقص بيننا اليوم، وسوريا تعاني ما تعانيه، لفسر ما آلت اليه الثورة السورية، أو ما فرض عليها، بتدهور شرط المرأة أو الشرط النسوي قبلها وفي أثنائها.

ذلك، لأنه يقول بوضوح: (مسالة المرأة) يمكن أن تُتخَذ محورًا لمختلف المسائل: المجتمع، التنمية، (السكان)، بالمجتمع أقصد العائلة وأقصد الأمة. ما دامت المرأة (هي (الأنثى) هي الجنس والإنجاب، زوجة الرجل وأم البنين، لا (إنسان)، لا فرد، ولا جملة العلاقات الاجتماعية، لا شخص، فلن تحل أية مسالة. لئن تقدمنا جوهريًا في القرنين الأخيرين فلأننا خرجنا، وبقدر ما خرجنا، من الحالة (التاريخية) ([29]) (حالة التدهور الإنساني). يبدو أننا لم نخرج بعد، أو لم نخرج بما يكفي. قد يكون إلياس مرقص الوحيد بين المفكرين السوريين الذي لا حظ (تآكل الحياة الإنسانية) في سورية، وجفافها المطرد أو تصحُّرها، منذ خمسينيات القرن الماضي.

ويضيف: كان الشيخ خالد محمد خالد يقول، قبل نيف وربع قرن: المرأة هي (رئتنا المعطلة). الرئة المعطلة تنعكس على الرئة الشغَّالة، والمرض مرض الجسم كله. من الديمغرافية الملغومة (الكبيرة، العددية) ومسائل التنمية والهجرة، إلى أخلاق الحشمة والفضيلة المشهودة في معظم دنيا العرب اليوم، مرورًا بالعائلة الموسعة، واللامجتمع واللافرد، إن مسألة النساء حاكمة.

في علاقة الرجل بالمرأة) يتجلى المدى الذي أصبحت فيه ماهيةُ الإنسان طبيعةً للإنسان، وقد غدت واقعةً محسوسة، يمكن ملاحظتُها، أو المدى الذي أصبحت فيه طبيعة الإنسان هي ماهيته الإنسانية). هذه ليست يوتوبيا أو طوبى ماركسية، بل رهان على الممكنات الأخلاقية للأسرة والمجتمع المدني، العلماني بالضرورة، والمتدين في الوقت نفسه. ورهان على قابلية التحسن الذاتي، ومدخل إلى ما يسميه الصديق كمال عبد اللطيف (روحانيات الحداثة).

كل رجل ذكر بنسبة ما وأنثى بنسبة أخرى، وكذلك كل امرأة؛ لذلك نتحاشى دومًا الحديث عن أو الإشارة إلى جنسين أو إلى (الجنس الآخر)، و(الجنس اللطيف).. إلخ، مع أن إحدى الغايات التي نتوخاها، هي إبراز الاختلاف والاحتفاء به. لكن الاختلاف النسبي شيء والاختلاف المطلق أو الجذري، شيء آخر. واختلاف الأنوثة عن الذكورة شيء، واختلاف الأنثى عن الذكر أو المرأة عن الرجل شيء آخر. معنى الأنوثة لا يطابق معنى المرأة، فيستبعد الذكورة من بنيتها الكيانية أو كينونتها. ومعنى الذكورة لا يطابق معنى الرجل فيستبعد الأنوثة من بنيته الكينونية. هذا أمر غاية في الدقة والأهمية، يدل تفويته على اختلاط في الوعي وتشوُّش والتباس في المعرفة. ومن ثم، فالخصائص التي تنسب إلى الأنوثة ليست خصائص المرأة حصرًا، ناهيك عن المرأة س أو ص أو ع. والخصائص التي تنسب إلى الذكورة ليست خصائص الرجل حصرًا، ناهيك عن الرجل س أو ص أو ع. وإلا باتت الفروق بين الأنوثة والذكورة، وبين الرجال والنساء فروقًا مطلقة، والبيولوجيا سيدة الموقف: المرأة تحيض، فهي مدنَّسة؛ انتهى الأمر. المرأة تحمل وتلد، فهي مقدَّسة؛ انتهى الأمر. في الحالين لا يمكن أن يجمعها شيء مع الرجل. المرأة ليس لها قضيب؛ المرأة ليس (= سلب)؛ انتهى الأمر. التدنيس والتقديس والليْس (= السلب) مبنية كلها على بيولوجيا مبسطة ومسطحة، بل جاهلة، دعونا نسمِّها (بيولوجيا اجتماعية)، عامة، والعمومية هنا هي عماء. البيولوجيا الاجتماعية عنصرية، كالداروينية الاجتماعية التي تبنتها النازية. أليس هذا جذر ما يسمى (التمييز ضد المرأة)؟

وحدة الدين والدنيا

الناس لا يتخلون عن شرطهم الديني إلا طوعًا واختيارًا، سواء في تحوُّلهم عن مذهب إلى مذهب آخر، أو عن عقيدة إلى عقيدة أخرى، أم بتحوُّلهم عن التدين إلى اللاتدين؛ فلا يجوز حملهم على التخلي عن شرطهم الديني بأي شكل من أشكال القسر والإكراه، مع أنهم لم يختاروا مذاهبهم الدينية اختيارًا، بل وجدوا آباءهم على ملَّة أو (سنة) فاتبعوها. لكنْ للدين في الواقع المعيش بعدان مختلفان: بعد روحي، إنساني، يتصل بالوجدان والضمير، وهذان فرديان دومًا، يبطِّنان العلاقات المتبادلة بين الأفراد ذكورًا وإناثًا، وتتأسس عليهما الأخلاق والقيم الاجتماعية المحايثة للحياة الاجتماعية باختلاف أشكالها. وبعد تاريخي، اجتماعي – اقتصادي وثقافي وسياسيً، يتعلق بجدلية المعرفة والسلطة، وتضافر السلطة والعقيدة، من جانب، وتضافر الدين والملكية الخاصة، من الجانب المقابل، بوصف ملكية السلطة هي سلطة الملكية.

المحتوى الروحي للدين، هو ما كان ماركس يسميه: (الروح الإنساني الذي يسري في الدين)، ويمكن أن يتعيَّن أو يتموضع في العلاقات الاجتماعية والإنسانية وفي المعاملات والمبادلات والعقود، وفي النظم الاجتماعية – السياسية والمؤسسات. هذا جدر موقف إلياس مرقص من الدين الروحي، وبهذا يمكن عدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان ومبادئ المواطنة وقيمها (الحرية والمساواة والعدالة)، وقيم الخير والحق والجمال أشكالًا مختلفة لتعيُّن الروح الإنساني في العالم وفي التاريخ. وبهذا يتعين الفرق بين القيم الاجتماعية الخاصة بأي مجتمع من المجتمعات، والقيم الإنسانية العامة، التي تتشاركها البشرية كافة. ولا تنشأ العنصرية والعصبيات (القومية) أو الدينية، إلا حين تنقطع العلاقة بين القيم الاجتماعية (الخاصة) والقيم الإنسانية (العامة) أو حين تنقطع العلاقة بين الخاص والعام، في أي مجال من مجالات الحياة.

البعد الأول عند إلياس مرقص حاكم على الثاني، كي لا يكون (الدين) باعثًا على التعصب والتطرف، وعاملًا من عوامل الفرقة والنزاع، وسببًا لامتياز جماعة على غيرها، ولذلك كان يعد الإلحاد شكلًا من أشكال العدمية. من دون تمييز هذين البعدين لا يمكن فهم المسألة الدينية، المذهبية أو الطائفية، بما هي مسالة اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية، على نحو ما بسطها ماركس في المسألة اليهودية.

(ليس فصل الدين والدنيا في نظر إلياس مرقص، هدفًا أعلى أو ذروة مذهب حق، لكن الامتناع عن الفصل ومحاربة الفصل رفض من العتبة للمفاهيم والعمل بالمفاهيم، تسخير الدين لخدمة أسوأ دنيا بمساعدة منظومة إيديولوجية قوامها المحايلات. إن فصل الدين والدنيا شرط لجدل وتاريخ، مبدأ لجعل الدنيا تاريخًا، شرط لانبساط الروح والفكر في الدنيا، شرط لـِ وجزء من وحدة الدين والدنيا، ثمة فرق وثمة تعارض بين الوحدة والخلط، الوحدة غاية، الخلط دون البداية). الوحدة هوية اختلاف، لا هوية تجانس؛ وحدة الدين والدنيا هنا، تعبير آخر عما سماه ماركس تموضع (الروح الإنساني الذي يسري في الدين)، وتطور الدين وازدهاره في المجتمع المدني، وفقًا لتطور هذا الأخير.

فصل الدين عن الدولة والمدرسة، هو النفي الإيجابي الأول للدين، يشبه النفي الإيجابي الأول للملكية الخاصة. ومن ثم، فإن فصل الدين عن الدولة والمدرسة هو الغاء سياسي (إيجابي) للدين، مثل الإلغاء السياسي (الإيجابي) للملكية الخاصة، التي تنمو وتزدهر في المجتمع المدني بفعل قوانينها الخاصة، وكذلك الدين ([30]). ذلك لأن الدولة السياسية، دولة الحق والقانون والمؤسسات، ثم الدولة الديمقراطية، لا تقوم على أي حكم مسبق، عرقي أو إثني أو قومي أو مذهبي، وإلا لا تكون فضاءً عامًا وتعبيرًا عن كلية المجتمع، لا تكون دولة، بل مجرد سلطة قسر وإكره.

(من الصعب، من الخطأ والخطر، أن نقول إن الإنسان الأصلي كان بطبعه، أو إن الإنسان الطبيعي الأصلي، كان اجتماعيًا. الاجتماع الإنساني، في (معظمه) على الأقل، ابن التاريخ، ابن التقدم والارتقاء. فاعلا الارتقاء، هما الشغل من جهة والكبح، الدين، المحرمات والنواهي الدينية من جهة أخرى. الأول، الشغل يحمل الإنتاج والاجتماع. والثاني، يتصل (جوهريًا) بالجنس، بإنتاج النوع وتجديده، بالعلاقة بين الرجل والمرأة. لكن يحب أيضًا تخطي هذه القسمة: فالاثنان يحملان الأخلاق والاجتماع، الانضباط والعمل والتعامل: إذن (إنتاج المجتمع)، استمراره واستمرار النوع ونموه المذهل: استعمار الإنسان للأرض. حسب دين الاله الواحد، (الإنسان مستخلف ومسؤول).

موقف مرقص من الدين مؤسس على دعامتين: أولاهما الاعتراف بأهمية الدين في التاريخ البشري، وعده مظهرًا من مظاهر تطور الروح الإنساني، في أي مجتمع. والثانية أن نقد الدين ليس سوى نقد الافتراضات المسبقة للدولة، وتديين السياسة أو تطييفها. المسالة الطائفية، عندنا وعند غيرنا، لا تحل دينيًا، من طريق ما يسمى (حوار الأديان) ودعاوى التآخي والتسامح.. إلخ، بل تحل سياسيًا، من طريق المواطنة المتساوية، في دولة حق وقانون ومؤسسات، ثم في الدولة الديمقراطية، وصيرورة حقوق الإنسان، في المجتمع المدني، هي ذاتها حقوق المواطن في المجتمع السياسي.

أساس الاستبداد، على الصعيد الاجتماعي – السياسي، هو هدر العام والكلي، وجعل الخاص عامًا والجزئي كليًا، كدولة البعث، وسوريا الأسد (أو دولة البغدادي) ولا فرق؛ دولة البعث ليست دولة علمانية، بأي معنى من المعاني، وسوريا الأسد ليس بلدًا علمانيًا، بأي معنى من المعاني، الأيديولوجيا القومية المحوَّلة عن عقيدة دينية، هي عقيدة الدولة، مثلما الإلحاد الرسمي كان عقيدة الدولة السوفياتية، وأمثالها. العلمانية موقف روحي، وجداني، عقلي، منفتح على قضايا الفكر وقضايا الواقع، موقف مضاد للاستبداد بوجهيه السياسي والديني، مثلما هو مضاد لنظام الامتيازات، ومضاد لامتياز أي مذهب ديني على غيره من المذاهب، وأي قومية على غيرها من القوميات، بذريعة الأكثرية والأقليات.

العلمانية

العلمانية في بلادنا أدلوجة وشعار؛ نوع من نزق يساري، شيوعي أو قومي، يقطع العلمانية والديمقراطية عن جذرهما الروحي، الإنساني، النوعي (نسبة إلى النوع البشري)، العمومي، ويقطع الديمقراطية عن جذرها العلماني، ويخفضها إلى صندوق اقتراع، تتخابط حوله الإثنيات والمذاهب والطوائف: الديمقراطية حكم الأكثرية = يساوي حكم المسلمين السنة من العرب، في بلد مثل سورية، أو حكم المسلمين الشيعة في بلد من مثل العراق، أو إيران. العلمانية، عند هذا الرهط، شأن أقلوي، والديمقراطية شأن أكثري؛ الأكثرية ديمقراطية بطبيعتها، ديمقراطية بالفطرة، بل بمنطق الغَلَبَة. (الأغلبية والمغلوبية من الغلبة). الإنسان، الفرد الإنساني العياني، مطمور في الأكثرية والأقلية، بل منبوذ منهما. العلمانية التي لا تتأسس على استقلال الوجدان وحرية الضمير وحقوق الإنسان والمواطن والمواطنة بالطبع، هي أي شيء سوى العلمانية.

الروح، الفكر، الذي هو شكل العالم ومضمونه (بحسب هيغل)، مطرود من عالم البعث وسوريا الأسد، غريب، ملقى على هوامشهما، لا يُنظر إله إلا كما يُنظر إلى عدو؛ لذلك يصير الدين الخرافي والهذيان الفقهي والتأويل الظلامي روحَ هذا العالم الذي طرد منه الروح، وعزاء وهميًا للبائسين والمقهورين والمهدورين في وادي الدموع وبلاد الخوف. يصير الدين (الإسلام) روح الأمة، والأمة مادته. الأمة التي هي مادة الإسلام، هي في واقعها العيني مادةٌ، محض مادةٍ للمتاجرين بالقومية والإسلام، وهذا أتفه أنواع الانحطاط. الأمة، الذات، تصير مادة طيِّعة بين يدي المستبد، وموضوعًا لإرادته الطائشة.

لا علمانية بلا حرية الفكر وحرية الضمير، لا ديمقراطية بلا حرية تداول الأفكار، وبلا مساحات أخلاقية للحوار والمناقشة العامة، لإنتاج الحقيقة وتجديد المعرفة والثقافة، وتجديد العقد الاجتماعي. لولا تحويل السوريات والسوريين إلى مادة لحزب البعث، (قائد المجتمع والدولة)، وقوميته العنصرية، واستبداده مؤسسة وأفرادًا، لما وصلت سورية إلى ما هي عليه منذ عام 2011. لذلك، كان مرقص يكرر وسنكرر بعده، أن (مشكلتنا ليست مع الفكر الديني، بل هي عدم وجود فكر ديني، الجانب الآخر للمشكلة هو عدم وجود فكر حر، عدم وجود حرية فكرية. هذا العدم، الذي كان ينمو في سوريا، منذ ستينات القرن الماضي، بلغ ذروته اليوم في تدميرها، بأيدي القومية العنصرية والظلامية الدينية وأسلحتهما).

العلمانية تعني استقلال الفرد (الرجل والمرأة) وحريته وتمكُّنه الكياني، وهي، عند مرقص، (استقلال الوجدان وحرية الضمير)، والاعتراف المبدئي والنهائي بتساوي البشر في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق، قبل أن تكون، ولكي تصير إلى، فصل الدين عن الدولة والسياسة والمدرسة، إنها رفض أي وساطة بين الإنسان وعقله وضميره، ورفض أي وصاية عليهما. أن يكون الإنسان شيوعيًا أو قوميًا، في بلادنا، لا يعني أنه علماني بالضرورة، ما دام تابعًا أو تابعة لمستبد ومتسلط، في عائلة أو عشيرة أو جماعة إثنية أو حزب عقائدي، ولا يمكن أن يكون ديمقراطيًا ما دام كذلك، لا يستمد معنى وجوده من ذاته، وعلاقاته الندِّية بالآخرين والأخريات.

مرة أخرى، (ليس فصل الدين والدنيا هدفًا أعلى أو ذروة مذهب حق، لكن الامتناع عن الفصل ومحاربة الفصل رفض من العتبة للمفاهيم والعمل بالمفاهيم، تسخير الدين لخدمة أسوأ دنيا بمساعدة منظومة إيديولوجية قوامها المحايلات. إن فصل الدين والدنيا شرط لجدل وتاريخ، مبدأ لجعل الدنيا تاريخًا، شرط لـِ وجزء من وحدة الدين والدنيا، ثمة فرق وثمة تعارض بين الوحدة والخلط، الوحدة غاية، الخلط دون البداية). ومرة أخرى أيضًا، وحدة الدين والدنيا هوية اختلاف، لا هوية تماثل، الاختلاف هو جذر الديالكتيك ومنطق الواقع ومحرك التاريخ.

عبَّر مرقص عن رؤيته للدين، ولغيره من القضايا، بطريقتين: الأولى صريحة ومباشرة، كالنصوص التي اقتبسناها من بعض مؤلفاته، والثانية ضمنية، غير مباشرة، نجدها خلف النصوص التي يقتبسها من الفلاسفة، وفقًا لطريقته في القراءة. القارئ يعيد إنتاج النص بمشاركة الكاتب (والقارئة بالطبع)، يقول ما يريده، وتقول ما تريده، من خلال النص، وهذا، في جانب مهم منه، اعتراف بالمديونية المعرفية للكاتب، وهو، في ظني، ما يفسر كثافة الاقتباسات والإحالات في كتابة مرقص. الجانب الثاني يتعلق برؤية أعمق لما هي المعرفة؛ المعرفة إظهار، أو إفصاح؛ جعل الشيء يُظهر ماهيته، ويُفصح عنها بلسانه أو بنفسه (الشجرة على سبيل المثال، تخبرنا عن عمرها بنفسها، حين نأخذ مقطعًا عرضيًا من جذعها، واللقى الأثرية تخبرنا عن عمرها بنفسها حين نعالجها بالكربون المشع، وهكذا في منطق العلوم التجريبية). والنص كذلك، يخبرنا عن مكنوناته حين نعامله بكيمياء المعرفة.

لاحظنا أن مرقص يتبنى موقف ماركس من الدين، ويتأثر بنقد باور للدين، في المسألة اليهودية. ويتبنى من جانب آخر موقف فويرباخ من الدين، ونقد ماركس لفويرباخ أيضًا، ويثني على كتابه (جوهر الدين)، وهذا سر اهتمامه بفلسفة فويرباخ ([31])، وهذا مما يحتاج إلى دراسة أخرى.

يقول مرقص: (موقف فويرباخ من الدين بناء ذو طبقتين: أساس مادي وطابق علوي مثالي، خلقي، عاطفي الخ. بل يمكن القول إن كل مادية فويرباخ الفلسفية قائمة في الأساس المذكور: نقد المسيحية، كشف جوهرها أو ماهيتها، معرفة ما هو الدين، ولا سيما معرفته فلسفيًا من حيث هو فلسفة ومعرفة. من المستحيل تقسيم مادية فويرباخ إلى قسمين: قسم هو تعاليم الفلسفة المادية، وتتجلى فيه مادية فويرباخ وقسم هو فلسفة الدين الفويرباخية ويكون مكان اختلاط مادي – مثالي. إذا حذفنا فهم فويرباخ للمسيحية وللدين نكون قد حذفنا مادية فويرباخ). خاصة أن فويرباخ يقول: (لا يمكن أن نستنتج الكائن من الفكر إلا بشرط أن نكون أوّلًا قد قطعنا الوحدة الحقة للفكر والكائن، أن نكون أوّلًا بالتجريد، طرحنا من الكائن نفسه ame وجوهره، كي نعود فيما بعد ونجد في هذا الجوهر المجرّد للكائن معنى ومبدأَ هذا الكائن الفارغ ذاته. كذلك لا نستنتج ولسنا ملزمين بأن نستنتج العالم من الله إلا بشرط أن نعزل عسفيًا عن العالم جوهر العالم). ويضيف: (بخصوص الدين، ماركس يؤيد – يعارض – يتجاوز فويرباخ. باختصار: (السماء) أصلها الأرض، الخلاف على فهم الأرض).

بحسب هذا الخطّ، خطّ فويرباخ – ماركس، (مع حذفي الفروق عمدًا)، بل أكاد أقول: بحسب خط هيغل – الهيغلية الشابة – فويرباخ – ماركس – مادية القرن الثامن عشر (حاذفًا مجموعة من التفاصيل المهمة، حاذفًا عملية القلب الهيغلي الأصلية الأولية.. إلخ)، بحسب هذا الخطّ صائرًا المادية الجدلية ومنطقها وغنوزيولوجيتها، أي مقروءًا قراءة لينينية، يكون معنا:

إن صفات الله (كيفاته)، تحديداته (تعييناته)، هي صفات وتحديدات الطبيعة والإنسان، مفصولة، مطلقة، مأخوذة (ليس دائمًا) بدون أضدادها. الله هو السميع، البصير، المجيب، الحكيم، الكريم، الرازق الرزاق، الرحمن الرحيم، الرؤوف والعطوف والودود، المحبّ والمحب، القادر والقاهر، الكبير الأكبر – وأكبر فوق كيد المعتدي – الناصر خير الناصرين، الماكر خير الماكرين، وهو عادل وطيب وجميل، وهو أب يكافئ ويعاقب ويعفو، ومربِّ ومعلّم، إلخ، وهو حقيقة، وهو عالم وعالم الأسرار… وهو الواحد والأحد. الله هو هذه الصفات – التحديدات، مفصولةً مجردة عن حاملها الطبيعة ولا سيما الإنسان، مأخوذةً بدون أضدادها أو من دون (آخر) ها، مجوعةً من كائن – شخص، مكونة ذاتًا، مبتدأ، حاملًا (حاملًا المحمولات أو الأخبار). سببُ ليس نتيجة، سبب للنتائج كلها من دون أن يكون هو نتيجة لأي سبب (في الطبيعة أو الكون أو الكينونة الخ، كل شيء أو ظاهرة ٍأو كائن الخ هو سبب لشيء ونتيجة لشيء، وبالأحرى سبب ونتيجة لكل الأشياء.

القلب الفويرباخي للمسيحية يتلخّص في: الإنسان خلق الله على صورته لا العكس. وماركس الشاب يمضي من فكرة الانخلاع الديني الفويرباخية (الإنسان خلع أفضل صفاته في الله، خلع جوهره الحقّ في المسيح…) إلى فكرة الانخلاع الدنيوي – السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي، إلى الشغل المنخلع والملكية الخاصة والمال (مخطوطات 1844)، ثم إلى المادية التاريخية والجدلية على ركيزة مفهوم البراكسيس (العمل، الممارسة).

إذًا، لا علمانية من دون الدين، لا علمانية من دون معارضة الدين ونقد الدين، وفصل الدين عن السياسة وعن الدولة والمدرسة. ولا علمانية من دون معارضة الدين للعلمانية. ولا علمانية من دون نقد الأساطير، بما في ذلك الأساطير القومية. وفي الجملة لا علمانية من دون نقد الافتراضات المسبقة للدولة، إثنية كانت هذه الافتراضات أم طبقية أم مذهبية، مثل هذه الافتراضات تجعل من الدولة (دولة ناقصة) بتعبير ماركس، أو لادولة، كدولة البعث وخلافة البغدادي.

لقد استقل المجال السياسي عندنا عن المجال الديني استقلالًا ما، ولكن من دون حرية الضمير، لذلك ظل التنازع قائمًا على هوية الدولة ودين رئيسها ومصدر التشريع، كما راحت السلطة القومية (العلمانية) تفرض (إيمانها) وعقيدتها على المجتمع، تحت طائلة التخوين، ضاربة بتعدد (القوميات عرض الحائط، وراحت الجماعات الدينية تفرض (إيمانها) وتأويلها الخاص للنصوص (المقدسة) على المؤمنين، تحت طائلة التكفير، ضاربة عرض الحائط بتعدد الأديان والمذاهب. التخوين والتكفير صنوان متشابهان إبستمولوجيًا وأخلاقيًا، وقد كشفت الحرب الدائرة عن ذلك بوضوح. مبدأ حرية الضمير أو حرية الاعتقاد وحرية التعبير عنه هو ما يؤسس لمساواة قانونية عميقة وراسخة، لأن إيمان الفرد بأي عقيدة لا يمنحه أي امتياز على أقرانه أو أقرانها ونظرائه أو نظيراتها، ولا يمنح الرجال أي امتياز على النساء.

في معالجته الدين، أوصى جان جاك روسو الأستاذ (على لسان قس جبلي) ألا يكلم تلميذه عن الخلق والخالق قبل أن يتجاوز الخامسة عشرة. ودعا إلى عقيدة فطرية بسيطة سمحة خالية من كل تعصب، لا تترسخ إلا في فؤاد هُذِّب لهذا الغرض بالذات، كما أن النظام الجمهوري الديمقراطي لا يستمر إلا إذا قام على تعاقد بين أفراد تربوا منذ الطفولة ليكونوا مواطنات ومواطنين حقًا. واهم من يظن أن الإصلاح قد يأتي من فوق. هذا ترميم يعالج الأعراض فقط. لا مناص من خلق مستأنف حتى يتسنى بناء مجتمع جديد ونشر عقيدة جديدة ([32]).

تتلخص روية روسو للدين، بحسب العروي في الآتي: (الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد). هذا يعني أن الفرد الإنساني (الإنسان) هو المبدأ والغاية. سيقول ماركس، بعد ذلك: وجد الدين من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين. قد نتمكن من معرفة كل شيء عن الدين، لكننا لن نتمكن من معرفة أي شيء عن الإيمان، أي عن الوجدان والضمير الفرديين. ونفترض أن السلوك (الاجتماعي) لا يطابق الوجدان والضمير بالضرورة، أو لا يطابقهما دائمًا. ومن الصعب، بل من المتعذر أن نعرف أي السلوكات يطابق وجدان الفرد وضميره. نعرف بعض السلوكات التي نفترض أنها لا تطابق معاييرنا الأخلاقية، فنصف صاحبها بانعدام الضمير. الإيمان خاص بأفراد الجماعة الإنسانية كافة، أما الأديان فخاصة بالجماعات والمجتمعات. (بما أننا نرفض الخضوع لأي سلطة بشرية، لا نصادق على أي عقيدة متوارثة في بلد مولدنا. كل ما يمكن أن يهدينها إليه نور العقل، في حدود الطبيعة، هو دين الفطرة) ([33]).

المنطلق عند روسو دائمًا هو وجدان الفرد الحر المستقل، هذه الفردية البارزة عند روسو، ويجب أن تكون كذلك عندنا، هي، من أحد جوانبها، احتجاج على تغييب الفرد وإذابته في (جماعة أو مجتمع) على مر القرون السابقة، واحتجاج على هدر إنسانيته تاريخيًا. ومن البدهي أن نقول إن تغييب الفرد هو تغييب الإنسان. نحتاج إلى مفردات جديدة لوصف الفرد وأحواله في مجتمعات التسلط والاستبداد، التي إما أن تفرض عقيدتها على الأفراد، بمختلف وسائل الفرض وأساليبه، وإما أن تمنع الفرد من التعبير عما يؤمن به، وغالبًا ما تفعل هذا وذاك معًا.

لكن السؤال المطروح علينا جميعًا في هذه البلاد الملقاة على هامش التاريخ منذ قرون، هل حقًا لا نريد أن نخضع لسلطة شخص مثلنا، هل نرفض حقًا الخضوع لأي سلطة بشرية؟ سيقول بعضنا إنهم يخضعون لسلطة غير بشرية، كسلطة القرآن أو الإنجيل، على سبيل المثال. من حقنا أن نسأل هؤلاء هل يخضعون لهذه السلطة غير البشرية مباشرة كما يخضع المؤمنون أم بوساطة الأئمة والفقهاء والعلماء ورجال الدين أو الإكليروس؟ ألا تحوِّل هذه الوساطة الإيمانَ إلى مجرد اتِّباع وتبعية لأشخاص، قد يكونون دجالين ومنافقين و(بلا ضمير)، وما أكثر هؤلاء من المتعيشين على الدين.

لا يمكن أن تقوم ديمقراطية في ظل سلطة أو سلطات شخصية، نربي أطفالنا على طاعتها قبل أن يتعلموا المشي والكلام، فيعيدون إنتاجها، وهكذا جيلًا بعد جيل. أول أشكال التنكر لإنسانية الفرد هو أن نعلمه ما نريد وننطقه بما نريد ونجعله يهتم بما نريد أن يهتم به. والأدهى أن نرغمه على تصديق كل ما نعتقد به، فينتهي إما إلى شخص ليس هو، وإما أن يرفض الكل ويصبح سينسكيًا.

حرية الضمير وحرية الفكر من أهم مبادئ الحياة الأخلاقية، التي تتحدد بمدى انسجام هذه المبادئ أو مدى انفصامها، ويتحدد معنى السعادة ومعنى الشقاء. كيفما قلبت الأمر، لا بد أن تصل إلى أن الضمير يوجه العقل والعقل يوجه الحرية، والحرية جوهر الضمير، والغاية هي تصالح الإنسان مع نفسه ومع العالم. التبعية أو العبودية تقيد الضمير وتفسده، فقط الشخص الحر المستقل يستطيع أن يعمل على هدي ضميره. (يقال: كان لا بد من الوحي لكي نعرف على أي صورة يريد الخالق أن نعبده. ويُستشهد على ذلك بعدد الطقوس البشعة التي سنها الإنسان، بدون انتباه إلى أن مرد الاختلاف هو بالضبط تعدد الوحي. ما أن بدا للبشر أن يُنطِقوا الخالق حتى أنطقه كل واحد على هواه، وضمَّن كلامه ما أراد من معان. لو اكتفوا بما أملاه الخالق على قلب كل فرد لما وجد على الأرض سوى دين واحد).

(أليست وحدة الشعائر ضرورية؟ لا شك في ذلك. لكن هل الأمر بالخطر الذي تستدعي تدخل الرب؟ يجب أن نفصل ظاهر الدين عن حقيقته. ما يطلبه منا الخالق هو أن نعبده بالقلب، وتلك عبادة إن كانت صادقة واحدة. من العجب الأخرق أن نعتقد أن نوع اللباس الذي يرتديه القس، ترتيب الالفاظ التي ينطق بها، الحركات التي يقوم بها أمام المعبد، عدد الركعات التي ينجزها، كل ذلك يحظى باهتمام الخالق) ([34]). أما الشعائر فتلك مسالة نظام وسياسة، ولا تستلزم أي وحي. لو كان قلب الإنسان هو معبده الوحيد لما كان فوق الأرض سوى دين واحد، ولكانت البيع والكنائس والمساجد والمعابد ظاهرات اجتماعية، لأنها أماكن يؤمها مؤمنون وغير مؤمنين، أتقياء ومنافقون، بعضهم يقنِّعون نفاقهم بالعلم، وبعضهم الآخر بالمال والجاه، ولطالما كانت، وما تزال، منابر لتمجيد الطغاة. وتتساءلون لماذا يهتم الطغاة ببناء المساجد؟

إلياس مرقص مع هذا النَفَس، ضد الطائفية والتنكر للروح الإنساني، و(تسخير الدين لأسوأ دنيا). التنكر للروح الإنساني علامة على فساد الضمير ونكوص الوجدان أو وعي الوجود، إلى حالة الافتراس، وهو ما يفسر الممارسات الهمجية الجارية، تحت رايات (الدين). لذلك لم يكن يتوجس لا من الدين ولا من الفكر الديني. بل كان يرى أن (مشكلتنا ليست في سيطرة الفكر الديني، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي. المسالة الدينية خنقت وهمشت وحلت محلها المسالة الطائفية، حيث كل طائفة تريد أن تثبت أنها الحق وتنعزل وتنطوي وتهتم بتنظيم جماعتها من طريق الفقه، وتمتنع عن تطوير المبادئ الراسخة والثابتة. ولكنني أرى أن المبادئ الراسخة يجب أن تتحول إلى مسائل (Questions)… المبادئ مسائل تتطلب أجوبة وحلولًا جيلًا بعد جيل، مع معاودات دائمة) ([35]).

من أبرز مآخذ إلياس مرقص على الاشتراكية (العلمية) أنها همشت الدين أو ألغته، بالعسف والإكراه: (الاشتراكية العالمية همشت الدين أو ألغته. هذه خطيئة كبيرة، نظرية وعملية، فلسفية وسياسية. وهذا ما يدركه السوفياتيون على نحو متعاظم، في الوقت الحاضر، عشرات المقالات السوفياتية في هذه السنوات 1986- 1989 تشهد على ذلك). الدين لا يمكن أن يلغى بقرار، ولا يمكن أن يلغى بفرض عقيدة جديدة على المجتمع، ولا يمكن أن يلغى بالإلحاد الرسمي، الذي كأنه دين الدولة السوفياتية.

لا شك في أن ترسيمة مكيافيللي في (الأمير) (الدولة المركزية الحديثة) ترسيمة تأسيسية، ولا سيما عدّ المجال السياسي مجالًا دنيويًا خالصًا، والكنيسة واحدة من مؤسسات المجتمع المدني خاضعة للقانون، لكن هذه الترسيمة مدينة للتقاليد الجمهورية الرومانية التي لا تتواءم مع بيئة تتنافس فيها الكنيسة والملوك على السلطة، لذلك ظلت هذه الترسيمة تنتظر حركة الإصلاح الديني، التي أرست مبدأ حرية الضمير، الذي سيصير بموجبه الإيمان الديني مسالة شخصية، ليس للدولة أي سلطة عليه، وبالمقابل ليس للكنيسة أي سلطة في الشؤون الدنيوية. إن لا هوت لوثر عن الضمير الحر ذهب به نحو نظرة حديثة إلى المجتمع المدني.

يدل الإصلاح اللوثري على أن المسيحية كالإسلام، لم تكن تفصل الدين عن الدنيا والدولة، بل إن الكنيسة كانت تطمح إلى دولة مسيحية تبسط سيطرتها على العالم. ولذلك يبدو الإصلاح الديني شرطًا موضوعيًا لتشكل مجتمع مدني حديث، على مبدأ حرية الضمير.

التموضع، الاغتراب، والتشيؤ

التملك في منظومة مرقص الفكرية يحيل على التموضع عند هيغل وفويرباخ وماركس، ويتخطاه؛ إذ يصر مرقص على صيغة (تملك العالم بالمعرفة والعمل)، لا بالعمل فحسب. ربما انطلق مرقص من قولة ماركس: (كل إنتاج هو تملك)؛ والإنتاج عند مرقص مادي – روحي بالتلازم الضروري، مع استقلال كل منهما استقلالًا نسبيًا. الإنتاج المادي يحقق صلة فيزيائية مباشرة بين الإنسان والطبيعة أو العالم الفيزيقي، وهذا ما يجعل من العمل – الممارسة (البراكسيس) مصدرًا للموضوعية. الإنسان يضع ذاته، خصائصه النوعية، في العالم المادي، ويستعيد موضوعية هذا العالم في ذاته (يحوله في رأسه، ينشئ صورته الذهنية أو العقلية). أما الإنتاج الروحي: الأدب والفن والعلم والفلسفة فيحقق صلة روحية بالعالم، وهذه أعمق وأغنى من الصلة الفيزيائية. العمل مما يسعى الإنسان إلى التخفف من أعبائه، بعكس الإنتاج الروحي وما يتضمنه من ابتكار وإبداع. هذا النوع من الإنتاج يقبل عليه الإنسان بكليته، بكل ما لديه من رغبة وحماسة. ولا يقعنَّ في الوهم أن هذا النوع من الإنتاج مقصور على النخبة، بل هو قسمة مشتركة بين البشر عامةً، بدءًا باللعب وابتكار الألعاب وتنظيمها ووضع قواعدها وجعلها ميدانًا للتنافس الخلاق، إلى الأعمال اليدوية والهوايات التي لا حصر لها.

لكن الوجه الدراماتيكي للتموضع هو اغتراب ناتج العمل عن منتجه بالهبة أو البيع أو الغصب والاستيلاء (وضع اليد والغزوات والحروب)، أو باستغلال فائض القيمة، بحكم الملكية الخاصة والتبادل. وكذلك اغتراب ناتج العمل الذهني، حين يضع الإنسان خصائصه النوعية في شيء خارجي، ويمنحه قيمة مطلقة، فيتحول هذا الشيء إلى سلطة معنوية، إلى قوة تسيطر على الإنسان، وتسلب إرادته، مثلما تتحول منتجات العمل المادي إلى سلطة خارجية، تتحكم في المنتجين وتسيطر عليهم، وتسلب حريتهم. التموضع، عند فويرباخ هو علة الدين، وعند ماركس، هو علة ظهور الملكية الخاصة، وبهذا يبدو واضحًا التواطؤ التاريخي بين الدين الوضعي والملكية الخاصة، ويبدو واضحًا أيضًا الفرق بين الإيمان، الذي يلبي حاجة إنسانية، وبين الدين الوضعي، الذي ذهب به الناس مذاهب شتى، لا تعبأ بالإيمان، ولا تشترطه، وليس أي منها الدين، بألف ولام التعريف.

(الكائن المستقل عن الإنسان والمختلف عنه، عند فويرباخ، ليس شيئًا آخر سوى الطبيعة. والشعور بتبعية الإنسان للطبيعة، بما هي مصدر وجوده، هو أصل الدين. الطبيعة هي الموضوع الأصلي للدين، كما يبين تاريخ الديانات بصورة كافية. القول بأن الدين فطرة في الإنسان قول زائف إذا كان يعني التقديس والتأليه، ولكنه صحيح إذا كان المقصود به شعور الإنسان الفطري أو الطبيعي بالتبعية لكائن آخر مختلف عنه ويعتمد وجوده عليه، ويتحدد مصيره به). هذا مؤكد في تاريخ العقائد الدينية، لكن فويرباخ نفى أن يكون التقديس عنصرًا في الشعور الإنساني. البشر حتى يومنا يمنحون بعض الأشياء قيمة مطلقة، يقدسونها، كالوطن والقومية وعلم البلاد، والعرب يقدسون حكامهم المستبدين بهم، هذا دأبهم على مر التاريخ، وقد تعلموا ذلك من الفرس. وهؤلاء، أي الفرس، يعيدون إنتاج أسوأ ما في تاريخهم، أعني ولاية الفقيه وحكم الملالي، أردشيرات العصر الحديث (نسبة إلى الإمبراطور أردشير)، ويجعلون من الدين شريعة للعدوان وانتهاك الكرامة الإنسانية.

يعتمد الإنسان في وجوده ومعاشه على الطبيعة، وهذا الاعتماد مشترك بين الكائنات الحية جميعها، ولكنه يرتفع عند الإنسان إلى الوعي والتخيل، وعند التفكير فيه والاعتراف به يصبح دينًا. ولما كانت الحياة تعتمد على تغير الفصول كان الناس يحتفلون بهذا التغير بطرق درامية وطقوسية مبهجة، وما تزال بعض هذه الطقوس سارية إلى يومنا ([36])، ولطالما اعتقدوا بوجود قوى خارقة للطبيعة تمنحهم الخيرات أو تحرمهم منها. ودفعتهم أهمية الحيوانات في حياتهم إلى تقديس بعضها. إن تقديس الأشياء لا يغير طبيعتها، ولكنه يضفي عليها دلالات رمزية من بنات الخيال، فالماء المقدس، على سبيل المثال، يظل ماء، ولكنه يرمز إلى أصل الحياة. الله، هذا الكائن الرحيم العطوف الذي يجعل الشمس تشرق على الخيِّر والشرير والعادل والظالم ليس سوى الطبيعة نفسها، وليست الصفات الأخلاقية التي يوصف بها سوى صفات الإنسان العاقل والأخلاقي ذاتها.

رأى فويرباخ أن الكشف عن الاغتراب لا يتم الا من خلال فلسفة الدين، فالاغتراب أساسًا هو الاغتراب الديني، والاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب فلسفي أو اجتماعي، نفسي أو بدني. فإذا كان الاغتراب هو انقلاب الأنا إلى آخر فإن هذا الانقلاب يحدث أساسًا في تحويل خصائص الإنسان أو نقلها إلى كائن مفارق هو الله، قبل أن تتحول إلى عمل أو إلى نظام ومؤسسات. فالاغتراب الديني هو أسهل اغتراب وأسرعه وأكثره مباشرية.

بحث فويرباخ عن العلم الحي لا عن العلم الميِّت، والعلم الحي ليس حدًا على الجهل وقيدًا لأوهامه فقط، بل حد على الحقيقة المطلقة والعقل الكلي أو الروح المطلق. وأراد حقيقة مكتوبة بدماء القلب على صفحات التاريخ، لا بالمداد على ورق أجوف. الحقيقة هي الإنسان، لا العقل المجرد. انطلاقًا من هذه الحقيقة، يمكن تقليص الاغتراب شيئًا فشيئًا وصولًا إلى حذفه بإعادة المنزلة للعياني والمشخص بوصفه موضوع المعرفة، واستعادة الإنسان خصائصه الإنسانية جميعها بوصفها خصائص الفرد أنثى كان الفرد أم ذكرًا، امرأة أم رجلًا، وتمكنه السيطرة على نتائج عمله وفاعليته وصيرورة المعرفة ومنتجات العمل والفاعلية ثروة للذات وسبيلًا إلى الإشباع والسعادة، إذ الاغتراب تضحية بالعياني في سبيل المجرد، وتضحية بالفردي في سبيل الكلي، وقضاء على الإنسان في سبيل الآخر المفارق، بل الوهمي، الذي خلقه الجهل والعجز وهمًا خالصًا، طغت معه المعرفة الغيبية على المعرفة الواقعية أو الموضوعية، ولا تزال تلابس المعرفة العلمية في نظامنا التعليمي، وتراثنا وثقافتنا التقليدية، التي تذوب الواقع والتاريخ في الأسطورة، ولا سيما أسطورة الخلق التوراتية وفكرة الخليقة العبدية، وتبخرهما في الحقائق المطلقة و(القوانين) الجامدة، بحيث يتحول العلم إلى عقيدة تشبه العقيدة الدينية.

كان فويرباخ (يصر على أنه مثالي في ميدان الفلسفة العملية وحدها، فلا حدود للإنسانية، والفكرة لها دلالة اجتماعية وسياسية وأخلاقية. ويسمي نفسه روحيًا وضعيًا صاحب فلسفة إنسانية تجعل الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي، وتقيم فلسفة لاتأملية، فلسفة بدون ماهية مسبقة، مثل جوهر اسبينوزا أو ذات كانط وفيشته أو الهوية المطلقة عند شلنج أو الروح المطلق عند هيغل، فلسفة وجود واقعي، والإنسان هو أكثر الموجودات واقعية وموضوعية في علاقاته الحسية بالأشياء) ([37]).

أما كارل ماركس فقد عرض للاغتراب في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 التي تتركز على (اغتراب العمل) أو (استلاب العامل)، في المجتمع الرأسمالي ([38]). وإذ تحدث هيغل عن استلاب وعي الذات، وفيورباخ عن استلاب الإنسان المجرد غير التاريخي وغير الطبقي، فقد تحدث ماركس عن (اغتراب) العامل أو (استلابه)، وأضفى مضمونًا اقتصاديًا وطبقيًا وتاريخيًا جديدًا تمامًا على مفهوم (الاغتراب). يعني ماركس (بالاغتراب) أو (الاستلاب) العمل الذي يقوم به العامل مجبرًا للرأسمالي، وتملُّك الرأسمالي لناتج عمل العامل، (مقابل أجر)، وانفصال العامل عن وسائل الإنتاج التي تواجهه – وهي في حيازة الرأسمالي – كقوة غريبة مستعبِدة. وهكذا يؤسس ماركس تحليله للاستغلال الرأسمالي، من خلال التناقض بين العمل ورأس المال. ويبين كيف تشيئ الرأسمالية الإنسان، فتجعل من العمل البشري، ومن ثم من العامل محض سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب، وزائدة لحمية ملحقة بالآلة، نتيجة اغتراب العامل في عملية الإنتاج الاجتماعي الكلية، وغربته عنها.

لذلك افترضنا، في هذه القراء أن مرقص اهتم بما كان يرى، وبما نرى، أنه جذري في فلسفة ماركس. بل نذهب إلى أنه يضيف إليها عناصر هيغلية وفيورباخية، ولا سيما في موضع الاغتراب الذي يتجاوز عند مرقص اغتراب العامل عن ناتج عمله واغترابه في عملية الإنتاج الاجتماعي إلى كلية القهر وجدلية القهر أو جدلية الظلم: الظالم مضلوم، أو جدلية السيد والعبد المطورة عن هيغل، وكونية هذه الجدلية التي لونت التاريخ البشري بألوان قاتمة من البؤس والشقاء والغزوات والحروب.

نقد النزعة العلموية

الحقيقة عند مرقص لا تنحل في العلم؛ العلم مجال المعرفة التي تصيب وتخطئ، مجال القوانين، لا مجال الحقيقة؛ الحقيقة بصفتها نسبية ومتغيرة، تشمل قوانين العلم النسبية والمتغيرة (تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه، حسب كارل بوبر، فيلسوف العلم)، لكن قوانين العلم وحقائقه لا تستنفد الحقيقة. الحقيقة هي الإنسان والحياة الإنسانية، التي يهرب منها أعداؤها إلى (العلم والإيمان)، أو إلى المجتمع والأمة والقومية، أو إلى الطبقة والثورة.. إلخ، الحقيقة هي العالم القائم هنا والآن بتمامه. وحين نقول الحقيقة فوق الأمة، وفوق الطبقة وفوق الثورة، نعني أن الإنسان، الفرد الإنساني، المرأة والرجل، فوق الأمة، وفوق المجتمع وفوق الطبقة وفوق الثورة، وإلا يكون الرمزي أهم من العياني، والمخلوق أهم من الخالق، والحكم العقلي أهم من الحاكم، أهم من العقل. قابلية الإنسان للخطأ حقيقة، كقابليته للإصابة، وقابليته للتحسن.

يقول مرقص: (يمكن أن أتذكر عشرات الكتب العلمية، أو العلمية البحتة إن شئتم، الصادرة عن علماء كبار، بعضهم حامل جائزة نوبل، وهذه الكتب لهؤلاء العلماء لا تمتنع بتاتًا عن التطرق إلى أساطير وإلى خرافات وإلى حكايا أطفال شهيرة وإلى شتى الآداب والفنون عدا، بطبيعة الحال، الأديان والرموز الدينية، وتتخذها مرجعًا ومصدرًا ومنبعًا. لا يا سادة، هذا كله ليس خارج (الحقيقة). أنتم لا تعرفون الحقيقة. أولًا لأنكم بدون مقولة الروح … من هؤلاء العلماء، أذكر فرانسوا جاكوب، عالم الوراثة الكبير، صاحب كتاب (لعبة الممكنات) وكتاب (منطق الحيّ)، (منطق الحي) وليس (المنطق الحيوي). منطق الحي la log du vivan ضد منطق (المنطق الحيوي). (الحي) له منطق.

أما عندنا فكثيرًا ما تصبح (العلمية) بديلًا عن الحقيقة، حاذفة للفلسفة والمنطق، والأخلاق ([39])، وخادمة (عند الاقتضاء) لأخلاقوية كاذبة نابت عن معرفة الواقع. (علم) science. هذا يعنى أولًا: فكر، فكر فكري، أولًا هذا الفكر، الذي الكلي إياه! هذا الفكر الذي ليس (فقهًا)، فقه ويتصور نفسه فكرًا. والشعر أيضاَ، الأدب أيَضاَ، فكر! هذا إذا لم ينحز للشعور ضد الفكر إذا لم يطلق القبض المفهومي على واقع حي، إذا لم يسترخص نفسه، إذا كان بالفعل شعرًا وأدبًا وفنًا، إذا كان روحًا وتملكًا للعالم.

(هذا الذي بالنسبة لي يجب أن يكون الحق، الحقيقة، العدالة، هو روحُ روحي، L esprit de mon esprit. لكن ما يخلقه الروح على هذا النحو بنفسه، ما له في نظره هذه القيمة، يجب أن يأتي منه كما من الكلي، كما من الروح الفاعل بوصفه كليًا، لا من أهوائه، مصالحه، نزواته، خيالاته، أهدافه، ميوله، الخ. أجل هذا كله هو أيضًا شيء داخلي، وضعته الطبيعة فينا)، لكنه ليس خيرنا الخاص إلا على نحو طبيعي) … لينين يتحمّس لهذا الكلام، ويضيف: المثالية الفهيمة أقرب إلى الماديانية الفهيمة من الماديانية البهيمة، (يتبنى) قول بروتاغوراس، (الإنسان مقياس كل الأشياء) ويتبنى ضدّه رد سقراط: (الإنسان، ككائن مفكّر، مقياس كل الأشياء، يتذكر أطروحة هيغل وفويرباخ: (في اللغة لا يوجد سوى الكلي)، يوجه طعنة لبليخانوف الذي لم يكتب حرفًا عن كتاب المنطق الكبير، إذن عن (الديالكتيك كعلم فلسفي)، مع أنه كتب الكثير عن الديالكتيك في (العمومية)، في الطبيعة والتاريخ، كفلسفة بوجه (عام)، ينتقل إلى فلاسفة برقة (كورنيا) الإحساسيين وإلى كنت مضيفًا ماخ وجماعته. هذا الملف واحد، لينين يفهمه، يستوعبه إيجابيًا. إنه يتعلم الفلسفة، أي الطريقة، المنطق. من الحقيقة العليا المجردة إلى الحقيقة العيانية: هذا (واحد). ولأنه (يوجد) منطق لذلك (يوجد) تاريخ.

(مذهب ماركس الآتي بعد هيغل، أي على أساسه وأرضيته، هو (منطق الواقع) ([40]). الواقع له منطق، منطقه هو، لا منطق الذوات. الواقع، العالم، هو الذات، (المبتدأ) (المُسند اليه)، هو المرجع الأخير، لمعرفة الإنسان. وثمة (فرق) بين الريبية والاتفاقية والوضعانية والعلموية من جهة وبين الديالكتيك من جهة ثانية، الموقف الأول (ينفي) (يحذف، يطرد) المطلق، الذي (هو (عنصر) الفلسفة، كما يقول هيغل، بدونه تموت الفلسفة، كما بدون الماء يموت السمك. هذا الفرق هو تعارض أولي ونهائي. إن رفض المطلق معناه رفض المفهوم والمفهومية، رفض العقلانية، السقوط (الأصلي) في عقيدة الجوهر والجواهر، الماهية والماهيات، عقيدة عالم الأصناف (الأعراق والإثنيات والقوميات والطوائف).

(رفض المطلق سقوطٌ في مطلق ما، في مطلق معيّن، (مثالي) أو (مادي)، تحويلٌ لنسبيٍ ما إلى مطلق، حل المطلق في نسبي من النسبيات، في جوهر/ ذات. هذه حالة عربية معلومة. وحالة عربية معلومة هي أيضًا (نقيض) مكمّل في الفكر العربي الحاضر، الانشطار والتباعد والتطارد بين أزلي هامد ومحيِّد وزمني عابر و(يومي)، (يتوحدان) في سرمدية الثوران وثوران السرمدية. أي بالضبط عكس المفهومية والتاريخية. لا يرون الفلسفة، أقصد لا يرونها منطقًا، فكرية ومحض فكرية، إذن ومن ثم فكرية حقيقية هي وحدها قادرة على فتح الوجود معرفةً وعملًا في العلمية، في النظر إلى العلم والعلوم، (وفي التعليم)، يخفضون (أو يحذفون) الشكل والرياضة، المنطق الشكلي والرياضيات، والميكانيك بوصفه ميكانيكًا عقليًّا، اللامتناهيات، (نظرية الخطوط) و(نظرية الالعاب). إنهم ممتنعون عن فكرة (القضاء)، الضرورة/ الحظّ التي هي وتصير، في الفكر الصحيح، الضرورة والمصادفة، التي هي وتصير العشوائية، (علم الزّهر) الكوني. إنهم يجهلون علم باسكال وعلم لايبنتس كرههم للميكانيك كرهٌ للعقل. الدخول في عصر السيبرنيطيقا مستحيل. لنقل ضدهم: إن المطلق والنسبي ليسا شيئين، (موجودين)، لا النسبي شيء ولا المطلق عفريت، المطلق والنسبي مفهومان وحدّان، المطلق حدّ يحد النسبي، ومن ليس في فكره وفي روحه المطلق يحوِّل نسبيّة إلى مطلق. وذلكم هو الاستبداد!).

الطبقة العاملة ذات أم موضوع

يقول إلياس: بالنسبة إلى حزب الطبقة العاملة، الطبقة العاملة تدخل في مقولة الموضوع، هي (مأخودة مع وفي العلاقات والتناقضات كلها) الموضوع، وهذا لا يعني أنها ليست ذاتًا، أنها موضوع ليس ذاتًا، فهي – وهذا ما تعنيه كلمة موضوع، في نظرنا ونظر فويرباخ – (كائن – لذاته) في جملة الكائن. الواقع الموضوعي، الكينونة المادية، الطبيعة إلخ = كائن في ذاته وبذاته ولذاته، ذات – مبتدأ حامل المحولات، EN – SOI – SUJET-POVRE – SOI والجزء الخاص من الواقع الموضوعي أو الكينونة أو الطبيعة الذي هو البشر، الإنسان، فاعليته الهادفة، هو ذات ذاتية، هو ذات بمعنى هدف، وعي إلخ. هذه هي خصوصيّته وخاصته. الحزب الذي يتعامل مع الموضوع على أنه ليس ذاتًا ينطح رأسه على صخرة الموضوع.

لا نوافق إلياس مرقص في عدّ الطبقة العاملة موضوعًا، وخاصة من وجهة نظر الحزب، ونرى أن هذا يصب في عبادة الحزب التي تحدث عنها، والتي كانت في أساس تحول الحزب إلى حركة توتاليتارية، في الاتحاد السوفياتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه. لا يكفي أن يكون الحزب ماركسيًا أو ماركسيًا لينينيًا، أو ماركسيًا لينينيًا ستالينيًا أو ماويًا، لكي لا يتحول إلى حركة توتاليتارية، من مثل الحزب الفاشي في إيطاليا والنازي في ألمانيًا، وهما حزبان اشتراكيان، أو حزب البعث في سورية والعراق، واستطالاته في بلدان عربية أخرى. السبب الرئيس في إمكان التحول هذا هو الهوة الفاصلة بين وعي الحزب الذي قوامه من الفئات الوسطى، ووعي الطبقة العاملة، أو عدم تحول الطبقة العاملة من طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها. لينين وأمثاله قفزوا في هذه الحيثية فوق الواقع، فوق الحاضر، حاضرهم، وحاضر الطبقة العاملة، حتى ليمكن القول إنهم لجموا إمكان تحول الطبقة العاملة إلى طبقة لذاتها، وجعلوها سمادًا لعظمة الحزب. لم تشهد البشرية مظاهر عبادة الحزب قبل النازية والفاشية وقيام الاتحاد السوفياتي. الستالينية لم تأت من فراغ، وكذلك الصدامية والأسدية.

لا يمكن أن يتشكل وعي طبقي – أممي من دون وعي الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني، إلى البشرية العاقلة والأخلاقية. الوعي محمول على الكائن، أجل، ولكن الكائن الإنساني هو وعيه الذاتي أيضًا، تحديداته الذاتية، لا تعييناته الموضوعية فحسب، حريته واستقلاله الذاتي وتمكنه الكياني، فكره وضميره، شعوره بسمو الرابطة الاجتماعية، وسمو الرابطة الإنسانية وسمو القانون. لقد حان الوقت لإعادة التفكير في التصنيفات الطبقية وصراع الطبقات، لا سيما بعد تغير بنية العمل والإنتاج الاجتماعي، وغلبة الطابع الذهني، ونمو اقتصاد المعرفة ومنجزات الثورة التكنو-إلكترونية وتكنولوجيا النانو، والتحديات التي تطرحها هذه المنجزات على الفلسفة عامة، وعلى الماركسية خاصة.

ولا بأس أن نشير هنا إلى أنه، على الرغم من ألمعية مرقص الفلسفية، وجسارته العقلية، واطلاعه على منجزات العلوم الحديثة، ظل الطابع الكلاسيكي للماركسية غالبًا على مقارباته النظرية، التي اقتضتها جدالاته مع الأحزاب والمنظمات الماركسية، وعنايته الخاصة بنقد ستالين والستالينية. وربما كانت البكداشية، النسخة العربية الأردأ للستالينية، تستفزه أكثر من سواها، فعمد إلى هدم مرتكزاتها النظرية والسياسية ([41])، وعارض الأحزاب الشيوعية التي نقدها بحزب ماركسي لينيني عربي، لم يسع إلى تأسيسه، ولم يكن راغبًا في ذلك، على ما أعلم.

(إن الانتقال من الفكري أو المثالي إلى الواقع أو الواقعي لا يجد مكانًا إلا في الفلسفة العملية)، (فويرباخ)؛ إذا كان الفكري يجد مكانًا في (الفلسفة العملية)، وبما أنه يجد مكانًا في العمل، طبيعي أن يجد مكانًا في (الفلسفة النظرية)، في الفلسفة، في العالم، في العلوم، في (المعرفة)، والاّ صارت الفلسفة النظرية في واد آخر، وتخلّت عن مهمة تسليح العمل وإرشاده بدقة، عند البؤرة العيانية. الماركسية – ماركسية ماركس وإنغلز ولينين – حلّت هذه المسالة. لا يمكن ولا يجوز إقامة فلسفتين: نظرية وعملية. الثانية لن تكون فلسفية، لن تكون منطقًا، جدلًا، نظرية معرفة).

الأولى ستكون فلسفة بالمعنى القديم. ما يقيمه لينين هو منطق من أجل العمل، جدل من أجل السياسة، نظرية معرفة من أجل الموقف العياني، بوساطة علم المادية التاريخية وعلم الاقتصاد السياسي الماركسي ومباشرةً من دون هذه الوساطة (أي من المنطق إلى العمل العملي، من الفلسفة إلى السياسة). (الفلسفة العملية) إكمال مستحيل لقصور (الفلسفة النظرية). الفلسفة واحدة: نظرية، وهي في خدمة العمل، كل الأعمال. هكذا الأمر أو هكذا يجب أن يكون عند الماركسيين. الفلسفة ليست (عالية)، ليست ما ورائية وأفلاطونية.

علاقة النظر والعمل قائمة في شغل الشغيل (صنع طاولة، أو صنع حذاء). في اللغة، (التصوّر المفهومي) هو (أيضًا) (التصميم) (التخطيط). أشكال الوعي الاجتماعي المختلفة – دين، فن، علم وعلوم… قائمة على هذا الأساس. إنها أشكال التملك المختلفة، تملّلك الإنسان للعالم (عالمه، في الخيال وبالخيال، بالصور، بالنظر العلمي إلخ، أي بالروح التابعة للعمل وللحياة.

قال إلياس إنه بهذا يظلم أفلاطون. نعتقد أنه يظلم كنط أيضًا خاصة مؤلف كنط الشهير: (نقد العقل العملي)، إنه يظلم أفلاطون وكنط من أجل لينين، مع أن 90 بالمئة من مؤلفات لينين لا علاقة لها بالفلسفة، لا علاقة لها بالفكر النظري.

البيئة، بيت الوجود الإنساني

لم يُعنَ المفكرون العرب عمومًا والسوريون خصوصًا بالبيئة، بمفهومها الحديث الشامل. لا شك في أنهم تحدثوا عن الظروف الموضوعية والشروط التاريخية والشروط الطبيعية، التي تؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية خاصة، ولكن مفهوم البيئة كما قاربه مرقص، وكما أنضجته العلوم الإنسانية اليوم أمر مختلف. ربما يكون الأساس الذي بنى عليه مرقص رؤيته للبيئة هو قول ماركس: (الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم). لأن الشروط الموضوعية، غير المُدرَكة، أو غير المأخوذة في الحسبان هي التي تحول دون مطابقة النتائج للأهداف والغايات، وهذا ما يحيل على معقولية الواقع ومنطق التاريخ.

العلوم الإنسانية الحديثة تنظر إلى الإنسان الفرد، الرجل والمرأة، بوصفه (منظومة بيئية) أو إيكولوجية، وكذلك المجتمع. فالبيئة هنا لا تقتصر على الشروط الجغرافية أو الطبيعية، ولا على الشروط التاريخية مفصولة عن الشروط الطبيعية، بل تتعداهما إلى تأثير البشر في هذه الشروط وتـأثرهم بها. وهذا يتصل بمفهوم التموضع، الذي توقفنا عنده، حتى ليصح القول: إن البيئة هي الإنسان مموضعًا. وهذا مدخل مناسب لتفسير الاختلاف بين التجارب الإنسانية، وبين الثقافات الإنسانية أيضًا، على نحو ينفي أفضلية إحداها وامتيازها على غيرها، وعدها مرجعًا ومعيارًا لغيرها. مسألة البيئة، مفهومة على هذا النحو، مرتبطة بالرؤية الديمقراطية للمجتمع والإنسان والجماعة الإنسانية. هنا تتجلى رؤية مرقص الفلسفية، المستندة إلى فلسفة ماركس التي تتجاوزها أيضًا.

لنقرأ: (إذا كانت البيئة الجغرافية تعيينًا determination وحدًا terme فهي معيِّنة ومحددِّة ومقررِّة، إنها تدخل في جملة المعيِّنات. (هذه (الجملة) التي هي كلّ، – أو مجموع من معينات يصلح ويجب أن تعامل بوصفها عوامل: إن نضال بليخانوف ضد (نظرية العوامل) ملتبس). إنّ واقع أن هذه (الطبيعة) ثُقفت وصارت تاريخية، إنّ واقع أنها (اختلطت) بشيء آخر هو عمل وعمران وصنع بشري لا يعنى أنها خرجت من الكينونة. لعله يجب القول إن (الإيكونوميا) (علم الاقتصاد) تصبح اليوم (جزءًا) من (الإيكولوجيا) (علم البيئة أو الحياة – بيئة). مؤلفات ماركس، عالم الاقتصاد السياسي الكبير، في علم الاقتصاد تحمل جميعًا في عنوانها ذاته أو تحته عبارة (نقد علم الاقتصاد السياسي)، (أسس نقد الاقتصاد السياسي) … (كل نظرية اقتصادية هي، بما أنها اقتصادية، خاطئة)، كل علم (كل ميدان) هو تجريدٌ، قبض على جانب… ستالين نفسه، في مؤلفه الأخير (المسائل الاقتصادية الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، 1951) يحدد موضوع علم الاقتصاد السياسي بأنه ميدان مستوى علاقات الإنتاج، مُخرجًا منه قوى الإنتاج، التكنولوجيا، إلخ. مع أنه هو نفسه وبطبيعة الحال، في تصوره المادي للمجتمع والتاريخ، يعلل المستوى المذكور بمستوى قوى الإنتاج، يحيلنا إلى قوى الإنتاج ولا سيما أدوات الإنتاج. ليس هذا كله باطلًا، البتة، لكن يجب إذن أخذ وعي قضية المعرفة والعلم من أساسها، أخذ وعي مبدأ التجريد والعزل، أخذ قياس المستوى أو الجانب. ليس من حكم مطلق يحسم قضية (حسية) أو (تقريرية) الأدوات أو الشروط الطبيعية البيئية أو أي شيء آخر في تطور الإنسان وتاريخه ([42]).

المجتمع الحديث، وفق التصور الإيكولوجي، منظومة أيكولوجية كبرى مستقلة نسبيًا، وفائقة التركيب والتعقيد، ذاتية التشكل وذاتية الاشتغال، وذاتية التعديل، وذاتية الترميم، مثله في ذلك مثل الجسم الحي كلما ازداد تعقيدًا ازداد استقلالًا وحرية، بخلاف البنى البطركية البسيطة بساطة العلاقات الأولية.

خاتمة

إنها لمفارقة أن نختم ما لا يقبل الاختتام. منظومة مرقص الفلسفية مفتوحة، لأنها ناقصة، وناقصة لأنها مفتوحة، مسائلها راهنة، ليس في أي منها قول أخير. وليس على أي منها حكم قطعي ونهائي، سوى في مثل قوله: الحقيقة (في عالم الإنسان) هي الإنسان)، (الحقيقة هي الحياة الإنسانية). وأسئلته مفتوحة أيضًا، يحتمل كل منها إجابات مختلفة اختلاف الأفراد ومواقعهم الاجتماعية وزوايا نظرهم إلى الواقع.

لقد بدأنا هذه المقاربة بمصادرة على المطلوب، بدءًا من عنوانها: (إلياس مرقص المثقف الفيلسوف)، مع إدراكنا أن مثل هذه المصادرات تقود الباحث إلى فخ المنهج الاستنتاجي، وما يمكن أن يجر إليه من تعسف، حاولنا تجنبه قدر المستطاع. إلا أننا عملنا بموجب ظننا بأن المنهج هو إدراك منطق الموضوع، ولقد تركنا لهذا المنطق أن يأخذنا في شعابه ومساراته، فتوصلنا إلى أن إرث إلياس مرقص، بما له وما عليه، فكر إلياس مرقص، فلسفته، شكل من أشكال الروح الإنساني أو مظهر من مظاهره، في هذه البقعة من العالم، في هذه البيئة المحددَّة والمحددِّة. والحكم الأخير للقارئات والقراء.

  1. () جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2012، ص 130.
  2. () راجع/ي، فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار بترا، دمشق، 2009، ص 9 وما بعدها.
  3. () عن باسكال يونيفاس، المثقفون المزيفون، النصر الإعلامي لخبراء الكذب، ترجمة روز مخلوف، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2013، ص 13 – 14.
  4. () إيمانويل كانط، ما هو التنوير، ترجمة عبد الله المشوح، على الرابط: http://hekmah.org/.
  5. () إلياس مرقص، قضايا وشهادات: الثقافة الوطنية، ج2، عيبال، المغايرة الكون والتاريخ، (ربيع 1992)، ص32.
  6. () كان إلياس مرقص يصف نفسه بأنه وحدوي، لا قومي. هذا الوصف يطرح سؤال الوحدة على قاعدة جديدة غير أيديولوجية (القومية العربية)، المشرقية والعنصرية، كما وصفها ياسين الحافظ.
  7. () نعني بالعقلانية العقلانية وحدة المصالح والمبادئ، واتساق الأهداف والوسائل، وهذه نقيض العقلانية النفعية، التي ينتهجها الأفراد والجماعات لتعظيم مصالحهم الشخصية والخاصة، والتي يمكن أن تؤول إلى سينيكية (كلبية) على الصعيد الأخلاقي، حين تنفصل عن المصلحة العامة، وتتجاوز القوانين والأعراف والقيم الاجتماعية، فتولد الفساد الاقتصادي والمالي والإداري والسياسي والأخلاقي، وتجعل منه ركنًا أساسيًا من أركان النظام، فيكف النظام عن كونه نظامًا عامًا.
  8. () مرقص، حوارات لم تنشر، ص 83.
  9. () إلياس مرقص، من مقدمة كتاب: جاك كوفان، القرى الأولى في بلاد الشام، (دمشق: دار الحصاد، 1995).
  10. () انشرت في سورية أو نُشرت مقولة: (الأسد باني سوريا الحديثة). وقد نقل ميشيل كيلو على لسان سعد الله ونوس، أن سعد الله قال لحافظ الأسد، عندما اجتمع به: لا يليق أن يقال ويكتب (سوريا الأسد)، فاكفهر وجه الأسد، وأجابه: ماذا كانت سوريا قبلي؟ ما يعني أنه هو باني سورية.
  11. () من مقدمة كتاب لودفيغ فويرباخ، مبادئ فلسفة المستقبل (بيروت: دار الحقيقة، 1975).
  12. () إلياس مرقص، حوار العمر: حوارات أجراها وحررها جاد الكريم الجباعي، (دار حوران: أشرفية صحنايا، 1995)، ص 40. هذه إشارة مهمة جدًا، فمن بين المفكرين العرب، وحده إلياس مرقص ربط الفلسفة بالشعب وبالواقع، ربطًا وثيقًا. وفي حين لم يكن مأخوذًا بالشعبوية، فقد كان مؤمنًا بأن الفكر هو فكر البشر على اختلاف كفاياتهم وتباينها، وبأن الحقيقة في متناول الجميع وفوقهم وأمامهم. القضية الأساسية عنده كانت قضية الفلسفة وقضية الواقع وقضية الشعب. الأصل الشعبي لمقولات الفلسفة هو الضمانة الواقعية لمشروع اندراج الفلسفة في حياة الشعب، وتوحيد الثقافة والشعب. الضمانة الموضوعية لتحقيق الفلسفة أو وقعنتها في العالم، أي جعلها واقعًا. لذلك رأينا أن فكر إلياس مرقص يقع بين الفلسفة ومشروع تحقيقها. مشروع تحقيق الفلسفة هو النهضة والاستنارة والنمو أو التقدم. هذا في مواجهة خبل شعبوي، ديماغوجي، قوامه ازدراء الفلسفة، والازورار عنها، وفي مواجهة تسلط أعمى، أو استبداد شرقي، يمنع تدوال الأفكار، ويمنع أي مساحة أخلاقية للحوار والنقاش العام، وفي مواجهة حكام لا يعرفون سوى أن يحكموا بالقسر والإرغام. (المحرر)
  13. () إلياس مرقص، من مقدمته لكتاب موريس لانجليه، (العبودية)، ترجمة إلياس مرقص، دار الحصاد، دمشق، 1994.
  14. () بعض العاملين في اجتماعيات الثقافة من العرب، يفصلون المعرفة عن العمل، والثقافة عن الإنسان، الذي ينتجها، ويعيد إنتاجها هنا والآن، فيغدو المجتمع لديهم مجرد بنية رمزية، وعلاقات متوترة بين (الثقافة الشعبية)، وهوية الأمة المجوهرة، وبين الحداثة الموصوفة بأنها حداثة (النخبة)، كما لدى برهان غليون، وآخرين.
  15. () مرقص، مقدمة كتاب: موريس لانجليه، العبودية.
  16. () جاد الكريم الجباعي، الماركسية والرهان الديمقراطي، مخطوط.
  17. () نقصد بالعلم هنا، المعارف التي نتلقاها في المدارس والمعاهد والجامعات ونستظهرها في الامتحانات لنيل الدرجات العلمية التي تمنحنا أهلية ومكانة اجتماعيتين، باستثناء العلوم التطبيقية التي تؤهل للمهن العلمية من مثل الطب والهندسة، بما فيها الهندسة الزراعية.
  18. () لم يتمثل الناس، في مجتمعاتنا، أن ما يحدث لهم من خير هو من خير أنفسهم، وعمل رؤوسهم وأيديهم، وأن ما يصيبهم من شر هو من شر أنفسهم، وعمل رؤوسهم وأيديهم.
  19. () من مقدمة كتاب موريس لانجليه، العبودية.
  20. () عنوان قصدية الشاعر الإنكليزي، ت. س. إليوت، (الأرض اليباب).
  21. () مرقص، حوارات غير منشورة، ص 281.
  22. () وردت هذه الصيغة في مقدمة كتاب جاك كوفان، القرى الأولى في بلاد الشام، (دمشق: دار الحصاد، 1995).
  23. () إلياس مرقص، الماركسية اللينينية والتطور العالمي والعربي في برنامج الحزب الشيوعي وفي نقدنا لهذا البرنامج، (بيروت: دار الحقيقة، 1970)، ص 13.
  24. () إلياس مرقص، حوار العمر، حوارات أجراها وحررها جاد الكريم الجباعي، (دمشق: دار ترقا، 1995)، ص 66.
  25. () مرقص، من مقدمته لكتاب جاك كوفان، العبودية.
  26. () جون رولز، العدالة كإنصاف، حيدر حاج إسماعيل (مترجمًا)، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، 2009)، ص 215 وما بعدها.
  27. () جون إهرنبرغ، المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة، علي حاكم صالح وحسن ناظم (مترجمان)، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 16، بتصرف.
  28. () مرقص، من مقدمة، كتاب جاك كوفان، العبودية.
  29. () من مقدمة إلياس مرقص لكتاب جولييت منس (المرأة في العالم العربي)، (بيروت: دار الحقيقة، 1980).
  30. () ماركس وباور، حول المسألة اليهودية، ترجمة إلياس مرقص، (بيروت، دار الحقيقة، د.ت)، والمقتبس من مقدمة مرقص لهذا الكتاب.
  31. () ليته ترجم لنا كتاب فويرباخ الأهم في هذا الموضوع، نعني (جوهر الدين) أو (ماهية الدين)، فلم نجد لهذا الكتاب سوى ترجمة متعسرة، وليت أحدًا من المهتمين يقوم بترجمته.
  32. () جان جاك روسو، دين الفطرة، عبد الله العروي (مترجمًا)، (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص 9 – 10. التشديد من عندنا (المحرر)
  33. () روسو، 16.
  34. () روسو، ص 90.
  35. () مرقص، حوارات غير منشورة، ص 267.
  36. () فويرباخ، أصل الدين، أحمد عبد الحليم عطية (دراسة وترجمة)، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1991)، ص 42 وما بعدها. (بتصرف)
  37. () حسن حنفي، «الاغتراب الديني عند فيورباخ»، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الأول، (وزارة الإعلام، الكويت، 1979)، ص 49.
  38. () كارل ماركس، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، محمد مستجير مصطفى (مترجمًا)، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، د.ت)، ص 40 وما بعدها. (استندنا إلى هذه الترجمة قبل أن تتوفر ترجمة إلياس مرقص، التي نفدت من وقت طويل)
  39. () (الأيديولوجية) و(العلموية) تتقاسمان الفكر العربي التقدمي (وغير التقدمي)، كلاهما باطل وقاصر.
  40. () أشرنا إلى تحفظنا على هذه الصيغة.
  41. () لا أستبعد أن يكون هناك بعد شخصي مرافق لنقد البكداشية، إذ شهَّر به الحزب الشيوعي السوري، وألقى عليه وعلى فكره نوعًا من حرم كنسي، بل تعدى ذلك إلى الاعتداء عليه جسديًا.
  42. () هذا ما يتعارض ويتنافى مع ماركسية ستالين ومع كتابه الأخير، مع قانون (التوافق الضروري بين كذا وكذا)، أي مع إعلان ستالين، ضد كل واقع، إن ثورة 1917 الروسية نبعت من وجوب إقامة التوافق بين علاقات الإنتاج المتأخرة وقوى الإنتاج المتقدمة (مرقص).

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية