Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

العبودية… التقدم، وبعض قضايا الفكر العربي المعاصر

– 1 –

العبودية ليست مرحلة عابرة في مسار البشرية، أو ظاهرة هامشية في حياة الشعوب والحضارات، أو جريمة نتجت من كون بعض الناس أشرارًا.

العبودية ترتبط بالشغل شرط، وجود الإنسان. هذا الشغل وهذا الوجود لهما نشوء وتكوّن. فالبشر ينتجون -اجتماعيًا- وجودهم، وهذا الإنتاج خاضع لمنطق، وله تاريخ. البشر وجودهم منتج، ناتج، نتيجة: مجتمعهم ناتج ونتيجة؛ لا وجودهم ولا مجتمعهم بدهية أصلية. يصنعون تاريخهم؛ لكنهم لا يصنعون تاريخهم ولا حتى وجودهم مثل ما يشاؤون. (النتيجة)، الناتج، مقولة في (الموضوعي).

لنحاول أن نؤسّس لفكرة المنطق، الواقع.

يمكن تلخيص مذهب هيغل وماركس بفكرة منطق الواقع. هذه الفكرة بعيدة عن الذهن العربي أو العقل العربي بعد الأرض عن السماء بوصفها نمطًا فكريًّا وأفكارًا، أي غنوزيولوجيا، مع العلم أن اللغة العربية -ولحسن حظنا- بطبيعتها الصرفية تساعد في فهم الفكرة المعنية.

كل ما هو موجود (فيما عدا الله)، إنما هو ناتج ونتيجة ومنتوج. الغنوزيولوجيا الهيغلية/ الماركسية المرتكزة على كل الفلسفة وكل التقدم البشري والأوروبي قائمة على تحويل (الموجود) إلى نتاج ومنتوج ونتيجة

اللغة العربية -وحدها- تحيل في هذا المسلسل المتغير أو المنوّع على جذر واحد هو فعل (نتج). لدينا نتج، أنتج، استنتج إذن، النتوج والناتج والنتيجة والإنتاج والمنتج أو المنتوج أو الناتج مرة أخرى والاستنتاج.

التحويل الذي ذكرته، تحويل الموجود إلى نتاج ومنتج/ نتيجة، هو تقليص. هناك من يقف أمام الموجود والوجود، من يسعد ويطرب وتنطلق شاعريته أمام الوجود. الذهن، الفكر، الفهم.. إلخ، يفهم، يريد الفهم، يريد المعرفة، يريد تعليل الموجود، كل موجود إنما جاء إلى الوجود. لو لم يجئ إلى الوجود لما كان موجودًا، خلاف ذلك هو تأليه هذا الموجود، هو تشييء وتجوهر هو وثنية، بل لنقل هو كفر، ضد الله سبحانه وتعالى!

بدءًا من (اللحظة) التي تعبُر فيها البشرية حالة الصيد، القطف، منتقلة من الشغل/ القنص إلى الشغل/ الإنتاج والتحويل والتأنيس، ومتخطية بذلك تعدادًا للنوع كان يدور حول عشرة ملايين من النفوس، إلخ، بدءًا من تلك (اللحظة) يبدأ الرّق، ويُصبح تاريخ الشغل والإنسان في أحد أهم وجوهه تاريخ العبودية. إن التاريخ، تاريخ الإنتاج الاجتماعي لحياة البشر، هو تاريخ الشغل بوصفه الشغل العبدي. (اللحظة) المعنية منطق واقع وتاريخ. إنها في الديمومة والتوالي في كونية البشر التي هي بسط في المكان والزمان([1]).

مأساة؟

أجل. أجل. لكن أيضًا:

إن الانتقال من ((قتل الإنسان والتهامه)) إلى ((أسره واستعباده))، من استهلاك لحمه إلى استهلاك قوة شغله، كان على امتداد آلاف السنين تقدمًا كبيرًا في كل مكان. إنه انطلاق التاريخ: الإنسان يخرج من الهمجية، من الحال الغابية أو البرِّية، وقصة إبراهيم رمز ديني كبير، الأضاحي البشرية بقية تذكر بالهمجية الأولى، ولعلها لازمت الحضارات الكبريات جميعها في مختلف القارات. قصة إبراهيم تعلن انتهاء هذه البقية، ولشيء مرعب.

((من أكل لحم البشر إلى العبودية)) هذا عنوان الفصل السادس، أول فصول ((تاريخ العبودية)) في كتاب العبودية الذي بين يدي القارئ إن ((تاريخ العبودية)) هو الجزء الثاني والأخير في هذا الكتاب الوجيز. الجزء الأوّل هو ((تحليل المؤسسة الرقّية))؛ فالعبودية، الرق، مؤسسة بشرية كبيرة.

لنلق نظرة على كل من الجزأين

الرق التعايشي، الإنسان الماشية، استعمال العبيد، موقع القطيع، العبد، وإسهامه في (المدينة)، الأساس الأول للتفاوت البشري، وظهور تشريع العمل: هكذا فصول الجزء الأوّل.

تحت هذه العناوين، يتناول المؤلف -بصورة خاصة- أساس العبودية التعايشية: الجوع، ويتناول موقف المسيحية من العبودية (1)، ثم النظرية العبودية عند السقراطيين، قطعان البشر، تنظيم الشغل، العنايات المعطاة للعبيد، تربية الحيوان البشري (2)، ثم شغل القوة، مجذّفو الأساطيل، العبودية والتقنية وموقع الحصان والثور والحمار في نمو الإنسان، أو بشكل أوضح تاريخ الحصان والثور والحمار جزءًا من تاريخ الإنسان بوصفه تاريخ الشغل، الشغل الفكري الثقافي، البغاء، الخطف بقصد الفدية (3) ثم: ثورات العبيد، صمتُهم، صمت العبيد ظاهرة كبيرة جدا،ً إسهامهم الروحي، والفلسفة الرواقية! إسهامهم في الحياة المادية (4) في الفصل الخامس، يتناول بين جملة أمور مسألة ((الحدّ الأدنى الحيوي))، والانتقال من الرق إلى القنانة، وإلى المحاصصة، ومرسوم 1685 ())القانون الأسود))، فرنسا عهد لويس الرابع عشر).

ثم، في الجزء الثاني، ينتقل المؤلف إلى (تاريخ العبودية): من ((أكل لحم البشر إلى الرق)) (6)، الرق القديم (7) الرق الحديث (8)، التيارات الإلغائية (9)، مراحل الإلغاء (10) الإلغاء أي إلغاء العبودية؛ معركة كبيرة طويلة جرى خوضها في ميادين الروح والفكر والثقافة جميعها، وفي العمل السياسي والدبلوماسي، في القرون 18، 19، و20.

من أكل لحوم البشر إلى العبودية؛ إن اقتصاد القطف أو الجمع اقتصاد قائم على عمالة دونيّة، ولا يمكن أن يكون رقيًّا، وذلك نظرًا لغياب الاستقرار، أيضًا (التنقل والترحال)، والغريب منافس، ولا يمكن أن يكون مساعدًا، فالانتقال إلى نماذج اقتصادية اجتماعية، أرقى، وظهور المؤسسة العبودية تقتضيان نموًا لإنتاجية الشغل، عبورها إلى ما فوق حد أدنى، (بحيث يستطيع الخادم العبد الأسير أن ينتج عيشه وفائضًا)، ظهور الحضارات الزراعية… إلخ.

في الفصلين السابع والثامن، يتناول الباحث الرق القديم (اليونان وروما بوجه خاص)، ثم الرق الحديث مع النخاسة (تجارة الزنوج)، الرق والسكان، فالعصر الحديث، الرأسمالي والاستعماري -ق 16 و 18- بعث الرق، وأعطاه هذا الشكل الخاص الخصوصي: ((رق الزنوج)) مع المهاواة عبد = أسود([2])، التجارة المثلثية (أوروبا، إفريقيا، أميركا) حول المحيط الأطلسي، المنتجات الجديدة: صناعة (زراعة) البن والتبغ والسكر والقطن وغيرها. وفي إطار هذه الرّقية العرقية، التي يؤشر ([3])الباحث على وجهها السلبي المرعب (خص الرق بعرق ولون، وبالعكس)، يتوقف الكاتب أيضًا عند تمازج الأعراق، الذي هو هنا (في أمريكا الإسبانية والبرتغالية، عصر حديث لم يعد عصر بدايات قديمة لمناطق أخرى من العالم) تمازج الأعراق اللونية الكبرى المتباعدة: الأبيض والأسود و(الأحمر)، المؤلف يحيّي هذا التخالس الأعلى، (يقدم عنه عرضًا مقتطعًا وأخاذًّا)، بمناقضة المذاهب العرقية العنصرية التي تكلّمت عن التخالس بوصفه انحطاطًا.

ثم (الفصل التاسع)، يدرس فيه المؤلف ((التيارات الإلغائية))، فيستعرض الحركة الفلسفية الأدبية، الحركة السياسية، علماء الاقتصاد السياسي، الإنسان هو الشغل، الشغل هو الإنسان، هو مصدر القيمة والثروة، والعبودية نشاز، شيء ضد (الطبيعة|)، ضد الإنسانية، ضد الحرية. ويتناول المؤلف في (الفصل العاشر) ((مراحل الإلغاء))؛ عمل الثورة الإلغائي، والمرحلة الذاهبة من الثورة (الثورة الفرنسية) -1781 وبعدها- إلى حرب الانفصال (الأميركية،1861)، ثم حرب الانفصال هذه (أي الحرب الأهلية الأميركية 1861- 1865 التي خرجت منها وحدة الولايات المتحدة)، الاستعمار، من حرب الانفصال إلى ميثاق عصبة الأمم المتحدة، وأخيرًا إلى الإعلان الكوني لحقوق الإنسان الصادر عن منظمة الأمم المتحدة، 10\12\1948[4]*

وينتهي المؤلف إلى خلاصة خاتمة، حدّية وغير ((متفائلة)). المؤلف عرض مراحل الإلغاء، لكنه بعيد عن ((المسيرة الظافرة))، يقبض على العالم الراهن (انقسام العالم والبطالة المتزايدة)، يعمّق المقولات (الشغل القسري مثلًا)، يتكلم عن نمو الحاجات، الاستهلاك، الشهوة إلخ، يثير مسألة ما ((الحاجات))؟ وأية حاجات! ثمة حاجات طبيعية وحاجات زائفة، أين الحد بينها؟ التاريخ، تاريخ الصناعة والاصطناع.

يتحدث المؤلف عن توافق أو توازي التقّدم الدائم ودوام العبودية على حد قوله، العمل المأجور هو الشكل الحديث للتضحية، ومن الممكن أن نحوّل ضده النقد الذي كان يوجّهه بيتيون (ق18) ضدّ العبودية. أخيرًا يعود إلى سؤال البداية لينتهي إلى سؤال: أرسطو تنبأ بمجيء الآلة. وكان ينتظر منها تحرّر الشغل البشري. ذلك لأنه لم يكن يرى سوى تغطية حاجات الحدّ الأدنى المعترف بها لعصره. إن الأطلنطيد أو جمهورية أفلاطون يعطيان حدّ المطالب القديمة. هذه تبدو لنا زاهدة نسبيًا. لو لم تكن القضية سوى تأمين هذا المستوى للجميع، لكانت الآلة تستطيع اليوم أن تصل إلى ذلك بلا مشقة ولكان الإنسان ((حرًا)) على نحو يكاد يكون كاملًا.

لكن أخيرًا، أفلا يتقهقر الاقتصاد في هذه الحال إلى مستوى المدينة القديمة؟ هكذا يختم لانجليه كتابه.

يمكن أن نعترض، لا يمكن أن نهمل السؤال.

ولا بدّ من التذكير بما يمكن أن نعده (إجابة) إنغلز: وجوب ((تصالح الإنسان مع ذاته)) ومع ((الطبيعة)). هذه الصيغة لِـ إنغلز الشاب([5]) هي -لا ريب- أحد (تعريفات) ماركس وإنغلز للغاية؛ الاشتراكية، المجتمع الإنساني، الإنسانية المتشاركية. إن النضال ضد الحاجات الزائفة جزء مهم من موقف ماركس الذي يشبه -في المرجع المذكور أدناه- ((حاجات)) وشخوص بعض العصر الأحدث (البرجوازي) بالسلطان مع وزيره وعبيده وجواريه وخصيانه عن الحاجات، وعن كل شيء، لنقل: هناك أدنى وهناك أقصى (في اللانهاية بلا نهاية، في العدم بلا قاع) وهناك ًامثَل optimum. الماركسية، بحكم المنطق أو الديالكتيك تؤيد الأمثل، فكرة القياس و((علاقات القياس)). هذه المسألة راهنة تمامًا. وهي اليوم أرهن مما كانت في سنة 1844 أو 1955.

أيضًا، لا بد لنا، هنا، من الإشارة إلى ((الثورة العلمية والتقنية))، أي إلى الانقلاب الهائل للشغل في زمننا. هل ينتهي ((الشغل)) (بمعنى لغة المصريين في القضاء، وبمعنى ماركس في المرجع المذكور أدناه)، ويتحول إلى ((عمل))، إلى ([6]) SOEVER؟ هل ينعتق الإنسان من الشغل/ العبء ويمضي إلى أمر شغلي أكثر ذاتية وإنسانية؟ التقنية تمكّن من ذلك. لكن الأمر مرهون بشيء غير التقنية‍‍، وهو في صلب سؤال الراهن. البشرية وصلت إلى أكبر مفترق في تاريخها منذ ظهور النوع. المسار أصل البشرية -على الأقل قسم منها- إلى ((المجتمع المدني))، لكن إلى ((مجتمع مدني)) مع تناف خطر بين الأمم وداخل الأمم، ومع تسلح، ومع خراب البيئة الحية أو الكوكب الحي والمؤنسن، بات من الضروري الانتقال إلى شيء آخر.

ومثل ما لاحظ المؤلف، إن عشرات أو مئات الملايين من الناس هم بلا شغل ولا رزق، إن شرط الأقنان كان أفضل. ((من لا يعمل لا يأكل))، هذا لم يعد شعارًا اشتراكيًا فقط، بل أيضًا في سنة 1987 واقع الحال وجوهر الحال في العالم الثالث بالنسبة إلى مئات الملايين من ((العبيد بلا شغل)).

_ 2 _

من نافل القول أن ((العناوين)) الآنفات كان غرضها إعطاء ((فكرة)) أوّلية لا أكثر. الكتاب نفسه موجز، وجيز، شيء متماسك، منهجي، واضح، تعليمي. ((القراءة))، إذن الدراسة، الفهم، المضاربة الفكرية: هذه مهمة القارئ، دعوته وحرفته. للمفكر الكاتب دعوته وحرفته، وللقارئ المفكر دعوته وحرفته. إذا كان كتابٌ من الكتب، لا يتطلب مني جهدًا واجتهادًا وجهادًا، فالأفضل أن أعيده إلى الرفّ، وإلى البائع لو استطعت. بالنسبة إلي، كل كتاب جيد هو كتاب بيداغوجي (تربوي، تعليمي، تكويني)، التربية إنماء.

هذا الوجيز الفرنسي صدر للمرة الأولى في سنة 1955 أي قبل 32 سنة (بيدنا الطبعة الثانية 1962). ولا شك أن القارئ ليس فقط سيدرك راهنية هذا الكتاب، بل سيدرك أيضًا تفوق هذا ((القديم)) البسيط، الأصيل. المكتبة العربية، الترجمة العربية، فوتت كثيرًا من الأساسيات، وركضت إلى آخر ما حرره الغرب. الفكر العربي يلهث وراء ((الأحدث)). قلت: هذا القديم متفوق.

على سبيل المثال، لا الحصر، إذا كان لنا أن نتخذ ماركسية سنة 1955 ((مرجعًا)) وأن نعقد مقارنة أو معارضة معها، وجب علينا أن نتذكر أن تلك الماركسية المعينة كانت ما تزال وراء أو تحت أطروحة ستالين التي تؤكد[7]*أن نمو الإنتاج الرأسمالي في الغرب قد توقف تحت ثقل التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج! موريس لانجليه بعيد عن هذا التصور، بعيد عن هذا الخصي للواقع والتاريخ في مقولتين، عن هذا التقليص المثالي لتناقضات الوجود في تناقض من هذا النوع أو من غيره. عقيدة، إنه بعيدٌ بالأساس عن خطيّة الماركسية الستالينية، أقصد عقيدة الخطية المجسّمة، الجوهرية الماهوية، العاجزة عن تجريد فكرة الخط، وتحديد موقعها، وتبيان الخطوط (بالجمع)، ولا سيما الخطوط المتناقضة والمتضاربة، العاجزة عن معرفة التاريخ خطًّا مغايرًا، وشيئًا في الكونية، منطقًا، واقعًا: صورًا، التي لا ترى العبودية إلا في بداية قديمة، مرحلة في الزمنية الخطيّة المجوهرة هي ((نمط الإنتاج العبودي))، شأنها في ذلك شأن ((المشاعية)) قبلها أو ((الإقطاعية مع القنانة)) بعدها أو ((الرأسمال)) أخيرًا ثم الاشتراكية، وتٌغفل مفهوم الشغل، ومفهوم الإنتاج، إن تلك الفلسفة (هذه، بالنسبة لنا)، لأنها ممتنعة عن كبريات المجرّدات، أبسطها، أكثرها مفهوميّة وفكرية، لذلك فهي تعجز عن الواقع، عن العياني، عن الجملة (مع الكثرة المكوّنة لها)، عن المفرد بوصفه الكائن التام التعيّن. إذا كان لا يوجد في بداية الفينومينولوجيا (علم الظاهرات) بحسب فويرباخ سوى تناقض الفكر الوجود، الهوية والاختلاف، فإن ماركسية ستالين، ومعها كل وضعانيّة، ليس فيها هذه البداية. البداية والنهاية مندغمتان سلفًا ونهائيًا في ((القانون))، محذوفتان لصالح ((القانون)). موريس لانجليه غريب عن هذه ((الطريقة)) المزعومة التي ليست طريقًا، وهي ليست من طرق الفكر في المعرفة.

وعلى سبيل المثال أيضًا -لا الحصر- إن لانجليه بعيد تمامًا عن التبشير بمجيء الرفاه للجميع على أساس تقدّم التكنولوجيا والإنتاج، إنه يؤكّد قضية انقسام العالم (الأمم والطبقات وغير ذلك)، وعلى مسألة الحاجات البشرية ونموّها المسعور، عند بعضهم، عند الجميع بالواقع أو ((بالقوة)) (بالإمكان). لا ريب أنه لا يشارك القرن الثامن عشر (الفرنسي خاصة) ((تفاؤله النسبي)) بالإنسان وطبيعته. أما الاقتصاد البرجوازي المبتذل (ليس الاقتصاد الكلاسيكي المتمثل في الفيزيوقراط، آدم سميث وريكاردو) التبريري الأبولوجيطيقي، مع المذهب الوضعاني والعلموي وما شابه، فهذا عكس مناخ كتاب العبودية.

يمكن القول إن الموقفين السابقين؛ ((الماركسي)) المزعوم، والبرجوازي العادي، وكل منهما متفائل بذاته، ينتميان إلى منهج اقتصادي ميكانيكي قائم على مقولة ((التقدّم)) و((التطور))، مع ((ثورة)) أو من دون ((ثورة))، يتخذ اتجاهين مختلفين أو متضادّين: الاقتصادوية الطبقوية الثورية في الستالينية المضاعفة والاقتصادوية الإنتاجية التقدّمية في الثقافة البرجوازي المبتذلة.

في الأولى، بوصفها فلسفة نظرية صريحة على الأقل،([8]) ((الاجتماعي)) داخل في الطبقي، والأفراد يُسقطون، انحلّ ((الفكري)) في ((الأيديولوجي)) ([9])((المجتمع)) بدهية، جوهر أصلي انقسم طبقيًا فاختفى، ثم عاد بقيام الاشتراكية. المقولة ((إنتاج البشر اجتماعيًا لوجودهم)) (ماركس) سقطت، المجتمع منتج (منتج الاقتصاد!) لا منتج وناتج (أفراد وعلاقات بصورة دائمة). في الثانية، الناس أفراد، آدميون، أفراد جبابرة ومساكين أو كلاهما في آن معًا، يسعون إلى الرزق، الربح، الرفاه والتمتع، المجتمع إطار وأمن لا بد منهما للإنتاج والاستهلاك. عند ماركس، المجتمع مؤلف من أفراد، ليس مكونًا من أفراد. كيانه كون يتخطى الأفراد، ناتج دائم عن علاقاتهم. والأمل القديم ليس مثلًا أعلى. ((الإنسان ذئب للإنسان)) هكذا الأصل بالتأكيد. الفرق بين مجتمع الإنسان ومجتمعات الحيوان (بعض أنواع الحيوان) هو أن الأول ابن التاريخ، لا ابن الطبيعة. الإنسان الأصلي ((مسألة متنوعة))، (الإنسان قرد؟ ربما فعلًا بحسب علم البيولوجيا والأنتروبولوجيا البيولوجية، إنه نوع معين (من الإنسان العاقل) هو فرع أخير ووحيد من ((جنس)) كبير من ((فصيلة)) كبرى تدعى البشريات hominides (الفروع والأجناس الأخر في هذه الفصيلة كلها انقرضت) تنتمي بدورها إلى فصيلة أو ((مقولة)) كبرى هي ((إمارة الرئيسات)) primates التي تجمع مع ((البشريات))، فرعين آخرين هما ((ممهدات القردة)) أو ((القردة الزائفة)) pro singes أو futs singes ((والقردة)) singes بما فيها أعلاها وأرقاها المسماة ((القردة الشبيهة بالإنسان)) (الشمبانزي والغوريلا والأورانج أوتانغ والجيبون)، في عالم الأحياء وسلم الأحياء،((الإنسان العاقل)) مفصول بـ ((درجات)) و((حلقات)) عدة عن جيرانه الأقرب في إمارة الرئيسات التي هي فرع من الثدييات وهي بدورها ((فرع)) من الفقريات، وهذه بدورها ((فرع)) من الثدييات التي هي بدورها ((فرع)) من الفقريات التي هي بدورها ((فرع)) من مملكة الحيوان ومملكة الحياة، هذا مع احتفاظنا بفكرة أو صورة أو مثال الشجرة، أي بلغة ((الشجرة والفروع)). وإذا ما أبادت -الآن وغدًا- صناعة الإنسان أي فتحاوية الإنسان وبروميثيئيته، إذا ما أبادت قاعدته الحية الطبيعية، يكون الإنسان قد حكم على حياته ذاتها بالهلاك، يكون قد أنهى وجوده، أنهى عالمه الطبيعي والمدني في آن معًا.

((الإنسان قرد))، هذا كلام فيه صواب كبير ومتنوع، فيه مجاز حقيقي (ذو معنى). لكن لعله يوجد صواب أكبر في قولنا بالمعنى ((المجازي الحقيقي)): الإنسان بطبيعته الأصلية هو بالأحرى قطّ بري مفترس، يترصد فريسته وراء صخرة وينقض على قرينه: إنسان آخر، إنسان غيره، إنسان سواه.

من الصعب، من الخطأ والخطر، أن نقول إن الإنسان الأصلي كان بطبعه، أو إن الإنسان الطبيعي الأصلي، كان اجتماعيًا. الاجتماع الإنساني، في ((معظمه)) -على الأقل- ابن التاريخ، ابن التقدم والارتقاء. أو هما فاعلا الارتقاء، ألا وهما الشغل من جهة، والكبح، والدين، والمحرمات والنواهي الدينية من جهة أخرى. الأول، الشغل يحمل الإنتاج والاجتماع. والثاني، يتصل ((جوهريًا)) بالجنس، بإنتاج النوع وتجديده، بالعلاقة بين الجنسين (الرجل والمرأة). لكن يحب أيضًا تخطي هذه القسمة: فالاثنان يحملان الأخلاق والاجتماع، الانضباط والعمل والتعامل؛ إذًا أيضًا ((إنتاج المجتمع))، استمراره واستمرار النوع ونموه المذهل؛ استعمار الإنسان للأرض. بحسب دين الإله الواحد، أي المونوثوئيتية: الإنسان مستخلف ومسؤول.

الاشتراكية العالمية همشت الدين أو ألغته. هذه خطيئة كبيرة، نظرية وعملية، فلسفية وسياسية. وهذا ما يدركه السوفياتيون على نحو متعاظم في الوقت الحاضر، عشرات المقالات السوفياتية في هذه السنوات 1986- 1989 تشهد بذلك.

– 3 –

لكن من هو موريس لانجليه Lengelle. M

أولًا، إن لائحة مؤلفاته المنشورة في الصفحة الثانية من هذا الكتاب الفرنسي([10]) تكشف عن ميدانه أو علمه أو اختصاصه: الاقتصاد الغذائي للكرة الأرضية، اقتصاد الإطعام، اقتصاد الأجسام الذهبية، دراسة السوق بوصفها عامل توسُّع، الاستهلاك السوق المشتركة، عناصر مقارنة بين زراعات العالم الرئيسة، قياس الـ ((إنتاجية/ مادة)) في تربية الحيوان، فضلًا عن إسهامات في ((الموسوعة الفرنسية))، في كتاب عن ((العالم الثالث)) في ((قاموس العلوم الاقتصادية))، في ((دراما الجوع الكونية)).

الميدان العلمي انضباط discipline، حقل وميدان، champ،field. وبمثل ما يقول هيغل ولينين: كل علم من العلوم هو منطق تطبيقي، كل علم دائرة، والعلم دائرة مؤلفة من دوائر، هذا الانضباط العقلي الذي نحن بصدده ليس شعرًا، أدبًا، لاهوتًا، فلسفة، إلخ.

ثانيًا ((على الرغم من ذلك))، إن هذا العلم الاختصاصي يرتكز على قاعدة عميقة وشاملة. جذره الروحي واضح، كذلك أساسه الفكري العقلي. إن مروحة تفكير موريس لانجليه تذهب من بولس الرسول وأوغسطين وتوما الأكويني، وصولًا إلى ((روبنسون كروزو)) و((كوخ العم توم)) و((الرحلة إلى جزيرة إيل دو فرانس))، مرورًا بالفلاسفة ومفكري السياسة والاقتصاديين والمؤرخين، وهو لا ينسى بلدان الشرق الأدنى والأوسط والأقصى؛ ألف ليلة وليلة، مؤسسة الجيش اليابانية….

قلنا: ((على الرغم من ذلك)) بين مزدوجين. واضح أن العلم العلمي يعني عند لانجليه وأقرانه غير ما يعنيه عندنا.

عدا عن كتاب لاتجليه، يمكن أن أتذكر عشرات الكتب العلمية، أو العلمية البحتة إن شئتم، الصادرة عن علماء كبار، بعضهم حامل جائزة نوبل، وهذه الكتب لهؤلاء العلماء لا تمتنع بتاتًا عن التطرق إلى أساطير وخرافات وإلى حكايا أطفال شهيرة وإلى شتى الآداب والفنون عدا -بطبيعة الحال- الأديان والرموز الدينية، وتتخذها مرجعًا ومصدرًا ومنبعًا. لا يا سادة، هذا كله ليس خارج ((الحقيقة)). أنتم لا تعرفون الحقيقة. أولًا لأنكم من دون مقولة الروح، من هؤلاء العلماء، أذكر فرانسوا جاكوب، عالم الوراثة الكبير، صاحب كتاب ((لعبة الممكنات))، وكتاب ((منطق الحيّ))، وليس ((المنطق الحيوي)). منطق الحي la log du vivan ضد منطق ((المنطق الحيوي))، ((الحي)) له منطق.

أما عندنا فكثيرًا ما تصبح ((العلمية)) بديلًا من الحقيقة، حاذفة للفلسفة والمنطق، والأخلاق([11])، وخادمة ((عند الاقتضاء)) لأخلاقوية كاذبة نابت عن معرفة الواقع. ((علم)) science. هذا يعنى أولًا: فكر، فكر فكري، أولًا هذا الفكر الكلي إياه! هذا الفكر الذي ليس ((فقهًا))، فقه ويصور نفسه فكرًا. والشعر أيضًا، الأدب أيَضًا، فكر! هذا إذا لم ينحز للشعور ضد الفكر، إذا لم يطلق القبض المفهومي على واقع حي، إذا لم يسترخص نفسه، إذا كان بالفعل شعرًا وأدبًا وفنًا، إذا كان روحًا وتملكًا للعالم.

هنا، عند الكلي والفكر والحقيقة، لا بد لنا من استحضار لحن سقراط وأفلاطون عبر هيغل ولينين:([12])

((هذا الذي بالنسبة لي يجب أن يكون الحق، الحقيقة، العدالة، هو روحُ روحي، L esprit de mon esprit. لكن ما يخلقه الروح على هذا النحو بنفسه، ماله في نظره هذه القيمة، يجب أن يأتي منه كما من الكلي، كما من الروح الفاعل بوصفه كليًا، لا من أهوائه، مصالحه، نزواته، خيالاته، أهدافه، ميوله، إلخ أجل هذا كله هو أيضًا شيء داخلي، وضعته الطبيعة فينا))، لكنه ليس خيرنا الخاص إلا على نحو طبيعي)). لينين يتحمّس لهذا الكلام، ويضيف: المثالية الفهيمة أقرب إلى الماديانية الفهيمة من الماديانية البهيمة، ((يتبنى)) قول بروتاغوراس، ((الإنسان مقياس كل الأشياء)) ويتبنى ضدّه رد سقراط: ((الإنسان، ككائن مفكّر، مقياس كل الأشياء))، يتذكر أطروحة هيغل وفويرباخ: ((في اللغة لا يوجد سوى الكلي))، يوجه طعنة لبليخانوف الذي لم يكتب حرفًا عن كتاب المنطق الكبير، إذن عن ((الديالكتيك كعلم فلسفي))، مع أنه كتب كثيرًا عن الديالكتيك في ((العمومية))، في الطبيعة والتاريخ، بوصفه فلسفة بوجه ((عام))، ينتقل إلى فلاسفة برقة (كورنيا) الإحساسيين وإلى كانط مضيفًا ماخ وجماعته. هذا الملف واحد، لينين يفهمه، يستوعبه إيجابيًا. إنه يتعلم الفلسفة، أي الطريقة، المنطق. من الحقيقة العليا المجردة إلى الحقيقة العيانية: هذا ((واحد)).

ولأنه ((يوجد)) منطق لذلك ((يوجد)) تاريخ.

إن مذهب ماركس الآتي بعد هيغل، أي على أساسه وأرضيته، هو ((منطق الواقع)). فالواقع له منطق، منطقه، لا منطق الذوات. الواقع، العالم، هو الذات، ((المبتدأ))، المرجع الأخير، لمعرفة الإنسان. وثمة ((فرق)) بين الريبية والاتفاقية والوضعانية والعلموية من جهة واليالكتيك من جهة ثانية، ألا وهو أن الموقف الأول ((ينفي)) (يحذف، يطرد) المطلق، هذا ((المطلق)) الذي هو ((عنصر)) الفلسفة بمثل ما يقول هيغل. من دونه تموت الفلسفة، كما من دون الماء يموت السمك. هذا الفرق هو تعارض أولي ونهائي. إن رفض المطلق معناه رفض المفهوم والمفهومية، رفض العقلانية، السقوط ((الأصلي)) في عقيدة الجوهر والجواهر، الماهية والماهيات، عقيدة عالم الأصناف.

رفض المطلق سقوط في مطلق ما، في مطلق معيّن و((مادي))، تحويل لنسبي ما إلى مطلق، حل المطلق في نسبي من النسبيات، في جوهر / ذات. هذه حال عربية معلومة. وحالة عربية معلومة هي أيضًا، ((نقيض)) مكمّل، في الفكر العربي الحاضر، الانشطار والتباعد والتطارد بين أزلي هامد ومحيِّد وزمني عابر و((يومي))، ((يتوحدان)) في سرمدية الثوران وثوران السرمدية. أي بالضبط عكس المفهومية والتاريخية. لا يرون الفلسفة، أقصد لا يرونها منطقًا، فكرية ومحض فكرية، ومن ثم فكرية حقيقية هي وحدها قادرة على فتح الوجود معرفةً وعملًا في العلمية، في النظر إلى العلم والعلوم، (وفي التعليم)، يخفضون (أو يحذفون) الشكل والرياضة، المنطق الشكلي والرياضيات، والميكانيك بوصفه ميكانيكًا عقليًّا، اللامتناهيات، ((نظرية الخطوط)) و((نظرية الألعاب)). إنهم ممتنعون عن فكرة ((القضاء))، الضرورة / الحظّ التي هي –وتصير- في الفكر الصحيح الضرورة والمصادفة، التي هي –وتصير- العشوائية، ((علم الزّهر)) الكوني. إنهم يجهلون علم باسكال وعلم لايبنتس كرههم للميكانيك كرهٌ للعقل. الدخول في عصر السيبرنيطيقا مستحيل.

لنقل ضدَّهم:

إن المطلق والنسبي ليسا شيئين، ((موجودين))، لا النسبي شيء، ولا المطلق عفريت، المطلق والنسبي مفهومان وحدّان، المطلق حدّ يحد النسبي، ومن ليس عنده المطلق يتحوّل نسبيّة إلى مطلق. وذلكم هو الاستبداد!

يعثرون على قطع من فلسفة، قطع عزيزة تؤدي ((وظائف)) محدّدة! لا يعثرون على الفلسفة و((بداية الفلسفة))، لا يؤسّسون!

-4 –

إذ إنه توجد بداية للفلسفة، هي بدايات، أو بدايةٌ تتكرّر في التاريخ.

مثلاُ ((بداية الفلسفة)) الأوروبية الغربية، مسيرة انطلاق الفلسفة عند الإفرنج، ((ما قبل الفلسفة)) الصائر فلسفةً أولى وأوّلية، نهائيًا. قبل أن يكون وادي الراين حوض الصناعة الثقيلة (ق 19-20)، كان ((وادي القديسين)). وألمانيا عرفت ((رابطات عدويات)) جرمانيات! (أشهرهن مرجريت فون بندن).

التصوّف الألماني هو الركيزة الروحية والفكرية للديالكتيك الألماني، إنه ركيزة (((خلفية))، ((قاع))، ((أساس))) ((الفكر الجدلي)) الذي هو ((الفكر العقلي)) أو الذي الفكر الجدلي هو إياه (إنغلز). هذا العقل raison، مع كونه أيضًا ((نوس))، ذكاء ونور إلهي كونيًا، كما ((عقلٌ)) تراثنا التراثي، لم يعد كذلك: التصوف الألماني يحقق هذا المضي، يبدؤه بقوّة، يؤسس العقل نهائيًا، مدركًا اللوغوس القديم وابنه الراسيو raison ratio إن متصوفة القرون 13، 16 جابهوا وعالجوا وحلوا بالأحرف الأولى مسألة الله والعالم، المتعالي والدنيا، المطلق والنسبي، اللانهاية والمنتهي. جعلوا الأوّل أساسًا وأسًا للثاني، وأنهوا الانشطار، التباعد، التفاني الطارد والقاتل، المذهب الهامد، العطالة. المطلق يؤسس النسبي، اللانهاية تؤسس المنتهي، معلنًا جدواه، الإيجابي، وجوب الارتقاء. يوجد إنسان، يوجد تاريخ، يوجد ارتقاء.

نقولا دوكوزا (ق 15، كاردينال، ديبلوماسي كبير، متصوّف عالم بالعربية والعبرية وبالرياضيات) أكد وحدة الانحناء والاستقامة الدائرة والمستقيم (وأكدها مرة ثانية، جوردانو برونو، ((خريج)) رهبنة الدومينيكان، العملاق الشهيد، الذي صعد إلى المحرقة في روما سنة 1600، كزنديق كافر)([13])، وأقام مقولة التقدم اللامعرّف dndefint، المجهول، اللامحدّد واللامنتهي. الكاردينال الكبير، المتصوّف و((الباطني))،([14]) جرَّد هذه التجريدة.

على حد قوله: ((لا شيء في هذا العالم هو صحيح بحيث لا يمكن أن يكون (هناك ما) هو أصح، لا شيء مستقيمٌ بحيث لا يمكن أن يكون (هناك ما هو) أكثر استقامة، لاشيء حق بحيث لا يمكن أن يكون ( هناك ما هو) أحقّ)).

وهكذا، فاللانهاية، إذ هي لا تُبلغ في ذاتها، تصير مبدأ تقدّم progres، يرى كوزا أنه قابل للتحقيق وغير منته في ميادين المعرفة والفعل (العمل) جميعها. كوزا يرفع لواء السلام، وحدة البشرية، التسامح، السلام الديني بوجه خاص، احترام الأديان كخصوصيات (وحدة تعدّد ضد مِدْحلة المسْح). إذا أردنا صوغ كلامه بلغة ((الوجود)) الغربية، أمكننا القول: لا يوجد حسن إلا ويوجد أحسن، لا يوجد حق إلا ويوجد أحق. أو من دون ((يوجد)) لا حسن إلا ويمكن أن يكون أحسن. لكن : في العالم، في هذا العالم! كوزا من أكبر العلمانيين في التاريخ لا علاقة له بالعلمانية التي قد لا تكون سوى العلموية أي الحماقة (إذ هناك عرب يكتبونها بكسر العين ((عِلمانية))، إما لينصروها أو ليهزموها).

إن هذا الفكر كله (إكهارت، كوزا، برونو، بوهم، سبينوزا ق 14- 17، مع استغنائنا عن الأقدم) يمكن أن يتهم بالحلولية أو مذهب ((وحدة الوجود))، لكن في الحاصل قلّما اتهم بذلك عند قوم عاقلين،([15]) إنما وصف وأدرك واختزل عند القوم العاقلين والأذكياء بأنه حلولية مع مقولة النفي، مذهب وحدة وجود مع وتحت هيمنة فكرة النفي negation، وبها، هذا النفي الذي لم يعد طردًا وإقصاء. المطلق المتعالي قطب جاذب في الجدوى الاجتماعية، في تاريخ الإنسان.

وسبينوزا يقول بفائق القوة والبساطة: كل تأكيد هو نفي، كل تحديد أي تعيين هو نفي omnis determination est negatio، إنه مبدأ لطريقة، من ألف إلى ياء. ويردد هذا اللحن هيغل وماركس وإنغلز. من دون ه لا فلسفة. يطربون له كما نحن لا نعرف الطرب. يطربون له، يفهمونه، يبسطونه، يفعلونه، يطورونه، معلنين نفي النفي، ومؤكدين المبدأ الذاتي. يبسطون فعل الإنسان، عمله، أناه في العالم، خلقه لعالم، تحويله ((الطبيعة)) إلى عالم. إن مسلسل ((الفلسفة الكلاسيكية الألمانية)) هو كانط فيشته، شيلنغ، هيغل. لولاها لا ماركسية، لا حركة عمال كونية وكلية. ولا وحدة قومية للألمان: وإن فيشته ليس هذا الذي رآه ساطع الحصري، بل فيلسوف، صاحب ((مذهب العلم)) 1794 و((مذهب الدولة)) 1813 و((نقد كل وحي)) 1796 و((تكريس الإنسان)) 1800 عدا ((الخطابات إلى الأمة الألمانية)) 1808.

لنقل باختصار تأكيدًا على محرز أوروبي كبير في تاريخ الفكر العالمي: إن فيشته هو أكبر مسهم في بناء الأطروحة الآتية: الأنا، الإنسان، الجنس البشري هو خالق ومنتج، خلق ويخلق عالمًا غير الطبيعة، ((عالمًا مدنيًا)). والعقيدة الدينية (والمنظومة الثقافية، الإيديولوجية المسيحية) أكدت: إن النفوس مخلوقة من الله، إن الناس هم أولاد أهلهم لكنهم مخلوقون من الله، وإن هذه النفس الخالدة نفس فردية مطلقًا لا جماعية بتاتًا ولا وراثية بتاتًا، وهي حرة، ومسؤولة وهي مفكرة. الإيمان المرتكز على الشك وعلى تأكيد عبث الدنيا.

لهذا النموذج المادي السلبي هو، من البداية وبالمبدأ نفسه، خرق للتعين المادي ولدوغمائية إدراك الأشياء (إنه مبدأ معاكس وعاصم!) وهو يؤسس مطلب الفهم، بدلًا من أن يكون مؤسسًا ومبررًا للقعود والاستقالة (استقالة الروح والعقل).

((إسبينوزا))! إذن مقولة النفي، أما اختراع إسبينوزا من دون النفي، فهذه إحدى كبائر الفلسفة العربية ((الإسلامية)) المعاصرة.

((التصوف، الجدل، التاريخ)) هذا ما لا يستطيع أن يراه الأخ الدكتور حسن حنفي الذي يعرف سبينوزا من دون النفي، حسن حنفي الذي استوعب سبينوزا في فويرباخ، واستوعب سبينوزا وفرويرباخ في الإسلام، واستوعب السلام في ذاته، في الشعور والظاهراتية (هوسرل) والثورانية الجماهيرية. أقصد -بطبيعة الحال- كل مقدمته لـ سبينوزا([16]) ومجلة ((اليسار الإسلامي)) كلها، العدد الأول. وأستغني هنا بالتمام عن فتح هذا القوس الذي سيكون كتابًا! لكن مع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن حنفي يتصور سبينوزا بلا ديكارت، يعد ديكارت وباسكال شيئين رجيمين، لا يرى الأوغسطينية والبارامنيدية، يٌغرق الأوغسطينية في ((الشخصي))، (ولا يفهم الشخصي بتاتًا) يقول: ((كل دراسة علمية أي نقدية ونفسية)) (!!)، يؤيد ((الحلول الميتافيزيقي)) (حرفيًا)، يحارب كل ((قسمة))، كل ثنائية، لا يرى إذن الثنائية المفهومية، واحدُه يلغي الاثنين، يحول الكونية السبينوزية إلى كوسموسيّة، لا يرى الإنسان وفعل الإنسان والتاريخ والصعود عند سبينوزا ([17])، وإن مجلة ((اليسار الإسلامي، العدد الأوّل)) كلها، مقالات حنفي وبعض المقالات الأخريات كلها، قائم على الامتناع أو العجز عن ((التاريخ والتقدم))، لصالح ثورة كان يجب أن تحقق الجنة على الأرض. لولا عثمان بن عفان، الذي درج كثيرون على تخفيضه من دون أي فهم ومن دون أي حق ومن دون أي فهم للسؤال: ما الإنسان؟ ما السياسة؟ ما التاريخ؟ أو أن توقِّع السماء منذ 14 قرنًا أي من ثم بوصفه فرعًا، أن تنهي التاريخ، تاريخ الدنيا.

وإن الامتناع عن مقولة النفي وعن المفهومية الثنائية يقيم المثنوية الوجودية الامتدادية. الخير هو الذات القومية لكن المصحّحة!

لنعد، في ((الفلسفة))، إلى ((النوع)) الآخر.

ماركس وإنغلز يردّدان أطروحة سبينوزا، يرددانها في الدياكلتيك علمًا، وفي علم الاقتصاد. ويرددان أيضًا قول العالم الاقتصادي الإيطالي:([18])

Questa infinito che le chose non hanno in progresso lo hano in giro،

ولئن كنت أنقل العبارة بالإيطالية فاقتداءً بماركس وبإنغلز وطمعًا بأن نحفظها بالإيطالية أيضًا. والترجمة:

((تلك، هذه اللانهاية التي لا تبلغها الأشياء في التقدّم تبلغها في الدوران)).

مذهب ماركس مذهب ((تقدم دائري))، نمثّله عادة بالخط الحلزوني، لا بأس بذلك، شرط ألا ننسى أن هذا الشكل هو بالأحرى صورة تجمع مفهومي الدائرية والاستقامة! الخط الحلزوني له مبدأ، وهذا المبدأ هو مركز. بعض ((الماركسيين)) استخدموا الحلزون ليلغوا الدائرة. يمكن أن يكونوا دكاترة في الفلسفة الماركسية (وغيرها) من بلد الفلسفة والاشتراكية: من ألمانية الديمقراطية، مثلًا. هذا قائم عندنا وعند غيرنا على الأرجح.

حين لا أذكر الأشخاص بأسمائهم، فلأنني أعتمد حوارات شخصية (مناقشات شفوية حادة، وليس لي عن أقوال الخصم وفهمه وتصوره كتابات له منشورة أو كتابات وصلت إلى معرفتي واطلاعي).

بالمقابل إن الفكر العقلي يفك الصورة، يقيم المفهومين البسيطين المجردين، المقولتين الإجرائيتين والعملياتيتين: الدائرة والمستقيم، وأيضًا الخطية واللاخطية، الخطية والكروية، الخط الزمني التعاقبي والكوني، المكاني، المنطقي، وهكذا دواليك، في تشكيلات فكرية مختلفة. ستالين النظري والمتفلسف ألغى الدائرة، والدوران، عدهما ميتافيزيقية أي مناهضة للديالكتيك، شاطبًا هنا بالتمام على ماركس ولينين وهيغل، وعلى هيراقليط! وكأنه أيضًا يرى أن مذهب هيراقليط صعودية وارتقائية! (مذهب هيراقليط دوراني وسرمدي وانحداري).

إن فكرة ((التقدّم والتاريخ)) الأوروبية الحديثة، لها- عدا عن مرتكزها الفلسفي اليوناني بوجه خاص (الشكل، المفهوم، التشكل إلخ)- مرتكز روحي فكري في مسيحية أوغسطين وفلسفته، في الخلاصية مع عقيدة الخطيئة الأصلية، في اقتناص أوغسطين لأفلاطون، المثل، الأشكال، المفهومات (إيدوس eidos)، في إقامته لزمنية خطّية أي تأكيده على وجود ((قبل)) و((بعد))، واختلاف البعد عن القبل، تأكيده على فكرة ((مستقبل))([19]) الخروج من التصور الدائري والدوراني للتاريخ، الذي هو التصور الشرقي (الصيني، الهندي، إلخ) واليوناني، على حد سواء جعل الدنيا ((وادي الآلام))، الدنيا الواطئة والمدانة و((المرفوضة))، قاعدة ممكنة لتاريخ حقيقي. الفلسفة الماركسية الستالينية، التي لا تتعامل مع هكذا قضايا لاهوتية، حلت الإنسان التاريخ في كوسموسية صعودية تحت مقولة الـ developpement الواحدة الشاملة، أو، عند العرب وفي الترجمة العربية، الـ ((تطوّر)).([20]) هذا المذهب الناطق عن ((طبيعة)) تتطوّر، وترتقي، وتقفز، صاعدة على الدوام من بسيط إلى مركب، ومن أدنى إلى أعلى، بلا خلق (ضد عقيدة الخلق الدينية)، هو مُحال ماديًا وديالكتيكيًا. وإن الماركسية، الماركسية الصاحية، الحقيقية، إذ تخرج وتخرج من الدورانية إلى التقدم، فهي إنما تفعل ذلك استنادًا إلى الإنسان، إن خروجها من الدورانية هو خروج من الكوسموسية، من الهيراقليطية والفلسفة المأساوية (فلسفة اليونانيين الأوائل) بمثل ما رآها نيتشه في كتابه الثمين، المترجم إلى العربية)، من التفاني، من مذهب ((التكاؤن)).

ومما لاشك فيه أن ((بداية الفلسفة)) في أوروبا الجديدة، أي في المستوى الجديد التقدم، إنما تعيد إنتاج ((بداية الفلسفة)) عند اليونان، أي المسيرة من طاليس إلى أنا كسماندر وأنكسمين وأناكثاغور وهيراقليط وبارمنيد الخ وصولًا إلى أرسطو وما بعده. هنا أيضًا، في مسيرة الانطلاق الإغريقية، اللانهاية تؤسّسْ الجدوى، للمعرفة أو العلم النظري، في عالم رفيع قاعدته الشغل عبوديةً وعبيدًا. هنا أيضًا -خاصة- يجري الانتقال من الوجودية إلى المعرفيّة([21]) من المأسوية إلى الحياد (هذا الجانب لا يعني نيتشه كثيرًا. لعله عند الأوروبيين بدهي!). لكن من الواضح أن العملية الأوروبية ((الجرمانية)) عملية متقدّمة لها أيضًا جذر روحي آخر غير ((شعب الحكمة)): إنه الدين التوحيدي أي عقيدة الإله الواحد، الله تعإلى، الواحد والنافي والخالق، الخالع، ((الخالق من العدم))، والراعي. (الإله اليوناني ليس راعيًا. إنه قضاء وحسب). (هيراقليط) ينفي الرعاية. الله الهيراقليطي نافي الآلهة، يضعه هيراقليط بقوة ضد ((أي إله))، إنه الله، اللوغوس، القانون، الاسم. هذا مهم جدًا. وهنا، في نقل لينين لكتاب لاسال عن هيراقليط، يؤكد هيراقليط غياب وجود رعاية، عناية providince. لكن هذا يكشف أن القضية هذه مطروحة ((دائمًا)) و((بالأصل)). بالمقابل، إن الله الرواقي والمسيحي راع أيضًا، ((رحمان رحيم))، ((أبُ لها في السموات))، وله علينا الرضوخ والخضوع، الإسلام أي هذه الفضيلة المسيحية العقيدة العليا المدعوّة عند الأوروبين soumission resignation، وغير ذلك… مع فكرة الإنسان المستخلف، المكرس سيدًا على الطبيعة وملكًا على المخلوقات،([22]) الظلوم والجهول، المركوب بالخطيئة، أو بنفسه الأمارة بالسوء، مع فكرة الخلاص (أوغسطين) لحظة الذاتية المطلقة، الرواقية، المسيحية. فكرة التعالي أكدتها بأقصى ما يمكن من القوة الكنيسة الشقية: في زمن أوغسطين (حوالى سنة 400) كان يوحنا فم الذهب يلقي في أنطاكية خمس مواعظ نارية، عن غياب إمكان معرفة الله، عن سمو الله بعيدًا جدًا فوق أعلى مراتب ملكوت السماء. ومنه يمكن أن ننتقل مباشرة إلى كوزا أو إلى لوثر: ((الله)) و((إلهنا))، ((ربنا حصن منيع))، مع التشديد على الضمير المضاف: نحن .. وهذا النشيد اللوثري ((ربنا حصن منيع)) كان مارسييز القرن السادس عشر، على حدقول إنغلز قبله، في العصور الوسطى، البربرية، كان النشيد: الله دائمًا أكبر، deussemper major. الله دائمًا أكبر. هنا المعنى. حققنا شيئًا كبيرًا جففنا هذا المستنقع (ومات خلق كثيرون)، بنينا هذه البيوت (الأكواخ) العشرة، أصبحنا نأكل لفتًا وفولًا ثم خبزًا (انتقلنا على مدة ثلاثة أجيال من الموت إلى الخبز، كما ورد في قول ألماني شعبي جدًا:

إذن حققنا عملًا كبيرًا، لكن الله أكبر، إنه دائمًا أكبر: ثمة عمل ينتظرنا لنعمله، نحن واللاحقون. حيَّ على الفلاح.

الرهبنة ((مثل كل شيء)) أصلها من الشرق، انتقلت من مصر وسورية إلى الإفرنج. بنوا (بندكيت) مؤسس الرهبنة الغربية. وسَّع الشغل، كبَّره في دائرة أعمال الراهب الدينية الرهبنية، استخدامه لوقته. ويأخذون عليه أن أهمل الدراسة. كبر الشغل، زاد ساعات الشغل (بوجه خاص الشغل الزراعي).

إنه، مثلًا، جعل الوقت كما يلي: عدا النوم أو الراحة، 6 ساعات للصلاة، 8 ساعات للشغل، ساعتان للدراسة، قبله كانت التوزيع: 8 ساعات للصلاة، 5 ساعات للدراسة، 3 ساعات للشغل. صرامة انضباط، تنظيم. أوروبا في نشوء، أي نتوج وإنتاج الذات، والكنيسة مع الرهبنات في طليعة هذا العمل. إن حصة الرهبنات في إنشاء القرى، (نسبة القرى التي بنتها الرهبنات من مجموع القرى) تختلف من قطر إلى آخر في هذه القارة الجديدة. حسب كتاب تاريخ مدرسي فرنسي بنت الرهبنات 20/0 من قرى فرنسا. ولعل النسبة أكبر في ألمانيا.

والرواقية يعدها موريس لا نجليه أعظم عطاء روحي فكري فلسفي جاء به العبيد ونظام العبودية وعصرها المكونن. ليس فقط زينون السوري دشن هذا الخط الطويل (الواصل في روما بعد خمسة قرون إلى عبد وإلى إمبراطور)، بل تقرأ في كتاب لانجليه أن أونوس السوري في صقلية eunus، كان، عدا عن سبارتكوس الذائع الصيع، وعدا عن توسان لوفرتور الأسود (ق18 م)، أكبر قائد لثورة عبيد في تاريخ البشرية. ولنثمن من جهتنا الغرباء في ديارنا، ثورة الزنج في العصر العباسي.

– 5 –

رجوعًا إلى وانطلاقًا من ((لانجليه وماركس)): يبدو لي أن لانجليه أقرب إلى ماركس من غالبية أتباعه ودعاته. ويبدو لي أن لا ماركسية ولا وعي للإنسان والتاريخ ولا تجديد للوعي العربي من دون هذا الكتاب وهذا النوع من الكتب.

إن هذا الوعي الفكري العربي الحاضر فاقد للجذر وللمبدأ. إن الفكر العربي المنهمك أو المتحاور إنما هو في أحسن حال منهمك ومتحاور في مسائل ((تالية))، في مسائل ((ثانية))، إنه يبدأ بعد البداية، يبدأ الأمور بعد بداياتها الروحية والنظرية والتاريخية. قبل ضده بحق، قبل عشرين عامًا إنه يريد النتائج من دون المقدمات، غارق في الشعارات، راكض إلى النتائج والشعارات العملية، بلا المنطلق والمسار. الدكتور عبد الله العري قال ذلك. وأنا أصر على أن المقدمات الحقيقية، المبادئ تقع أيضًا ((قبل)). ثمة قبل البداية بداية. ثمة دائمًا قبل البداية بداية. وليكن ذلك شعارنا الفعلي، نحن رجال الفكر، وإذا كنا نريد شعبًا مفكرًا وأمة ذاتًا، أمة واعية وفاعلة، فلنبدأ بأنفسنا.

البداية، بالنسبة للفكر، للمعرفة، هي الأمية، الصفحة البيضاء، الـ ((أنا أفكر))، ((الذاتية المطلقة))، الأنا وجدانًا وفعلًا، لحظة ديكارت وسقراط والرواقية وفيتشه وقافلة طويلة من رجال الفلسفة والعلم والدين والدنيا. لحظة يوهان سيباستيان باخ، إن شئتم. لحظة الصفر، هذا الصفر الذي هو وحده حامل اللانهاية. الأعداد الموجبة ((بينهما)) وتحتهما. فلا يحوّلها أحد منا إلى بديل منهما. من دون هذه الأمية، من دون هذا التجرد إن الفكر المسار، الفكر الطريق، فكر المعرفة (والعمل)، إذ يدرك حدودًا (جوانب، قطعًا) فهو يركع لها. والتجريد ينسى أنه تجريد. الالتزام ينقلب إلى عكسه. الإنسان الفاعل (والفكر فعل كبير) يخدم عكس ما أراد. الأمية واجبة دومًا، بالضبط للكاتبين، القدامى والجدد، للعارفين المتعلمين والمثقفين والكتاب والعلماء الحقيقيين.

من الصفر يبدأ كانط إنه يفترض هذا الصفر: نقد المعرفة من أولها، نقد أداة المعرفة. مع أنه عالم كبير جدًا وفاتح، ووجه، قبل الصفر المذكور، ضربة نجلاء ونهائية للتصور الميتافيزيقي أي السكوني للطبيعة، أثبت أصلًا للمنظومة الشمسية، وأصلًا + تغيرًا تطورًا، المنظومة الشمسية ليست أصلها الكتلة الغازية الغيمية، ليست السديم، ليست الهيولي. إنها شيء بين، مغرب. آدم سميث كذلك. منطق هيغل كذلك: يبدأ من الوجود،العدم-الوجود الكبير جدًا، البسيط جدًا، الفارغ بهذا المعنى، المتهاوي مع الفكر كمنطلق لازم مطلقًا، لكي يصل بالمسار البناء إلى الوجود الحقيقي، إلى العالم حياة وذات. المبدأ: كل شيء متهاو ومتخالف ومتناقض، لا فرق في ذلك، والمسار هو كشف الهويات (التهاويات والتماهيات، إذن مفهومات، مقولات، قوانين إلخ)، والتماكل، أي التماثل والتشاكل، هو الكل الذي صار الآن جملة حقيقية موضوعية تامة، الكل بوصفه كليًا، عيانيًا، المبدأ: الأشياء كلها متشابهات، متشاكلات. المسار (= المعرفة، الطريق) فك التشابه، إعراب المتشاكل، إفصاح الأشكال، إذن الإعلام والبيان. المآل هو اللوحة، أو الصورة image. ((الصورة)) هي ((الشكل الأخير))، بحسب أرسطو وهيغل وماركس.

بالنسبة لكل مفكر عربي جدي، أيًا كان ميدانه، وأيًا كان عمله، وأيًا كان –من ثم- خطابه إلى الناس، إن الخيار الأول (خيار المنطلق والركيزة) هو اليوم ثنائية؛ إما الجدل وإما الوضعانية والعلموية. وهو بالتلازم ثنائية؛ إما الديمقراطية وإما الليبرالية. هو أيضًا تحت المقولة الماركسية، ولافتتها ثنائية، إما الماركسية وإما الاقتصادوية والميكانيكية والتجريبية، الدوغمائية و((كره الميتافيزيك)). وبطبيعة الحال، بعد ذلك، أضيف: وحده الجدل ينصف الفكر الوضعي الإيجابي، ووحده الموقف الديمقراطي ينصف الليبرالي. لا ديمقراطية بحذف الليبرالية. ولا معنى للنفي إذا لم يكن ولم يصر إيجابًا. ضد قبول العالم وضد نفيه المزعوم ثمة موقف روحي وفكري واجب هو النفي الإيجابي للعالم.

وإنني إذ ألاحظ اليوم أن عددًا من المفكرين الناشئين، الحقيقيين، لا سيما في المغرب، هم فلاسفة، خريجو فلسفة، ومحبون للفلسفة، ومدركون، ليس فقط أهمية الفلسفة عمومًا، بل مدركون أيضًا تعارض فلسفة وفلسفة، ((شرقية)) و((غربية))، ولا بد هنا من هذين المصطلحين على الرغم من التحفظ الواجب كله! فالمهم أن يكون الكلام مفهومًا، أي مفهومًا في سياقه وبسياقه المقولي التعارضي الفاصل، أي بالمعارضة، وهي تقيم حدين، انحيازهم للثانية، للجدوى، إذن إدراكهم إلى حد لا بأس به أنها خصّبت العلوم والتقدم، فإنه لا بدّ من تحذير ضد الفلسفة الوضعانية حتى المجددة والمتحولة والمرتقية إلى أعلى في زمن أسقط ويسقط ألف أوغست كونت. وإنني لا أوافق على طريقة بعضهم في القول إن الوضعانية (أوغست كونت وخلافته المتنوعة) كانت ضد الفلسفة ولفظت الفلسفة. (هكذا الأمر فعلًا، هو أمر هام، بالنسبة لمعرفة ونقد عصر نهضتنا، عصرنا الليبرالي)،([23]) وعلى هذا يجب أن نتفق جميعًا: إنه أمر يجب أن يصبح في عداد البدهيات. ولقد سبق لي أن لخصت واختزلتُ الوضعانية مع الجدل في ثلاثية: 1- ((الإيجابية))، بينما الجدل هو جدل النفي بحكم التعريف، و2- ((التصوّر)) الخطّي، ((التقدمي)) (قانون الحالات الثلاث)، بينما الجدل هو خطية ودائرية، و3- ((كره المجرَّد)) أي كره المجردات الكبرى، كره الفكر أسّ2، البقاء مع الماهيات والجواهر أي المقولات، الفصائل، بينما الجدل (= الفكر، العلم) يدفع بالتحليل إلى النهاية، أي إلى ((الحل))، يذوًّب الماهيات، ويحل الجواهر، يخفض ويطوّع المبدأ المقولي، ((مبدأ الهوية))، رافعًا لواء أكبر المجردات، واعيًا الأساس الروحي للتجريد (ألا وهو التجرّد) ووظيفة التجريد. إن عملية فيثاغور أو الخوارزمي نيوتن أو آينشتاين آدم سميث أو ماركس دوسوسور أو الفراهيدي هي تجريدةٌ عسكرية من رأس العالم .

إذًا، فالوضعانية هي فعلًا ضد الفلسفة. لكن الوضعانية بلسان مؤسسها، وعلى الرغم من كرهها الفلسفة ومصطلح ((فلسفة)) نفسه، استعملت المصطلح، وقالت بالفلسفة الوضعانية أو الإيجابية، طرحت نفسها بوصفها فلسفة بوضوح وقوّة، أعلنت نفسها فلسفة علميّة ضد الميتافيزياء وضد اللاهوت، تبنّت شعار نيوتن ((أيتها الفيزياء احذري الميتافيزياء))، ولملمت موادّ فلسفتها وآليات مذهبها من كتب التعليم المدرسي. ولنقل من الرخص في الفلسفة، تصوّرت أنها ترتقي بمصادرها الفلسفية (التجريبية العظمى والعقلانية وهيوم وسان سيمون) إلى المستوى العلمي وكانت سقوطًا من علٍ، وخصْيًا لهذه المصادر العظيمة، أطاحت في رأسها بالفلسفة وبالعلم والعلوم. ولن نحصي هنا سقطات أوغست كونت في ميدان الفتح العلمي (عداؤه للخلية، لبنية المادّة، لحساب الاحتمالات).

وأُحيل القارئ على كتاب جان وال: بانوراما الفلسفة الفرنسية، وكتاب أندريه كريسون المترجم إلى العربية.

إذًا، ((فالوضعانية)) ألغت الفلسفة، باسم الفلسفة، وباسم الفلسفة العلمية تحديدًا. هذا ما يجب أن لا يتكرر، هذا ما يجب أن لا يكرّره أحد في المغرب أو المشرق!

ومن أوغست كونت إلى لوي ألتوسير! أذكر بأن لوي ألتوسير كان قد عرف الفلسفة بأنها ((نظرية الممارسات النظرية))، هذا بلغته ومفرداته، أي، بمفردات أبسط، ((نظريةُ العلوم)). ثم تراجع؛ تراجع ودان موقفه في نهاية التنبيه الذي يتصدر الطبعة الثانية من كتابه ((قراءة رأس المال)) (السلسلة الصغيرة، ماسبيرو، 1969). دان موقفه واصفًا إياه أنه انحراف وضعاني ونظرويّ theoriciste. لا يهمني هنا فحص جدية هذا النقد الذاتي أو إمكان حصوله فعليًا في نطاق فلسفة التوسير نفسه وعلى أساس ((تعريفه)) للممارسة pratique ولممارساته النوعية specifiques الأربع أو الخمس أو الستّ (كونتيَّة ألتوسير بارزة كيفما قلبنا أموره الفلسفية) وفي لعبه الطويل بنص الصفحتين الأولى والثانية من الفصل الثالث من مدخل 1857 (مخطوطة ماركس الأكثر أهمية وشهرة) أو تشويهه مرتين لنص أطروحة لينين ((لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية))([24])، (من جهتي أرى أن التصحيح مستحيل([25]) بقدر ما يهمني ذلك التراجع الذي لم يلفت نظر أحد من العرب. وأرجّح أنه حين تٌرجم كتاب ((من أجل ماركس)) قبل 15عامًا (وزارة الثقافة، دمشق)، فقد ظل ((التنبيه)) المذكور آنفًا خارج البصر، فهو وارد في الطبعة الثانية، ((السلسلة الصغيرة)). الترجمة العربية اعتمدت الطبعة الأولى على ما أظن([26]).

لن أطيل. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن ألتوسير حذف العمل والشغل، acton travail [raxis وأرقام ((الممارسة)) pratique (ممارسته!)، حذف الهدف، وحذف الواقع والمادّة لصالح ((المادّة الأولية)) جاعلًا المجتمع ((مادّة أولية)) (!) بالنسبة إلى ((الممارسة السياسية)) (مثلما القطن المحلوج مادة أولية لصناعة الغزل والنسيج)، وألغى بالبداهة مفهوم الانخلاع أو التغرّب من رأس المال، وألغى النفي ونفي النفي لصالح ((التناقض))، وأقام سبينوزا ضد هيغل ومن دون لايبنتس الخ. ثم جاء نقده الذاتي، وتكرّر. إن لألتوسير أكثر من ((نقد ذاتي)) واحد. كلها تراجع، ولعب، ومعاندة، والتباس، فهو يعترف بأن ((الانخلاع)) موجود حقًا belll et bien (أدبية ألتوسير وبعض الفرنسيين تسحق الفلسفة) عند ماركس وفي رأس المال. وكذلك ((نفي النفي))، لكن ((نفي النفي)) تحمل حتمًا اللوثة المثالية واللاهوتية، يقول ألتوسير. (لنذكر إذن :1) في مؤشر الموادّ (دليل الأفكار في الطبعة الألمانية الأخيرة لكتاب رأس المال تُوجد 31 إحالة، لا أقل، على فكرة الانخلاع، تابعة لمصطلح التغرّب وحده dntfremdung، عدا عن الإحالات على سواه، ومثلًا على مصطلح التخورج entausserung2) إن لائحة نفي النفي في رأس المال، عن الاقتصاد والتاريخ وعن الطبيعة، معًا على حد سواء، أطول في المؤلف المذكور وبدءًا من رأس المال، الكتاب الأول (من دون الثاني والثالث)، أطول وأغنى من اللائحة التي يمكن أن ننشئها استنادًا إلى أو انطلاقًا من آنتي دوهرنغ وبليخانوف. الفكرة التاريخية عن المجتمع وعن الطبيعة كلها ترتكز على نفي النفي، إذا كان ثمة منطق وثمة تاريخ فلأن ثمة نفي ونفي للنفي وتنافٍ، خروج من محض الصراعية، تنافٍ ليس بتفانٍ. ثمة فرق بين التنافي والتفاني. هنا لا بدّ من الإشارة إلى ماوتسي تونغ في كرّاسه عن ((التناقض)) خدم وأقام ضلالًا وضلالات. أجل لقد بسط هذه المقولة التي تسلّطها ستالين بلا أي شرح حقيقي، فاسحًا المجال واسعًا لاستغراقها في الصراعية والتكاؤنية([27])، أي مخرجًا إياها من المنطق، من نظرية المعرفة.

تلك مسائل مما يدير الفكر العربي الحاضر ظهره لها. أيريدونني أن أظن أن الفلسفة أو العلم باتت متمثلة ومتجّسدة في السادة ميشيل فوكو وكلود ليفي شتروس ولوي ألتوسير وغاستون باشلار؟ وأن الهوية العربية المنشودة هي الأزهر + السوربون؟ وأن الفكر سَرْبنة وأزهرة؟ حَدْثنة وترثنة؟ إن السياسة ((ثَقْفَنة)) إن المعركة ((ثقافية)) و((حضارية)) وهلمجرًا، لا سياسية، اقتصادية، اجتماعية، لا ثقافية وأخلاقية وروحية بلا مزدوجات؟

إنه يجب تنظير وتخليد الانتكاس عن المرحلة الناصرية؟ إن القومية العربية لا علاقة لها بمصائر البشرية، بمسألة الثورة الاشتراكية العالمية؟ إن الوحدة العربية لا شأن لها بهيغل وسبينوزا وأفلاطون وأرسطو، بلينين وإنغلز، بجورج لوكاش وأنطونيو غارمشي وأرنست بلوخ وماوتسي تونغ وليوشاوشي. بل علاقتها بـ ((أحدث العلوم الإنسانية)) وبـ ((الأبستيمولوجيا))؟

ضد هذه الأبستيمولوجيا، أنا أرفع لواء لينين والغنوزيولوجيا ولواء ابن خلجون وبمثل كتاب إيف لاكوست عن ابن خلدون أدعوهم، أناشد الأخوة التقدميين الباحثين العلميين المفكرين، إلى التواضع، أقصد إلى درس وقراءة لينين وإنغلز، هيغل والسياسة، الديمقراطي والفلسفي، فرق الديمقراطية والليبرالية، وفرق الجدلي والوضعاني وغير ذلك، وإلى درس تاريخنا الأخير براكسيس شعبنا، حركة الصعود والانتكاس والضياع، قضية الأمة والوحدة. أناشدهم الإسهام في اختراع وبناء، بالنسبة للفكر والروح، المعركة (بالمفرد!)، المعركة الداخلية، الذاتية، أي الإسهام في الخروج من المعارك إلى المعركة (بالمفرد، الكلي، الأساسي والشامل). أناشدهم الإنصات والتناصت. أنصتُ إليهم، هل ينصتون إليّ؟

الجدل ضد الوضعانية، الديمقراطية ضد الليبرالية، الماركسية ضد الاقتصادوية وضد العلموية، ((الفلسفة والشعب)) ضد ((العلوم)) لينين وآينشتاين والفلاح والنجار وأفلاطون وهيغل والبدوي والخوارزمي ونيلس بوهر وأبو العلاء المعري وصفوان بن جهم والفراهيدي وابن حزم وابن رشد والإدريسي وحركة العمال ضدّ باشلار وألتوسير وفوكو وليفي وشتوس وبرتراند راسّل، وعشرات الآخرين. مع علمي تمامًا بأهمية هؤلاء وعظمة معظمهم، مع معرفتي بقيمة راسل وباشلار، ومعرفتي الكافية، والقديمة أحياناً، بميدان بعضهم، ومع قدرتي على فرز علمهم وفتحهم (حيث يوجد علم وفتح) وعن حماقاتهم، ولا سيما مثلًا سخرية راسل وصفيره وحقده (في بداياته) ضد هيغل، أو ضد هيغل وأرسطو.

فالمطلوب منكم مع التواضع نقيضه: الكبرياء والشموخ. المطلوب منّا التواضع أمام عامّة البشر، أمام شعب الشغل والسعي، أمام الإنسان والفكر، الطبيعة والروح. والشموخ الهادئ أمام القوى. و((العلْم)) la science قوى أيضًا، وموضة. حقًا وباطلًا. الموضة نفسها قوة. وكوحدة مشخّصة: المطلوب منكم، من كل واحد منا، أن يدرس، أن ينشئ الملفّ، لا سيما ملفّ هذا العصر، وملفّ السوربونية الجديدة (والقديمة)، العالمية، ملف راسل أو فوكو أو باشلار وغيرهم، وأن يتخذ موقفًا شخصيًا. لكن الموقف خاطئ،، والملفّ نفسه باطل، مجموع العلوم باطل، حين ينوب عن الحقيقة، عن محض الحقيقة (الحق!) وعن الحقيقة دومًا عيانية))، عن الديالكتيك أو الفكر، طريقًا هو طريق إنشاء صورة الواقع أو بناء لوحة الواقع جملة عينية ومفردة، عن الحقيقة مبدأ ومآلًا ومسعىً أبديًا. العلم باطل حين يضع نفسه فوق ((الإنسان الكادح والعاقل))، فوق مقولة الروح ومقولة التملك appropriaation ومسألة الانخلاع.

ماركس ذكر أربعة صور للتملك، ثلاثة منها هي ((الفن))، الدين، التملك الروحي، العملي))، والرابع الذي يفرزه ماركس ليس العلْم science بمثل ما تفهمه الأيدييولوجيا السائدة، بل العلم science مثل ما يفهمه ويقيمه ماركس؛ الفلسفة، العلم، المعرفة المفهومية الفلسفية العلمية، أو العلمية الجدلية، العلمية، النقدية، العلم منقودًا، مثلًا الاقتصاد السياسي نقدًا للاقتصاد السياسي! لا علم من دون هيغل، من دون فكرة الطريقة، لا علم بالمناهج والعلوم بديلًا عن الطريقة وعن العلم، الفكر. كلما سمعتُ كلمة ((خصوصي)) من فم عربي حاضر، تذكرت specifeque ألتوسير والفرنسيين. إنه الخصوصي النوعي، الطليق والضمني الذي كفّ عن كونه وسيطًا وعقلًا.

– 6 –

يمكن أن نكتب تاريخ البشرية تحت مقولة العبودية ومن ثم تحت مقولة العبودية والحرية، و/ أو أيضًا المملوكيّة والحرية.

ويمكن أن نكتبه تحت مقولة التقدّم، وأن نتّخذ مفهوم ومصطلح التقدّم progres محورًا نقيم حوله مفهومات التكوّن، التشكل، التغيّر الصَّيْر، التحوّل وغيرها، لا سيما المقولات الاقتصادية العلمية المعاصرة:

مثلًا الـ sors،developpement، التخلف، تخلّف النمو، أو النمو المخلَّف. هذا المفهوم الاقتصادي الأخير أعطى الشيء الكثير بالتأكيد، وهو عند المفكرين الجيدين يتخطى تمامًا ((الاقتصادي))، يشمل مختلف الجوانب، ولا ينوب عن ((الإمبريالية والنهب الإمبريالي)) بتاتًا، لكنه بحقّ يعارض حلّ المسألة التاريخية والراهنة (تذويبها) في الاستعمار والحقبة الاستعمارية والإمبريالية وما شابه، ولا يحوّل الاستعمار إلى ((مشجب)).

هذا الموقف واضح على شخص إيف لاكوست الذي ذكرته من قبل، وهو صاحب كتابين مهمين جدًا مترجمين إلى العربية([28]): البلدان المتخلفة عنده، ليست معايير التخلف أي ّ حال التخلف محصورة في ((الاقتصادي))، بل تتناول الاجتماعي أو المجتمعي، القومي ((الاندماج))، الثقافي وغير ذلك. أما ابن خلدون ناقدًا جذريًا وفذًّا للأمة، للذات، لحال الأمة. و((أبطال)) لاكوست هم توسيدييد وأوغسطين وابن خلدون، ثلاثة أشخاص متمايزون، متباينون. ولعل القارئ العربي لم يتبين الثاني!

ولعل الفكر العربي السائد أو المنشور، يريد البقاء، ويستطيب البقاء من دون التاريخية، استنادًا إلى روحية فكرية لا تسائل نفسها، لا تستفهم عن أصل وجذر ومبدأ. تتصوّر مبدأها وأصلها وجذرها معروفًا. لا لأوغسطين، لا للخطيئة الاصلية، لا للرواقية، ولا لأرسطو ولأفلاطون. لا لمسألة اللانهاية والنهاية، لمسألة المطلق والنسبي. إيف لاكوست أبرز بقوة الزمانية الأوغسطينية، وضع هذا الموقف إزاء (معارضة) التصوّر الصيني والشرقي والإغريقي، الدوراني. ويريد بعضنا أن يعد القضية غير ذات أهمية؟[29]* أو أيضًا غريبة عن العرب، عن العروبة، عن الإسلام، عن الدين، عن التراث؟

وهنا يلتقي لاكوست في التشخيص مع رجل عالم علامة منحاز بالتمام للفلسفة الإسلامية الشرقية الإشراقية، يعلن أن الطريق ((الغربي))، أي اللوغوس والراسيو والتاريخية، مسدود. قصَدنا: هنري كوربان في كتابه تاريخ الفلسفة الإسلامية، الجزء الأوّل، وبدأ من الصفحات الأولى. كتاب عظيم، غني، مهم، يجب على كل عربي أن يقرأه مرتين وثلاثًا وأربع. كوربان علامة. ولا أدري ما إذا كان يجب أن أتبنى موقف ذلك الصحافي أو الكاتب الفرنسي الذي قال، بمداعبة فرنسية معلومة: كوربان يعرف الشيعة جيدًا وجيدًا جدًا لدرجة نشك معها أنه يعرفها بصورة صحيحة! لا ريب، في ظني، أن الموقف الشيعي مزدوج الاحتمال، إن ((الشيعة)) مقولة واقعية فيها تياران اثنان، أحدهما تيار دنيوي علماني اقتصادي تراكمي، إيجابي، جعل النفي مبدأ لوضع. جعل السلب يضع الإيجاب، جعل المتعالي يؤسس الدنيا والزمنية، كان نوعًا من بؤرة قامت حولها الجدوى، البحث، التقنية، العلوم، الفلسفة أو قسم كبير من ذلك في ((بغداد)) وغير بغداد. لا ننسى على سبيل المضارعة المفيدة والضرورية، موقع الطهرانيين الإنكليزيين أو أحفاد الراسكول (raskol: انشقاق، جماعة ((الإيمان القديم))، الرافضة أنصار المطلق) الروسيين، ودورهم في التطور البرجوازي، في بدايات الرأسمالية. لا ننسى دور البروتستانتية (الاحتجاج) في مجموع الثورة البرجوازية والتطور البرجوازي، ولا سيما تهاوي وحدة ((الثورة البروتستانتية)) مع الثورات البرجوازية الهولندية والإنكليزية الظافرة.

وليس مطلوبًا من هنري كوربان أو من أي أوروبي أن يدلنا هو على التاريخية، وعناصر المفهومية والتاريخية، في تراثنا الروحي والفكري والمكتوب (وقد تكون قليلة في المكتوب)، وفي تاريخنا الواقعي الفعلي (هذا تمييز حاسم ينساه كثيرون!) بدءًا بالمسلمين الأوائل جميعًا بانطلاقهم وإيمانهم ودينهم، وبأحزابهم وصراعاتهم ومعاركهم داخلهم، ولنقل داخل كل منهم. عظمتهم هنا! لقد دخلوا العمل والتاريخ، كدراما وفتح، ومأساة وتقدّم. وكان الاعتزال، مع مسألة خلق وعدم خلف القرآن، ومسألة القضاء والحرية، وكان اختراع علم اللغة العربية مع العروض، بوصفهما عمليتين عقلانيتين ترتكزان عل أساس لاهوتي ثمين([30]). فيما بعد اختنق اللاهوت العقلي، أي منطق اللإلهيات، سعي الإنسان إلى ممعرفة ما دينه في الدنيا وللدنيا. فيما بعد عُدّ السؤال محلولًا، أو غير وارد أصلًا. وبينما أقفل كثيرون باب الاجتهاد، تكلم آخرون بخلاف ذلك، فلم يقفلوه، هناك الأئمة، لكن في الحالين، هذا يعني أن الجهاد انتهى، سقط من جهاد إلى اجتهاد، وتقلّص. بدلًا من الديالكتيك، أي من العقل، قامت بدائل؛ فقه، فقهان، لاهوت كوسمي. مفهوم التاريخ صار انحدارًا، والمسعى تصحيحًا أو محاكاة للأوائل، الراشدين. بعد الرشد، اللارشد أو أيضًا الهرم. يأخذون أفلاطون الشرقي، أي القسم أو الجانب الشرقي من أفلاطون: ((المعرفة تذكر والتقدم نحدار)). بل الانحدار يرتفع إلى لاهوت، يصير لاهوتيًا. بدلًا من عقيدة الخلق الصعودية غير الملتبسة، المباشرة (بلا وسائط ووسطاء) والمتدرّجة والواصلة إلى الإنسان (آدم) مع عصيانه وفتحيته، مع استخلافه وجاهليته، يقام ((خلق)) هو صدور وإرسال وانحدار. ((العقل)) يصير ((نوس)) ((nous)) شرقيًا، فهمًا،مصباحًا إلهيًا في الدنيا وفي ذهن الإنسان العالم والمنوَّر أو النوارني، نوعًا من فلوجستيك ضد المنطقي والرياضي. ((الكون)) يصير ((الوجود)) بدلًا من ((الشكل)) تقام ((الصورة)) ([31])، الإيدوس الأفلاطوني (مثال، فكرة، شكل، صورة) يصير المثال _الرمز، الصورة.

وبكل وضوح وبكل إصابة، يبرز كوربان المتعاطف أن ((العقل)) الإشراقي نوس nous، ذكاء، فهم، intellect intligence، وأنه ليس راسيو raison (ولنقل ليس لوغوس، راسيو؛ ((علم الكلام)) قٌلّص ثم سقط، إنه بداية اللاهوت الفكري، العقلي وهو شريك المنطق، وهذا سقط)، وهو يترجم المثال ب symbole (رمز)([32]) الوجودية، الرمزية تنتصر على المعرفية العقلانية، على الفكر العقلي، الذي لا يبقى منه سوى نتف. ولنقل إن الذرية atomisme تبقى قائمة كعدم ديالكتيك، وذرية ذات ((مادية))، لا مقولية ذرات /فراغ([33]) ومن ثم خارج الفهمية والمفهومية. وهي لا تتوجّه ضد العناصر – الجواهر الأربعة. المنظومة العامة تستبقي العناصر الجواهر الأربعة (التراب، الماء، الهواء، النار)، أي بهذا المعنى وفي هذه الحيثية، (تستبقي) شيئًا دون الفلسفة بحصر المعنى، دون عملية طاليس وخلافته، وعلى كل حال دون الديمقراطية، ودون الخط المتمثل في ديمقريط ولافوازيه ومندلييف وروثر فورد، ونيلس بوهر. والفتوحات، الاختراقات العظيمة، العناصر الثورية (ابن النفيس، العلم الرياضي الحسن ابن الهيثم الادريسي، الخ) تختنق داخل المنظومة. هذا ليس كتاب كوربان بطبيعة الحال. كوربان يؤشر أيضًا على عملية شرقنة محي الدين بن العربي، على لفظ الغرب للمنظومة السينوية (التي لم تستمر هناك سوى فترة قصيرة) وعلى مكوث الابن رشدية في الغرب، وتفعلها فيه.

لسوء الحظ، إنه بحكم انحيازه لا يكرس سوى القليل من كتابه الجامع للاعتزال وعلم الكلام السني وللكندي والفارابي وابن رشد (هذا عنده جزء من الطريق المسدود)، ويحصر نظره في مقولية ثنائية لا تفي بما نحن فعلًا بحاجة إليه في موضوع ((التراث)). إن الفكر العربي الإسلامي، ق 7، 14، لا يمكن أخذه (فهمه، معرفته) تحت مبدأ ((تيارين)): أحدهما الشيعة، الإمامية، الإشراقية، التصوّف والآخر السنة من عمر بن الخطاب إلى الشافعي وابن تيمية. هذا خطأ في المنطق نفسه، إذا كان موضوعنا الفكر. إنه تغليب للواقع، الظاهر، المباشر. أخشى أن لا يكون كتاب كوربان خدمنا جديًا في تبديد الالتباس أو درء ميلنا إلى إسقاط تكوينات لاحقة على حالات سابقة وإلى تبني مقولات متسرعة وغير منقودة ولا تصلح كمفاتيح. المفهومات الممتلئة، المجوهرة، لا تصلح كمفاتيح. إنها الميتافيزيقي بمعنى اللاجدلي، علم الصلابات والجواهر والمقولات. المادي الشيئي والخيالي الرمزي أخوان.

المعنى الحقيقي جامدٌ – ذاتٌ والمعنى المجازي عسف وخيال. المجتمع البشري يعيش ليومه، بلا مشروع ومستقبل. يخرج من العمل، من الجدوى. من التاريخ. إنه الانحدار، الانحطاط. هذا ليس ((التراث))، ((الثقافة)) وهلمجرًا. إنه التاريخ، إنه الواقع. – 7 –

قبل ثلاثين سنة، عصر القومية العربية التحررية والحقبة الناصرية، وقبل خمسين أو مئة سنة، عصر النهضة أو العصر الليبرالي، والحركة الوطنية، كان هذا الأمر بديهيةً في الذهن العربي: هناك انحدار، انحطاط، عصر مملوكي وتركي وعثماني أعقب العصر العربي، وهناك نهوض، تقدٌم، معركة سياسية واضحة ضد الاستعمار والاحتلال الاستغلال والتسلط، وقيام (نمو) لمقولات الوطن، الشعب، الأمة السياسية، الحرية الخ، المقولات الحديثة والدخيلة واللازمة والتي لا غنى عنها للاستقلال، للذات، للنمو، والتقّدم. هناك تخلف وتقدم مقولتان أساسيتان في مسار تاريخنا، في خطنا الزمني، وفي العالم الموجود والحاضر. السؤال ((لماذا تتخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟)) كان سؤال فكر النهضة. كان من أهم أسئلة تلك الحقبة. هناك قبر وخروج من القبر. ((يارب هبت شعوب من منيتها واستيقظت أمم من رقدة العدم)). صوت أحمد شوقي يلتقي مع صوت لينين، جوريس، محمد إقبال، صن يات صن الخ. محمد كرد علي يكتب خطط الشام، بهذه الروح بعض النخب تقرأ فولني. أو الجبرتي والبديري الحلاق وتاريخ ابن إياس. محمف عبده والأفغاني والطهطاوي والبستاني والشدياق واليازجي والنديم والكواكبي وطه حسي وعلي عبد الرزاق وأحمد لطفي السيد والشميل وأنطون وخير الدين التونسي ورشيد رضا الخ الخ والوفد والكتلة الوطنية وحزب الشعب الجزائري ورابطة العلماء والدستور القديم والجديد الخ الخ متقفون على شيء ما، على تشخيص وعلى انحياز. الماضي التراث، الهوية، الدين، الأصالة الخ في خدمة مشروع نهضة وتقدّم.([34])

هذا كله يواجه اليوم ارتدادًا هائلًا. بعض الأصوات ترتفع معلنة أنه بأساسه ومجموعه كفر، ماسونية، صهيونية، استعمار، إمبريالية. وبعض ((العاقلين)) يُدلون بدلوهم في هذا البئر الملتهم. بعضهم يضعون ((علميتهم)) في خدمته. بعضهم يتكلمون عن وجوب الإنصاف، إنصاف العصور التي سماها الجيل السابق وأسميها معه عصور الانحطاط. وبعض ((العلميين)) يحملون إلى هذه الطاحونة نتفًا من أحدث ما أنتجه الكشف الغربي، من وقائع محددة أو من نظريات وعلوم: الأنتروبولوجية الثقافية البنيوية تلغي التاريخية. لا يوجد تقدم، لا يوجد تأخر. مفهوم التقدم نسبي، لا يوجد معيار واحد للتقدم، معيار التقدم يختلف من عصر لآخر، من حالة لأخرى. نسقط في الاصطلاحية، في الاتفاقية، في التواضعية.

ضد أخطاء الجيل السابق أو مبالغاته، تقام أخطاء أكبر بكثير. ضد معرفة جزئية وتبسيطية وناقصة التأسيس، تقام معرفة جاهلة ورافضة ولا أساس لها سوى الوثنية في وثنيات مختلفة ومتضافرة.

إذًا، لا بد من وقفة عند التقدم، المفهوم، والمسألة والمسألية، وعند تاريخنا، ومرآته. التقدم مفهوم، فكرة مفهومية، ليس موجودًا ليس شيئًا.

كلمة كرسي ((نفسها)) ليست كرسيًا، بل فكرة عامة، ((صورة)) عامة، ومفهوم. ((في اللغة لا يوجد إلا الكلي))، على هذا يتفق فويرباخ وهيغل والأقدمون ولينين. بل إن الـ ((هذا)) أو ((هذا الشيء)) diesi أداة الإشارة، الذي هو ظاهرًا الكلمة الأكثر خصوصية والأكثر تحديدًا؛ هو الأكثر كلية. يمكن أن أقول عن كل شيء مادي أو فكري ((هذا))، كذلك كلمة ((أنا))، كل إنسان يمكن أن يقول: ((أنا)) هكذا ((الكرسي)).

من الكرسي، ((الكلمة العينية))، أنتقل إلى ((الكلمات المجردة))، إلى ((الحرارة))، ثم إلى ((المادة))، إلى ((القيمة))، إلى ((السبب))، ((القانون))، وإلى ((التقدم)) مثلًا، وإلى مشابهاتها. لنلاحظ أن التقدم هو موضوع الطعن، لا ((شبيهاتها)): تحوّل، تطور، صيرورة، تغير، ثورة. خصوصًا لا ((الثورة))! يستغنون عن التقدم بالثورة. يرفعون لواء ثورة يمين، وثورة تخلّف، وثورة وثنية. وبعض التقدميين والقوميين، بعض العلميين والماركسيين وغيرهم، يساعدونهم: عن جهل، عن هرب، عن لا مفهومية. في هذه الثورة يتضافر عنصران: (( بدْوي)) الـ ((بدأ يبدأ)) و((بدا يبدو)) و((بده = فاجأ)) وحضاري مستنقعي مملوكي عثماني متجدد إمبرياليًّا وعلوميًا.

ضد الـ ((بدْوي)) لنقدم هذه الصورة: أقدح عودًا من الثقاب، لهب، نار، ظهور.

الظهورات كثيرة. مريم العذراء ظهرت لفلان من الناس في المدينة الفلانية. هناك آلاف الأمثلة، أو ملايين، في العصور والأمصار جميعها، والآن، وعندنا. لست ضد هذه الظهورات، لست معها، وبصددها. أنا مع الظهور الآخر، أنا بصدد عود الثقاب وظهور النار. وبالضبط إن العلم، أي أولًا المنطق، يحوّل الظهور إلى ظاهرة بالمعنى القوي phenomine. المفهومية تُعلن أن هذه الظاهرة (ظهور النار، اشتعال الثقاب) التي تمت وقعت بلمح البصر، أي بثانية أو نصف الثانية، هي تحوّل كبير جدًا، ((طويل)) جدًا، مجموعة عمليات ومسارات، مسلسل، مراحل، خطوات ودرجات إلخ، المفهومية تفك اللغز، تحل تمنطق. ((في البدء)) قبل عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من السنين، كانت الدهشة، والدهشة كانت حافزًا على المعرفة. عندنا الآن من يريد ثورة كاشتعال عود الثقاب، بل دون مفهومية اشتعال عود الثقاب، ودون الدهشة الحافز. إنه مذهب الظهور التابع لمذهب ((الوجود)) و((الصورة)) لعقيدة الشراكة ((وجود جوهر)). هذا يتجاوز ((البدْوي)) إلى العنصر الثاني: المملوكي العثماني، الشرقي الاستبدادي، وهو يشطب من ذاتنا ((البدوي)) الآخر، البدويالعظيم، الكلي، والكوني: روح الفراهيدي والخوارزمي والإدريسي وغيرهم، ورايات الإسلام الأوليات، رايات الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي، الأول للهجرة، رايات الروح، العقل ([35])

إذن ضد الذين يعدون الثورة والتغيير واشتعال عود ثقاب، ويستغنون بالثورة عن فكرة التقدم، ومفهوم التاريخ، أنا أقول أولًا بأول: كلا، يا إخوة ويا رفاق ليست الثورة وليس التاريخ والنمو والمنطق اشتعال عود ثقاب، بل إن اشتعال عود الثقاب هو نفسه منطق ونمو وتاريخ. وبعد ذلك أتابع. أي: حين تتكامل وتكتمل شروط الشيء، حينئذ فقط يأتي الشيء إلى الوجود. هكذا منطق هيغل وسياسة لينين قارئ المنطق. في 1902، وكان كتابه عنوانه ما العمل؟ وأحال على الوعي. في 1914، كتب ((خلاصة منطق هيغل))، وكانت خلاصة الكتاب الذي عنوانه المنطق، منطق هيغل، تحيل على العمل. وفي العمل، تحت مقولة العمل، ليس التعارض بين ((المادة)) و))الوعي))، بل هو بالضبط بين الهدف والواقع. العمل هو توقيع لهدف. ولأن الهدف يحمل صاحبه على نسيان أنه الهدف، وأنه ليس بتاتًا الواقع، لذلك فهو يرتج على توقيعه، يسد على تحققه في الواقع. هكذا كان تحذير لينين، لذاته، للحزب، للبشرية.

التقدم يقتضي، يتضمّن: المستقبلية، الجديد الواقعي، ويتضمن ويقتضي: التدرجية، التوالي، البنائية وغير ذلك.

الذين يقولون: التقدم نسبي، إنما يلغون مفهومية التقدم، يحوّلونه إلى شيء، صنم، ((ثم)) قد ((ينقدونه)). في اللسان العربي المخشوشب، أصبحت ((النسبية)) أي ((رفض المطلق))، هربًا من المفهوم، عجزًا عن الفكرية، امتناعًا أوليًا ونهائيًا عن العمل الواعي بالمفهومات أي امتناعًا عن المبدأ؛ الفكر. عندئذٍ، يصير الفكر لملمة ومعارف محدودة -عدا ذلك- فقيرة، مكرورة، ملتبسة، ميتة. صفة المفهوم أنه المفهوم، أنه من مملكة الكلي والمطلق، لا من مملكة ((النسبي لا المطلق)) و((الخصوصي لا الكلي))، الحمق والمحال واللامعنى، حتى في قولي ((طاولة)) ثمة مطلق، والطاولة وراءها فكر بشري صنعها، أبدعها.

إذا كان ((معيار)) التقدّم مختلفًا بين اليوم والأمس، بين هذا البلد وذاك، بين هذه القطعة من الكون المكاني، الزماني وتلك، عندئذ يسقط مفهوم التقدّم، ولندفنه بأعلى المراسم العربية والطقوس العلمية، فالتقدم يحيل على مقارنة بين مجتمعين حالتين، حالات عدة، الحالات جميعها.

التقدم يحيل على النمو، ويمكن أن ((أعرّفه))، وأن أعرّف معياره ومعاييره بلغة النمو:

التقدّم هو نمو الإنتاجية أولًا بأوّل، أي نمو قدرة البشر على إنتاج وجودهم اجتماعيًا، نمو مردود الشغل البشري، التقنية أولًا، التقنية والتنظيم و((التجارة)) بين الناس (التعامل، العلاقات، التواصل)، نمو القانون والأمن نمو ((العائلة والملكية الخاصة والدولة)) (عنوان كتاب إنغلز)، نمو الملكية علاقة الإنسان بشروط إنتاجه، نمو المجتمع المدني، نمو حقوق الإنسان، وهكذا دواليك. ((القسم)) الأوّل الجانب التقني المادي، يمكن أن يُقاس وهو يقاس رياضيًا. الإنتاجية هي نسبة، قسمة، كسْرٌ بسطه كم الناتج ومقامه[36]* كم الشغل المبذول ((عدد ساعات الشغل/ شغّيل). ومثلًا واقع أن ((مردود)) الزراعة في إ نكلترا هو عشرون مثل مردود الزراعة عندنا أو أكثر من 2 بالمئة من الناس يعملون في الزراعة وينتجون نصف أو ثلاثة أرباع حاجة مجتمعهم الزراعية. أو (فرنسا) 80 بالمئة من الناس ينتجون 90 بالمئة من حاجة المجتمع الزراعية أو 120 بالمئة، قلت: رياضيات، بالأصح حساب وعدّ وقسمة أي علاقة وقدْر وقدَر وقضاء، ((شيء)) فكري، ((شيء في المطلق))، أو ميزان – عقل، يمكن أن أضيف الوجه الآخر، القبيح، في التقدم في أقدار البشرية: الانخلاع، الاستلاب، التغرب، استعمار البشر للبشر، وشعوب لشعوب، انشطار العالم (توحده، قيامه، وانشطاره، انشطاراته)، تلوث البيئة، تدهور البيئة، التصحّر، الخ، مرض السيدا، الأسلحة النووية والجرثومية والكيمياوية إلخ. نمو الإنتاج هو أيضًا نمو إنتاج الأسلحة، المخدرات، والسلع المخلوعة الخالعة.

بتعبير آخر: إن الإنتاجية هي أيضًا، هي الآن وبأقصى ما يمكن من القوة، نمو التدميرية، أي نمو قدرة الإنسان على تدمير عالمه وذاته.

هذا كله = التقدم، و= التاريخ أيضًا.

التقدّم هو الإنسان والتاريخ، خروج الإنسان من الطبيعة ومن الحيوانية. إن لينين وتوماس مور، ماركس وروسو، الخ، متفقون على التقدّم وعلى نقد التقدّم.

الفكر العربي لا يعرف ذلك وهو دون ذلك. إنه لا يعرف الأوّليات، ألفباء الفكر والتاريخ.

بعضنا مثلًا يحبّ روسو ولا يعرف روسو. يتصوّر أن روسو بالطبيعة طرد التاريخ. إنه لا يعرف المعارضة المفهومية طبيعة/ تاريخ، عند روسو وماركس ورجال الفكر جميعهم، الرواد المؤسسين. بعضنا يتصور أن روسو ضد المدنيّة والتفاوت الخ ولا يتساءل عن معنى ((ضدّ)).([37])

(إن روسو، أصل التفاوت بين البشر) يرى تمامًا أن الانتقال من الصيد والقطف إلى الحنطة والحديد، من البربرية إلى المدنية، من الحيوانية إلى الاجتماعية، من القطيعية إلى الفردية، من اللاتفاوت إلى التفاوت إنما هو تقدّم بل هو انطلاق التاريخ، عملية مجيء التاريخ، مجيء الإنسان اللاحيوان أو الإنسان بعد الحيوانية. إن ازدواجية موقفه من هذا الانطلاق وكل ما ينبني عليه لا تغير شيئًا من قبوله التقدم، الذي هو قبوله ((الإنسان والتقدم)) ووجوب النقد. هذه الازدواجية هي جدلانية روسو التي نالت تثمين ماركس وإنغلز وماوتسي تونغ وهنري والون والماركسيين عمومًا. وهنري والون، عالم النفس الماركس الفرنسي الأشهر، أبرز أيضًا وحدة فكرة الطبيعة والطبيعي وفكرة النضج والتدرّج والنمو في تربية روسو، في كتاب إميل، رأس التربية الحديثة. بل إن روسو، رجل المفارقات الجدلية الضاربة، يتلذّذ في تأخير موعد الاكتمال، في إطالة عملية الاختمار والنضج، وذلك بالارتباط مع مفهوم الطبيعة، ضدّ غائيات البشر وغايات التربية (الآباء، الدولة)، ضد الذاتوية، ضد التسرّع الآدمي.

كل فكرة الطبيعة، عند الإغريق، عند ابن خلدون (وابن رشد)، عند فرنسيس بيكون وسبينوزا والفيزيوقراطيين وروسو، سواء بسواء، هي سمفونية كبيرة متنوّعة ضد الوساوس التطيرات والسحر وأرواحية النفس البشرية، هي فكرة عقلانية. عندنا، جعلوها بالعكس، جعلوها غطاء لما يحلو للنفس.

فضلًا عن ذلك، إن الطبيعة مثلت أحد طرفي أو وجهي الثنائي شريعة/ طبيعة، التعالي / التحايث، الله /العالم، العالم، الذي أثبت فعله وجدواه: التقدم. عندنا، حلوا الشريعة في الطبيعة، خفضوا الشريعة إلى الشيء المعروف بهذا الاسم، أعلنوا حلولية بلا نفي، عيشوا روحهم وفكرهم في ((وحدة الوجود))، الوحدة المتناثرة لوجود ((متشابه)). الله بات غطاء للآلهة. هذا كله انتكاس، ليس فقط عن المسيحية أو الإسلام، بل عن هيراقليط. ألغوا النفي. والنفي المطرود من الباب ثأر لنفسه وعاد من الشباك إنه النفي السلبي الذي لا يضع شيئًا، الذي ليس له تال في شكل الطرد. الواحد الوجودي عاجز عن تأسيس التعدد، إذن لا الديمقراطية فقط، بل الاجتماعية البشرية وحسب، ((دولة الحق))، الدولة الحقي التي دون الديمقراطية. إذا كانت فكرة تعالي الله لا تقيم سمو القانون الدنيوي (بدءًا من دستور الدولة وصولًا إلى نظام السير في الشوارع مرورًا بالقوانين التشريعية) عندئذٍ فهذا معناه أن الفكرة طردت من الروح والفعلية، صارت محض كلمة يكشف تكرارها نفسه عن عدمها الفعلي والواقعي و))التطبيقي)). إنه أحد صور العجز عن تفعيل المطلق.

إذًا، لا اعتراف بالعالم، بالواقع، بالتاريخ. غياب اعتراف بالتاريخ بوصفه دراما وتقدمًا. الحلولية، الوثنية مثنوية وجودية. هناك نحن والغير، العدو. في هذا التصور للتاريخ وللواقع، السيد هو مفهوم ((الأبطال-الملائكة)). لنقل إن هذا المفهوم هو تناقض في المعنى. الملائكة ليسوا أبطالًا ولا أبطال ملائكة: هذا يحكم التعريف!

– 8 –

رب معترض باسم العلم والفلسفة: من أين أتيت بهذا المفهوم؟ ((البطل، الملاك)) فكرة تافهة ولا تستحق أن تدعى ((مفهومًا)). إن ردي هو ما يأتي: أنا أرى أن فكرة ((البطل – الملاك)) هي أهم ((مفهوم)) (!) في الوعي واللاوعي العربي للتاريخ، اليوم. إنه الهاجس وقد صار فكرًا. الهاجس المفكَّر! أصحابه يكتبون التاريخ بلغة ((نحن)) ((وأنتم)). لا يعرفون ((هم))، ضمير الغائب، التجرد. يتصورون أنهم هم ابن النفيس والخوارزمي، الإدريسي والأيوبي والسهروردي والفينيقيون وكراكلا. لسان حالهم: نحن اكتشفنا الدورة الدموية واخترعنا الجبر والجغرافيا وصلنا إلى جزر القصدير ودرنا حول إفريقيا وبنينا روما، وانتصرنا على الروم والفرس والإفرنج …. كلا، يا سادة، نحن لم نفعل شيئًا من ذلك بتاتًا. الذين فعلوا عاشوا قبلنا بكثير، بل ولا يستطيع أحد الادعاء بأنه من نسل أحد منهم، ما دمتم تحبون النسلية ولا ترون تشكلًا تكونًا وتاريخيًا ليس نسلية وبطنية.

بل ولم يكتشف أي منا أن ابن النفيس اكتشف الدورة الدموية. الأوروبيون هم الذين اكتشفوا ابن النفيس وغير ابن النفيس. والذين يهاجمون الأوروبيين لإنكارهم دور العرب وفضل العرب، أنا أقترح عليهم أن يؤلفوا كتابًا أو حتى مقالًا عنوانه ((دور العرب في اكتشاف دور العرب)). أرى أن المقال سيكون قصيرًا جدًا. على حد علمي، ليس ((العرب)) اكتشفوا دور العرب، بل ((الأوروبيون))، وإن ((العرب)) الذين يهاجمون ((الأوروبيين)) في هذا المضمار أيضًا إنما ينقلون الأوروبيين.([38]) ولحماقة متعددة أن يجري تحري ونشر عمل العرب التاريخي في ميدان العلوم تراث العلوم، بمعزل عن العالم وعن التاريخ، عن الماضي وعن المستقبل، ومن دون التبيان الجذري لحدود العرب، لحد الفكر العربي والعلم العربي، فوق وتحت. إن ما نسميه العلم العربي الإسلامي، علم العرب المسلمين، هو كمجموع ذروة عصر ماض وعالم ماض، ذروة منظومة فكرية وعلمية ولا علمية تبدأ من أرسطو وهيبوقراط وجالينوس وبطليموس وديوفانت مع فارس والهند والشرق الأدنى، منظومة ماضية ومفوتة، وفيها عناصر ثورية ناقصة تهيء للمنظومة الجديدة، تنبئ بها. وثمة للمنظومة الفكرية والعلمية العربية نقص لا في التطبيق والتقنية والإنتاج والعلوم العملية بل في ما يدعى اليوم بـ ((العلم الأساسي)) sciencefondamentale ومن الأفضل أن ندعوه الفلسفة النظرية العقلية. إن ((أوروبا)) تمثّل انطلاقًا جديدًا، كان يمكن أن يكون، في تاريخ آخر، انطلاقنا ((نحن)). تاريخ آخر يكون أولًا عودة إلى مبدأ قابل لبسط جديد.([39]) لكن الاستقلال ضاع الذات ضاعت، العرب خرجوا من التاريخ. ثمة إيديولوجيا كبيرة حالت دون تحقق ((الإمكان)) النظري.

((التاريخ الآخر)) ليس التاريخي الواقع. في التاريخ الواقع، سقط الذهن العربي في مذهب ((وحدة الوجود))، محا الإنسان مقولة المستخلف، تراجع الاجتماع العقل، الأمن والقانون، الزراعة والحرف، الحقبة المملوكية محطة، والعثمانية محطة. العثماينون الأوائل يوجهون ضربة كبيرة لمصر ولسورية.

لكن التاريخ مسارًا ليس خطًا بل خطوطًا. الواقع تعينات مختلفة.

يجب الانتهاء من التلفيقية الموحدة، من الإدراك السديمي الذي يدمج الجوانب ويوحد الحقب تحت مقول المجد وأخوات لها أقل بساطة وأكثر تحذلقًا.

يجب الكف عن حصر الواقع في ((الدولة)) وعن حصر فكرة ((الدولة)) في الامتداد الجغرافي، ويجب النظر النقدي في لفظ ((دولة)) العربي (دال، يدول، دولة)، وبلوغ الحالة-الدولة،الكون etat، والدخول في الكينونة الاجتماعية التي تحت الولاية على البشر. فكما تكونون يول عليكم. القرن الثامن عشر الأوروبي، عصر آدم سميث وكانط وهيغل وماركس عصر المجتمع المدني والدولة السياسية، شرح جديد، فكرن الفكرة ووقعنها([40]). (كما تكونون) هذه ليس معدنًا خاصًا أو مادة عرقية أو طينًا فرديًا، بل هو ((الوجود الاجتماعي))، العلاقات بين الناس، التبادل، المجتمع المدني.

إذا كانت الدولة هي الامتداد والانحدار هو انحدار الدولة، عندئذ فالانحدار يبدأ فورًا بعد الأمويين، بانفصال الأندلس والمغرب نهائيًا، أي في القرن الثاني الهجري، ويكتمل تمامًا في القرنين الثالث والرابع. لكن الأهم من الانفصال الامتدادي انقسام الدولة في النواة، في العاصمة بغداد، في سورية. في بغداد يقوم أمير للأمراء، يسمل عيون ثلاثة من الخلفاء. عصر الأوج العباسي انتهى إلى غير رجعة. حالاتٌ بيزنطيية أو رومانية ( لا سيما روما الأخيرة) تبرز لدينا في وقت مبكر في العراق، سورية، ومصر، تبرز لدينا وتنمو. نوّهت ببيزنطة وروما، قصدتُ: ليس أمرنا استثناءً، خصوصيةً، لا داعي للبكاء، لكن ثمة وجوب لنبذ الجوهرية، واعتماد فكرة التكوّن والتاريخ. الكوائن الاجتماعية نتاج تاريخ اجتماعي. يجب الانتقال بالفكر إلى ما تحت الدولة، إلى المجتمع، إلى الكينونة الاجتماعية والجوهر الإنساني بمعنى ماركس: إلى العلاقات الاجتماعية.

يجب كشف الماساوي، كي لا يسيطر علينا المكبوت، يجب الاعتراف بالمأساوي كي نسيطر نحن عليه بالعقل. علمًا بأن المآسي معروفة ومشهورة. لكن الاعتراف المبدئي والأساسي والنهائي أصعب بكثير من ((المعرفة))، وهو شرط للمعرفة بلا مزدوجين: معظم قادة الفتح انتهوا نهاية مأساوية، ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلًا، ((الفتنة)) قامت من البداية، عدد من أحفاد الرسول قتلوا في كربلاء، الزنج أحيوا أراضي جنوبي العراق، وثاروا، وقتلوا: 300000 قتيل أو نصف مليون. ليس في هذا استثناء، ولا غرابة. لا ((الفتنة))، ولا صراع أمية وهاشم وعباس ومروان الخ، ولا مذبحة العبيد، ولا انقسام بني بوية أو بني سلجوق، إلخ. هذا نجده في أمصار شتى في عصور شتى، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، في عوالم المسيحية والهندوسية والبوذية والإحيائية، ولا زحف المغول، ولا أي شيء من أشياء الواقع. من يرى غير ذلك، من ركب على ذاته مذهب ((الخصوصية)) (خصوصية طاردة للعمومية) إنما هو: 1- مؤمن بجوهر تجلّى ثم خبا، بأمة هي صخرة مناضلة من الأزل إلى الأبد ضد الاستعمار، لكنها أيضًا ومن البداية ألعوبة بيد ((الجواسيس))([41]).2- جاهل بتاريخ الشعوب والأقوام الأمم، جاهل بتاريخ الإفرنج والروم والهند والصي. 3- رافض لفكرة البشرية ذاتها ولمفهوم الإنسان، ومن ثم رافض لمفهوم التاريخ من أساسه.

يجب، بالنسبة لتاريخنا، أن ندرس تاريخ ((الأرض والإنسان))، أن نعرف هذا التجريد، مسار ومسارات هذه القضية في آلاف السنين (ثمة تجفف، مسيرة تجفف؟)

يجب أن ندرس تاريخ الإنسان والإنسان التكوينات البشرية، الاجتماع البشري.

يجب أن ندرس تاريخ الشغل، الإنتاج، مثلًا بدءًا من القرن الأوّل الهجري، وبدءًا من الألف الرابع أو العاشر قبل الميلاد، حتى العصر العثماني وحتى يومنا هذا. يجب أن نلغي من معرفتنا الشعبية والمدرسية والجامعية تلك الفجوات الزمنية الطويلة العديدة.

يجب ردّ المنزلة للإنسان والأرض والكدح والاجتماع، وردّ المنزلة فعليًا لمقولة الوطن، الأمة، الشعب، الناس.

يجب التخلي عن البطل والملاك والبطل الملاك وعن نقائضها.

يجب تحديد الانحدار، فصل الانحدارات. إن عصر الأوج الاقتصادي والتجاري غير عصر الأوج الفلسفي العلمي وغير عصر الأوج الدولتي والعسكري. ثمة مسافات زمنية كبيرة بين هذه الأوجات.

– 9 –

يجب فحص تاريخنا تحت مقولة عبودية الإنسان.

من أجل ذلك يجب أولًا بأوّل أن ننتهي من نظرية الحرية الملائكية، من الكذب، من المثالية التجارية، من البدهيات الجاهلة الباطلة. يجب أن نبدأ برد المنزلة للعبودية.

العبودية أفضل مليون مرة من أكل لحم البشر، من قتل البشر، من وأد البنات، من الأضحيات البشرية، من العبودية (عبودية المرأة والأولاد) تقدّم كبير على ما قبل. لا شيء في علم الأنتربولوجيا البيولوجية أو في علم ما قبل التاريخ يسمح لنا بأن نتصور أن أجدادنا الأوائل في هذا الوطن العربي كانوا من طينة أخرى، من عرق خارج عرق البشر ونوع البشر وجنس البشر. الله لم يخلق بشرية من تراب وشعبًا خاصًا من روح، نور أو من نفس كلها خير.

بعد ذلك، وبعد معرفة تاريخ العبودية العام بحسب كتاب موريس لانجليه، يمكن أن نقوم بعملية جرد العبودية في واقعنا وتاريخنا، مع احترامها هنا أيضًا ! فهي أحيانًا ! قتل للعبد، عدا عن كونها دومًا تخفيضًا له وإنقاصًا لإنسانيته، لكن ((الأحرار)) أيضًا يُقتلون هنا بكثرة. في حروب كبيرة([42])، وفي غزوات صغيرة! من المفيد مثلًا أن ندرس تاريخنا لنقل حتى سنة 1900 تحت مقولة ((الغزوة)). هل ((الغزوة)) عصر جاهلي مضى منذ 14 قرنًا، حالة حجازية أو نجدية، أو أننا نجد الغزوة في عشرة آلاف جبل وقرية وبادية ومدينة، في القرن التاسع عشر مثلًا، من المحيط إلى الخليج؟ غزوة سلب ونهب وقتل وطرد وخوّة ((أخوّة!)) لا شعر ولا فروسية؟ إذا كنا لا نعرف هكذا أمور ونتصور ضمنيًا العكس فوعينا كله باطل. من أجل ذلك، علينا باللاهوت أولًا. ليس فقط اللاهوت أفضل ألف مرة من وعينا. بل، إذا كان وعينا كما ذكرت عندئذٍ فأبسط لاهوتِ مؤمن لدي أبسط إنسان مؤمن هو الحق ووعينا العلمي ربما هو الباطل. والأسوأ في فكرنا العلمي إنه أدار ظهره لهذه المسائل، وفقد كل جذر وكل مبدأ وكل شعبية.

إن لائحة العبودية في تاريخنا طويلة: هناك احتقار اللون الأسود (تراث جاهلي، عريق ودائم، وعالمي)، (وهناك العبودية الشغلية الكدحية هناك الزنج وثورة الزنج.. (هناك الحروب، وهي مورد كبير للعبيد في الشرق الأدنى القديم والتاريخ الإسلامي وبينهما. وبغداد العباسيين أكبر مركز لتجارة العبيد بأنواعهم وألوانهم وأعمارهم وجنسيهم، الشقر والبيض والسمر والصفر والسود، الجيورجي والإفرنجي والسلافي والهندي والسوداني، الرجال والنساء، الأسعار معروفة في سوق بغداد أو البصرة، مدوّنة في الكتب، وهي لغير صالح الأسود … والعبيد والجواري الخصيان من أهم شخصيات ألف ليلة وليلة. وهناك العبيد الحكام)، ((العبيد على الخيل))([43]) وهذا قسم لا بأس به من تاريخ منطقة تمتدّ فوق شمالي إفريقيا وجنوبي آسيا وصولًا إلى الصين. هذه مقولة مهمة، لائحة طويلة: من هم المماليك؟ ((من هم الانكشارية؟)).

هناك شرط المرأة، الشرط النسوي، تدهوره في وقت مبكر، أي انحدار العلاقة الأكثر طبيعية والأكثر روحية، بين الإنسان والإنسان، وهي معيار الارتقاء المدني والإنساني. من ثم: قضية العائلة، الأسرة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ((كائنًا)) (كونًا، كينونة) جديدًا، مستقبلنا، شكله طوعًا واختيارًا رجل امرأة، إذا كانت العائلة امتدادًا أو محض امتداد لخط نسلي فحلي في الزمن المجرد، فالنزوع المستقبلي مضروب في نواة الاجتماع البشري في صميم الأمة. كان قاسم أمين واحدًا من أكبر رجال النهضة، إلى جانب محمد عبده، علي عبد الرزاق وطه حسين وعبد الرحمن الكواكبي([44]). إن الارتداد على ذلك وثنية قبل أنت يكون رجعية. أما تسمية هذا الارتداد سلفية وأصولية وأصالية فهي التباس فوق التباس.

وهناك الاستبداد الشرقي، الأسْيَنة، ((العبودية العامة)) أو ((العبودية المعممة)) GENERALESE فهذا شيء قديم جدًا، إنه في الديمومة. ثم، بعد فاصل وفواصل، في سنة 750م، ارتدى أبو العباس بردة النبي وقال: ((أنا السفاح))، ((تدينت)) الدنيا، ارتدت الخلافة اللباس الساساني، دخل النطع والجلاد إلى بلاط الخليقة. وإن إحدى أبرز مفارقات تاريخنا هي؛ كلما ابتعدنا عن الأوائل، عن المدينة المنوّرة وعن دمشق في اتجاه إسطنبول وآلاف إسطنبول صغيرة، ازداد ((تديين)) الدنيا، أي بالحقيقة سقوط الدين والدنيا والدولة والعقل. (المسافة كبيرة جدًا بين قوامه الرجال على النساء، خلق عالمين جنسيين، وكبيرة جدًا بين حالة وجود عبيد وثورة عبيد وقمعها الدامي /وحالة العبيد، الحكام، بل ثمة مسافة بين حال الذمة ووجود أهل الذمة ووجود أهل الذمة والجزية والخراج وقمع انتفاضات القبط (ق2 و3ه) /و حالة المجازر والحروب الدينية وعمليات إبادة لطوائف و((كسي الحاجة)) والخوف المعمم والاحتقار والانطواء والحقد وتسلط هاجس الفرقة واستخدامه الإرهابي القامع لكل حرية ومبادرة ونمو.

لنقل إن الحال الأولى طبيعية، سوية، معيارية NORMALE من وجهة نظر ارتقاء البشرية المأسوي، سلّم ارتقاء الإنسان، تاريخ بني آدم. مثلاُ، إن 990/0 من التاريخ الحضاري والثقافي للبشرية هو قوامة الرجال على النساء. وحين تؤيد المسيحية أو الإسلام و((السنة)) الأرثوذكسية والتقليد؛ القوامة أو تعترف بالتفاوت وبالعبودية، فهي بهذا الموقف الديني ذاته إنما تحتفظ بحق الدنيا والتاريخ، بحق وإمكان وواجب الإنسان في التحسين والتحسُّن. الدنيا ليست الجنة، وهي غير قابلة لأن تكون جنة، لكنها قابلة للتحسين، ممكنة وواجبة التحسين. هذا مالم يفهمه غارودي وأحمد بن بلا وآخرون، وطوائف لا حصر لها من ماركسي العروبة وثوار العرب من غير الماركسيين.

ليس فصل الدين والدنيا هدفًا أعلى أو ذرة مذهب حق، لكن الامتناع عن الفصل ومحاربة الفصل رفض من العتبة للمفهومات والعمل بالمفهومات، تسخير الدين لخدمة أسوأ دنيا بمساعدة منظومة إيديولوجية قوامها المحايلات. إن فصل الدين والدنيا شرط لجدل وتاريخ، مبدأ لجعل الدنيا تاريخًا، شرط انتقال الروح والفكر من الدنيا شرط لـِ وجزء من وحدة الدين والدنيا، ثمة فرق وثمة تعارض بين الوحدة والخلط، الوحدة غاية، الخلط من دون البداية.

اللائحة طويلة، المروحة واسعة. لقد أقمت قبل لتوي معارضة بين حالتين. لم أدَّع استنفاد أي شيء. لم أقدّم لائحة وقائعية تاريخية عن أي بند. لم أدخل جديًّا في أي تحليل تخص. كان غرضي إعطاء خط نظر، السعي إلى فرض ((المسألة العامة)) في زمن حاضر، يتميز بكلية القهر وجدلية القهر: الظالم مظلوم، الراشد قاصر، الأكثرية أقلية، الفحل حريم، الأمة حريم، ((الوحدة)) تفتت، تناثر، حركة أحشائية. وحين قلت ((حالتين))، فلم أقل مباشرة مرحلتين، وقصدت أولًا مفهومين، قطبين نظريين مجردين، أداتين للعمل النظري، أداتين هما أداة واحدة تحمل في حديها المفهوميين، سلاح فكري ذو حرفين. إنني أحيي مفهوم الذمة، وراء الإمام الأوزاعي (معترضًا على خليفة جائر)، العقل السليم لشعب سليم: حين تسقط الذمة (العهد، الدين، القانون، الضمير) يسقط كل شيء. ليكن شعارنا: الذمة العامة، الجميع للجميع، الكل للكل، الجميع لكل فرد، والحقوق ((قبل)) الدولة الديمقراطية وأساسًا لها، هيغل ((قبل)) ماركس، مملكة بروسيا بل مملكة لويس الرابع عشر نفسه ((قبل)) الثورة الفرنسية، و((حقوق الإنسان))، المتساوية، كاملة غير منقوصة، وفي الروح والفكر والشرع: الحق فوق الحقوق، القانون فوق القوانين، الدستور فوق القوانين، مواده الأولى فوق مواده التالية، القوانين فوق القرارات والتعليمات. ((قبل)) تعني: أساس، شرط.

قضية الانحطاط أكبر من العثمانيين، وأكبر من السلطان والدولة والولاية.

في القرون 16-18، لدينا ((العثمانيون)): إن السلطان والصدر الأعظم والولاة الأتراك والعرب والأكراد والألبان والإنكشارية المركزية والمحلية، المماليك، العثمانيون وغيرهم هم جزء كبير من الواقع، جزء متداخل مع الجزء الآخر. الدولة متداخلة مع المجتمع المدني. أي في الفعلية لا دولة ولا مجتمع، بل في كل مكان، مثلاُ في دمشق: مجتمعات ودول وجيوش. (يجب الانتهاء من غنوزيولوجية عربية ضمنية، حاضرة وسيدة، تتعامل مع مجتمع) و((شعب)) و((جماهير)) كأنها موجودات، جواهر، أقانيم أصلية، تعارضها أقانيم جميلة أو قبيحة من نوع الحكام ومن نوع الاستعمار([45]) يجب قراءة يوميات البديري الحلاق، حوادث دمشق اليومية، في أواسط القرن الثامن عشر، بقلم الحلاق الشيخ البديري: لا شعب، لا جماهير، لا مجتمع، لا دولة لا جيش. بل شعوب طوائف، دول، جيوش عوالم مغلقة متنافرة، عالم مستنقع منفعل، دروان دائم، انحدار.

إن المجتمع منتج، نتاج، ناتج. الشعب، أيضًا وخاصة بمعنى الشعب السياسي، الذات التاريخية نتاج تكون، حاصل تكون مع وعي. والجماهير بالمعنى السياسي أكثر بكثير من كتلة؛ كتل. إن عصر النهضة، العصر الليبرالي مع الحركة الوطنية، كان بداية الصعود إلى شعب، مجتمع، أمة، وحدة، ذات. الوجه السلبي للناتج كان قيام اقتصادين، ثقافتين، مجتمعين، في كل بلد: الحديث، السياسي، الطبقي، والقديم التقليدي، المهمش (غالبية الريف، قطاعات من المدن أو مدن بالكامل في بعض الأحيان). الناصرية كانت انطلاقًا جديدًا، عودًا على بدء من أجل التقدم بمجموع الأمة، عملية توحيد قطري الأمة، أو توحيد الأمتين في أمة، ذات، عملية توسيع الدائرة المسيسة لتشمل مجموع الأمة. بعد المرحلة الليبرالية: المرحلة الديمقراطية، العامية، الشعبية، والشعبوية. بعد ((الوطنية)): ((القومية العربية التحررية)). مع العالم، مع أفريقيا وآسيا والعالم، مع باندونغ وخروشوف وتيتو وديغول والأمم المتحدة، مع ثورة الجزائر واستقلالات المغرب العربي وثورة 14 تموز وثورة اليمن وقضية فلسطين في البعد التاريخي، ووحدة 1958 ذروةً، مع ((الوحدة الوطنية)) داخل كل قطر، ومع السلام العالمي. الجماهير = الكتل الكبرى + فكرة التقدم. وفكرة التقدم ومفهوم، كلي كوني، المعركة سياسية، اقتصادية، أيديولوجية، في العالم والواقع. هي معركة ثقافية ضد الجهل التأخر العفن المملوكي والتقوقع واستبداد عمدة القرية وألف استبداد آخر وضد الانحدار والخراب لا ديمقراطية بلا قاعدة شعبية، بلا قاعدة اجتماعية، اقتصادية ومجتمعية، لا ديمقراطية ولا مستقبل لأية ديمقراطية مع الفقر المدقع، مع انسحاق عشرات الملايين من البشر، مع انسداد المستقبل أمام عشرات الملايين من الشباب. كان عبد الناصر ضد الاستعمار والإمبريالية لم يكن ضد ديكارت وأرسطو ماركس، بتاتًا. (كان عبد الناصر مع العروبة، ومع الإسلام، لم يكن ضد المسيحية البوذية، الهندوكية، الإلحاد، الإحيائية، لم يكن ضد أديان ولا أديان البشر والشعوب أفرادًا وجماعات. عبد الناصر كان مع الأفريقي الآسيوي، لم يكن ضد الأوروبي. أصدقاؤه في الدنيا هم سوكارنو وشو إن لاي وخروشوف ونهرو وباندارا نيكه ولومومبا ونكروما وسييكوتوري ونيريري وماكاريوس وغيرهم. عبد الناصر مع البشر، مع الشعب، مع الشعوب، مع التقدم والسلام، مع إنهاء الاستعمار التسلط واستثمار الإنسان للإنسان. كان ضد الصهيونية، معركته كبيرة مع الصهيونية، محلية وعالمية، وسياسة وتاريخية، لم يكن ضد اليهود. الصهيونية، محلية وعالمية، سياسية وتاريخية، لم يكن ضد اليهود. الصهيونية أدر كته جيدًا كما وأدركه جيدًا يهود، مفكرون وعاديون، على نحو آخر في اتجاه معاكس. قدمنا لائحة ناقصة بأصدقائه في العالم. لنضف أن أحمد بن بيلا، بعد خروجه من الحبس الطويل، ذكر أن عبد الناصر مد يده للجنرال ديغول، أكبر زعماء فرنسا في هذا القرن. عبد الناصر يعلم ما معنى البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات الكلاسيكية، بحر التاريخ. قرأ في شبابه كتاب إميل لودفيغ عن البحر المتوسط.

(الجماهير = الكتل الكبرى + فكرة التقدم. فعليتها تظاهرت في أيام معلومة:1955، 1956، 1961، 1963، 1967، 1970، من المحيط إلى الخليج، في عشرات المدن، مضافًا إليها عرب لندن وباريس، ملايين الناس يتظاهرون في يوم واحد. أيام نصر، وأيام هزيمة، أيام ناتئه. أيام = حدثيّة (أحداثية): بالتأكيد هذا ليس مثلاُ أعلى إن تصنيم أو ترميز الواقع في وقائع، والتاريخ في أيام ((الوحدة)) في يوم، و((الانفصال)) في ((صك انفصال))، هذا باطل، لكنه باطل قابل لتصحيح. يمكن الانتقال من الوقائع إلى الواقع، من الأيام إلى المسار، من السياسة إلى التاريخ إلى المنطق أو من السياسة إلى المنطق والتاريخ. أما ألا يرى الفرق، فرق السنوات 1955-1970 عما قبل وعما بعد، أن لا يرى أن الوقائع والأيام تكشف عن واقع وعن فعلية، فهذا باطل سوربوني أو لومونوسوفي، أو أزهري، لا فرق في ذلك، إنه باطل الأباطيل. إنه خارج الموضوع. في سنة 1955، في نقطة تلاقي الظروف (تاريخ، أمة، علام، منعطف انتهاء الاستعمار)، حدث تحول، تحول مفاجئ، ملموس تمامًا، ماثل في ذاكرة أبناء جيلي على امتداد هذا الوطن العربي، هذا العالم الكبير والفائق التنوع: فجأة، إن ((التظاهرة)) التي كانت بالأمس تضم خمسة آلاف رجل، باتت تضم خمسين ألفًا، وكأن الجماهير كانت على موعد. الوعي ممثلًا بالفكر والمفكرين لم يكن بتاتًا كذلك. وفي الحاصل، ((الأحزاب)) غلبت عبد الناصر، لم تطق كونه غلبها بلا قتال([46]). لم تدرك أن الحركة الجديدة تستوعب ما مثلته، وتمثله، ويجب أن تمثله من تقدم، من وطن، من قومية عربية، من دين، من تراث، من تطلع عدالي. المفكرون أو المثقفون أنواع: بعضهم مثقفو السلطة، بعضهم مثقفو السلطة المضادة، (أولئك امتداد لمفتي السلطان، وهؤلاء امتداد للإمام المضاد)، بعضهم في الليبرالية، بعضهم في القومية العربية، بعضهم في الماركسية.. إلخ، وحين يتخذون بين حين وآخر -بحسب التقلبات السياسية أو صروف الدهر- موقفًا إيجابيًا من الرجل والحركة، فهم يقيمونها لا بموجب الحقيقة المحضة والتاريخية والعيانية، إذن الكلية المحضة والكلية العيانية، بل بموجب مقولاتهم، أصنامهم. مثلًا، في نظر الماركسية السائدة أو الغالبية آنذاك، ما زال الاتحاد السوفياتي فردوسًا والكولخوز مثلًا أعلى لا يبزه مثل أعلى سوى الطبقة العاملة وحزبها، يحملون أصنامهم بعد المؤتمر العشرين (1956) بسنتين وبسنوات عدة، ربما حتى الآن، وبعد تقرير غورباتشوف بالنسبة لبعضهم. هذا ليس فقط ضلالًا أوليًا، أساسًا وتامًا بل هو أيضًا عبء على الاتحاد السوفياتي.

الفكر العربي لم يكن على موعد. أصوله محدودة، ضعيفة، بل إن أيديولوجية القومية العربية كانت في حيثيات مهمة تقليصًا لمسائل عصر النهضة والحركة الوطنية، تجاوزًا مثاليًا تخريفيًا([47]) لها. وتسلطت عليه آنذاك وبعد ذاك ثنائية فاسدة: إما المحافظة أو الثورة والتقدم. لم يفكر باحتمال الثالث: الانتكاس والتقهقر والارتداد. فالتاريخ بحسب الفكر المذكور خطي تقدمي. الثورة قفزة كبيرة إلى الأمام. لا إمكان في الذهن لثورة يمين، لقفزة كبيرة إلى الوراء، والفاشية النازية تاريخ أوروبا في القرن العشرين، هذا غير واقع. NON_FACTوNON-REEL، إنه وهم. هذه الثنائية اللامفهومية واللامنطقية (النافية للعمل بالمفهومات مع وعي أنها المفهومات، النافية للمنطق بمعنى أرسطو وهيغل وبمعنى أن التاريخ منطق ‍) نالت تعزيزًا كبيرًا من المناظرة الصينية، السوفياتية وغيرهما، ثم من باريس الستينيات، الفكر السياسي العربي، التقدمي، يصير هوائيًا أكثر فأكثر. بعد ذلك يظهر أيضًا الفكر غير السياسي، ((الفكر العلمي)) الملتبس، هذا الذي قلت عنه إنه لا فلسفي ولا شعبي في آن معًا وبالتلازم.

– 10 –

إن قسمًا كبيرًا من هذا الفكر ومن الفكر الذي على يمينه، علاوة على ذلك الفكر غير القليل حجمًا، الذي كرس نفسه للتنظير، للثورة الارتدادية، يلفلف قضية الانحطاط، فكرة عصر الانحطاط، وجود انحدار وانحطاط. والقسم الأكثر اعتدالًا يدّعي أنه يردّ على مبالغات الحركة الوطنية والقومية العربية وعصر النهضة، ويتساءل ما الانحطاط؟.

هذا السؤال يعيدنا إلى مسألة التقدم.

قلنا: إن التقدم هو النمو، نمو الإنتاجية وهذا مفهوم رياضي بسيط. نمو الإنتاجية، نمو إنتاج البشر لعيشهم، لوجودهم. ومن ثم لحجم النوع البشري، لتعداد النفوس؛ النفوس، الأجسام. والحال، ليس خافيًا على السادة العلماء والمؤرخين أن تعداد السكان حوالي سنة 1800 كان في مجموع مصر وبلاد الشام والعراق، حوالى خمسة ملايين (2،5، 1،5، 1) لكل بلد تباعًا بحسب إجماع التقديرات المختلفة مع هامش خطأ لا يزيد عن 10 بالمئة.

وهذا بالتأكيد أدنى رقم بلغناه في ثلاثة آلاف من السنين أو ربما خمسة آلاف بدءًا من سومر والسلالة الفرعونية الأولى. ولنقل إن هذا الانخفاض المذهل هو حاصل عوامل مختلفة، أي ناتج وجوه وجوانب وعمليات مختلفة، في آلية واقع تفاعلي واحد. (ولا أدري في الحاصل ما إذا مثل هذا الأمر كان خافيًا على ((كاتب التاريخ)) الجديد، الدكتور وجيه كوثراني، المحارب ضد القومية العربية ومؤتمر باريس و((عملاء الاستعمار )) و((جواسيس فرنسا)) وعصر النهضة وغير ذلك، المدافع المنافح عن ((العثمانية))، والداعي إلى ((الإيرانية))، بوصفهما شكلي ((الوحدة)) السابق والحاضر، بوصف ((الوحدة)) المذكورة الإسلامية هي ((توليف))؛ كل منهما توليف، توليفة حية، جميلة. الدكتور كوثراني قادر على إنشاء لائحة بالجواسيس الشوام أو اللبنانيين، لائحة نصرانية في الجوهر، وهو قادر على اتهام المسيحيين بأنهم وراء النهضة والعلمانية والزندقة والتغيير، قادر على نفخهم وإعطائهم شرفًا لا يستحقونه إلا جزئيًا، وضمن حدود، قادر على ألا يجابه الكواكبي، وطه حسين، وقاسم أمين، ورشيد رضا، والزهاوي العريسي، والرصافي، وعلي عبد الرازق، أحمد لطفي السيد وغيرهم.

وصولًا إلى عبد الناصر، بل هنالك أيضًا محمود الثاني، وما قبله أيضًا في الفكر، عند الأتراك الواعين، ثمة الأتراك (الطليعة التركية، فوق) سبقوا العرب في وعي وجود انحطاط مرعب، تخلف الأمة العثمانية وخروجها خارج التاريخ الراهن، دور الطباعة والفكر والقانون والحرية. والتفتوا من أجل قضية الانحطاط هذه إلى مقدمة ابن خلدون، قبل العرب.

في القرن التاسع عشر، لا يوجد من يتفوق على محمود الثاني في الغضب ضد الأحوال وضد ((الترك الآسيويين)). المشايخ كانوا ضدّه، والشمبانيا لم تخدمه. الإصلاح في الآستانة، وهناك الحركة الثورية والإصلاحية والشعبية والعمالية في إيران منذ ما قبل سنة 1914.

وهو قادر على الأقل في محاضرته في ندوة ((المسيحيون العرب))([48]) أن يبسط التسامح العثماني الذي اعترف باليهودي والمسيحي إلى جانب ((المسلم)) قافزًا فوق ((السني)) و((الشيعي))، متجنبًا هذه المقولة وهذه المفردة.([49]) وهو في المحاضرة المذكورة قادر على ضم جبران خليل جبران إلى ((العثمانية))، أي إلى العقيدة الكوثرانية.

وهو قادر على استعمال المفردة ((العربية)) صفة لموصوفات متنوعة، منها ((المدن العربية، منها اللغة (اللغة العربية) بل الحضارة أو الثقافة، الثقافة العربية الإسلامية)) في بيروت ودمشق والآستانة وبلغراد وبخارست، ما يغرينا بأن نناصرها في بلغراد وبخارست والمجر وأوكرانيا وعلى ظهر واقع وحقيقة بيان الأمم! أما اتخاذها صفة لـ قومية أو لـ شعب أو لما شابه من كينونة تامة فهذا مستحيل، ممنوع، عند الدكتور اللبناني. عمليًا، هذه الوجودية هي لا وجود، لا كون، لا كائنية، لا جوهر، الثقافي والحضاري بات شيئًا هوائيًا، اللغة نفسها هواء أثير. هذا كله وغيره[50]* لا ينسينا السؤال: هل كوثراني، وهل ألف آخر، يجهلون الأرقام، أرقام الديمغرافيا 1800؟ مليونان ونصف لمصر، مليون لسورية الكبرى، نيف ومليون للعراق ثم بنتيجة كارثة وباء أقل من مليون!

آلية الانحدار ((العثمانية)) متعددة، متراكبة. وهي تواصل، نوعيًا، حال انحطاط وتقلص أسبق من السلطان سليم.

العثمانيون فتحوا سورية ومصر، عنوة 1516، 1517. وحين ثارت دمشق بقيادة واليها المملوكي، منتهزة فرصة موت السلطان وأزمة الخلافة في العاصمة، سحقها الجيش الإنكشاري، قتل ربع السكان أو ثلثهم في دمشق وحولها. في القاهرة، أخذ السلطان حِرَفًا كثيرة إلى العاصمة البعيدة. هذا في السنوات 1520-1530. سورية فقدت كل استقلال، مصر حكمت بالزوج مماليك وعثمانيين. الدوران حول رأس الرجاء الصالح، وقيام أميركا والمحيط الأطلسي كانا عاملًا في تدهور البحر المتوسط. الأيديولوجيا العثمانية تتبنى المركانتيلية، التجارة التجارة، لا اقتصاد السوق، اقتصاد العقل والحرية، تتبنى التجارة لا الإنتاج، لا الزراعة، تتبنى مذهب الثروة تساوي الفضة، النقد الرنان، مذهب الضرائب، الإتاوات، النهب.

الدولة الشرقية بحسب ماركس ثلاثة فروع: النهب في الداخل، النهب في الخارج، الفرع الثالث، الأشغال العامة. العثمانيون أهملوا الفرع الثالث، ألغوه، ثم بلغ الثاني حده، الحرب العثمانية في الخارج لم تعد منتصرة، التوسع انتهى. ما يبقى هو النهب في الداخل، فالداخل تحت اليد. القرى تنقرض. البادية تزحف. حالة اللاأمن واللاقانون واللاملكية تجاوز المدى! الرحالة الأوروبيون، زوار الإمبراطورية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندهم وصف واحد متواتر لهذا المشهد الشرقي مشهد الأرياف، الأقاليم الولايات. إنه ladesolation أي القفر (أيضًا الفقر، الأسف والأسى، الخراب والإهمال، الراحة والموت).

وهذا القفر يتضاد مع بهاء العاصمة؛ القسطنطينية، الآستانة.

خليفة المسلمين هو أيضًا خليفة قسطنطين، ولعل نصف رعاياه (أو ربما ثلثيهم) نصارى: أمم غير معترف بها مثل أمم([51]) معترف بها، وبشر موجودين وملل روم، أي يونان (وبطريرك الفنار شخصية عليا ورسمية، واليونان لهم حظوة…)، صرب، بلغار ألبان، رومانيين، وأيضًا (لقرنين من الزمن) كرواتيين مجريين، روس، أهالي شواطئ البحر الأسود الشمالية والشرقية، جيورجيين (ليسوا دائمًا، أرمنًا، وعربًا مسيحيين) كثيرين. الأتراك في جنوبي روسيا لا يستعمرون، لا يزرعون. إنهم عسكر جباة،([52])سلطة فوقية، قليلة الحضور، فاعلة تجلب القفر، مزيدًا من القفر -بالمقابل- بعد إرجاع العثمانيين، في القرن الثامن عشر، الروس يستعمرون أراضيهم المذكورة: بيوت، عائلات، زرع وتربية حيوان، شيء غير التتري والتركي الطارئين الطويلين في تاريخ روسيا وداخلها. والتتري سوف يتحول في روسيا وتحت حكمها من بدوي ((يهود الإسلام الروسي))، بحسب تعبير فنسان مونتيل v monteil في كتابه القديم ((المسلمون السوفياتيون)).

الرحالة الأوروبيون يبرزون التضاد: عاصمة/ أقاليم. إنه شيء بعكس فرنسا مثلًا. المدن العملاقة ظاهرة شرقية أولًا، عسكرية، إدارية، ((حكومة)) فوق عالم محكوم، ظاهرة صناعية، صنعية، سحرية. في القرن الثامن عشر، انتهى المجد، الأزمة كبيرة. يعيشها البديري الحلاق الشيخ الشعبي، في دمشق، ((يوميًا))، ((عيانيًا: كل الأمور في تكرار دائم على امتداد السنين المتساوية: أخبار الغلاء، أخبار قافلة الحج (3 أو 4 أشهر في السنة)، وقائع ((الخنق)) في القلعة، جائحة الجراد، فتن البغادنة والمواصلة والمغاربة الدالاتية واليرلية([53])إلخ.

حين ينخفض تعداد السكان، هذا لا يعني أن النكاح أو الزواج قلّ، وأن القوم يثمنون العزوبية أو يمكن أن يعطوها قيمة (بخلاف أوروبا)، إن الرجل لا يتزوج إلا إمرأة واحدة حامدًا ربّه، ولا ينجب إلا ولدين أو ثلاثة، ((بالعكس)) الأرجح أن الزواج كان ((جيدًا)) وكذلك ((الخصوبة))، لكن الوفيات كانت عالية. تجريديًا، يمكن أن يكون معنا عشرة أولاد في العائلة، يموت منهم خمسة في السنة الأولى، واثنان إضافيان في السنوات العشر الأوليات، وثامن بعد ذلك. يكفي أن يكون معنا معدل وفيات يزيد قليلًا جدًا عن معدل الولادات حتى نحصل على تراجع محسوس خلال قرن أو ثلاثة قرون. هذا في التجريد. الواقع ليس التجريد. وإن كان التجريد (تجريدات مختلفة وضاربة) ضروريًا مطلقًا من أجل فتح الواقع بالفكر أي من أجل معرفة الواقع. إذن لا بدّ من إعطاء آلية ثانية. إذا قضى الطاعون، طاعون القرن الرابع عشر (الطاعون الأسود الكبير)، على نصف سكان فرنسا ونصف سكان مصر، يمكن أن ((يجدد)) أحد البلدين، وأن لا ((يجدد)) الآخر في نصف قرن أو قرن، أو أن لا يجدد بالقدر نفسه. وإذا كان تعداد سكان فرنسا في سنة 1789، 25 مليونًا وإنكلترا 8 مليون، ومصر 2 مليون، فهذا ليس تابعًا لعزوبية المصريين ومزاجية الإفرنج، بل الأمر تابع لشروط المعيشة، للصحة والأمراض، للحروب و((الحروبات))، أو الجزئيات، للأدوية والعلاج، للقانون واللاقانون، للمستقبلية واللامستقبلية، لآلية الموت البشري العامة، الاجتماعية التي تتخطى ((البيولوجي)) و((الطبيعي)). يجب أن ((نضيف أيضًا مسألة العسكرة)).

من النصف الأوّل للقرن التاسع حتى سنة 1914، تشهد بلاد سورية ومصر والعراق، وبلاد العرب معظمها. حركة نمو ديمغرافي بارزة، واضحة، لم تعرفها منذ زمن طويل.(([54])) حركة ترفع تعداد السكان إلى مثلين أو ثلاثة (أو أكثر). إنها مفاعيل ((الثورة الصناعية)) في العالم، مع الاستعمار، مع الحركة الوطنية مع الحداثة. إنها النهوض، النهضة، النمو.

إنها النهضة، اللهمّ إلا إذا كنّا نؤمن بنهضة في أجواء الأثير الأثيرية، بتاريخ ليس تاريخ البشر بأجسامهم ونفوسهم، ليس تاريخ بني آدم، بل هو تاريخ ((الأرواح)) (!؟).

إن النمو الديمغرافي أبرز وأبسط وجه لتاريخ البشر وأبسط ((شرح)) لمفهوم التقدّم.

التاريخ تاريخ إنتاج البشر اجتماعيًا لوجودهم التقدم نمو إنتاج البشر اجتماعيًا لوجودهم. وحين قلنا ذلك، فلقد قصدنا بالوجود، العيش، الحياة، بين جملة أمور وعلى رأس جملة أمور، قصدنا هذا ((الوجود)) أو ((الحياة)) بالمعنى المجرد، المعزول، المحض، الأكثر تجريدًا([55]) أي: المادي حسب، محض المادي. محض المادي، هذا يعني: مثلما كان عندي أربعة كراسٍ وطاولة وحداة، وصار عندي ستة كراس وطاولتان وخزانة، كذلك كان عندنا على الأرض كذا بشر ثم صار عندنا كذا أكثر أو أقل.

(المادي) و(الكمي) أخوان، مفهوم المادة غير مفهوم الواقع. في الفكر لهذا عمله ولذاك عمله. لا أحد ينوب عن الآخر. المادي والكمي، ((واحد)) إنهما أخوان. لقد نما حجم البشر، مادتهم، امتدادهم، حيزهم، كونهم – مكانهم، جسم آدم المستخلف في الأرض، بات آدم يشغل حيزًا أكبر بكثير. ومعه وبه، جسم النباتات الأهلية والحيوانات الداجنة، الحقول والبيوت والمدن والمصانع، الإنسان حوّل الطبيعة، إلى عالم. بالنسبة لي، إن أهم ما في الطبيعة ليس الشمس والقمر والمريخ والمجرة والكوسموس اللامتناهي، أو المتناهي اللامحدود، انحنائي الكروي، بل الأرض، الأرض الطبيعية المشكولة والحية التي أنسنها الإنسان الطبيعة جسد الإنسان الخارجي، يقول ماركس. إليها ينتمي وإليه تنتمي. صارت هي الطبيعة المحولة. حين المثالي الذكي يكلمني عن أهمية الوعي البشري والفعل البشري والعمل البشري، فأنا أؤيده بلا تحفظ فيما عدا تذكيري له بالأوكسجين الذي نتنفسه، الذي بات مهددًا اليوم بالصناعة والفتحاوية الآدمية البروميثئية، وبالضوء الذي بفضله نرى الأشياء، أما إذا ((المادية البهيمة))، (مصطلح لينين) كلمتني عن ((الموضوعية)) و((المادية))، فأنا أدير ظهري: هؤلاء أناس لا يعرفون حتى أبسط الأشياء الموضوعية المادية من حولنا هي نتاج العمل البشري، ((موضوعيتهم)) ألغت فكرة التموضع، إنهم لا يعرفون مفهوم المادة الفلسفي، ولا عمل النجار والحذاء. إنهم لا يعرفون أن ((موضوعات الطبيعة)) التي يتكلمون عنها ويرونها حولهم هي جميعًا امتداد الإنسان، الامتداد الجسمي لفكره وشغله.

هناك ((تاريخ اقتصادي لسكان العالم))، تاريخ اقتصادي لشعب العالم. هذا عنوان لكتاب صغير، إلفه كارلوشيبولا، وترجمناه إلى العربية، ونشر سنة 1990!

باختصار:

في الحالة الحيوانية، اقتصاد ما قبل الإنتاج ما قبل الإنتاج، وما قبل الاقتصاد بحصر المعنى، ظل تعداد النوع البشري حول عشرة ملايين أو دون ذلك بصورة مرموقة. التقديرات تختلف، لكن الحساب التجريدي، هو كما يأتي: في حالة القنص، موارد الطبيعة تسمح بعيش (بقاء) عشر أنفس لمئة كم 2 لا أكثر، مساحة اليابسة المقبولة مئة مليون كم 2 تعداد البشر عشرة ملايين.

النمو تابع لثورتين (أو موجتين) متعاقبتين: الزراعية ثم الصناعية.

مع الثورة الزراعية النيولتية وظهور القرى الأوليات في سورية وفلسطين وبقاع صغيرة في الشرق الأدنى وغيره (في برقة، في كردستان العراق وإيران، في الشرق الأقصى أو المكسيك)، نما ((الشعب)) البشري في البقاع المعنية. ونما أكثر بكثير مع ظهور الحضارات النهرية الكبرى، عصر البرونز، المدن والدول، النمط الآسيوي للإنتاج والاستبداد الشرقي([56]) عصر الحديد، اليونان وروما والمحراث الحديدي مع عربة الخ. ارتفع إلى 60 مليون، 100، 200، وصل إلى 500 مليون عند مطلع الأزمنة الحديثة، موزعين في عوالم كبيرة وصغيرة: الصين، الهند، العرب، أوروبا بمختلف أجزائها، الهند الصينية اليابان، حضارات الأزتيك والمايا والإينكا، هذا النمو الديمغرافي تابع لتعمق وتعمم الثورة الزراعية. الإمبراطوريات الحمراء والسوداء (أمريكا، أفريقيا) عرفت العبودية والشغل العبودي، والأضاحي البشرية، وأعطت منجزات تقنية وحضارات ثقافية وعلمية.

مع الثورة الصناعية في أربعمئة سنة، يرتفع العدد إلى مليار، ثم مليارين ونصف حوالي سنة 1950 وإلى خمسة مليارات الآن.

هناك -في هذا النمو- تفاوت كبير بين القارات، المناطق، الشعوب.

في القرن التاسع عشر، النمو يشمل أوروبا بالدرجة الأولى، وقارة أميركا تتأورب. أوروبا تقذف ملايين من البشر إلى ما وراء المحيط. في أواخر القرن، تتلقى الولايات المتحدة سنويًا مئات الألوف من المهاجرين([57]) وتتلقى من 1900 إلى 1913، سنويًا مليون إنسان، وفدوا إليها من أوروبا الجنوبية والشرقية ومن شتى أمصار العالم. الثورة الصناعية تفعل مفاعيلها في ((المركز)) وحول المركز، ((تحرك)) الأمم الفلاحية، تطلق نموها الديمغرافي.

في القرن العشرين، النمو هو بالدرجة الأولى نمو آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتيينية، لا سيما بدءًا من أواسط هذا القرن.

فربما استثناء في أوروبا، نموها الديمغرافي محدود (ترتفع من 25 مليون سنة 1789 إلى 40 مليون سنة 1914 ). بعكس إنكلترا وألمانيا وروسيا، روسيا عرفت نموًا بارزًا في القرن الثامن عشر. وكذلك الصين التي استعمرت (عمرت) تلالها الجنوبية.

تاريخ البشرية هو تاريخ الاستعمار، بالمعنى الحرفي الأصلي للكلمة، استعمار البشر للأرض وللبشر. العملية الأساس قديمة في الشرق والجنوب، حديثة في الغرب والشمال. أوروبا تعرف بدءًا من القرن العاشر نموًا متصلًا، فتاريخ روسيا مثلًا هو في أول وجوهه، من القرن العاشر حتى اليوم، تاريخ فتح الأراضي، تاريخ الإعمار، تقطعه حقبة مغولية استمرت قرنين: روسيا نوفجورد وكييف، الحقبة المغولية، روسيا موسكو، روسيا بطرسبرج، الوصول إلى رأس دجنين ومضيق بهرنغ: هذا يصل إلى ((حد)) ليس هو المضيق المذكور بل الطبيعة، البيئة الحية. عصر برجنيف خراب للطبيعة بالهجوم الصناعي. ضد ذلك، قامت أغانٍ وأناشيد دفاعًا عن بحيرة بايكال، أوقفت مشروعات صناعية ضخمة، ويُعاد النظر في الموضوع من أساسه. ثمة ((حد أمثل)). الديالكتيك كم وكيف، علاقات قياس. الديالكتيك ليس مع الأقصى والأعظم بل مع الأمثل والأحسن. إن إحدى صيغ إنغلز الشاب تكلمت عن تصالح الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة. هذا لحن مهم داخل سمفونية إنغلز عن ((دور الشغل في تحول القرد إلى إنسان))، المقال الذي يطرح بقوة مسألة سيطرة البشرية على النتائج البعيدة، الطبيعية والاجتماعية لأفعالها. آخر مؤلف كبته (أملاه) لينين كان يحمل في عنوانه ذاته فكرة تغليب الكيف على الكم. وأحد أعداد مجلة ((فكر وفن))، الصادرة عن ألمانيا الغربية، مكرس للغابة. فحواه الجوهري: ألمانيا هي الغابة (انظروا الشعر الألماني والأدب والفن الألماني)، الغابة تموت، ألمانيا تموت.

– 11 –

كيفما نظرنا إلى الإنسان وتاريخه، تبيّن لنا أنه ثمة حدّ للبروميثيئية. وأن هذا الحدّ بلغته البشرية الآن. النمو نمو أسي؛ نفاد ثروات باطن الأرض، التلوث، التصحر، التفجر الديمغرافي، التسلح. إن النصف الأول من هذا القرن شهد حربين عالميتين، والبشرية تعيش مع خطر حرب عالمية ثالثة، وحروب كثيرة فعلية، لقد وصل النوع البشري إلى نهاية، فإما أن تكون نهاية نظام وحضارة وتقدم من أجل نظام وحضارة وتقدم مغاير، وإما أن تكون نهاية النوع.

يمكن أن نختصر تاريخ الطبيعة بما فيها الإنسان، ومن وجهة نظر الإنسان، في ثورتين: ظهور البشرية نوعًا وظهور البشرية مجتمعًا وجماعة. بين هاتين الثورتين؛ القديمة والمنشودة، كان جل التاريخ إنجاب المجتمع المدني، البالغ تمامه كمجتمع مدني في المجتمع البرجوازي الحديث، وعلى البشرية أن تنتقل من ((المجتمع المدني)) إلى ((المجتمع الإنساني))، إلى الإنسانية المدنية الاجتماعية، أن تنتقل من ((ما قبل تاريخها)) إلى تاريخها. هكذا كانت صيغ ماركس وإنغلز، وهكذا كان رهانهما ومشروعهما: التاريخ الراهن له غاية مرئية تمامًا الآن ((تحويل العالم)) واجب، واجب راهن الآن أكثر بكثير مما كان راهنًا في زمن ماركس.

التفجر الديمغرافي الحاضر ظاهرة سلبية جدًا رآها برجوازيون، نفاها الماركسيون، ونفتها الكنيسة والكنائس. الآن، يراها الجميع، والجميع مرغم على أن يراها. مالتوس أشر عليها بحق، وماركس عارضه بحق أيضًا. ماركس أشار إلى أن لكل شكل اجتماعي قانونه السكاني.. ولا يمكن تبرئة الرأسمالية، الاستعمار، الإمبريالية من الفقر والإفقار.

((المسألة الاجتماعية)) قائمة، بل قائمة الآن أكثر من أي وقت: أجل، أجل لكن المسائل (اجتماعية، طبيعية ديمغرافية) تتوحد الإيكونوميا (علم الاقتصاد) ((يصير)) إيكولوجيا (علم البيئة) كلاهما قانون المنزل وتدبير المنزل، والثاني (لوجيا) أعمق، مثلما الزراعة صناعة وتصير صناعة وفروعًا من الصناعة، مأثرة مالتوس أنه طرح مسألة، أبرز جانبًا. الكنيسة عمومًا قبل نصف قرن أو ربع قرن وأحيانًا الآن أيضًا تعارض تحديد النسل، هذا الموقف في أحد جوانبه يستند إلى مبدأ ((تكاثروا!)) المحمول في عقيدة التوحيد (دين الإله الواحد) واستخلاف الإنسان. لكن أليس للتكاثر حد؟ وهل التزمت عدل اجتماعي؟ ما زالت الكنيسة الكاثوليكية متأخرة جدًا عن ذلك، و(رافضة) فكرة تحديد النسل ومراقبة النسل واستعمال الموانع.

الصين الشعبية ضيّعت وقتًا ثمينًا، تاهت في الدروب الأيديولوجية والسياسية. حتى في مرحلة ((القفزة)). ظلت تحارب أيديولوجية ((المالتوسية الجديدة)) الإمبريالية. الآن حصل انقلاب كامل؛ الصين (نيف ومليار إنسان) تفرض ولدًا واحدًا للعائلة في المدينة، واثنين في الريف، وفي حال مجيء الثالث، ثمة عقوبة للأب والأم في معيشة الأسرة (ويسحب التعويض العائلي)، وإحدى العواقب العائلية للموقف الجديد ((قتل البنات))! هذه واقعة أكيدة في الصين اليوم، معروفة من الصحافيين، ومعترف بوجودها من الرسميين. هنا أيضًا المحاكمة الفكرية الكاشفة لقتل البنات بسيطة: من المفترض أن تكون الولادات 51 صبيًا و49 بنتًا، فإذا كانت 53 صبيًا و47 بنتًا فهذا معناه أن ابنتين من مجموع خمسين أي 40 0/0 من مجموع الأولاد ((يصرفون))، يقتلون من الأهل، الذين يريدون الصبي، الذكر، الرجل، الفحل. (المسؤول) الرسمي الصيني الذي يجابهه صحافي من جريدة ((لوموند ديبلوماتيك)) يقول: نعرف ذلك، ونحن نعاقب قضائيًا كل جريمة تضبط، لكن نحن ماضون في سياستنا، لا نريد أن تنفجر الصين بعد عشرين أو خمسين سنة، والعالم معها، وبعد عشرين سنة قد تنتهي أفضلية الذكور من أذهان الناس، وقد تصبح البنت مرغوبة وسيّدة.

لنذكر أن للتدبير القانوني القسري القامع للولادات في الصين عواقب سلبيات أخريات:

1- البدانة: الأهل يعلفون ولدهم الوحيد. 2- الدلال. 3- حوادث انتحار: فتى (أو فتاة) لم يحز الأولوية في صفه ينتحر، ربوه على مثل أعلى هو رائد الفضاء أو عالم أو شيء من هذا القبيل.

إن أمورًا عدة من ((ماض سحيق)) موجودة اليوم. إذا كان ثمة تاريخ وتقدم، ولا سيما تقدم أخلاقي وخلقي للبشرية، فليس لأن القبح هذا لم يعد ((موجودًا)) (وأد البنات، الأضاحي البشرية ..) بل لأنه لم يعد هو الحال السوية والمعيارية، وهو تهدد النماء. بدايات الإنسان دم، وإتلاف وتخريب وهدر وافتراس. هكذا الآن الفريسة الإنسان DEPREDATEURS REDATEUR الإنسان مفترس ومهدد، هذا ((أصله)). والتقدم تقدم على (ضد ) هذا الأصل. وإن بدايات نشوء البشرية العاقلة، الفاتحة والاقتصادية. إن نشوء الريف، البيت والحنطة والغنمة والفخار، قام على تغليب غير المباشر على المباشر في مقولة المنفعة (العمل)، وفي حقيقة مقولة الواقع (المعرفة). أي تحت مقولة العمل ومقولة المعرفة، إن تلك الصفحة الأولى من تاريخنا، هي اليوم راهنة تمامًا. بهذا اللحن، أنهى جاك كوفان COUVIN، مستكشف تل مرييط على الفرات، أنهى كتابه ((القرى الأولى في بلاد الشام من الألف التاسع حتى الألف السابع قبل الميلاد)).

اليابان نجحت في ((تحديد النسل ومراقبة الولادات)) منذ ثلاثين سنة أو أكثر. الهند الرسمية والقيادية والمفكرة مهتمة بالموضوع منذ ثلاثين عامًا أو أكثر، ولعلها أحرزت نجاحًا ولو محدودًا.

بالمقابل، تبدو بلاد العرب غير مبالية؛ هناك مفكرون وإذاعيون يضيعون المسألة بالحرب ضد المالتوسية والإمبريالية والرأسمالية، يتهمون من يثير المسألة الديمغرافية بالهرب من المسألة الاجتماعية والطبقية التي تصير كلامية وديماغوجية وخادمة للعكس، يسلطون مناخ إرهاب فكري وابتزاز سياسي. أو هم في مستوى المحاكمة، يطرحون المسألة بلغة ((الكثافة))؛ البلد الفلاني يتسع لأربعين مليون نسمة، وليس فيه سوى عشرة أو خمسة عشر أو عشرين. كلمة ((يتسع)) نفسها تكشف هذا المنطق المادي الكمي الاتساعي الامتدادي.

منطقهم قائم خارج الديناميكية، خارج مسألة التنمية، خارج التناسب: بشر واقتصاد، مستهلكين ومنتجين، من دون هرم الأعمار، خارج الشعب والإنتاج، وباختصار خارج المنطق والتاريخ. تلاميذنا في المدارس يتعلمون هرم الأعمار ((شعب فتي))، كثير منهم ينسون هرم الأعمار، ويحفظون جملة شعب فتي، فالقضية ليست الكثافة، بل بالضبط هي نمو الإنتاج الاقتصادي (ضد هذا الشطط)، لنذكر بأن معدل نمو الشعب السكاني، مع هرم الأعمار، وبنية المجتمع في الحيثيات المذكورة (منتجون، مستهلكون)، لا سيما في ضوء التطور الأخير: إن نسبة العاملين في الزراعة تقلصت كثيرًا، نوعية العمل الزراعي تغيرت، الأولاد والنساء أقل مشاركة فيه. من الممكن أن نتصور الآن مجتمعًا شرقيًا من عشرة ملايين نسمة نصفه أولاد بلا شغل ونصفه نساء بلا شغل، أي ثلاثة أرباعه بلا شغل، يمكن أن نتصور مجتمعين شرقيًا وغربيًا، من عشرة ملايين إنسان، لكن الأول من 2 مليون عامل، والثاني من 6 مليون عامل.

النمو الديمغرافي، بل لنقل الانفجار الديمغرافي يمكن أن نميز فيه مستويات عدة:

أولًا، إنه -من البداية- انفجار خاص بالنوع البشري، خلافًا للأنواع وللطبيعة، انفجار نوعي. ثانيًا، إن عهد الثورة الصناعية حمل مضاعفة شديدة لهذا الانفجار، تسريعًا أو تشديدًا لهذا النمو كان مركزه في القرنين 18 و19، وخاصة 19 في أوروبا، حيث بلغ حدًا، وانتهى إلى توازن. لكن، ثالثًا، ‍‍العالم يتوحد، والمفاعيل مستمرة ومتكثفة خارج أوروبا والبلدان المتقدمة، في أميركا الوسطى والجنوبية، في أفريقيا، في آسيا. الهجرة الحالية إلى أوروبا (وأمريكا)، من البلاد العربية القريبة ومن أقاصي المعمورة ظاهرة طبيعية. إنه ((موسم الهجرة إلى الشمال))، المتقدم يمتص المتأخر، على أسس صناعية وما بعد صناعية. الهجرة أيد عالمة وأدمغة)) (يد ودماغ = الإنسان). وبالأصح: عمال وعاطلون عن العمل وخبراء وطالبون مرشحون للبقاء وأصحاب أموال وراء مالهم. بالنسبة إلى البلدان المصدرة، هذا ((حل))؟ وهذا نزيف وتجويف وتخلع. بالنسبة للبلدان المستوردة، هذا يخلق مسائل لا ريب، لكن الفوائد كبرى وواضحة: رافد سكاني في حال الركود الديمغرافي والتقلص، إسهام اليد العاملة (الجنوبية)) في نمو أوروبا الغربية الاقتصادي في السنوات 1950،1980، في التجديد والتحول (يوجد حاليًا في فرنسا أكثر من أربعة ملايين إنسان من أصول برتغالية وإسبانية، مغربية وعربية، تركية، سنغالية، آسيوية وأمريكية، ما عدا إيطالية وبولونية ويوغوسلافية). أما المسائل فهي ((الاندماج)) وهي ((البطالة)). وهي أقل حجمًا بكثير مما يدعي اليمين السياسي المتطرف في فرنسا مثلًا تقول: 3 مليون عاطل عن العمل = 3 مليون أجنبي. (أخرجوا الأجانب تحل مسألة البطالة)، الهجرة = استعمار، العرب = استعمار، هؤلاء لا يندمجون. لنلاحظ أن ((العرب في فرنسا)) معظمهم يحملون الجنسية الفرنسية، أي هم مواطنون فرنسيون، ولعل معظمهم يعرف الفرنسية أكثر من العربية أو من العربية الفصحى على الأقل. أما مهاواة البطالة والهجرة باسم الكم، وتحت عقيدة الكم، فهي حماقة متعددة الوجوه. (بالمقابل، إن ما تخسره البلاد العربية، ما خسرته البلاد العربية وسواها، قضية واضحة، كبيرة جدًا، متعددة ومتكاملة)، ولا جدل فيها. الشباب يهاجرون، خيرة المثقفين الخ. واقع أن الدول المصدرة تعد ذلك حلًا لمسألة البطالة أو موردًا لبعض المال من العمل في الخليج العربي أو في الغرب يدل على غياب المستقبل الحقيقي، وغياب ((المشروع))، ويدل على اللامستقبل.

مع انتشار التعليم وكثرة الشباب، تبدو البلدان العربية وسواها خزان بشري موجود، يقف على أطرافه ملايين من الناس ((الجاهزين)). والدول الرأسمالية المتقدمة قادرة على الاصطفاء مشكورة. وسائل الإعلام الثورية الوطني ووسائل الإعلام الغربية نفسها (أخبار البطالة والأزمات، أفلام السينما البوليسية وغيرها) عاجزة عن كسر الرغبة في الهجرة، عن ثني نية الخروج: الحال عندنا أسوأ، وإن ليس هناك الفردوس. الحال العربية ((قاذفة))، الوطن العربي ليس أفضل من أفريقيا السوداء، بل لعله أسوأ منها، في حيثية الاستقلال الغذائي، الآن أو في نهاية القرن 1989 هذا بات مؤكدًا على ما يبدو، بحسب خبرات الجامعة العربية. الوطن العربي الذي سيصبح تعداد سكانه 310 مليون نسمة سنة 2000 مع وجوب استيراد 25 مليون طن من القمح. هذا الرقم رقم إنتاج فرنسا،‍ لماذا لا ينتج الوطن العربي 75 مليون طن؟ لا أدري ما إذا كان عدد الناس الذين من أصول سورية – لبنانية، فلسطينية في أميركا وغيرها 15 مليونًا أو أكثر (منهم علماء كبار وصغار، ومنهم رؤساء جمهوريات وقادة أحزاب وثورات وحكام ولايات ووزراء، ومنهم رجال أعمال مليونيرية ومليارديرية). هذه الهجرة توالت على مدى نيف وقرن، الآن صارت عربية عامة. من الصعب تقدير عدد الذين يعيشون في الوطن على مساعدات من أقارب لهم في الخارج، ومن الصعب تقدير عدد طلاب جامعاتنا الذين لا يفكرون في الهجرة (العكس أسهل). بالمقابل لعله من السهل على مدارسنا الفكرية والحزبية أن تتجاهل معنى ذلك فيما يتعلق بطبيعة مجتمعاتنا‍.

إن تحديد النسل لا يحل بمفرده أي شيء. لكن أيضًا من دون ه لا يُحل أي شيء.كل الأمور مترابطة. التفجر الديمغرافي وأزمة الزواج ((نقيضان)) في الظاهر، وهما شيء واحد داخل جملة الواقع الواحدة.

((مسألة المرأة)) يمكن أن تتخذ محورًا لمختلف المسائل: المجتمع، التنمية، ((السكان))، بالمجتمع أقصد العائلة وأقصد الأمة. ما دامت المرأة ((هي ((الأنثى)) هي الجنس والإنجاب، زوجة الرجل وأم البنين، لا ((إنسان))، لا فرد ولا جملة العلاقات الاجتماعية، لا شخص، فلن تحل أية مسألة. لئن تقدمنا جوهريًا في القرنين الأخيرين فلأننا خرجنا -وبقدر ما- من الحالة ((التاريخية)).

لا يمكن أن ننعزل عن العالم، توحد العالم حقيقة متنامية منذ زمن غير قصير، وتناقض هذه الوحدة جزء منها، وحدة العالم المتقدمة هي المسؤولة بآن معًا عن نمونا الديمغرافي وخروجنا مما يشبه القبر، وعن التفجر الديمغرافي الحالي.

لئن كانت بلدان العالم الثالث قد انتقلت بصورة مفاجئة وسريعة، خلال بضع عشرات من السنين، من نمو بمقدار يتراوح بين صفر وواحد بالمئة إلى نمو بمعدل 3 0/0 (وهذا يعني أن تعداد السكان يتضاعف في ربع قرن فقط)، فهذا عائد إلى العلاقة غرب- شرق، متقدم- متأخر. وهذه العلاقة الاقتصادية والتنظيمية والمعيشية والصحية العامة (إذن الثقافية) تأخذ كل مداها في مضمار الأدوية، ولا سيما مضادات الحيويات (الآنتي بيوتيك) ووسائل القضاء على الأوبئة. بلمح البصر، تنتقل أحدث الأدوية إلى مصر أو الهند، (لا المجتمع الذي أنتج الأدوية)، وتنخفض وفيات الصغار، والوفيات عمومًا، لا الولادات. التصاحب أو التعاقب القريب بين انخفاض الوفيات الولادات الذي عرفه الغرب على امتداد قرن أو ثلاثة ظاهرة غربية. المجتمعات تتحول، الأمم الريفية تصير صناعية، ينمو البرجوازي والعمالي والثقافي الحديث، الأيديولوجيا العامة تتغير، الحياة الدنيا تقيم السعادة في الدنيا، تصبح حقًا شعبيًا ومطلبًا معقولًا، فكرة الصحة العامة تنشأ وتنمو في تطور طويل ومتكامل. الأدوية الخافضة للوفيات جزء مميز في هذا التطور، هذا التطور لا تعرفه العوالم غير الأوروبية إلا بصورة محدودة. ((الصحة)) مثلًا مفهوم، إنه الـ HYGIENE، حالة عامة اجتماعية، شيء لا يتهاوى ويتماهى مع ((الدواء)) ولا حتى مع ((العلاج))، ولا مع ((الوقاية والعلاج)) إنه ((أكثر)) من ذلك. شأنه شأن المجتمع. المجتمع مؤلف من أفراد، لكن المجتمع ليس مكونًا من أفراد. كيانه، كونه، ليس عند ((أفراد)) بل عند ((علاقات)) هي علاقات الأفراد، تشكلات الزمر، وعلاقاتها، علاقات الناس. ولقد ذكر كثيرون أن بلدًا عربيًا معينًا في سنة 1970 يستهلك من الأدوية ما يستهلكه بلد أوروبي غربي أكبر منه ثلاث مرات. هذا لا يعني أن ((الصحة)) هنا فيه أفضل ثلاث مرات. ((من المفروض)) أن يكون مفهوم ((الحياة)) أكبر من محض النجاة من الموت، أكبر من فكرة ((البقاء)) المجردة و((المادية)) بحسب ما ذكرنا. فكرة ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) لم تعد في الغرب بالنسبة لغالبية الناس، أي للنموذج السيكولوجي، الاجتماعي، فكرة كثرة؛ كثرة مال وكثرة بنين. مال وبنون هذا يمكن ويجب أن نريده بلا كثرة التضامن (الضمان الاجتماعي، الاجتماعية) بدلًا من تكديس المال، خزن المال. أنه ما للإنسان، مال الإنسان. الضمان يصيب البنين أكثر فأكثر. والغرب يشكو الآن من قلة البنين، من قلة الأولاد وضياع هذا العنصر في المستقبلية، التاريخية، يشكو من تفسخ العائلة، من الفردنة الهوائية، من سقوط الحب وقيم كثيرة في جوهر الطبيعة والتاريخ، يمكن تأليف كتاب عن مرض السيدا وبمناسبته، وعن شطح الفكر الغربي، غنوزيولوجية وأيديولوجية، في عصر الإمبريالية والوفرة والرفاه والضياع([58])، هذا الكتاب سيكون دينًا وفرزًا: العصر عصر تحول ديمقراطي أيضًا، إنساني واجتماعي، إنه عصر متناقض، شأنه شأن كل عصر، لكن أكثر من أي عصر، وليكن شعارنا: نعم لحقوق الإنسان وحرية الإنسان، نعم للتحول النسوي وللمساواة، لا لليبرالية. مفهوم الإنسان غير مفهوم الفرد الإنساني، الإنسان غير مستنفد في الفرد.

كل حركة البشرية منذ قرنين، إن جاز التحديد على النحو المذكور، هي حركة أوروبية، غريبة، أي أوروبية وغريبة المنشأ والمركز. ولهذا السبب، انطلاقًا من هذه الحقيقة المدركة والمشوهة، يرفضها ويردها ويحاربها الرافضون، الرادون المحاربون، يريدون انطواء رجوعًا إلى عصر يؤسطرونه، إلى آلة يخرفون باسمها. تاريخهم أثيري، أصالتهم لا بشرية، وتقبلهم محال، سياستهم عدوان، وحدتهم تمزق وتمزيق، إيمانهم وثنيات، أسلافهم طواطم لأحزابهم ليسوا الأسلاف الحقيقيين. إن الحركة الأوروبية المنشأ والمركز حركة عالمية بطبيعتها ومصادرها ونتائجها. فيها الشعوب جميعها، شاءت أم أبت، لا فرق في ذلك، لا شأن للنوايا والرغبات والتفضيلات. ولئن كانت المرحلة الجديدة جديدة، فليس لأن أصحابها من طينة أخرى شيطانية، وليس من جديد مطلق، استغلال، تسلط، قهر، قتل، استعمار، حرب، غزو وغير ذلك، هذا موجود كبير في مراحل التاريخ السابقة كلها، لدى الشعوب والحضارات جميعها، عند الأقوام البدائية، بل له ((أصول)) في عالم الحيوان أيضًا.

ولقد تابع لينين قضية الاستعمار والإمبريالية، وقضية الغرب والشرق، قضية نهوض الشرق، منذ وقت مبكر. وما قاله راهن بالتمام. لقد أقحمت شعوب آسيا وأفريقيا في العالم الآخذ في التكون، أخذت في تاريخ ليست هي مركزه، مادة وموضوعًا للتاريخ، ولها وعليها أن تتحوّل من موضوع ومادّة إلى ذات فاعلة وصانعة لهذا التاريخ. ليس هناك تاريخ آخر، ولن يكون. وفي سنة 1923 في مقاله الأخير أكد لينين: الغرب إمبريالي ومضاد للثورة، الشرق ثوري وقومي أو قوموي، لكن الغرب هو المدنية والثقافة والشرق هو البربرية.

وروسيا كذلك، إنها نصف بربرية، ((آسيوية))، متأخرة، فلاحية، متسيبة، استبدادية، جاهلة. ومن أجل أن ينتصر الشرق وأن تنتصر البشرية، على الشرق أن يتثقف، أن يتمدن، أن ينشل نفسه من البربرية. وكذلك روسيا: بالحصان البخاري والكهرباء و((التعاون)) وسلطة السوفيات وقيادة الحزب مع منطق هيغل ومع العالم الفعلي، وقبل ذلك قال لينين: أيها الرفاق، الرأسمالية شر؟ أجل، الرأسمالية شر مقارنة بالاشتراكية، أما مقارنة (قياسًا) بالقرون الوسطى ومع روسيا الوسطوية التي بين أيدينا ومع كرهنا لـ ((التجارة)) وكثير من ذهنيتنا وروحيتنا، فالرأسمالية خير كبير؟ نحن الشيوعيين نكره التجارة؟ علينا الآن أن نتعلم التجارة على الطريقة الأوروبية، وأن نقلع عن التجارة على الطريقة الصينية والشرقية.

في ذلك كله، كان لينين على حق، وهو لا يخشى الكلمات: حنبليّة الألفاظ تعبير عن فراغ الفكر، هاجس رجال الخوف ورجال اللاديالكتيك. إن رد الفعل ليس استقلالًا. بل لعله أسوأ أشكال التبعية.

ولينين على خط ماركسي، إنه يبني الخط الماركسي. ماركس وإنغلز ولينين وماوتسي تونغ والماركسيون الحقيقيون على خط جوهري واحد. مواقفهم المختلفات، مواقف كل منهم المتباينات، زوايا نظر على مجموع يتطلب النظر إليه من زوايا عدة.

في نظر ماوتس تونغ (كتابه الثورة الصينية، إن التدخل الإمبريالي، سنة 1840، مفصلة نهائية، خروج من الدوران، وأساس لاستراتيجية الثورة والحزب. الشيوعيون الصينيون لا يخشون أن يقولوا -مرارًا- إن المجتمع الصيني التقليدي ظل على حاله من حيث الجوهر في ثلاثة آلاف سنة، وذلك على الرغم من ثورات شعبية كبيرة جدًا، ولا مثيل لها في العالم، ويعددها ماوتسي تونغ. هذا شيء، وعراقة الأمة الصينية وعظمتها وإنجازاتها وعظمتها وإنجازاتها التقنية والعلمية والحضارية أشياء أخر. ماوتسي تونغ ينصف الأمة والحقيقة والمستقبل، ينصف الذات التي هي الإنسان، مع أن الصين في القرنين 17، 18 غير العرب في القرن 17، 18.

الصين آنذاك تعرف نمواً، نموًا زراعيًا وديمغرافيًا، وتعرف أزمة كبيرة هي أزمة نمو. يحق لها أكثر مما يحق لنا القول: قبل الاستعمار كنا في عز. ماوتسي تونغ ورفاقه لا يقولون! لأنها حماقة. بعضنا الآن يقولها صراحة، وبعضنا يضمنها في أيديولوجيته وحربه وعجزه. ماوتسي تونغ ورفاقه يريدون المستقبل، التقدم، الاشتراكية.

رجوعًا إلى العبودية، بل دفاعًا عن العبودية ضد الطيران والتحليق أقول: الإنسان عبد؛ وأضيف: الإنسان عبد = الإنسان أعلى من الحيوان، ظهور السياسة تراجع الحرب، الإنسان عبد = التاريخ نمو الحرية.

الطائرون يريدون الشطر الحرية، ((يفكرونها))، من دون الشطر الأول، إذن من دون النمو ومن دون التاريخ. إنهم ينسون أن الحيوان مصيره إلى المسلخ، وأن البشر أيضًا يُحطون إلى حيوان. المحلقون يمكن أن يدافعوا عن حرية الصحافة وأن ينسوا حياة الإنسان. الإنسان عبد، أعلى صور العبودية هو ((العمل المأجور))، ((العبودية الأجيرة)). هذا المصطلح الأخير، مقولة ماركس، ليس معنى مجازيًا. لا يوجد عند ماركس معنى محض مجازي. وأعلى الصور آخر الصور. ذلكم هو الرهان، وهو الراهن.

اللاذقية 1988

  1. () مراحل تطور الحياة الاجتماعية وتعاقب التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية (لا الاقتصادية الاجتماعية، لأنه لا اقتصاد ولا إنتاج إلا في إطار الاجتماع البشري، في إطار المجتمع، فلا يمكن الحديث عن الإنتاج إلا بصفته إنتاجًا اجتماعيًا) هي مراحل نمو العمل البشري وتطوره، وبهذه الدلالة يمكن نقد مقولة المراحل الخمس وحتمية تحول كل منها إلى الأخرى.
  2. () لسانيًا هذه المهاواة والمماهاة عربية، لكن القضية ليست لسانية: تيار النخاسة الأفريقية، الأوروبية الحديثة (ق 16_18) أضخم ثلاث مرات أو أكثر من النخاسة الأفريقية، العربية الوسطوية أو التقليدية (والطويلة)، النزيف أكبر بكثير، أكثر خرابًا وأبعد عاقبةً.
  3. () آنذاك، أذكر أن البلدان العربية المستقلة العضوة والمؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة وزعت أصواتها بين مؤيد لإلغاء العبودية ومعارض ومستنكف. لبنان أيّد الإلغاء. ولا داعي لتسمية المعارض، ولا سيما أنني لا أستطيع استنادًا إلى ذاكرتي أن أقدم لائحة كاملة دقيقة.
  4. () انظر كارل ماركس، مخطوطات 1844: الاقتصاد والفلسفة، (دمشق: منشورات وزارة الثقافة).
  5. () كلمة travail من اللاتينية tripaleum وهي أداة من ثلاثة خوازيق وظيفتها تجميد الدّابة (الحيوان، البهيمةـ) في مكانها، أما oeuvre فهي تحيل على الإنسان حصرًا، وهي تعني العمل والمهمّ ونتاج العمل والعمل الفنّي.
  6. * في كتابه الاقتصادي الكتاب – الوصية، 1951 – 1942، وعنوانه ((المسائل الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفياتي))، موجود في طبعة عربية جديدة.
  7. () انظر كتاب ستالين الأشهر: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، دار دمشق ودار ابن سينا، طبعة جديدة.
  8. () علمًا بأن ستالين نفسه لم يقل ذلك ولا أحد غيره (من ((الكبار))) قال ذلك. وستالين، في كتابه ((حول الماركسية وعلم اللغة)) (1950)، أدان ذلك، وضع حدودًا وعوائق أمامم هوس ((العلم البروليتاري)) ضدّ ((العلم البرجوازي)) (لكن هذا الهوس استمر!) عندنا، يمكن إجراء اختبار وتبين أن كثيرًا من أتباع الماركسية الجدد يؤمنون بأن علم المنطق نفسه هو إيديولوجية وشيء طبقي الخ. ((المعرفة)) محلولة في ((الأيديولوجيا)).
  9. () موريس لانجليه Lengelle. M، سلسلة ((ماذا أعلم؟))، دار f u p الرقم 667
  10. () الأيديولوجية و((العلموية)) تتقاسمان الفكر العربي التقدمي (وغير التقدمي)، كلاهما باطل وقاصر.
  11. () لينين، الدفاتر الفلسفية، دروس تاريخ الفلسفة حسب هيغل. (بيروت: دار الحقيقة).
  12. () صعد إلى المحرقة في عاصمة الخلافة المسيحية. قبله بسبعة قرون، في سنة 922م، صعد الحلاّج إلى الصلب في عاصمة الخلافة الإسلامية التهمة واحدة (حلولية، زندقة..الخ).
  13. () لا بد من حضور نقولا دو كوزا في كل كتاب أوروبي عن تارييخ الفلسفة، أو عن التصوف أو عن الباطني، esoterissme. الباطنية تيار عالمي في تاريخ الأمم والحضارات، وليست هذا الشيء التافه الذي يراه محبوها وكارهوها عندنا. المعرفة هي معرفة الباطن والماوراء، وهي تتظاهر في الجدوى مثلًا في التقنية.
  14. () ولشيءُ عظيم ومشرّف سيرة ((آلام الحلاج))، passion، هوى، انفعال، عذاب، باثوس، درب آلام وصعود. مشرف للشعب المتعاطف، للقضاة أنفسهم، أو لبعضهم، للسلطة، للكثيرين من أولي الأمر. وكما هو معلوم أو مشهور، لا توجد رئاسة إسلامية، كنيسة تعليمية وسيّدة، أو شيء من هذا القبيل، لتعلن اليوم ((رد الاعتبار أو لتضفي صفة القداسة على شهيد)) هي ظلمته، الذات الجماعية ظلمته. هل أضيف الذات مفقودة؟الحلاج، والسهرودي القتيل أو الشهيد: إذا كنا، حتى الآن، لا نستطيع أن نميّز وأن نفصل بين موقف كل منا من أفكار فلان (مثلاُ السهرودي) هل هي صحيحة أم باطلة في نظري، هل أنا معها أم ضدها) وضد فلان في أن تكون له أفكار وكتابات ومنشورات، عندئذٍ فنحن ضد ودون تجريدية الحق. وهنا لا بد من القول: الحق أولًا، الحقيقة ثانيًا. الحق أعلى، والحقيقة للبشر تٌبنى، ثمة حق – حقيقة قوق البشر، والبشرية تسعى إليه بالتاريخ والنمو. تبلغه ولا تبلغه، أو بالأصح ((لا تبلغه وتبلغه ولا تبلغه)) = عملية ارتقاء.
  15. () رسالة في اللاهوت والسياسة، (دار الطليعة، ط2، 1981)، لا سيما مطلعها (ص 8 – 9، 10 وخاصة ص 12)
  16. () إسبينوزا، (ص 8-12)
  17. () قبل نقلنا القول وتمهيدًا له، لنسجل أن الدائرة ((شخص)) كبير عند سبينوزا وباسكال، مثلما المثلث كان ((شخصًا)) كبيرًا عند أفلاطون ! هؤلاء الشخوص – الأبطال ليسوا ((أشخاصًا)) بل مفاهيم، منطق، رياضة. شيء ممنوع في ((النوع)) الآخر تحت اللافتة المشتركة: فلسفة !! إن المفهومات العليا، الفكر الكبرى، المفهومات الأساس والأسِّية هي: ((بساطات)). العقل العربي الحاضر لا يريدها، يعجز عن الوصول إلى البسيط.
  18. () بالمقابل يوجد أفلاطون شرقي: المعرفة تذّكر والتقدّمم انحدار. هذا الأفلاطون الشرقي موجود عند أفلاطون نفسه. أوغسطين يبدأ عملية تحويل، وعصر النهضة يعيد انتاجها على نحو جديد، رياضي وعلمي.
  19. () ((تطور)) يجب أن تترك لـ evolution. حصرًا، أما developpement فهي ((بسط (انبساط) وتفتح وتطوّر ونمو وإنماء إلخ)). ولعل الأصلح ((والأقرب))، عند وجوب التمييز (مثلًا خاصة في الفلسفة) هي ((بسط))، هذا إذا كنا نريد لفظًا عربيًا واحدًا، لا اثنين أو أكثر (وهو الأفضل)، للفظ الأوروبي الواحد.
  20. () مسيرة إلغاء المادة الجوهرية الماهوية وأشيائها. أولًا الماء مبدأ وحدة ((طاليس، ثم الهواء، أو، الأثير، أوالأبيرون اللامعرف واللامتناهي، .. ثم ((التولي)) عن هذه اللطائف والدقائق، التحول نحو محض الوجود والهو، نحو العدد والتناسب أو القياس، نحو الذرة العنصر مع الفراغ، نحو ((الآيدوس)) والشكل والمفهوم. نحو تجريدة ((الحركة)) (زينون الإيلي). في هذا المسار، بروتاغوراس = الانسان، الذاتية، سقراط = الحقيقة الموضوعية، الكلي، الفكر، أفلاطون = الديالكتيك، أرسطو = عودة، مراجعة عامة، علم المنطق الشكلي.
  21. () نذكر هنا بروميثيوس وفاوست، عدا عن آدم. ونذكر بشكل خاص (مشروع ديكارت (جعل الإنسان سيدًا ومالكًا للطبيعة))، وفكرة التملك aneignung appropriation الهيغلية والماركسية (والسبينوزية واللايبنتسية الخ الخ)، ومقالات ماركس عن الهند 1853 (أسفه وأساه لكون الإنسان يسجد لسابالا البقرة هانومان القرد، في حين أن الإنسان سيد الطبيعة وملك المخلوقات …) وشعر محمد إقبال (ديننا ليس برقص رغناء … ليس في الغنائية الكونية السكرانة، بل هو جهود البشر)، وإشارة جاك كوفان، في مطلع كتابه ((القرى الأولى في بلاد الشام)) إلى مشروع ديكارت وبداية تحقيقه في سوريا بين الألف العاشر والخامس ق.م، مع ظهور ((القرى الأوليات)).
  22. () هكذا عنوان كتاب ألبرت حوراني، وهو (الكتاب والعنوان) مهم جدًا: ((الفكر العربي في العصر الليبرالي)) بالإنكليزية و((الفكر العربي في عصر النهضة)) في الترجمة العربية. وأشير بوجه خاص إلى الكتاب الأخير لعبد الله العروي، عن مفهوم الحرية (دار الطليعة) وإلى تأثيره في الزوج وضعانية وليبرالية، وفي اتهامه اللافلسفية (وإدانته للافلسفة).
  23. () في الترجمة الإنكليزية لألتوسير، جرى تصحيح هذا التزوير الذي كان في النص الفرنسي استغنى عن الصفة التي شددنا عليها: ((ثورية)).** فلسفة ألتوسير باطلة من أساسها. ألتوسير أعطى إجابات باطلة عن أسئلة صحيحة، شيئًا عكس المطلوب. فالمطلوب هيغل مثلًا وأوًّلًا. والمطلوب لينين وايضاَ فويرباخ، وأفلاطون. المطلوب مقولة العمل الحقيقة لا هذه ((الممارسات)) وهذه النوعيات أو الخصوصيات.
  24. () فلسفة ألتوسير باطلة من أساسها. ألتوسير أعطى إجابات باطلة عن أسئلة صحيحة، شيئًا عكس المطلوب. فالمطلوب هيغل مثلًا وأوًّلًا. والمطلوب لينين وايضاَ فويرباخ، وأفلاطون. المطلوب مقولة العمل الحقيقة لا هذه ((الممارسات)) وهذه النوعيات أو الخصوصيات.
  25. () لا بأس ولا بد من هذه الإضافة التي أضعها في سنة 1989) ما زال يرفع لواء التوسير ويناضل ضد فكرة الاستلاب (الانخلاع، التغرب) اللاعلمية! واضح أنه بعد اللهاث كفّ عن المتابعة. هذه القضية (التوسير: عن ماركس الاستلاب محسومة منذ عشر سنوات – محسومة باعترافات تراجعية من ألتوسير أيضاَ).2) صادق جلال العظم، في حوار له منشور قبل 3 سنوات يردّد: ((العلمية))، والعلمية))، ((العلمية))، إلى ما لا نهاية، أما ((الحقيقة)) فغائبة. هذا مسلك أنموذجي في الخطاب العربي (الأيدييولوجي الأسوأ) المعاصر: وضعانية، ألتوسيرية، ((سوربونية – عربية)). يوجد من الحقيقة ومن العلمية في كتاب توماس مور ((اليوتوبيا)) أكثر مئة مرة مما يوجد عند ستالين والتوسير وفي كل الشربنة الثورية أو اللاثورية.
  26. () التكاؤنية، من التكاون، في اللغة المحكية، صراع كائنين ينفي أحدهما الآخر، أو صراع كائنات متنافية، متعادمة. (المحرر)
  27. () إيف لاكوست، ابن خلدون مولد علم التاريخ وإشكالية العالم الثالث، (بيروت: دار ابن خلدون، دمشق: ووزارة الثقافة).
  28. * مثلًا، أنا لا أفهم كيف تضيع هذه القضية تمامًا من نظر محمد عابد الجابري، مجلة الوحدة، العدد 26/ 27، نوفمبر/ ديسمبر 1986، ص 156 بصورة خاصة. عنوان كتاب لاكوست ((ابن خلدون _ مولد علم التاريخ وإشكالية العالم الثالث)) أي نقطتان.
  29. () هناك لوغوس عربي: علم الكلام، وعلم (علوم) اللغة العربية. هناك اللوغوس العربي واللوغوس الأوروبي أو اليوناني والأوروري، وهناك الثقافات غير اللوغوسية: الشرقية، الكبيرة.
  30. () تضيع أطروحة أن الصورة هي الشكل الأخير، إذن مطلب بناء صورة الواقع، إنشاء لوحته، في الجدوى الإيجابية، في عملية تقدّم لا متناهية.
  31. () أي أن كوربان يدرك أن ((المثال)) في الفلسفة الإشراقية هو بالأحرى رمز وليس مفهومًا أو فكرة.
  32. () توفيق سلوم، في دراسة منشورة في محلة الوحدة، عن الذرية الإسلامية، يكلمنا طويلًا عن الذرات بدون الفراغ.
  33. () الأبولوجيتيقية، الوضعانية، التسرع، الجهل، السياسية الخ والصدامات والتعارضات والتنافيات داخل معسكر النهضة لا تغير شيئًا من الحقيقة الآنفة. فكرة الاستقلال ترتبط بالنهضة والتقدم، والناصرية إنماء نوعي لهذا المنحى: تعميق التقدم بالتوجه الاشتراكي، تعبئة الكتل البشرية.
  34. () في الحاصل، لعل أقضل عنصر في طابعنا الثقافي القومي هو العنصر البدوي. يتجلى في التاريخ كلية، حرية عقل، ومبدأ فكر (وعمل وتعامل). واجب التربية أن تعيه أن تنقده أن تقيم الحد عليه، أن تحوله من الكلي المجرد إلى الكلي العياني عبر مقولات الشكل والحد والمفهوم، أن تملأه منهجيًا بالواقع.
  35. * البسط والمقام في الكسر: بسط الكسر هو الرقم الموضوع فوق خط الكسر 6/5 مثلًا بسطه هو خمسة ومقامه هو الرقم الموضوع تحت خط الكسر أي 6 في المثال المذكور. والبسط والمقام في الكسر يعادل الصورة والمخرج ذكرنا هذا لاحتمال استعمال مختلف في بعض الأقطار العربية.(الناشر)
  36. () لا يتساءل، ويقيم ضدّيه وجودية بديلًا من الضدية المفهومية. (لنقل إن هذا الموقف انتكاس إلى الديالكتيك الصيني العريق، إلى الطاوية. في اللغات الأوروبية، التناقض contradicion تحيل على الكلام، القول، المقولة، في اللغة الصينية، هي نفسها، ((ماو دون)) (mao dun) تحيل مباشرة على ((ترس/ رمح)). بالضبط، إن الديالكتيك الصيني ليس مستنفدًا في مثل هذه الأمور.بصورة خاصة، هناك البوذية وهناك الكونفوشية، باختصار هناك مفهومية كبيرة في الفكر الصيني، ومنجزات مهولة، ومواقف أصيلة عظيمة الحيوية يجب استيعابها في فكر العلم.من أجل ذلك، يجب على فكرنا العربي أن يُفيم الحضارات، اللثقافات، الأديان، المواقف الكبار، أن يلتفت إلى المعارضة ((دين الغرب)) – أديان الشرق الكبير أو الأقصى، والمعارضة ((تاريخ الغرب)) من سومر ومصر إلى الإنكليز .. وتاريخ اليابان والصين والهند، يجب درء الخلائط (غارودي رمزها المجسد)، تجب قراءة ألبرت شفايتزر ورومان رولان، معرفة الإسلام والمسيحية، معرفة التراث العربي، معرفة تاريخ أوروبا، معرفة تاريخ البشرية، معرفة الكون الزماني، هذا شرط للوحدة. وحدة الأمة (معرفة الهوية)، وحدة الإنسان، وحدة العالم.
  37. () وإن السطرين أو الثلاثة سطور التي كتبها إنغلز في هذا المضمار منذ نيف ومئة عام أفضل وأعمق وأشمل وأصوب من كلام العرب الحاضرين. إنغلز ذكر عن العرب: الجبر، السيمياء أو الكيمياء الفكر الحر أو الفحص الحر. وذكر أيضاَ أن معطيات ( اكتشافات) كثيرة ضاعت.
  38. () في رأيي، إن إقضل ما عمله محمد عابد الجابري هو في كتابه ((نحن والتراث)).، تأشيره على عودات، عودات في الفلسفة ((ابن رشد))، في اللغة، في الفقه، مغربية. أما ما قاله في مجلة الوحدة (العدد 26/ 27) عن إيف لاكوست ابن خلدون فمؤسف تمامًا. كتاب لاكوست واضح وعنوانه واضح، وتأشيره على أوغسطين واضح. صحيح أن الجابري قال لنا في مجلة الوحدة بصدد ((العلمانية)) !؟، ضد فهمية شرف الدين ومروان فارس، أن المسألة (العلمانية))!! غير واردة في المغرب إلخ. ترى، هل يقبل هو أن يحط المسألة إلى مستوى ((لبناني))! مرة أخرى لا غنى عن هذا الخيار: إما الديالكتيك وما العلموية الأبستيمولوجية، إما الشعبي والديمقراطي وإما تلفيقية الليبرالي والديماغوجي، إما ((الفلسفي والسياسي)) إما العلومي مع ذرات فلسفة وسياسة وشعب، إما الروح – العقل، esprit ولوغوس وفرنونفت vernunft وإما الراسيو ratio فقهية لاتينية إسلامية وبرجوازية.
  39. () لعل محمد عبده، حين قال: كم من البلدان زرت وجدت فيها مسلمين بلا إسلام وكم من البلدان زرت وجدت فيها إسلامًا بلا مسلمين، لعله كان يفكر بهذا الحديث النبوي، عدا عن أحاديث أخرى مهمة جدا وذائعة وعن آيات قرآنية معلومة، مبدئية أوّلية ومفهومة تمامًا (ليس كمثله شيء، النفس أمارة بالسوء، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر…).
  40. () هكذا، مثال! موقف د. علي فهمي خشيم، في ندوة ((مقاومة الغزو الثقافي)) (المقال منشور أيضاَ في مجلة المعرفة، دمشق، 1982)، بصدد عبد الله بن سبأ وكعب الأحبار، وأيضاَ بصدد بولس الرسول. عن هذا البند الأخير، لا أدري ما إذا كان د. خشيم مطّلعًا على أفكار هنري لاغارو (أحد بناة المنظومة الفكرية النازية) والايديولوجيا النازية. إن تعاطفه مع آلان دوبنوا (مجلة الوحدة، العدد 18، ص19) رائد ((اليمين الجديد)) الفكري النازي الفرنسي أهم. لكن الأهم أيضاَ يكون إنشاء إضبارة: موقف بعض الفكر الإسلامي (بدءًا من رشيد رضا!!) من بولس المسيحية. دفعًا إلى تصوّر خاطئ، أضيف: بحسب ذاكرتي ومعرفتي، إن عدد المسلمين الوطنيين والنهضويين الذين يثمنون دور بولس ويعرفون أهميته أكبر من أن يُحصى. إنه شيء في الوعي الشعبي العام: عندكم بولس، إنه رجل عظيم … في كل المسيحية تراثاُ وعقيدة: بولس ((رسول الأمم))، ((رسول الأميين)) في الدنيا الأغيار (الغوييم)، غير الكتابيين، الناس اللطفاء les gentils وإن شئتم: الكفار والوثنيين، أهل الأكفار – البلاد، العامة العادية الساعية في الحياة الدنيا.
  41. () الحربان العالميتان حروب كبيرة، موت الملايين، في القرن العشرين. لكن حروب سرجون الأكادي وآشور بانيبال ونبوخذ نصر وشوبيلو ليوما ورمسيس وداود وغيره من صغار الملوك السوريين لم تكن حروبًا صغيرة. حين كانت البشرية جميعًا تعد مئة مليون نسمة، لم تكن تلك الحروب أقل فتكًا وإبادة من حروب القرن العشرين العالمية، نسبيًا. ولا أقل فتكًا من حروب ((الأجانب)) الإسكندر وروما، التالية. ولو كانت بيدهم قنابل ذرية، ربما لما انتظروا أربعين عامًا. عن السؤال (السؤال المبتور): هل هناك تقدّم أخلاقي للبشرية؟. أجيب: تعم! عن السؤال: هل هذا التقدّم يتكافأ مع التقدم التقني الصناعي؟، أجيب : لا! هذا الجواب لا يغيّر شيئًا، بل هو يعيدنا إلى الموقف الحاضر، إلى المفترق الراهن: البشرية قادرة على تدمير نفسها الآن. وهذا لا يعني أنها اليوم أقل ((أخلاقًا))، بل يعني أن وعيها اليوم أيضاَ وعي بشري، دنيوي، نسبي، محدود، إن سيطرتها على ذاتها محدودة، إن عنصرها الشيطاني لا بأس به.
  42. () وهذا عنوان كتاب أميركي SLAVES ON GORSES.
  43. () لعل أهم ما عند قاسم أممين هو عنصر أو نواة أو مبدأ أو خيار أوّلي بين اثنين يطرحه على المسلمين على الناس، على المجتمع: إما وإما، كانطلاق، بالنسبة للفقه نفسه، وللشرع نفسه. إما الآية المتكلمة عن رباط رحمة ومودة، وإما ما بنته الحالة الدنيوية، التاريخ، العصور، يجب دومًا تغليب المنطق الأعلى، العودة إليه، جعله حاكمًا، نافيًا وملغيًا لما يتناقض معه، إعادة النظر دائمًا ((من البدء)). هذا ليس إلغاء للتاريخية ((للنسبية))، للزمنية، ومن ثم لما نسميه الفقه والشرع، لما نسميه العقدـ بل بالضبط إنه تأسيس للتاريخية، إقامة لتراتب جعل الأول أول والثاني ثانياُ، إقامة بنية تراتبية مفقودة فاقدة للجدل فوق – تحت، إقامة روح وعقل. زوجة قاسم أمين ظلت محجبة، بناته سافرات (الوجه واليدين، لا أكثر)، عائلة حقيقية، وتعرضوا للمتاعب، والتكفير وغير ذلك. الزواج كتاب، عقد، عهد، رباط مقدس. الزواج كتاب. لكن بالضبط حين تقرأ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، فإن ((كتاب)) هنا ليس كتابًا مرئيًا وماديًا بين أيديكم. وحين تقرأ في الصحافة أن فلانًا كتب كتابه على كريمة فلان، فليس الضعف والباطل والمتخلف هو عند كلمة ((كتاب)) بل عند استبعاد المتعالي والمحايث الملازم. هكذا من جهتي أفهم قاسم أمين. ومن هنا ينبع غضبه، ثورته. في الحاصل: محمد عبده، قاسم أمين، الكواكبي، طه حسين، علي عبد الرزاق = موقف واحد بؤرة عظيمة. عليها، ضدها تقوم الثورة الارتدادية الوثنية الآن.
  44. () وأم كلثوم غنت: (عيسى ومحمد ثوار)، ولم تدخل في مشكلة ((لاهوتية)) ضد المسيحية والثالوت المسيحي. وغنت أيضاَ: ((الله محبة)) قصيدة جورج جرداق، لخصت العصر العظيم بالزهراء، بيد أن لي انتسابًا، هبت شعوب من منيتها، وقف الخلق، صوت السلام هو اللي فاز واللي حكم، طوف وشوف، بغداد يا بلد الرشيد.
  45. () عن أخطاء عبد الناصر، أكرر ماكتبت في مناسبات سابقة: عبد الناصر عنده أخطاء كثيرات. الآخرون ليس عندهم أخطاء. كانوا (وهم الآن) خارج الموضوع HORS DU SUJET خارج الواقع، خارج العالم.
  46. ()من الخرف، والتخريف هو التفكير الخرافي، وهو ما دون التفكير المثالي، وما قبله. (المحرر)
  47. () وهي ندوة مهمة، بيروت 1981 صدرت عن دار الأبحاث العربية.
  48. () كوثراني يترك ((مجازر السلطان سليم)) لموقع آخر، لغير هذه ((المناسبة))، ويتجنب مقولة ((الحروب الدينية)) القومية السياسية في الشرق الأدنى، يحصرها في الغرب. مع أننا أسبق بقليل من الغرب في المقولة المذكورة: حروب ومجازر العثمانيين والصفويين أقدم بقليل من شبيهاتها في فرنسا وألمانيا، والناتج مختلف. بعدها، عندهم جاء بالسياسي والتسامح والعلماني، عندنا جاء الدهليز، التيه، السرداب، الدهليز النفسي والفكري والاجتماعي –
  49. إن فهم د. كوثراني اآلية الانحدار العثماني، التركي والعربي الخ، في القورن 15 – 18، مؤسف حقًا. كوثراني لا يعرف المركانتيلية العثمانية، يجهل مفارقات الحالة العثمانية. إنه بعيد عن الهوية ((مركانتيلية، وثنية، مشيئية))، عن المنطق والكون والتاريخ. وأنا أتعاطف مع العثمانيين ضد دفاع كوثراني عنهم، ضد تمجيدهم، كانوا بشرًا. وكوثراني يجهل التفاني داخل آل عثمان (القتل الجماعي) .. يجهل الانحدار الشاهق الذي مثله العثماني والصفوي والقاجاري في تاريخ آسيا الغربية، بالمقارنة حتى مع عصر الانحطاط العباسي، ومن أبسط زاوية: قتل الأخوة والأبناء والآباء وأبناء العم داخل العائلة المالكة، صار كأنه قانون وشرع وسنة وكتاب و))دستور)) بالمعنيين (((دستورك))، مسموح، من فضلك. وقانون أساسي وجوهري). حقًا: كوثراني ابتعد كثيرًا عن الحق، عن المعرفة، عن واجبه التربوي والتعليمي. وليس الغضب موقفي، بل الألم.في ندوة في بيروت (أوائل 1982 أو أواخر 1981، مجلة الشراع، لم تنشر إلا ((جزئيًا)) تمامًا، مختصرة ومشوهة بالشطب على ((الحرف))، أي بالشطب على إلغاء الحد / المجابهة)، حمل كوثراني على الكنيسة والبابوية وحروب الدين ومحاكم التفتيش. طرحت علي سلسلة أسئلة محددة جدًا: هل تعد الكنيسة ظاهرة سلبية، محض سلبية.؟ هل تعد كل هذا الذي ذكرته عددته بسرعة وبلغة التنويه التصريح، بلغة البدهيات المعلومة، هل تعده خاصًا بالمسيحية؟. هل تظن أنه خاص بلا عمومية ما، وخاص بالمسيحية دون الإسلام؟ هل تعد العصمة البابوية بلا مواز هل تعدها أكبر أم أصغر من العصمة الإمامية، هل تلك شر وهذه خير! كذلك حروب الدين، محاكم التفتيش، قال كوثراني عن تاريخ أوربا عمومًا وعن القرن السادس عشر الأوروبي هذا ثمن كبير، أكبر مما عندنا، قلت: هل عندك إحصاء أو تقدير؟ ثم لعلهم ((عبروا)) ونحن لم ((نعبر))!، في رأيي، إن التاريخ حالتان: إما ثمن لشيء أو ثمن للاشيء وواجبنا، واجب البشرية، أن تسعى إلى تاريخ أفضل، بلا حروب ومجازر، تاريخ عادل، أستغرب ذلك كله، أستغرب خلافي حتى مع د.وجيه كوثراني!.
  50. () ويخضع كثير منها ((لضريبة الدم)). العثمانيون ليسوا أسوأ من غيرهم في معمورة بني آدم. لكنهم -على كل حال- يفرضون ((ضريبة الدم)) على أمم كثيرة من بني آدم، يأخذون ابنًا من كل عائلة (وأكثر أحيانًا)، يدخلونه في الأمة – الملة – الدولة، العسكر، الدين، الحكم. وهؤلاء يحكموننا مثلًا، يحكمون في شتى الأمصار والأكفار. الرأٍس امتص الجسم، والرأس يتعدد. كائن متشوه.شيء لعلم يمكن أن ندعوه ((تيراتولوجيا التاريخ))، أي علم المسوخ والأغوال، في الواقع البشري منطقًا وتاريخًا. في الحاصل، إن هذا الرأس الضخم والمخيف ليس فكرًا وعقلًا، إنه ذاتوية ووثنية، إنه عسكرة للأشياء.
  51. () والألباني نفسه، الفلاح الزراعي، حين يترك ويعسكر، يجرد من طابعة الفلاحي والزراعي، وينقلب ضد هذا الأصل، يحلق في أثير السلطة والحكم.
  52. () الدالاتية واليرلية، أتباع أتباع الأغوات وزعماء الأحياء في دمشق، أو البلطجية(المحرر)
  53. () مسار (منحني) تعداد ((الشعب)) عندنا يجب أن يجري على مدى زمني طويل، استنادًا إلى المناخ وإلى علاقة الإنسان بالأرض، استثمار الأرض وإلى مختلف العوامل أو المعينات. (سوريا) مثلًا:1- العصر الروماني ذروة، ربّما سبعة أو ثمانية ملايين (وليس 20 مليونًا، وليس ثمانية ملايين في حوران وحدها، بمثل ما يقول الكثيرون خرافيًا وعلى الأقل. لا ريب أن هناك نموًا متصلًا رغم الحروب والعنف الخ، في عصر البرونز ومنه إلى عصر الحديد، إلى العصر السلوقي (عصر أنطاكية واللاذقية وأفامية والاسكندرون ومدن كثيرة بادت كانت تحمل هذه الأسماء نفسها)، إلى العصر الروماني (عصر كراكلا وأولبيان وبابينيان وزينوبيا) .2- العصر البيزنطي – الأموي – العباسي يمثل تراجعًا، إلى أربعة أو خمسة ملايين. لعل النهب الاستثماري للأرض في العصر السابق (الروماني) أدى في العصر التالي البيزنطي إلى عاقبة معاكسة، إلى انحسار، إلى ثأر الأرض. الأمويون والعباسيون الأوائل اهتموا جديًا بالزراعة وبسوريا (الغوطة، إلخ). 3) الانحدار الرئيسي متأخر، هناك المغول .. هناك عوامل مختلفة، آلية ركود انكماش، إهمال.. 4) أخيرًا هناك العهد العثماني، القرن 17، القرن 18، حتى سنة 1800. 5) عهد ابراهيمم باشا 1831 – 1840 = نهضة كبيرة، بارزة معلومة، لا سيما في الزراعة (بفضل الدولة والأمن والسلطة والقانون). بالنسبة لمصر: يقدر تعداد السكان في عهد الفراعنة الأخيرين والبطالمة وروما بثمانية ملايين أو عشرة ملايين. والانحسار حديث، ربما بدءًا من القرن 13 أو 14. أجل، بالتأكيد، هذا كله يحتاج إلى إحكام، إلى تدقيق. لكن أي تاريخ هذا الذي نتعلمه ونعلمة لأبنائنا بدون هذا المنطق هذا الخط، هذا الأمر؟ ما هذا التاريخ الذي لا يرى الديمغرافيا، هذه الديمموغرافيا، التابعة لإنتاج العيش أي الوجود، التي هي محصلة ومحصلة الأمور جميعها التي هي شكله الأكثر تجريدًا وبساطة؟.
  54. () بحسب قولنا: فلان موجود، حي، وفلان مات، لمم يعد موجودًا. إذن ثنائية الموت والحياة.
  55. () إن أكبر دفاع عن النمط الآسيوي والشرقي الخ هو إبراز مأثرته: هذا النمط أمن بقاء نصف البشرية أو البشرية معظمها في التاريخ معظمه.
  56. () الهجرات البشرية ظاهرة قديمة، وكبيرة، ملازمة للتاريخ. مثلًا عصر الثورة النيوليتية و((تيار الدانوب))، من آسيا الغربية إلى أوروبا الوسطى وإلى إنكلترا. بدون ذلك بدون واقع الهجرة والنقل والانتقال، كان يكون التاريخ محالًا. إذا تصورنا بلدًا صغيرًا ومعزولًا فهو لن يتقدم، أو يتقدم ببطء أو أيضاَ ينتكس.
  57. () في صيف 1984، شاهدت برنامجًا في تلفزيون باريس عددته دعاية للعلاقة الجنسية المثلية: 4 أشخاص (رجلان وامرأتان)، بأسمائهم ووظائفهم، يعيشون الحياة المذكورة، عرضوا الموضوع في ندوة تلفزيونية طويلة. مع أن حوادث الموت بمرض السيدا (الآيدز) كانت قد بدأت وأخذت اثنين أو ثلاثة من مشاهير رجال العلم والفن. علمًا بأن الحالة المعنية موجودة منذ آلاف السنين ومعترف بها. أما الدعاية لها، التلفزيون؟ بدا لي أن الغرب في جموحه الصناعي و((الديمقراطي)) يصرف بالتي هي أحسن (أسوأ)‍ مقولات الطبيعة والطبيعي، لا يقيم وزنًا لتحسن البشرية التاريخي، فلا يرى معنى إيجابيا /ً في المحرمات، في التعليم التقليدي للأديان، ثم جاء الانفجار والرعب.
  • هذه المادة هي مقدمة إلياس مرقص لترجمته كتاب (العبودية) لموريس لانجليه وأعيد نشرها في كتاب مقدمات من أجل التنوير الصادر عن دار ميسلون للنشر والطباعة

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية