حول المسألة اليهودية
مقدمة
ترجمنا هذين النصّين عن الكتاب الصادر بالفرنسية عن V.G.E. سلسلة 10/18، باريس 1968، حيث نص باور ترجمة Jean-Marie Caille ونص ماركس Jean- Michel Palmier. بالنسبة لنص باور، تلك كانت أول مرّة يصدر فيها بالفرنسية. نص ماركس سبق أن صدر بالعربية (ترجمة محمد عيتاني عن طبعة A.Cortes الفرنسية). ترجمتنا مطابقة لطبعة V.G.E. في حال وجود اختلاف بين مقطع في نص باور والمقطع نفسه مثل ما أورده ماركس شاهدًا، فالاختلاف وارد في الطبعة الفرنسية (وهو طبيعي أو عادي).
بدلًا من مقدّمة طويلة تتحوّل إلى دراسة بعنوان «الماركسية والمسألة اليهودية»، أكتفي ببعض الملاحظات المساعدة في فهم هذين النصّين من قبل القارئ العربي (لا سيما بوضعهما «في السياق»). وقد فرض علينا ذلك إلقاء نظرة على بعض الآراء والمواقف في ساحة الفكر.
-1-
كارك ماركس – ومعه إنغلز- يصفّي حساب برونو باور مع آخرين في مخطوطات الاقتصاد السياسي والفلسفة (1844) وخصوصًا في العائلة المقدسة (1845) والأيديولوجيا الألمانية. ونقد المسألة اليهودية لبرونو باور يدخل في هذا النطاق، جزئيًا على الأقل، وماركس يعود إليه، بعد عمله الصادر قبل كتابته المخطوطات، في العائلة المقدسة([1]). هذه التصفية العامة لباور وآخرين جزء لا يتجزأ من تأسيس المادية التاريخية والجدلية. الماركسية تتأسس في معارضة هيغل وفويرباخ وعلماء الاقتصاد السياسي والشيوعية الفظّة والمساواتية وبرونو باور وماكس شترنر وبرودون… (1843-1847). هذه المعارضة هي معارضة الماركسية لمصادرها وجوارها. الماركسية تنشأ في هذه الأرض: أوروبا الغربية، «المجتمع المدني »، الثورة الصناعية، الفكر البرجوازي الثوري، الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والهيغلية الشابة، تيار اليسار بعد هيغل، التيار الذي «يضم» شتراوس وباور وروجه وماركس وإنغلز وهس وشترنر وآخرين. أهم عمل تاريخي لهذا اليسار الهيغلي ممثلًا في شتراوس وباور هو نقد الدين، والمسيحية، والأناجيل. أوّلًا شتراوس: حياة يسوع (1835)، حول ما تحويه المسيحية من عابر ومن دائم (1839) الدوغماطيقا المسيحية في تطورها التاريخي وفي صراعها مع المجتمع الحديث (1841) ثم برونو باور ذروة هذا العمل «اللاهوتي». هذا النقد الألماني يواصل عمل فرنسيي القرن الثامن عشر، ولكنه أعمق، أكمل، وأكثر منهجية. بينما هيغل -نوعًا ما- عمل الفرنسيين تجريح، هيغل ردّ اعتبار، شتراوس وباور تجريح من نوع آخر. العمل النقدي بات أكثر علمية وفلسفية. فويرباخ ذروته «الفلسفية»([2]). كتابه جوهر المسيحية (1841) وبعض مؤلفاته السابقة والتالية تعيد المادية إلى سدّة العرش بعد الفاصل الهيغلي، تقيم المادية إزاء الدين (في العلاقة مع الدين)، إذن تقيمها في الجذر والأساس كمادية فلسفية. في الفلسفة، فويرباخ مادي.
ليس الأمر كذلك بالنسبة لبرونو باور، الملحد هو أيضًان ناقد الأناجيل، كاشف أصول المسيحية. تصفية ماركس لبرونو باور حوالي سنة 1845 هي تصفية المثالية الفلسفية لباور وآخرين. باور أحل «الوعي» و«وعي الذات» محل الله، أحل «النقد» أو «النقد النقدي» محل اللاهوت. تصوّره المثالي للتاريخ يرتكز على مثالية فلسفية أساسية، على منهج وتصوّر مثاليين. ماركس ينقده من وجهة النظر المادية، إذن مبدئيًا بالاستناد إلى عملية فويرباخ، ولو أن فويرباخ خالف عمليته وسقط هو أيضًا في تصوّر مثالي للتاريخ على جناح «الإنسان»، و«الطبيعة» و«المحسوس»، و«المباشر»… إلخ. فالمادية الكاملة المنسجمة هي المادية الجدلية. بعد أن تحقق نقد السماء كانت المهمة هي التحول إلى نقد الأرض، بعد نقد الدين نقد السياسة، نقد السياسة يقتضي علم الاقتصاد السياسي ونقده، بعد الإنسان يجب ولوج الإنسان المادي التاريخي، هذا الطريق يفضي مباشرة إلى المادية التاريخية. الإرث الهيغلي الأساسي (الجدل) ضيّعه الخلفاء بالنظران المثالي، ماركس يستوعبه ماديًا. من دون هذا الاستيعاب تكون مسيرة ماركس غير مفهومة ومستحيلة. إن عمل ماركس حوالي سنة 1845، لاسيما تصفية حساب باور وشترنر، يكشف تطابق وهوية الجدل والمادية عند ماركس، ضد تطابق وهوية الميتافيزية والمثالية والتجريبية والعقيدة اللذين ينكشفان في النظران الذي انحطّ بعد أن وصل إلى ذروته العظيمة (هيغل). ماركس ضد شترنر (وباور وجزئيًا فويرباخ، الخ)، ماركس وإنغلز في الأيديولوجيا الألمانية، هوية المادية والجدل في معارضة التجربية التجريدية وغير ذلك = صورة أولى عن لينين في الدفاتر الفلسفية.
يبقى أن عملية القلب الأساس التي أجراها فويرباخ في 1841 وواصلها في 1845 (دروس عن جوهر الدين)، عملية الانقلاب من المثالية (الدينية والهيغلية) إلى المادية، «ترافق» عملية التفنيد الباورية، عمل النقد التاريخي – اللاهوتي لباور وسلفه وآخرين. يبقى أن هذا العمل النقدي يسند الماركسية بوساطة المادية الإنسانوية الفويرباخية ومباشرة من دون هذه الوساطة. يبقى الوجه الخالد في عمل برونو باور (1809-1882)، يبقى برونو باور صاحب مؤلفات الكنيسة الإنجيلية لبروسسيا والعام (1840)، نقد التاريخ الإنجيلي للأناجيل المتوافقة (1841)، المسيحية مكشوفة (1843)، تاريخ الرسل (1850).
هذا العمل نال على طول الخط تثمين ماركس وإنغلز. فويرباخ، ماركس الشاب وإنغلز الشاب، نشوء الماركسية، هذه المسيرة السريعة، الواصلة إلى نهاية، الجدّية، ترتكز عليه. وبالطبع، إن نقد الدين المسيحي يشمل نقد الدين اليهودي ويتخطاه. نقد أصول المسيحية يشمل فهم أصولها اليهودية وكشف أصولها الأخرى، اليونانية، الإسكندرانية، اليونانية الرومانية.
في مقاله «حول تاريخ المسيحية الأولى» (1894)، يتحدث إنغلز عن برونو باور بهذه العبارات: «إن الخدمة الكبيرة التي أسداها ليست فقط نقده الأناجيل وأعمال الرسل نقدًا لا رحمة فيه، بل كونه قام للمرة الأولى بالتنقيب ليس فقط في العناصر اليهودية واليونانية الإسكندرانية بل أيضًا في العناصر اليونانية المحضة واليونانية الرومانية التي فتحت للمسيحية مستقبل حياة دين كلي كوني عالمي»، الأمر الذي يكشف في جملة أمور خرافة أن المسيحية نشأت «من اليهودية» و«من فلسطين» هكذا، أي خطأ الاعتقاد اللاهوتي الديني الشعبي المسيحي اليهودي، (ويكشفه ضد تواطؤ الخصمين المسيحي واليهودي)([3]). في مقاله عن «كتاب رؤيا يوحنا»، يقول إنغلز عن رينان Renan الشهير أنه «ناقل فقير للنقاد الألمان» (وأهم هؤلاء النقاد باور). وكان إنغلز قد اتخذ من وفاة برونو باور (1882) مناسبة لتمجيد عمله ضد مؤامرة الصمت، ضد رينان والرسميين الألمان، ضد التشويه وغيره، في مقال خاص بعنوان برونو باور والمسيحية الأولى)([4]).
برونو باور: ناقد اللاهوت، عالم لاهوت علمي، اختصاصه اللاهوت. وإنغلز الأخير –غير المختص- وراءه، مثل ما كان وراء أمور كثيرة، تدخل جميعًا في ما يمكن أن ندعوه حرب إنغلز على الاقتصادوية، دفاع إنغلز عن الماركسية ضد الماركسوية، باختصار تدخل في ماركسية إنغلز الحقيقية، أي المادية الجدلية والتاريخية، وتجعله علمًا من أعلام الماركسية الثلاثة.
ولست أدري ما إذا كان يوجد الآن في صفوف الماركسية ومفكريها علماء لاهوت، ماركسيون اختصاصهم اللاهوت. لعل الجواب: لا، (أو لعل هذه –لا- مبالغة، ولكن لا غنى عنها!). هكذا يكون عندنا عشرات أو مئات الماركسيين المختصيين بعلم الجمال مثلًا، ولا يكون عندنا مختص واحد بالإلهيات، فالإلهيات غيبيات، هي إذن غير جديرة باهتمامنا العلمي. هذا الغباء وجه من حماقة الماركسية الراهنة، من مثالية ولاهوتية الماركسية الراهنة. هذه الماركسية الحاضرة تسير وراء برونو باور حيث يجب أن لا تسير وراءه. لم تستفد من القضية cas باور، من المثال أو الحالة باور. لم تأخذ منه هذه العبرة: معارضة الله لا تقي من المثالية، ثمة من وجهة نظر نظرية المعرفة ما هو أكثر أساسًا من قضية وجود الله وعدم وجوده أو يمكن أن ينتهي فلان من الإله الآلهة ليقيم إلهًا آخر وآلهة أخرى. نصف شعوب المسكونة ليس عندها «الله»، على الأقل إلهنا المسيحي – الإسلامي – اليهودي، ولكن فيها مثالية وضلال. نصف الآخرين خلصوا من الله، لا من المثالية والضلال، ربما غرقوا فيهما أكثر. وأن لا نرى ذلك يجعلنا «العائلة المقدسة»، «جماعة النقد النقدي»، ويجعلنا نلفظ اللاهوت خارج «كينونتـ» ـنا الميتافيزية و«ماديتـ»ـنا المثالية و«تاريخـ»ـنا الجوهري.
-2-
في أحد وجوهها، المسألة اليهودية لبرونو باور تدخل في عمله الخاص، في نقده اللاهوت، المسيحية، أصولها. إذا أخذنا الوجه الآخر، إذا وسعنا الوجه الآنف، أمكننا القول أن تحليل باور للمسألة اليهودية يحمل الوجه الإيجابي والوجه السلبي في «الجملة» الواحدة التي هي باور، ينقلنا من كشفه الجذري التفصيلي للاهوت إلى هذا الذي يدحضه ماركس وإنغلز في باور ورفاقه وخصومه، أي إلى المثالية الفلسفية والتاريخية لباور.
إلى حدّ ما، نحن آزاء ضرب من «انحراف مهني» النقد الألماني للدين واللاهوت، سواء كان باوريًا أو فويرباخيًا، مُساقٌ بحكم الأوضاع الألمانية المتأخرة وبحكم عدم استيعاب الجدل والمادية والعجز عن التقدم نحو المادية التاريخية والتاريخ الاقتصادي – الاجتماعي، إلى عزل وتضخيم دور «النقد»، «الوعي»، مناهضة اللاهوت، إلى اعتبار التاريخ الكلي في شكل تعاقب أديان، إلى تحديد طابع أطوار الانبساط التاريخي للإنسان والتطور التاريخي للبشر بالأديان الكبرى. ويقابل هذا الخطأ خطأ الماركسيين الذين يرمون المسألة من أقرب شباك. والحال، إن أية قراءة لماركس وإنغلز، صادقة، تقرأ نص ماركس وإنغلز، ولا تقرأ ذاتها في نصهما، تكشف حماقة هذا الموقف. عند ماركس وإنغلز، (ولا سيما في صفحة شهيرة من رأس المال، الكتاب الأول[5]*)، تبدو المسيحية الدين المتناسب مع الاقتصاد السلعي ومع المجتمع المدني – البرجوازي، (اليهودية على هذا الخط، إنها الوجه الآخر «العملي في المدينية – المسيحية، البرجوازية الكلية). لوثر عودة إلى المسيحية الأولى، «آدم سميت لوثر الاقتصاد السياسي» (إنغلز وماركس 1843)، ماركس الناضج لا يرمي مسأليَّة ماركس الشاب، إنما يضبطها، ويؤسس جوابها تأسيسًا نهائيًّا (مدخل 1857، مقدّمة 1859، رأس المال….).
إن فكرة المجتمع المدني أي البرجوازي التي تحتل مكانًا مركزيًا في المسألة اليهودية لماركس[6]**، ماركس الناضج لا يرميها بوصفها فكرة. بالعكس أن يبسط وينمي ويطوّر ويعدّل المضامين. لعل الفكرة لم تصل إلى مستوى مفهوم مضبوط، شكلي قطعي، ونهائي. (وإذا قلنا أنها مضت في المادية التاريخية وفي رأس المال، يجب أن نفهم معنى «مضت»، يجب أن نتذكر أن المادية التاريخية هي التصوّر المادي للتاريخ. ولكن أحد أخطاء الماركسيين أنهم أهملوها، رموها، هربوا منها، بدلًا من أن يضبطوها ويكملوها إذا كانت تحتاج إلى ضبط وإكمال. هذا الرمي يرافق ويعزز تصورًا للتاريخ تاريخيًا طيرانيًا، لا جدليًا ولا ماديًا. الفكر البرجوازي المتقدّم (ق18)، السياسي والاقتصادي والفلسفي، الفرنسي والإنكليزي والألماني، كان يعد أن المجتمع المدني –البرجوازي الموجود أو المنشود هو الوضع الطبيعي والعقلي (المطابق للطبيعة العقل)، الخالد أو الأزلي لولا الضلالات البشرية، وعلى الرغم منها. نحن نقول العكس وكفى؛ التطوّر يكون «تطورًا» وليس سيرورة انبساط، المجتمع البرجوازي يكون غير المجتمع الإقطاعي بلا هوية، وإذا قيل إنه يخرج من بطنه كما الصوص من البيضة «فهذا القول يبقى بلا قيمة حقيقية أو بلا مدلول فلسفي. هوية أنظمة الملكية الخاصة الثلاثة (الرأسمالية، الإقطاعية، نظام الرق)، هوية الرأسمالية ونظام الرق، هوية الاقتصاد السلعي، قدم السلعة مقولة كائنيّة («قديمة قدم الطوفان أو قبله»، بحسب ماركس في مدخل 1857)، فكرة التبادل – الاتصال، commerce-social intercourse- العلاقات الاجتماعية، فكرة الصناعة بالمعنى الواسع، ارتباط ثالوث، تقسيم الشغل – التبادل –الملكية الخاصة (الواضح في ومنذ مخطوطات 1844)، «وجود» المجتمع البرجوازي خارج المجتمع البرجوازي، في الغرب وفي الشرق، في أطوار سابقة من التاريخ الكوني، هذا يبقى خارج حقل الاهتمام أو خارج حقل البصر. الفرق يطرد الهوية، المتغيّر بلا ثابت، معنى الكلمة الضيّق يحذف معناها الواسع، (وكذلك) فكرة تَعارض التاريخ (= التقدّم) والأخلاق، إذا ظهرت أو لاحت عند ماركس ما بعد 1848 (مثلًا في رسائل ومقالات 1853، أو في مسودات الرسالة إلى فيرا زاسوليتش 1882، أو (بلغة 1844)، فكرة أن التقدّم التاريخي الحاصل (الذي يؤيده ماركس ضد الشيوعية المساواتية، ضد الطوباوية والمثالية) كان تقدّم الانخلاع تبدو انتكاسًا من الشيخ أو الكهل نحو الشباب والمراهقة، ومن العلم إلى الأخلاق أو الإثيقا. على الذين ينحون هذا المنحى أن يطهّروا ماركس «العلمي» من كل ماركس، من ماركس بلا وصف إضافي. مقابلهم من يركبون على «الانخلاع» ومعارضة الانخلاع وعلى ماركس الشاب، متجاهلين مفهوم المجتمع المدني من حيث إيجابيته الهائلة، من حيث إن انبساطه هو (كان) التقدم والتاريخ، ومن حيث أن على شعوب الشرق الثوري والقوموي المناضل ضد الغرب الإمبريالي والمضاد للثورة أن تتمدّن (لينين 1933). في البيان الشيوعي (1848) ماركس وإنغلز يشجبان أنصار «الاشتراكية الحقة» وما شابه من محاربي «الانخلاع»: على ألمانيا «وعلى البشرية التي ليست إنكلترا وفرنسا) أن تحقّق الثورة البرجوازية من دون هذه المهمة الكلية، الاشتراكية ستكون انتكاسًا والثورة الاشتراكية أصلًا ستكون بلا قاعدة.
إن نظرة على شرقنا الحاضر، على المجتمعات الاشتراكية وأوضاع «المعسكر» الاشتراكي، على الغرب الإمبريالي، على العالم الراهن ومصائر البشرية، تثبتنا في ظننا بأن خط ماركس هو الخط الوحيد والسليم، وأن ماركس وضع المسائل المناسبة وحلّها في الأساس أو وضع أسس الحلول كافة. قصدنا، بصورة خاصة، فكرة المجتمع المدني– البرجوازي، وضرورة المضي إلى الإنسانية الاجتماعية أو الاشتراكية.
-3-
باور مناهض لليهودية والدين اليهودي، كذلك ماركس بل ماركس يضاعف هذه المناضهة، يعمّقها مادياًّ.
في نظر جمهرة الكتّاب الحاليين المناهضين لمناهضة السامية anti antisemités، هذه المناهضة من باور ومن ماركس هي مناهضة للسامية antisémitisme وربما هتلرية أو ما شابه. بما أن ماركس يهودي الأصل «يتعمّق» بعض هؤلاء في موقفه «فرويديًا» بالتحليل النفسي، الماركسيون (بعضهم، معظمهم) من جهتهم، يتجاهلون المسألة اليهودية؛ إنها غير موجودة، أو إنها مسألة الدفاع عن اليهود ضد النازية واللاسامية والعرقية، اليهود مثل سائر البشر -لا ريب- اليهود مثل سائر البشر، وسائر البشر مختلفون عن سائر البشر، واليهود جماعة من الجماعات البشرية. لا، يعتقد الماركسي المتوسط، هناك طبقات، البشر مقسومون إلى طبقات، هناك أيضًا إلى حد ما أمم وقوميات وغير ذلك، البشر موزعون إلى أمم وقبائل، هناك أخيرًا أديان وطوائف دينية، وهذا لا شأن له، واليهود أو معظمهم تركوا الدين، إذن الجماعة اختفت، رغم أنف البصر. «اليهودي» ليس نوعًا، ليس كيفًا، ليس تحديدًا أو تعيينًا. اليهود ليسوا عرقًا، ليسوا أمة، لم يعودوا دينًا، ليسو طبقة، ليسوا صنفًا eatégorie مقولةً. أصناف الماركسي المتوسط هويات ميتافيزية مقولاته – المقولات الماركسية الشهيرة المبتذلة والمشوّهة – أكلت الواقع، ذوّبته في الفكر القاصر. هذه المثالية تقوم على أساس ميتافيزي: تطارد العام والخاص، تنابذ الفرق والهوية، هو بلا ليس، ليس بلا هو. كل مقولة (طبقة، أمة، دين، عرق) تكفي نفسها بنفسها.
باور وماركس مناهضان لليهودية. ونحب أن نقول أن هذه المناهضة عامة: باور، فويرباخ، ماركس، موزس هس([7])، غوته، فولتيير، القرن الثامن عشر، الفكر البرجوازي الثوري كله، الأدب الإنساني، التراث التقدمي الخالد، يحمل هذا النَّفَس المناهض لليهودية. الأدب ترك لنا نماذج يهودية سلبية خالدة. فولتير الديمقراطي الإنساني الذي يدافع بقوة عن قضية التاجر البروتستانتي، كالاس، ضد الدولة والكنيسة والقضاء، فولتير وأقرانه الذي كانوا يقفون بقوة مع دريفوسات (Dreyfus) زمنهم سواء كان المتهم يهوديًا أو بروتستانتيًا أو بوذيًا أو كاثوليكيًا الذين كانوا ضد الكنيسة وضد المسيحية، لا يعطون «درجة» لليهودية فوق المسيحية أو الإسلام أو دين الصين. العكس هو الصحيح؛ غوته يعارض أو يعادي المسيحية ولا سيما الكاثوليكية، ولكن عداءه لليهودية أكبر بكثير. هؤلاء الذين كانوا إلهويين يؤمنون بكائن أسمى متعال ويرفضون الدين والأديان، أو كانوا حلوليين سبينوزيين (وسبينوزا يهودي) أو كانوا ملحدين، مجمعون على معارضة ومناهضة اليهودية. يُعجبون بـ أو يحبون أو يثمنون الصين، الفرس، العرب، الإسلام… إلخ، ولكنهم لا يحبون اليهودية واليهود بوصفهم يهودًا. الفكر البرجوازي الثوري الإنساني يأخذ على اليهودية (الدين والجماعة) خصوصيتها، تعصبها، لاكليتها ولاإنسانيتها ولاأخلاقيتها، بُعدَها عن البشر وسعادتهم، عن التاريخ ومصائر الشعوب والمخاض الأوروبي. قد «يفهمها» في الطور الماضي والذي يجب أن يمضي ولكنه لا «يفهمها» ولا يقبلها أو يطيقها في الطور الجديد. إنها تتعارض مع أفكاره وعواطفه وتطلعاته كلها. ويجب القول أن هذه الأفكار (= المثل المثالية) بما أنها تطلعات تتخطى واقع المجتمع البرجوازي.
في أواسط القرن التاسع عشر، لاساميّة antisémitisme برودون ودوهرنغ هي انحطاط وكاريكاتور ذلك الموف العام للفكر البرجوازي الثوري.
في زمننا، الخارج من جحيم الهتلرية جان بول سارتر مثلًا (صاحب «تأملات في المسألة اليهودية») هو «عكس» برودون ودوهرنغ، إنه ضد ضد – السامية، يأخذ على الفرنسي المتوسط «عدم حبه لليهود»، يمتحنه نافذًا إلى وجدانه وسريرته: أنت لا تحب اليهودي، أنت مسؤول (عن أفران الغاز)، عن عدم قيام إسرائيل (أنت متواطئ مع الإنكليز ضد الشعب اليهودي)، عن عدم حياة (توسّع) إسرائيل (وكذلك على ما يبدو أميركا؟، فسارتر يساري). مسألة فلسطين تابعة لـ «مسألته اليهودية». ألبير كامو camus- وكان قبل حين بطلًا آخر من أبطال سوق الكتاب العربي في الشرق – أكثر تفاهة وقذارة (انظر كتابه actuelles II)([8]). يمكن مواصلة هذه القائمة إلى مالا نهاية. إن المأثرة الأولى الكبرى لرجال من طراز أبراهام ليون، مكسيم رودنسون، إيزاك دويتشر، على الفكر الماركسي وعلى المصائر البشرية، أنهم وقفوا ضد الصهيونية، عارضوا الابتزاز باللاسامية، وضربوا التجاهل الماركسي شبه العام للمسالة اليهودية ذاتها، على من لم يقرأ مؤلفاتهم أن يقرأها. وعلى من قرأها أن يقرأها من جديد.
باور، ماركس، والسلف العظيم، كانوا بعيدين عن موقف السادة سارتر وكامو والآخرين، عن الرضوخ للابتزاز، وعن التجاهل. سنجد في بحث باور أن الابتزاز المذكور قديم، باور يرفضه. ماركس يمضي في سيكولوجيته. في نَفَسه الأصلي، شموخُ الموقف السبينوزي: «الحقُ علامةُ نفسِه والباطلِ»، شعاره: «أنا بشر ولا شيء مما يهم البشر بغريب عنّي»، مأساته «زرعت التنين وخصدت براغيث».
يمكن أن يكون المرء مع اليهود ضد أفران الغاز، ضد هتلر وهتلرات رومانيا، سلوفاكيا، كرواتيا الخ. ضد الاضطهاد بأنواعه وأشكاله، ضد التمييز والحصر، وأن يكون ضد اليهودية كخصوصية، وضد الصهيونية، ضد الدولة اليهودية. يمكن أن يكون ضد الدمج القسري وضد معارضة الانصهار الطبيعي التاريخي. ويمكن أن يكون مع انتفاضة جيتو وارصو ومع مقاومة جيتو غزة، مع اليهود ضد الألمان والفاشستية الأوروبية، ومع فلسطين ضد إسرائيل، ومع العرب ضد اليهود في النقطة المعنيّة. (نوفيل أوبسرفاتور وإكسبرس مع فلسطين ضد الأردن، مع إسرائيل ضد فلسطين والعرب). قلنا: يمكن. الصح: يمكن ويجب، هذا ما يبدو لنا المنطق السليم. ولكن هناك من يرفض مبدئيًا عباراتنا الأخيرة: مع فلسطين ضد إسرائيل، ومع العرب ضد اليهود. فهي في تصورهم خروج عن «المبدأ الطبقي». والعبارات السابقة تكون في نظرهم تأييدًا للمبدأ الطبقوي. إنهم لم يفهموا العصر الراهن الواقع ولا التاريخ. ماركس كان مع الراهنية ومع التاريخ.
-4-
ماركس ضدّ برونو باور، وليس ضد سارتر وكامو زمنه (وليس جوهريًا ضد لاسامية برودون ودوهرنغ. هذه نقطة صغيرة في بحر برودون ودوهرنغ، ولا تستحق عناء ماركس وإنغلز). نوعًا ما ماركس ضد باور مثل ما هو ضد هيغل وفويرباخ وآدام سميث وغيرهم، ضد المثالية و«المادية السابقة»، وليس ضد كونفوشيوس أو ابن تيمية.
على حد قول ماركس: «باور أعطى مسألة الانعتاق اليهودي وضعًا جديدًا، بعد أن قام بنقد طرق وضعها القديمة وحلولها القديمة. ما هي، يسأل باور، طبيعة اليهودي الذي يجب أن يُعتَق، وما هي طبيعة الدولة المسيحية التي يجب أن تعتِق؟ وهو يجيب بنقد للدين اليهودي، يحلل التعارض الديني بين اليهودية والمسيحية، يشرح لنا جوهر الدولة المسيحية، وذلك بجرأة ووضوح وروح وعمق…». ولكن هذا لا يكفي أبدًا… «لم يكن كافيًا البتّة أن نسأل: من يجب أن يُعتَق؟ من يجب أن يَعتِق؟ كان يجب على النقد أن يضع سؤالًا ثالثًا: أي نوع من الانعتاق هو المقصود؟….».
باور يعلن أن المسألة اليهودية هي مسألة عصرنا، هي مسألة ذات طابع كلي عام. ماركس يطالبه بأن يكون أمينًا لهذا الإعلان. ومن أجل ذلك يجب الانتقال من السماء إلى الأرض، من نقد اللاهوت إلى نقد الحياة، الدنيا، المجتمع. «يجب أن لا نبحث عن سر اليهودية في دينه، بل لنبحث عن سر الدين[9]* في اليهودي الواقعي». اليهودية دين المال، عبادة المتاجرة. المال هو إله إسرائيل الغيور…. الأساس الدنيوي لليهودية هو الحاجة العملية، المنفعة الشخصية. «اليهودية بقيت ليس رغم التاريخ بل بالتاريخ». مع انتصار المجتمع البرجوازي، الشعوب المسيحية صارت يهودية. تناقض المسيحية واليهودية هو تناقض النظري والعملي، الشكل والمحتوى، الدولة السياسية والمجتمع المدني. الدولة المسيحية الحقيقية هي الدولة اللادينية، التي أعادت الدين وحصرته وأطلقته في ميدان الحياة الخاصة. باور مع «الدولة»، ماركس ضد «الدولة» – الدولة انخلاع آخر- باور مع مبادئ «حقوق الإنسان»، ماركس يفنّد «حقوق الإنسان» البرجوازية التي هي حقوق الملكية والأنانية، يعلن وجوب تجاوزها، تجاوز «الحقوق». الاثنان متفقان على أن هذا (المجتمع المدني المكمَّل – الدولة الحديثة – الحقوق البرجوازية) تقدّم هائل في سيرورة التاريخ الكلي. وكلاهما متفقان على أن اليهود واليهودية ساهموا في هذا التقدم. باور يخلط الانعتاق السياسي البرجوازي والانعتاق الإنساني، يضخّم الانعتاق الأولّ، يمثلنه، لذلك يعتقد أن اليهودي لا يمكن أن يُعتَق. ماركس يفرق الانعتاقين، يضع مسألة «الانعتاق الإنساني»، يرى أن اليهودي يمكن أن يُعتق الانعتاقَ الأول (الانعتاق المدني – السياسي – البرجوازي، وهذا حاصل في أميركا الشمالية، في فرنسا 1789، إلخ)، ولأنه؛ لأن اليهودي يمكن أن يُعتق هذا الانعتاق، لذا فإن هذا الانعتاق ليس النمط الكلي للانعتاق الإنساني. «الانعتاق الاجتماعي لليهودي هو انعتاق المجتمع من اليهودية». في الحاصل: الانعتاق عند باور هو الانعتاق من الدين، المسألة هنا، ماركس يجعل هذه النقطة تابعة. مع أن باور لاحظ نفوذ اليهودي أو هيمنته الواقعية رغم أنف الأوضاع الحقوقية (في ألمانيا) التي تحرمه من الحقوق، سجّل ذلك بوصفه تناقضًا وخداعًا ولؤمًا في جملة الأوضاع.
مؤلف «المسألة اليهودية» لماركس ((إشارة))، تشير إلى مضي ماركس الشاب من الفلسفة إلى الفلسفة والمجتمع والاقتصاد السياسي والتاريخ. «مخطوطات الاقتصاد السياسي والفلسفة» تأتي بعد قليل (1844)، فيها يمسك ماركس بفكرة «الشغل المنخلع» (جزئيًا وراء هس) ضد علم الاقتصاد، ولكنه يمسك أيضًا بجملة «تقسيم الشغل، التبادل، الملكية الخاصة، التقدم التاريخي» وراء العلم المذكور. ماركس الطور اللاحق يسترجع ويعدّل هذه المشكلة الجوابية (1857-1859 الخ)، التي نالت حلها الأول في الأطروحات عن فويرباخ والأيديولوجيا الألمانية: مقولة العلم وقضية الدين، والإنسان جملة العلاقات الاجتماعية، تمييز الإنسان عن الحيوان بالإنتاج، فكرة ومصطلح المجتمع المدني البرجوازي.
باختصار يمكن القول إن مؤلف «المسألة اليهودية» يحتل الموقع الآتي في نشوء الماركسية: ماركس يعارض المجتمع المدني – البرجوازي، يعارض الانخلاع، الملكية الخاصة (والدين والدولة)، يؤيد الشيوعية، يعارض اليهودية (اليهودية الواقعية العملية، واليهودية النظرية السماوية أو المسيحية)، يؤسس الشيوعية فلسفيًّا وأخلاقيًا مع نفس مثالي واضح. ولكنه الآن وبعد قليل يؤكد أن التاريخ = التقدّم، يجب جلاؤه.
-5-
قلنا إن ماركس وباور متفقان على الاعتراف بدور تقدّمي وثوري، خاص، لليهود واليهودية في التاريخ.
يقول باور أن اليهود عارضوا التاريخ، عارضوا التقدّم، ناضلوا ضد سنَّة التاريخ الأولى، وولدوا إذن ردّ فعل «بعد أن حركوا أقوى نابض في الوجود».
ويقول ماركس: «نحن نتعرّف إذن في اليهودية على عنصر مناهض للمجتمع عام وراهن، عنصر دُفع، بالتطوّر التاريخي الذي شارك فيه اليهود تحت هذه العلاقة السيئة مشاركة نشيطة، إلى ذروته في الزمن الحاضر، إلى ارتفاع لا يستطيع فيه إلا أن يتفكك وينحل». المقطع السابق في كلام ماركس يدافع عن الثوري اليهودي، عن اليهودي الذي «اعترف بعبث جوهره العملي، ويسعى إلى حذف هذا الجوهر، ويعمل على الانعتاق الإنساني العام»([10]) المقطع التالي يقول: «في دلالته الأخيرة، التحرر اليهودي هو تحرر البشرية من اليهودية».
الأيديولوجيا نتاج، الأيديولوجيا انعكاس. نتاج فاعل، وانعكاس نوعي، والدين أهم أشكال الأيديولوجيا، شكلها السيد، العام، الشعبي، شكلها الوحيد حتى القرن الخامس عشر أو السابع عشر (في الغرب). وتزداد فاعلية الدين بوصفه عامل تلاحم بالنسبة للأقليات، للجماعات المبعثرة، في أطوار ما قبل الرأسمالية وعالميتها وتذويبها للفروق. الكينونة الاجتماعية تقرر الوعي الاجتماعي، لا العكس، ولكن لا وجود لهذه الكينونة – الصيرورة من دون هذا الوعي. والدور التقريري لهذا الوعي يزداد في زمن الثورة. والوعي (=الانعكاس) انعكاس – استباق Anticipation. إن أي مبدأ من مبادئ الماركسية، ولا سيما هذا المبدأ. الكينونة ⭠الوعي، الكينونة الاجتماعية ⭠الوعي الاجتماعي، هو قطع، بحكم كونه فكرًا ومعرفة. حين نعزل أي مبدأ عن السياق، عن الجملة، عن هدف الضرب (وهو هنا: كل المثاليات التاريخية)، عندئذ يتحول الحق إلى باطل، والبدهية إلى بدهية زائفة.
العلاقة التاريخية بين اليهودية ونشوء الرأسمالية، بين اليهودية والرأسمالية، تناولها ماركس وإنغلز وبعض المفكرين والمؤرخين الماركسيين، وتوسّع فيها بعض كبار المؤرخين البرجوازيين المتأثرين بماركس والذين كان عليهم أن يحددوا مواقفهم آزاء ماركس والماركسية، آزاء ماركسية ماركس والماركسية الموجودة: ماكس فيبر، فرنر زومبارت، كارك لامبريشت، هنري بيرين وغيرهم.
كتاب أبراهام ليون «التصور المادي للمسألة اليهودية» يعطينا معطيات تاريخية كثيرة وينقل ويناقش بعض آراء المؤرخين المذكورين. لسوء الحظ، إن ترجمته العربية مزرية: 1- فيها جمل ترجمت بالعكس تمامًا نتيجة جهل واضح وبسيط باللغة الفرنسية. 2- الرفيق المترجم ([11]) وضع لنا في هامش النص شروحًا من عنده قصيرة وأحيانًا مذهلة. نقلها بوجه الإجمال عن قاموس لاروس الصغير (وقال أنها «من وضع المترجم»). وإذا أخطأ في النقل، إذا نقل شرح كلمة تالية في اللاروس بدلًا من الكلمة المعنية، صار إمبراطور روماني منطقة في فرنسا([12])، رغم أنف المعنى وضد عقل أي قارئ. ومرة أخرى (هنا أرجح أنه لم يفتح اللاروس، فهو بغير حاجة)، عرَّف البلاد الواطئة بقوله = هولندا، مع أن المدن «الواطئة» المذكورة في متن النص كلها حاليًا في بلجيكا. ولكنه يجهل أن بلجيكا كانت مركز النهضة في الآونة المعنية (ق 13 – 16)، ويجهل فكرة «البلدان المنخفضة» التاريخية، ويجهل تاريخ أوربا أساسًا، ولكنه بات عالمًا بتاريخ اليهود. 3) وهذا ما يهمنا هنا: حذف هوامش الكتاب الفرنسي، هوامش ليون «مِن أقْرَبوا». النَّفَس التجاري للمترجم والَّنَفس «الإستراتيجي الثوري» التبسيطي الميكانيكي الطبقوي للمترجم وجماعته يلتقيان على أفضل شكل. هذه حالة، وضعية، ذات دلالة تتخطى المترجم وجماعته الصغيرة. على ظهر القارئ، المستباح والمؤلف الشهيد. (شخص آخر يستشهد بأبراهام ليون، ويجعله شهيدًا، هو صادق جلال العظم). ناهيك عن أن مقدمة مكسيم رودنسون التي «تكمل» أبراهام ليون وتصححه وتقومه (جوهريًا تقومه ضد الفهم الاقتصادي الميكانيكي الذي يصير فهم بعض القراء العرب فهمًا تامًا وخالصًا) لا تنال رواجًا (الطبعة العربية الأولى استغنت عنها).
بخصوص الأيديولوجيا وعلاقة اليهودية والرأسمالية، نأخذ من كتاب ليون (الطبعة الفرنسية، ص19-20 هذا الهامش:
«فرنر زومبارت، في مؤلفه المتفاوت القيمة تمامًا (اليهود والحياة الاقتصادية) حيث أسوأ الحماقات تتجاور مع تنقيبات بالغة الفائدة والأهمية، يقول: «أجد في الدين اليهودي عين الأفكار – القوى التي تطبع الرأسمالية». هذا التأكيد صحيح، شريطة أن نفهم من الرأسمالية التجارة والربا «ما قبل الرأسماليين» (السابقين أو الممهدين للرأسمالية). سنرى في مكان لاحق أنه من الخطأ أن نعزو لليهود دورًا غالبًا أو أساسيًا في بناء الرأسمالية الحديثة([13]). لمساندة أطروحته، يورد زومبارت كمية من المختارات من التلمود وغيره من الكتب الدينية اليهودية التي تعكس هذه القرابة للدين اليهودي والروح التجارية. إليكم على سبيل المثال بعض هذه الشواهد:
«إن رجلًا يحب الفرح والزيت والخمر لا يصير غنيًا» سفر الأمثال 21، 17).
«ستُقرِض جميع الشعوب ولن تستقرض من أحد» Deutéronome 15، 6).
«الثروة ستزين بيت الحكيم والفقر بيت الشرير».
راب (= حاخام) اليعازر كان يقول: «العادل يحب ماله أكثر مما يحب جسده».
وراب إسحق لاحظ أيضًا ما يلي: «ليكن مال الرجل دائمًا في الاستعمال».
بطبيعة الحال من الصعب الحصول على رؤية مجملة لكتلة النصوص المكتوبة والمعلق عليها في عهود وفي أقطار مختلفة. بيد أن طابع الروح التجارية يلاحظ بوضوح في هذه الكتابات معظمها. إن عمل زومبات ليس، في هذا المعنى، سوى شرح هذه الأطروحة الماركسية القائلة إن الدين هو الانعكاس الأيديولوجي لطبقة اجتماعية، ولكن زمبارت، مثل غيره من العلماء البرجوازيين، يجهد لقلب العلاقة السببية بحيث يكون الدين هو العامل الأوّلي».
ليون محق ضد زومبارت([14]). ولكن مفهوم «العلاقة السببية» يجب أن يمضي في مفهوم «الترابط الكلي» الهيغلي – الماركسي، والطبقة يجب أن لا تحجب «المجتمع». المفهوم المركزي في مؤلف ليون هو مفهوم «طبقة – أمة» أو «طبقة – شعب». هذا المفهوم ينتسب إلى مفهوم «الشعوب التجارية» التي عاشت في فُرَج العالم القديم. الفينيقيون، القرطاجيون، في العصر القديم، السوريون والعرب في العصر الوسيط «شعوب تجارية»، بأشكال مختلفة، مع التعديلات المناسبة. ولعله يجب القول بصدد ثنائية «شعب – طبقة» عن اليهود: إننا لا نرى «كثيرًا» في كتاب ليون الوجه الأول «شعب» ولا نرى بشكل كاف الدين والدين العالمي، وبالتالي الجماعة الدينية. وفي هذه الحال، لا نغطي جوهريًا تاريخ اليهود قبل القرن العاشر، لا نفهم يهود مصر الهلنستية والرومانية (لم يكونوا تجارًا بصورة خاصة، بل كانوا في المهن جميعها)، لا نفهم الإمبراطورية العباسية وإسبانيا الإسلامية، ولا نفهم تمامًا يهود القرن التاسع عشر والقرن العشرين، يهود أوربا الشرقية، يهود الييديش والفولكلور اليهودي والبوند شبه الماركسي، ويبقى فهمنا للصهيونية ناقصًا. نوعًا ما، يجب التوسع في تعيين اليهودي تاجرًا ومرابيًا إلى تعيين اليهود كـ «مجتمع» «برجوازي» أول، قابل لتغير، لجزر ومد، داخل في جملة أوسع منه لها انبساط وتطور وتاريخ. نوعًا ما، الجماعة اليهودية بنية ذات نواة، والأيديولوجيا العاكسة تنتسب أيضًا إلى النواة، هي جزء من النواة.
المفهوم الطبقي، مثل المفهومات والأطروحات والقوانين الماركسية كلها، يمكن أن يتحول من أداة للفهم ناجعة إلى ضلال كبير. في غياب الأساس المادي الجدلي: علاقة الفكر والكائن، مفهوم الشيء، وواقع الشيء، الكلي والجملة، بهذا المعنى، وضد أولئك الذين يكرهون الوصف وكلمة «الوصف»، نقول: الوصف يجب أن يكون بداية المعرفة النظرية العلمية الحقة، ويجب أن يكون نهايتها في شكل صورة الجملة العيانية المترابطة الحية.
اليهود من حيث هم (صاروا) جماعة تجارة ومال يختلفون عن «الشعوب التجارية» الأخرى أو السابقة. معرفة هذا الفرق، هذه الخصوصية، تشترط بلوغ جملة، أو لنقل بنية جامعة، بلوغ شكل تشكَّل تاريخيًا، في سياق عالمي وخارجي محدد، والأيديولوجيا داخلة في إطار هذه الجملة كعامل فاعل. هذه الجملة الخصوصية([15]) «الجديدة» لها وجه من عمومية وكلية، لها «دوام» خارج الطور الممهد للرأسمالية الحديثة. هذا وجه يكاد لا يراه أبراهام ليون، وبالأحرى نصيره العربي، جلال صادق العظم، معربه العظمي. التاريخية أكلت المادية. هذا الوجه فلسفي، إذن مثالي، هكذا يفكر بعضهم، إذن مادي، هكذا أفكر، مادي جدلي تاريخي، وهو يعيدنا إلى ماركس الشاب و«المسألة اليهودية». صادق العظم يستطيع أن يكتب (في بحث طويل) وأن يتحدث (في ندوة فكرية) عن ماركس الشاب من دون الفلسفة، عن الفلسفة والفن من دون الكلية، عن «تاجر البندقية» من دون أن يكون فنًا.
من جهة أخرى، أبدي أسفي لكون مكسيم رودنسون، المعارض بصورة مجدية للتبسيط والميكانيكية والمثالية، يهمل «المسألة اليهودية» لماركس، لا يجابه هذا المؤلَّف، بعد تحية له، بعد أن حيى «صيغة ماركس التي تقول أن اليهودية بقيت ليس رغم التاريخ بل بالتاريخ». هذه الصيغة على حد قوله، «ليست مصادرة postulation صوفية أو فلسفية ذات مصدر غير قابل للمراقبة. إنها ببساطة اشتراط نهاجي أو طريقي لكل تاريخ علمي. يجب تفسير التاريخ اليهودي بالعوامل التاريخية العادية habitueis، وهذا حتى الأذهان الدينية تستطيع أن تقبله إذا كانت تقبل الفكرة التي أكدتها منذ ألوف السنين الأديان الكبرى الكلية الكونية ومفادها أن الله يفعل بواسطة أسباب ثانية([16])» (الطبعة الفرنسية، مقدمة رودنسون، ص XI). هذا صحيح، وصحيح ما يليه (التفسير الشامل لا يمكن أن يُبلَغ إلا بوصفه asymptote أي خط معرفة يقترب إلى ما لا نهاية من منحنى الواقع في مسيرة لا تنتهي. هذا الف باء الجدل المادي، كما يصرح به إنغلز الذي يقول: asymptóte). ولكن المسألة باقية، ثمة مسألة باقية، هي التي ندعوها فلسفية. ثمة فلسفة لماركس، لماركس الشاب، لـ «المسألة اليهودية»، ولا أظن أن ماركس المؤرخ وعالم الاقتصاد السياسي رماها. «اليهودية بقيت ليس رغم التاريخ بل بالتاريخ» والتاريخ عند صاحب هذا القول يتلخص في شيء ما، في صيغة ما، هذه الضرورة ليست متروكة للمصادفات. لعل رودنسون يعتقد أنها «مصادرة». لعله يرفضها. لعله يعدها «طباق» الفكر الديني، المسيحي اليهودي، واليهودي الديني المثالي المائل بقوة إلى الصهيونية والذي يبيعنا إنسانيات دون أن يستطيع إخفاء حرجه([17])، رودنسون يقاتل ضد هذا الفكر لعله يبدد أشباحه (أشباحنا). لعله يرفض شيئًا ما في العلم، وهذا الشيء مستولٍ عليه في الأخلاق والعمل.(هذا ما أظنه بقدر ما أنا مطلع على أعماله في السنوات العشر الأخيرة: تأكيده على شعارات 1789، على السلام). اعتراضي ليس على الشطر الثاني (الاستيلاء) بل على الهوة (بين الشطرين). ضد كذا وكذا كذا، أؤيد رودنسون ضد رودنسون أقول: نعم، قول ماركس الشاب مصادرة فلسفية. ونوعًا ما: نعم، الفلسفة الماركسية، بل النظرية الماركسية بهديهية ومسلمة ومصادرة وبرهنة رياضية وجبر algébra واختبار اختباري دائم، الماركسية جدل. كلمة «مصادرة» لا تخيفني. لا أستطيع أن أستغني عن صفحة أو جملة من «المسألة اليهودية)) لماركس. لا أرى فاصلًا بين الفلسفة وعلم التاريخ. لا أعتقد أن رفض الفاصل معناه حتمًا مثالية. في «المسألة اليهودية» ماركس لا يزال مع «فلسفة التاريخ». هذا يتضمن مثالية؟ لا شك في ذلك. ولكن ثمة انقلاب على ذلك هو مثالية أخرى. الماركسية مادية جدلية، مادية تاريخية.
رودنسون قال في الصفحة الأولى من مقدمته: «من جهة أخرى، إنني لا أحب كثيرًا كلمة «مادية» التي لا يستخدمها ماركس أبدًا لتحديد موقفه في ميدان التحليل الاجتماعي – التاريخي والتي هي ملتبسة جدًا. ولكن تاريخ السيمانطيقا (علم معاني الكلمات) الأيديولوجية منذ قرن ونصف لا يقدم لنا مصطلحًا أفضل، على حد معرفتي، لتعيين ما يعارض المثالية التاريخية. شخصيًا أميل إلى تفضيل كلمة «ماركسي» ولكن ينبغي فورًا التوضيح باستبعاد وطرد عشرين نموذجًا من ماركسية أسطورية. مهما كان من أمر الكلمات يجب أن نرى ما تغطيه الكلمات» (كتاب ليون، ص V). هذا كلام مصيب؛ يصيب عشرين نموذجًا الخ، يصيب «الماركسية» التي تتصور أنها مادية لمحض تأكيدها «المادية»، «المادة»، «الوجود الاجتماعي»، «الاقتصاد» وغير ذلك. (ورودنسون مدرك أن «مادية» أفضل من «اقتصادية»). شخصيًا أحب كلمة «مادية»، ثقل كلمة مادية، ضد التاريخية بلا ثبات، ضد الفرق بلا هوية، ضد انفلات الخصوصي. ولا أرى أن هذه الكلمة إيحاء طبيعي تتعارض مع جرد الوقائع، مع ما دعوناه ضد النماذج المعنية «الوصف». مطلبي ينحصر إن صح القول في السؤال: هل هناك طابع برجوازي أو بالأصح برجوازي أول للأيديولوجيا اليهودية؟ وبخصوص الطريقة، لا أظن أن وصف طريقة ماركس أو «مادية ماركس» بأنها تجربية منسجمة enpirisme concéquent[18]* هو موقف يفي بالقضية.
-6-
الهامش الذي نقلناه عن ليون يعطينا صورة عما قصدناه بالإيديولوجيا اليهودية التي أكدنا أنها فاعلة ونؤكد على وجهها العمومي الذي يتخطى اليهودية.
ماركس، على ما يبدو، كان يصنّف العبرانيين بين «جماعات الشكل الـ antique)) أي الإغريقي – الروماني، وليس «الشرقي» أو «الآسيوي» المحيط بهم (نص Formen، أو «الأشكال التي سبقت الإنتاج الرأسمالي»).([19]) استنادًا إلى هذه الملاحظة لماركس، وإلى مؤلف إنكليزي([20])، العبرانيون يمثلون «بربرية مليئة بالحياة))، تأخذ معطيات الشعوب المجاورة الأرقى منها حضاريًا، بمثل الإغريق (إغريق طور البداية) إزاء الشعوب المجاورة. من المعروف أن هذه التراكبات تحتل مكانًا مرموقًا في فهم ماركس وإنغلز للتاريخ، في تحليلاتهم وعروضهم لشروحات من التاريخ، وأن نشوء وتكوّن الإقطاعية الغربية مثلًا لا ينبع هكذا من بطن نظام الرق الروماني وانحلاله الأخير ولا يفهم من دون لقاء هذا العالم الروماني وهذه السيرورة الرومانية مع عالم الجرمان والبربرية والمشاعية الجرمانية ومع جملة العوامل «الخارجية» المأخوذة «داخليًا». (وهذا، إذا لم تخني الذاكرة، ما قاله وأكده رودنسون في كتاب آخر). إن مهوم «العالمية»، في شكل غياب تساوي المجتمعات والأقطار والمناطق، في صورة الانتقال والنقل من منطقة إلى أخرى – هو بحسب رؤيتي – في صميم التصوّر المادي للتاريخ، وفي صميم التصور الجدلي المادي وطريقة الجدل المادي. العالمية الواقعية التاريخية مستويات ودرجات وأشكال مختلفة، ليست محصورة في العصر الرأسمالي ولو أن هذا العصر يؤسسها في شكل جديد، رأسمالي، ويضاعفها أضعافًا.
إنغلز (في رسائل 1853) يقول إن التوراة اليهودية المسيحية نسخة معدّلة عن تراث ديني، إذن، أدب (أسطورة، فن)، أخلاق وعادات الخ، وإن الثورة المحمّدية عودة إلى الأصل .. إن قصة قايين وهابيل، قصة عيسو ويعقوب، قصص الحرب الدائمة على الجيران وأوامر يهوه بالفتك الخ غنية بالمضامين اليهودية الخاصة والتاريخية الإنسانية العامة. قصة قايين وهابيل بالأصل سومرية ولكن الأسطورة السومرية تنتهي نهاية سعيدة: يتصالح الأخوان وتسود المحبة. القصة التوراتية نهايتها شنيعة، ولكن كأنها رمز التاريخ البشري اللاحق الذي يدعوه إنغلز «ما قبل تاريخ)) البشرية الذي يجب أن تمضي إلى تاريخها الحق.
التوراة انعكاس عن مجتمع العبرانيين الواقعي، انعكاس نوعي، ليس صورة فوتوغرافية، بل صورة مثالية تتخطى حالتهم. كتاب العبرانيين يمكن أن يكون «برجوازيًا» كما الحقوق الرومانية «برجوازية». ماركس وإنغلز في نصوص كثيرة([21]) كانا يعدان الحقوق الرومانية حقوقًا «برجوازية»، استباقًا anticipation للمجتمع البرجوازي، سلاحًا في يد البرجوازية والملك والمشرعين legistes ضد الإقطاعية وعالمها، ضد الأمراء والكنيسة. هناك انفصال واستقلال للأيديولوجيا – فن، حقوق، دين– عن المجتمع المولّد والمرحلة المولّدة. ماركس، في الفصل الرابع من مدخل 1857، يضع هذا المبدأ وهذه المسألة. أقول هذا المبدأ لأنني لا أرى معنى وطعمًا لـ «مادية جدلية وتاريخية» من دونه. وهذا المبدأ فاتح مسائل. هناك انفصال أو استقلال، والمجتمع المولد ليس جانبًا واحدًا وخطًا وحيدًا، وهو قائم في العالم والتاريخ، والحاضر ليس الحاضر المحض. مسألة تحديد طابع التوراة لها بعض الاستقلال عن مسألة التحديد «الأخير» لطابع مجتمع العبرانيين، وإذا كانت التحديات – مثلًا «شرقي»، «برجوازي» – متخارجة، عندئذ نخرج من إمكان الفهم.
ليس الدين اليهودي كمية مطلقة ثابتة. ليس التوراة فقط، بل التوراة والتلمود وغيرهما. التاريخ العبراني يتكوّن في مجتمع، ينقسم ((طبقيًا))، الأيديولوجيا تنقسم (صدّوقيون، فريسيون، إيسِّينيون). الانقسامات، الهرطقات، التمردات، جزء من تاريخ الشعب اليهودي ودينه، من التاريخ الطويل الذي لا ينفصل عن تاريخ الشعوب التي يعيش اليهود بينها (الشرق الأدني، العصر الهلنستي، روما والمسيحية، العالم الإسلامي والحضارة الإسلامية، أوربا المسيحية الوسيطة ثم الحديثة)، «عالم» اليهود، دينهم (فكرهم) يتلقى تأثير الإسلام والمسيحية وأرسطو وأفلاطون وفيثاغورث الخ. الوجه العالمي والأممي والإنساني في الدين اليهودي يرافق الوجه المعاكس، يغلبه عند بعض معتنقي الدين، ولعله في القرون الميلادية الأولى يغلبه عند غالبية «الشعب» اليهودي الذي ليس آنذاك «شعبًا» قوميًا بل جماعة دينية منفتحة ترفد بمئات الألوف من البشر المائلين نحو عقيدة التوحيد، ونحو «الخلاص» الذين ينتقل أبناؤهم إلى المسيحية. ولئن كان الرفض اليهودي لمسيح المسيحيين ناجمًا عند بعض القوميين المتعصبين[22]* عن انتظارهم مسيحًا سياسيًا قوميًا يهوديًا لروما، فلعل معناه عند غالبية الذين بقوا على اليهودية في العالم الذي ينهار رفضهم نهاية العالم الدنيوي القذر، إيمانهم بأن هذا العالم مستمر، وبأن العدالة والسعادة ليستا ليوم قريب. (المسيحية تنتهي إلى الإعلان بأنهما لعالم آخر، سماوي. وكل الأديان التوحيدية مسيحية بشكل وآخر)، (ولكن المسيحية تعلن الفصل والانشطار بصورة حادة)، التلمود يجب النظر إليه أيضًا من وجهة نظر قول ماركس الشاب «ضد» منطق هيغل: «المنطق مال الروح». (ونعمل أن ماركس الناضج وإنغلز ولينين يصحّحون هذا «الضدّ»، وأن هذا التصحيح يلازم المادية التاريخية والجدل).
باختصار، إن تاريخ اليهود واليهودية جدير بالاهتمام، ((لذاته)) إن صح القول. (بطبيعة الحال، هذا لن يكون «لذاته»، ليس هناك «لذاته»، لا يكون لغيره).
وعلينا نحن العرب أن ننتهي من تصوّر مفاده تقريبًا أن الصهيونية امتداد لليهودية، إذا كان مثل هذا التصور موجودًا، بقدر ما هو موجود. (هذا التصور يحبِط، في مخلوطة واسعة، عملية تحديد ما في اليهودية والدين اليهودي والتلمودية والقبالية، يمضي فعلًا وينتقل فعلًا إلى الصهيونية. أقصد على سبيل المثال: التقية العامة عند شعب بأكمله، القدرة على التظاهر في أواخر أيار 1967 بأن إسرائيل في خطر، وبالأحرى عند قيادته). الصهيونية ليست امتدادًا لليهودية، للدين اليهودي، بقدر ما هي بنت الإمبريالية وعصرها وموجوداته العالمية اللامتساوية، بنت عصر الإمبريالية الذي يحمل في قلبه مشكلات ومهمات عصر «سابق» الذي هو أيضًا عصر النازية والسيادة الأمريكية، بنت أوربا الحديثة والأحدث والاستعمار الاستيطاني والدعوة القومية. وشخصيًا، «أفهم» (وأتعاطف مع) اليهودي – اليهودي الذي يعارض الصهيونية وإسرائيل ويؤيد فلسطين العرب. أقصد: إمانويل لينين، الحاخام إلمر برغر، ولكن ربما هذا الوصف (اليهودي – اليهودي الذي..) يجب توسيعه وتشميله «اليهودي غير اليهودي»: مكسيم رودنسون، إسحق دويتشر، أوري أفنيري، وربما ناتان فاينشتوك، لسوء الحظ ليست القائمة طويلة، الشعب اليهودي الآن ليس الشعب اليهودي لزمن 1845-1945.
وعلينا أن ننتهي من لعن اليهود واليهودية الضمني، وأن ننتهي من تصور للتاريخ «أخلاقي». لسان ماركس في «المسألة اليهودية»: كلنا يهود، يجب أن ننهي هذه الحالة. «نا»، نحن = المجتمع، الدنيا، الدهرية، الزمنية، التاريخية، البذرة التي تنبسط في المجتمع البرجوازي الحديث. وأنقل عن قاموس لاروس الصغير (طبعة 1951) «عربي: من جزيرة العرب. الأرقام العربية. شعبيًا: (عربي=) مرابٍ، رجل قاس في التجارة والأعمال….». هذا الإجحاف الاستعماري بحقنا مردّه إلى يوم كنا تجارًا ومتاجرين، ولعبنا دورًا كبيرًا في الاقتصاد والتاريخ العالميين والحضارة الكونية، يوم كان «السوريون» و«العرب» و«اليهود» عوامل محرّكة في نهضة القرون الوسطى في الغرب المسيحي (فرنسا، بلجيكا، إيطاليا). التصور الأخلاقي للتاريخ ما يزال جزئيًا تصور القرن الثامن عشر. الماركسية المستندة إلى هيغل تتجاوزه في الأساس. «المسألة اليهودية» لماركس الشاب حلقة وسيطة ([23]).
اليهودية دين المتاجرة، عبادة المال، ولكن هذا يعني أن اليهودية هي الدين العملي للمجتمع المدني الناجز، الذي دينه النظري، نقيضه وتعويضه، هو المسيحية. وبالطبع إن منهجًا لا يرى في دين من الأديان الدِّينَ بوجه عام ليس منهجًا ماركسيًا. والقاعدة الأيديولوجية لأوروبا ليست اليهودية بل اليهودية المكملة المنجزة المضادة، أي المسيحية. كثيرًا ما تُدعى أوروبا «أوروبا اليهودية – المسيحية»، شخصيًا أفضل «أوروبا اليهوية – المسيحية)، مع علامة الشطر، أو «أوروبا المسيحية». في حدود وبمفردات ماركس الشاب. الدولة المسيحية الحقيقية ليست الدولة المسماة مسيحية، بل الدولة اللامسيحية واللادينية إلخ، يكون رجال القرن الثامن عشر هم المسيحيين الحقيقيين. من جهة أخرى، بمناسبة هذا القرن الثامن عشر، يمكن الإشارة إلى علاقة الإسلام مع فكرة التجارة والمجتمع المدني، إلى العنصر البرجوازي في الإسلام. وبوجه الإجمال، القرن الثامن عشر يظهر ميولًا «إسلامية» في الأيديولوجيا. «الكائن الأسمى» الفولتيري قريب من إله الإسلام، وفولتير يطعن إله المسيحية (إله يتعدد، «والمسيحيون يأكلونه») في مناسبات عدة، ولا سيما عند حديثه عن الحروب الصليبية، عن العرب، عن الإسلام. فولتير يشجب ويشرشح الحروب الصليبية، يقدم جردًا عنها، ويشجب الاستعمار الحديث. القرن الثامن عشر ثمن الشرق وحضاراته، ينفتح على العالم وعلى الكلية العالمية، وهو الذي يؤسس لأوروبا الحديثة. (هذا التثمين والانفتاح والتأسيس يواصل ويختم مسيرة أوروبية طويلة). الماركسية من دون هذه لا تفهم القاعدة الصلدة، ومن الصعب أن ننسب ماركس، وريث القرن الثامن عشر وهيغل وفويرباخ، إلى «اليهودية». ماركس يعارض المسيحية، وما سبق (ما يسبق المسيحية) فَمُتجَاوز.
إن العمل العظيم الذي قام به أبراهام ليون([24]) والمتفق جوهريًا مع خط ماركس وعلم الاقتصاد السياسي الماركسي، إن الجرد التاريخي لموقع اليهود ودورهم في طور تمهيد الرأسمالية، إن تأكيد هذا الطور التاريخي وتفريقه من جهة، ومن جهة أخرى (هي نوعًا ما الجهة نفسها)، إن الصواب الجوهري لما يقوله باور من أن سبينوزا لم يكن أو لم يعد يهوديًا حين وضع مذهبه العظيم، وأن اليهود لم يشاركوا في النهوض العظيم الذي أخذ الشعوب وفي ثورة 1789([25])، إن التمثل الضروري لمناهضة اليهودية عند عمالقة الفكر البرجوازي الثوري، هذا كله لا يجعلنا نستغني عن مسألية ماركس الشاب ومؤلفه. على النقيض من ذلك، يجب أن نسترجع ماركس الشاب والتراث الثوري السابق وبحوث الماركسيين، وأن نشملها في ملف واحد على أساس الماركسية التي هي أولًا فلسفة وطريقة.
في 1843-1846، تحتل جملة تقسيم الشغل، التبادل – الملكية الخاصة – المجتمع المدني – الانخلاع مكانًا مهيمنًا في ذهن ماركس وعمله. ونوعًا ما إن هذه الحقبة مشطورة باكتشاف أو بروز هذه الجملة، الذي يقود مباشرة إلى تخفيض منزلة مفهوم «الانخلاع» لصالح مفهوم العمل (البراكسيس) والانتقال إلى التاريخية وتأسيس المادية التاريخية وتأسيس «المشروع» الثوري علميًا، الذي يلازم أو يخالج ماركس الشاب من البداية، مثلًا في مقدمة رسالة الدكتوراه عن الفلسفة اليونانية. يمكن عد سنة 1845، (الأطروحات عن فويراخ) نقطة فاصلة (بعدها الأيديولوجيا الألمانية، قبلها العائلة المقدسة). في عام 1875 يعود ماركس إلى مسائل 1844 إيجابيًا. مع هذه العودة يجري «رد الاعتبار» لهيغل، للجدل ضد التجربة. آدم سميث «لوثر الاقتصادي السياسي»، يثمنه ماركس على أساس أنه جرَّد الشغل، الشغل المحض، المتساوي، غير المبالي تجاه تعييناته الآتية (زراعي، صناعي، تجاري)، وهو بوصفه مفهومًا ابن الصناعة والمجتمع البرجوازي، على أساس أنه أقام الشغل محض فاعلية ذاتية للإنسان، مستقلًا عن موضوعاته، الأمر الذي فتح بهذه الكلية طورًا جديدًا علميًا، في تاريخ علم الاقتصاد، في معرفة المجتمع البرجوازي والتشكيلات السابقة. وعمل آدام سميث محكوم بالمجتمع البرجوازي الحديث. وماركس يذكر الولايات المتحدة حيث يسود شعار «العمل بلا جمل» le travail sans phrase، بالفرنسية. المجتمع البرجوازي الحديث الحر، يوقعن أو يرهِّن هذا التساوي، هذه اللافرقية، هذه الهوية المحضة الكلية النظرية جدًا، القائمة على تعدد الأشغال تعددًا هائلًا، على حرية الشغل وإمكان الانتقال من عمل إلى آخر وغير ذلك، ضد القنانة وما شابه([26]) (مدخل 1857، الفصل الثالث: طريقة علم الاقتصاد السياسي). تلك عودة إلى مشكلة مخطوطات 1844، عودة إيجابية. موقف ذهني واحد نواته فكرة الشغل أو العمل، والعودة تحكم كتاب رأس المال، وتنبسط فيه.
إن تثمين العمل الإنساني وارد بصور مختلفات، ودرجات متفاوتات في الأديان الكبريات، ولا سيما في الدين التوحيدي. الدين ليس محض إلهيات، الدين بشري، والإلهي له وظيفة تسويغ البشري بعد تأكيد حدوده. العمل، الفَلاح، دعوة إسلامية (ومعه بطبيعة الحال: العقل)([27]). ولكن تثمين العمل لا يبدو غارسًا جذوره في الشعوب الإسلامية، بما فيها شعب بنغلاديش في مرآة رينه دومون Rene Dumont (على حد قول الخبير: في بعض قرى بنغلادش مئات الشباب يحملون شهادة البكالوريا ويمدون أرجلهم، لا يعملون شيئًا وليس لهم ما يعملونه مع أن في القرية وفي كل قرية مئات الأعمال يمكن ويجب أن تعمل، ولكن ما عسانا أن نقول أو أن نفعل إذا كان العمل لا يثمن في ذهن الناس، في حياتهم ومعيشتهم، في الوعي والوجود الاجتماعيين؟). وفكرة الشغل تقابلها فكرة الراحة. إن فكرة الراحة السبتية اليهودية، الراحة المطلقة المقدسة في اليوم المذكور، مع نتائجها الطبيعية: تحايل على الشريعة الإلهية، تشغيل الغير لصالح اليهودي الذي يعد أنه بذلك لا يخالف الشريعة، (حيث الغير ليس الأنا، والشعوب موجودة لخدمة الشعب ورسالته السماوية الخ)، كل هذا الأمر الذي يمقته برونو باور بحق ويسهب في محاربته، إن هذا الموقف لليهودية التي هي شريعة السبت ودين السبت، هو كاريكاتور الانفصال الطبيعي أو الضروري بين العمل والراحة الذي يميز المجتمع البرجوازي. مجتمعاتنا «الشرقية» مع الجمع والخلط. العمل الحر والحكومي يأتي إلى المقهى وخصوصًا المقهى يأتي إلى العمل، أصحاب الدكاكين يعملون في الأيام كلها ولا يعملون كثيرًا، الفلاح بلا عطلة وثلاثة أرباع شهوره شبه عطلة.
رجوعًا إلى زومبارت، وليون، ورودنسون، وإلى ماركس الشاب، آدم سميث وهيغل، وماركس 1857-1867، رجوعًا إلى مسألة يهودية البرجوازية وبرجوازية اليهودية:
اليهودية = المال وتشغيل المال. ولكن «كان يجب» الانتقال من تشغيل المال إلى الشغل. المجتمع البرجوازي الصاعد يحقق هذا الانتقال، ضد عبادة المعدن الثمين، بالفيزيوقراطية (الشغل الزراعي)، وضد الفيزيوقراطية بالشغل، بتجربة الشغل المحض، فاعلية الإنسان الذاتية. هذا الذي يحصل في مجال العلم في القرن الثامن عشر، يتفق نوعًا ما مع أيديولوجيا فرنسا وإنكلترا وشمال غربي أوروبا، بخلاف إسبانيا والبرتغال والمغرب والمشرق والعثمانيين، ومع أيديولوجيا البرجوازيات القومية منذ القرن الثالث عشر (في حديثنا نوع من تعادل بين أمم وطبقات وأزمنة تاريخية). وهذه البرجوازيات مناهضة لليهودية واليهود. هذا «البرجوازي الحديث» (نقصد هذا العنصر، هذا الموقف) مسيحي، مسيحي لوثري، آنتي- مسيحي. يتخطى اليهودية التي تبدو بالمقارنة «شرقية» (جزئيًا). «البرجوازي الحديث» يكتشف الإنسان، الإنسان = الشغل. تقسيم الشغل، التبادل، تابع لازم (= المجتمع). وهو يصير حكمًا تبادل([28]) السلع، إذن المال، التجريد الكلي. «البرجوازي الأول» يصير البرجوازي الأخير. البرجوازي ينقلب ضد الإنسان. الذي يسود هو الانفصال بين النظر والعمل، بين العقل المحض والعقل العملي، بين العلم والأخلاق.
من الصعب، في رأس المال مثلًا، حصر النصوص التي تمت بصلة لمسألتنا أو مسائلنا.
ننقل عن إبراهام ليون[29] هذا النص البالغ الأهمية، يقول ليون: «إن المجتمع الإقطاعي، المرتكز على إنتاج القيم الانتفاعية، و«الرأسمالية» في شكلها الأولي التجاري والربوي، لا يتطاردان بل يتكاملان»، ثم ينقل قول ماركس: «إن التطور المستقل والمهيمن للرأسمال كرأسمال تجاري يتفق مع منظومة إنتاج فيها لا يلعب الرأسمال أي دور. ومن هذه الناحية يمكن القول أنه في تناسب عكسي مع التطور الاقتصادي للمجتمع … طالما يؤمِّن الرأسمال التجاري تبادل منتجات جماعات قليلة التطور، فهو يحقق ليس فقط في الظاهر بل أيضًا بشكل دائم تقريبًا في الواقع أرباحًا مبالغة وفيها تحايل أو سرقة. لا يكتفي باستثمار الفرق بين تكاليف الإنتاج لبلدان مختلفة، دافعًا بذلك إلى تسوية [مساواة] قيم السلع، بل يستملك أيضًا القسم الأكبر من فضل القيمة. يصل إلى ذلك بكونه وسيطًا بين الجماعات التي تنتج بالدرجة الأولى قيمًا انتفاعية والتي بالنسبة لها بيع هذه المنتجات بقيمتها أمر ذو أهمية ثانوية، أو بتعامله مع أسياد الرقيق أو الأسياد الاقطاعيين أو الحكومات الاستبدادية التي تمثل الثروة المتمتِّعة jouisseuse»([30]). بينما الرأسمال التجاري أو المصرفي الحديث ليس، من الوجهة الاقتصادية، سوى ملحق للرأسمال الصناعي ولا يستملك سوى جزء من فضل القيمة المخلوقة في سير الإنتاج الرأسمالي، فإن الرأسمال التجاري والربوي يحقق مكاسبه باستثمار فرق تكاليف الإنتاج في البلدان المتخلفة، باستملاكه قسمًا من القيمة الزائدة التي ينتزعها الأسياد الاقطاعيون من أقنانهم.
دور اليهود يندرج في هذا الإطار. يقول ليون[31]: التاجر اليهودي لا يوظف المال في الإنتاج كما سيفعل، بعد قرون، تاجر المدن الكبرى في القرون الوسطى، إنه لا يشتري موادَّ أوليةً، لا يمول حرفيي صناعة الجوخ. رأسماله التجاري ليس سوى الوسيط بين إنتاجات هو لا يهيمن عليها ولا يخلق شروطها، محيلًا إلى كارل ماركس، رأس المال، الكتاب الثالث، متابعًا: «بالتجارة يرتبط الإقراض بالفائدة، الربا» .. «إن كنز المرابي هو إذن لا غنى عنه لمجتمع قاعدته الاقتصاد الطبيعي»[32]، وخلاصة مجادلة ليون ضد زومبارت([33]): «من غير الصحيح إذن أن نرى في اليهود مؤسسي الرأسمالية الحديثة. بالتأكيد ساهم اليهود في تطور الاقتصاد التبادلي في أوربا، ولكن دورهم الاقتصادي الخاص النوعي ينقطع بالضبط حيث تبدأ الرأسمالية الحديثة».
هذا واضح، صحيح، وفي خط الماركسية. لا أظن أنه يحل وينهي المسألة. «الرأسمالية الحديثة» بالتأكيد! ولكن أظن أن هناك هوية أطول. التاريخ الكوني الواقعي كان، بحسب مناطق العالم وأطوار التاريخ، إما مسيرة انتصار الملكية الخاصة المطلق أو ميلًا إلى انتصارها يعوِّق بكذا وكذا. وبالطبع، «اليهودية» لا تستنفد الوجه الأيديولوجي، ولكن يجب أن تُدرَج فيه، إن مسألية الرأسمالية والمسيحية والبروتستانتية (لوثرية، كالفينية، بيوريتانية) واليهودية، مسألية فيبر وزومبارت وماركس وماركس الشاب، قائمة، أساس، وتتخطى ما يمكن أن ندعوه العرض التاريخي المحض. قد يفكر الإنسان (مثلًا العلامة الكبير، ماكسيميليان روبل([34])، في بعض ملاحظاته أو هوامشه) أن ماركس الشاب وآخرين في أواسط القرن الماضي كانوا يقيمون تعادلًا خاطئًا بين «اليهود» والرأسمال الصيرفي والمصرفي، كانوا يعدون الرأسمال المالي يهوديًا والرأسمال المالي اليهودي حاكمًا ومهيمنًا، وأن هذا ما يعلل موقف ماركس الشاب في «المسألة اليهودية». أظن أن هذا التفكير خاطئ، جزئيَّا، وأن رجالًا من طراز روتشيلد، فولد Fould، كريميو Crémieux، وآخرين، لهم (منذ ذلك الحين وإلى يومنا) دور وسلطة.
«المسألة اليهودية» عمل لماركس الشاب، كتبه في أيلول 1843. ونشره في الحوليات الفرنسية الألمانية في أوائل 1844. هذا العمل ليس تاريخ. المسألة اليهودية، ليست تاريخًا، ليست علم اقتصاد إلخ. الماركسية ليست مكوّنة بعد ولا مؤسَّسة. يمكن إذن استنادًا إلى هذه الحقيقة أن نرمي العمل المذكور، ولكن هذا التصرف حماقة معناها فصل الماركسية عن نشوئها، عن شخص ماركس، عن مصادرها([35])عن مشكلتها الفلسفية والإنسانية والكلية التي تتعين في طور تاريخي محدد. بدلًا من هذه الحماقة يجدر بنا أن نتأمل حقيقة أن إحدى أهم حلقات نشوء الماركسية مؤلف صغير عنوانه «المسألة اليهودية» أو «نقد المسألة اليهودية».
العلامة الكبير ماكسيميليان روبل، في المرجع المذكور آنفًا([36])، من المقدمة، يلخص كتاب ماركس على النحو الآتي: «1833.. أيلول: .. وكان ماركس يريد أن يقطع مع ماضيه السياسي كمدافع عن دولة مثالية، ماركس يتذرع بمؤلفين لبرونو باور ويحرر محاولة في جزأين بعنوان «حول المسألة اليهودية. في معارضة الانعتاق السياسي، الذي مثله مثل الدين، لا يحرر الإنسان، ماركس يضع كهدف الانعتاق الإنساني الذي لن يُبلَغ إلا بحذف الدولة والمال. ستنشر هذه المحاولة بعد شهور قليلة في باريس في الحوليات الفرنسية الألمانية». تلخيص ممتاز. حذف الدولة والمال سيبقى جزءًا لا يتجزأ من ماركس.
بصدد مشكلة الرأسمالية والمسيحية والبروتستانتية واليهودية وغيرها، لا بأس من التذكير بأن ماكس فيبر أكد وبسط أطروحة الأصول البيوريتانية للرأسمالية (بيوريتانية = بروتستانتية طهرية تزمتية إلخ)، وبأن العلاقة بين الرأسمالية والبروتستانتية (كلها، وليس فقط الكالفينية، بل أيضًا بصورة أخرى اللوثرية التي تقف على يمينها) قائمة عند ماركس([37])، وأن زومبارت يدعي تعميق فكرة فيبر، زاعمًا بأن العناصر المهمة في العقيدة البوريتانية، الطهرية، مستعارة من دائرة أفكار الدين اليهودي([38])، «متجاوزًا الحد»، خالطًا الصواب والخطأ. المسألة غير منتهية. روبل يذكر أن Tawney في كتابه «الدين وصعود الرأسمالية» 1926، عارض ماركس وفيبر زاعمًا أن الكاثوليكية أسهمت أكثر من البروتستانتية في انطلاق الاقتصاد الرأسمالي.
من المفيد أن نثبت هنا النص الرئيس لماركس([39]):
«العالم الديني ليس إلا انعكاس العالم الواقعي. إن مجتمعًا فيه منتوج الشغل يتخذ بوجه عام شكل سلعة، وفيه بالتالي العلاقة الأعم بين المنتجين هي مقارنة قيم منتجاتهم، وتحت هذا الغلاف – أشياء – مقارنة أعمالهم الخاصة بعضها ببعض على أنها عمل بشري متساو، إن هذا المجتمع يجد في المسيحية، مع عبادتها للإنسان المحض، وخصوصًا في أنماطها البرجوازية، بروتستانتية، إلهوية deisme([40]) إلخ، التكملة الدينية الأكثر ملاءمة. في أنماط إنتاج آسيا العريقة، في العالم القديم Antiquité عمومًا، إن تحول المنتوج إلى سلعة لا يلعب سوى دور تابع وإن كان هذا الدور يزداد أهمية مع سير اقتراب هذه الجماعات من انحلالها. إن شعوبًا تجارية بالمعنى الحقيقي ليست موجودة إلا في فُرَج العالم القديم، على طريقة آلهة إبيقور أو مثل اليهود في مسامات المجتمع البولوني. هذه العضوية الاجتماعية القديمة هي، تحت زاوية الإنتاج، أبسط بما لا يقاس وأكثر شفافية بكثير من المجتمع البرجوازي. ولكن لها كقاعدة غياب نضج الإنسان الفردي الذي التاريخ لم يقطع بعد، إن صح القول، الحبلَ السُّريَّ الذي يربطه بالجماعة الطبيعية أو الاشتراك الطبيعي لقبيلة بدائية، أو شرط استبداد ونظام رق. إن درجة التطور المتدنية لقوى الشغل الإنتاجية، الدرجة التي تطبع تلك العضويات الاجتماعية وبالتالي تطبع دائرة الحياة المادية. ضيق علاقات البشر، سواء فيما بينهم، أو مع الطبيعة، ينعكس مثاليًا في الأديان القومية القديمة. بوجه عام، إن الانعكاس الديني للعالم الواقعي لا يمكن أن يزول إلا حين شروط الشغل والحياة العلمية ستقدم للإنسان علاقات شفافة وعقلانية مع أقرانه ومع الطبيعة. إن الحياة الاجتماعية، التي يؤلف إنتاجها المادي والعلاقات التي يتضمنها قاعدتها، لن تتحرر من الضباب الصوفي، الذي يحجب هيئتها إلا في اليوم الذي سيتجلى فيه عمل بشر متشاركين بحرية، فاعلين بشكل واع، وأسياد حركتهم الاجتماعية، ولكن هذا يقتضي في المجتمع مجموعة شروط وجود مادي لا يمكن أن تكون سوى نتاج تطور طويل وأليم».
ويقول ماركس في فصل آخر([41]):
«بالتعارض مع النبالة الإقطاعية، التي تركض بلا صبر إلى التهام أكثر مما تملك[42]**، عارضة ترفها وخدمها الكثيرين والكسولين، كان إذن على الاقتصاد السياسي البرجوازي أن يبشر بالادخار [التراكم] بوصفه أول الواجبات المدنية الوطنية وأن لا يمل من التعليم والوعظ بأنه من أجل الادخار يجب أن يكون المرء حكيمًا، أن لا يأكل كل دخله، بل أن يخصص قسمًا جيدًا منه لتجنيد شغيلة منتجين، يعطون أكثر مما يأخذون. كان عليه أيضًا أن يكافح الحكم المسبق الشعبي، الذي يخلط الإنتاج الرأسمالي مع كنز المال، ويتصور أن الادخار معناه إما خطف الموضوعات التي تؤلف الثروة، من الاستهلاك، أو إنقاذ المال من مجازفات التداول. والحال، إن وضع المال تحت مفتاح هو الطريقة الأكفل لعدم رسملته». هذا الذي هو لحم الماركسية وعظمها «يبعدنا» عن ماركس الشاب وعن برونو باور، وليس بكل المعاني. فهو بحسب ما رأينا يتعامل مع «اللاهوت». ولعله من المفيد، كي نفهم موقف الفكر البرجوازي الثوري من (ضد) اليهودية، موقف القرن الثامن عشر، وهيغل وخلفائه: باور، فويرباخ، ماركس الشاب،، ولا سيما معارضة باور لليهودية، أن ننقل هذا النص اللاهوتي لهيغل، لهيغل الشاب، المأخوذ من «حياة يسوع» (1795): «العقل المحض، متجاوزًا كل حد، هو الألوهية عينها. إذن حسب العقل مخطط العالم منظم جوهريًا. العقل هو الذي يعلم الإنسان معرفة مصيره، هدف حياته المطلق […].
بين اليهود، يوحنا هو الذي جعل البشر من جديد منتبهين إلى هذه الكرامة التي هي كرامتهم، الكرامة التي يجب أن لا يعتبروها آتية إليهم من الخارج، بل عليهم أن يبحثوا عنها في أنفسهم ذاتها، في أناهم الحق […]. إن تطور العقل هو المصدر الوحيد للحقيقة وللتهدئة، المصدر الذي لم يدَّع يوحنا أنه يمتلكه دون الآخرين أو كشيء نادر، بل الذي يستطيع كل البشر أن يجعلوه يتدفق في أنفسهم.
ولكن المسيح نال استحقاقات أكبر لأن حسَّن مبادئ البشر المفسدة ولأنه عرَّف بالأخلاق الحقيقية وبعبادة الله المستنيرة.
المكان الذي ولد فيه هو قرية بيت لحم في اليهودَة. أبواه يوسف ومريم، الأول كان ينسب نفسه إلى سلالة داود حسب عادة اليهود الذين كانوا يعلقون ثمنًا كبيرًا على أشجار العائلة.
في ساعات تأمله في العزلة، تساءل يومًا ما إذا لم يكن جديرًا بالعناء أن يسعى بدراسة الطبيعة وربما بالتفاهم مع أرواح عليا وراء الوصول إلى تحويل مواد أقل نبلًا إلى مواد أكثر نبلًا، يستخدمها البشر مباشرة – مثلًا تحويل حجارة إلى خبز، أو بشكل عام أن يسعى وراء الاستقلال إزاء الطبيعة (أن يرمي نفسه إلى تحت). ولكنه رفض هذه الفكرة، معتبرًا الحدود التي فرضتها الطبيعة على سلطة الإنسان عليها، بل ومعبرًا أنه دون كرامة الإنسان أن يطمح إلى سلطة كهذه. لأنه يملك في نفسه قوة أعلى من الطبيعة بكثير، قوة يؤلف بسطها وتحسينها هدف حياته الحقيقي […].
ولما كانت أعياد الفصح تقترب من جديد، ذهب يسوع هو أيضًا إلى أورشليم. أثناء مكوثه هناك، اعتبر اليهود فضيحة كبيرة كونه ذات مرة أسدى خدمة لمريض فقير يوم السبت. رأوا في ذلك انتهاكًا لهذا اليوم المقدس وغرورًا مدعيًا بموجبه لا يعتبرعد صاحبه إجباريةَ وصيةٍ أملاها الله نفسه، وبموجبه يأخذ لنفسه حقًا هو ملك لله وحده ويعتبر سلطته مساوية الإله. فأجابهم يسوع:
«إذا كنتم تعتبرون أنظمتكم الكنسية ووصاياكم الوضعية القانونَ الأسمى المعطى للإنسان، فأنتم بذلك تنكرون كرامة الإنسان والسلطة التي فيه بأن يستخلص بنفسه مفهوم الألوهية ومعرفة إرادة هذه الألوهية. هذا الذي يدعوه الإنسان أناه، هذا الذي به فوق القبر والتفسخ، وهذا الذي به سيعطي نفسه الثواب المستحق، هو قادر على أن يحكم على نفسه. هذا الأنا ينكشف بوصفه العقل الذي تشريعه لا يتوقف على شيء، الذي ما من سلطة في الأرض أو في السماء تستطيع أن تعين له مقياسًا آخر للحكم. هذا الذي أعلمه، لا أعلنه بوصفه فكرتي وملكي، لا أطلب من أحد أن يقبله استنادًا إلى سلطتي إذ أنني لا أبحث عن مجدي. أضع وأخضع تعليمي لنقد العقل الكلي الكوني الذي سيقدر كل واحد على إيمان به أو لا. لعلكم تعتقدون أن الألوهية ألقت في العالم بالجنس البشري، تركته للطبيعة، بدون أي قانون، بدون أي وعي للهدف الأخير لوجوده، بدون إمكانية أن يجد في نفسه كيف يستطيع أن يسر الألوهية؟ لعلكم تعتقدون أنها مسألة حظ أن معرفة القوانين الأخلاقية التي تكون أعطيت لكم وحدكم، لهذا الركن من الأرض، لا يدري أحد لماذا، وحدكم من بين جميع أمم الأرض؟ إن ضيق رؤوسكم هو الذي يجعلكم تتخيلون ذلك. أنا أقف فقط مع صوت فؤادي ووعيي. من يصغي بانتباه إلى هذا الصوت الحق تنيره الحقيقة التي في هذا الصوت. الإصغاء إلى هذا الصوت هو الشيء الوحيد الذي أطلبه من أتباعي. هذا القانون الداخلي قانون للحرية، القانون الذي يعطيه الإنسان لنفسه ويخضع له بحرية. إنه أزلي. فيه عاطفة الخلود..»[43]*.
هذا الموقف الهيغلي، هو الخط «الأوروبي» (سقراط، أرسطو، الرواقية، المسيحية، ديكارت، سبينوزا، الثورة الفرنسية، كانط، فيخته، هيغل، فويرباخ) قليل «اليهودية». فويرباخ يدعو سبينوزا «موسى المفكرين الأحرار»، في الوقت الذي فيه يقول باور أن سبينوزا لم يعد يهوديًا حين وضع كتابه الأثيقا. لعله بالأحرى يجب القول: المسيح وماركس وقبلها موسى وسبينوزا يهود منشقون، يهود مناهضون لليهودية، أجل هذا قول «مثالي»، ولكني أرى في قوله بعض الفائدة. من دون الخط الأوروبي المذكور، ومن دون المثالية المطلقة لهيغل، لا أظن أن هناك مادية كاملة.
وليس عبثًا أن ماركس «بدأ» مرددًا قول أبيقور «ليس الكافر من يحتقر آلهة الجمهور بل من يؤيد فكرة الجمهور عن الآلهة»، رافضًا كل آلهة السماء والأرض الذين لا يعترفون بالوعي (الوجدان) الإنساني إلهًا أعلى، معلنًا أن بروميتيوس هو أول قديس وأول شهيد في التقويم الفلسفي.. (مقدمة رسالة الدكتوراه عن الفرق بين فلسفتي ديموقريط وإبييقور).
-8-
يقول برونو باور في الصفحة الأخيرة من مؤلفه المسألة اليهودية:
«إن كذب السفسطة اليهودية علامة أكيدة على أن اليهودية تسير هي أيضًا نحو حلّها.
ولكنها أيضًا وضعية كاذبة حين عن اليهودي، في النظرية، تُحفظ الحقوق السياسية، بينما في العمل هو يملك قوة هائلة ويمارس بالجملة نفوذه السياسي المنقوض بالمفرّق. اليهودي، الذي مثلًا في مدينة فينا ليس إلا مسموحًا به، يقرر بقوته المالية كل مصاير الإمبراطورية. إن يهوديًا، قد لا يكون له أي حق في أصغر دويلة ألمانية، يقرر مصير أوروبا. بينما طوائف الحرف ونقاباتها المحلفة تغلق نفسها في وجه اليهودي أو هي لا تقبله بعد، فإن جسارة الصناعة تهزأ من عناد المؤسسات الوسطوية [مؤسسات العصور الوسطى] …».
ماركس يثني، يردد هذا المقطع، ينطلق منه.
يقول ماركس الشاب: «نحن نتعرف إذن في اليهودية على عنصر مناهض للمجتمع، عام وراهن، عنصر دفع بالتطور التاريخي الذي ساهم فيه اليهود مساهمة نشيطة تحت هذه العلاقة السيئة، إلى ذروته للزمن الحاضر، إلى ارتفاع لا يستطيع فيه إلا أن ينحل. في دلالته الأخيرة، الانعتاق اليهودي قوامه عتق البشرية من اليهودية. اليهودي انعتق من الآن، ولكن بطريقة يهودية». هنا ينقل ماركس قول برونو باور الذي أوردناه قبل قليل، ويضيف مباشرة: «هذه ليست واقعية معزولة. اليهودي تحرر بطريقة يهودية ليس فقط بأن جعل نفسه سيد السوق المالي بل لأنه، بفضله وبواسطته، صار المال قوة عالمية وصارت الروحُ العملية اليهودية الروحَ العملية للشعوب المسيحية. اليهود انعتقوا بقدر ما المسيحيون صاروا يهودًا». ثم يبسط ماركس نقلًا عن بومون الوضع التجاري للدين في أمريكا الشمالية. ويعارض دعوى باور «وضعية كاذبة»، يعمق المسألة ماديًا، «التناقض الموجود بين سلطة اليهودي السياسية الواقعية وحقوقه السياسية هو التناقض بين السياسة وسلطة المال. نظريًا السياسة فوق سلطة المال، عمليًا صارت أسيرته المطلقة» ثم يقول: «… اليهودي الموجود كعنصر خاص في المجتمع البرجوازي إنما يمثل بصورة خاصة يهودية المجتمع البرجوازي». وهنا يقول: «اليهودية بقيت ليست رغم التاريخ بل بالتاريخ». ثم يأتي تحليل ماركس الشاب للدين اليهودي: قاعدته هي الحاجة العملية، هي الأنانية، وحدانية اليهودي هي بالواقع شرك الحاجات المتعددة، الحاجة العملية، الأنانية، هي مبدأ المجتمع البرجوازي، وهي تتجلى على أنها كذلك في شكلها الخالص ما إن يكون المجتمع البرجوازي قد أنجب تمامًا الدولةَ السياسية. إله الحاجة العملية والأنانية هو المال، المال إله إسرائيل الغيور، المال يخفِّض كل آلهة البشر ويحولها إلى سلعة، المال هو القيمة العامة والمكونة في ذاتها للأشياء كلها، إله اليهود تزمن، وصار الإله العالمي. «إن قانون اليهودي، القانون الذي لا أساس له ولا عقل، ما هو سوى الكاريكاتور الديني للأخلاق والحقوق التي لا أساس لها ولا عقل، الطقوس محض الشكلية التي يحيط بها نفسه عالمُ الأنانية. إن الجزويتية اليهودية، عين الجزويتية العملية التي يبرهن باور على وجودها في التلمود، هي علاقة عالم الأنانية مع القوانين التي تهيمن على هذا العالم والتي يضع هذا العالم فنه الرئيسي للتحايل عليها».
نترك للقارئ أن يطالع النص بتمامه. لا أعتقد أن كلام ماركس الشاب و«المثالي» فقد راهنيته وواقعيته. بعض المسائل التي يلمسها ماركس الشاب رماها الماركسيون، المحللون، المؤرخون. وضوحًا إن مسألية ماركس الشاب أوسع من مسألية أبراهام ليون وآخرين. وضوحًا، أطروحة «إن اليهودية بقيت ليس رغم التاريخ بل بالتاريخ» لها سياقها، والتاريخ ليس متروكًا لمصادفات. استرجاع المسألية المذكورة ضروري على أساس الماركسية التي هي مادية جدلية تاريخية، وليست اقتصادوية طبقوية ولا تجربية متلاحمة.
إن المسألة اليهودية المنشودة بوصفها بحثًا ماركسيًّا شاملًا هي دراسة تاريخية بالضرورة([44])عن اليهود (بدءًا من العبرانيين)، الدين والشعب والطبقة والطبقات، في إطار العالم وتاريخه، تسعى إلى الإحاطة بموقع اليهود الاقتصادي والأيديولوجي والسياسي، تأخذ في حسابها عدم تساوي وتماثل الجماعة([45])، انقسامها، تحولها، وصولًا إلى الوضع الحاضر.
لا أظن أن التطور الحديث والأحدث ذوّب «الرأسمال اليهودي» في «الرأسمال العام». لا أظن أن حديث نفوذ وسلطة اليهود والصهيونية اليهودية في هذا البلد الرأسمالي وذاك هرطقة ضد الماركسية. أجل هناك تبسيط شعبي، مخلوطة عامية. وهناك تركيبات أيديولوجية يمينية، نازية وغير ذلك، ولكن روتشيلد مثلًا ليس اختراعًا من الذهن الشعبي، وإن هذا الرمز للمنظومة الرأسمالية في مقدمة إنغلز لطبعة 1892 لكتابه «حالة الطبقة الكادحة في إنكلترة» كان أيضًا ممول الهجرة إلى فلسطين وهو اليوم يستخدم نفوذه الصهيوني في باريس وعواصم أخرى. بالطبع، ليس هنا موضع عرض الوقائع، جرد القضية. هناك عشرات الكتب، بالعربية، عالجت قضية الصهيونية وموقعتها. بعض هذه الكتب جيد تمامًا. أحب أن أشير إلى أن القضية يجب أن تدرس أيضًا، ونوعًا ما خصوصًا، من وجهة لقاء الإمبريالية والصهيونية والثقافة والأيديولوجيا، على أساس وظيفة ماكينة الأيديولوجيا الراهنة، آلة تكييف البشر (سينما، تلفزيون، راديو، أدب بأنواعه، صحافة) لصالح الرأسمالية والإمبريالية والصهيونية و«نمط الحياة الأميركي»، وموقع المثقف اليهودي «شبه» التقدمي أو التقدمي الزائف في هذه الماكينة، وموقع «اليساري» اليهودي على الخطوط القائمة في واقع العصر والصراع السياسي والاجتماعي الأكبر في تاريخ البشرية.
ملاحظة أخيرة:
في 1843، كان المشروع الصهيوني قيد الطبخ والنضج عند نفر من الناس. بعد طرد إبراهيم باشا من بلاد الشام على يد بريطانيا العظمى وحلف الدول العظمى والخليفة العثماني وحلف عدد من الطوائف في لبنان، كتب بالمرستون إلى سفيره في الآستانة يدعوه إلى أن يوصي السلطان بتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين ضد خطر عودة محمد علي أو أحد خلفائه (1841). قبل ذلك، جرى تمهيد متنوع، فكري وتنظيمي، في أوساط أدبية ولاهوتية (الكنسية الإنجليكانية)، وانضم إليه ملك بروسيا وبعض رجال الكنسية اللوثرية البروسية. هذه القضية في وجوهها كلها، ولاسيما في وجهها الكنسي واللاهوتي، غطاها الأب حجار في كتابه العظيم: أوروبا ومصائر الشرق الأدنى (1815-1848): الوحدة العربية، الإرساليات المسيحية، المسألة السورية – الفلسطينية والسورية اللبنانية، بالفرنسية، 1970، 634 صفحة. على حد علمي، هذا الكتاب لم ينقل بعد إلى العربية.
في بحث برونو باور، سيجد القارئ أكثر من تلميح عن هذه النقطة التاريخية من زاوية اللاهوت ونقد اللاهوت.
- () انظر أوغست كورنو: كارل ماركس وفريدريك إنغلز، دار الحقيقة. ↑
- () يجب أن «نفهم». التعليل بالجهل، بالباطل، بالوسواس، بالخوف، بالخداع، لا يكفي. ↑
- () الاعتقاد المذكور كان عامًا. وفولتير (ق18) أفاض في إظهار لا معقولية قصص التوراة. درءًا لما لا يحمد عقباه، كان يضيف: صحيح أن كل تاريخ شعب إسرائيل إعجاز. دخلاته في التوراة جزء من نقده للمسيحية، ولكنه عدا ذلك، يهاجم يهوه وشعبه (لذاتهما) إن صح التعبير، يدين هذه الحرب الدائمة، هذه الأوامر بإبادة الشعوب المجاورة، وبإبادة المنشقين داخل شعب الله. ↑
- () انظر ماركس وإنغلز: حول الدين، دار الطليعة. ↑
- * الفصل الأول: السلعة، الفقرة ع: الطابع التميمي للسلعة وسره. ↑
- ** المسألة اليهودية لماركس يمكن أن تعنون: دراسة في (ضدّ) المجتمع المدني – البرجوازي والانخلاع. ↑
- () اليهودي الذي كان حلقة بين فويرباخ وماركس في المسيرة الفكرية الحاسمة، ثم انقلب مفكرا صهيونيًا. ↑
- () أول مقالات الكتاب. هذا المقال مقدمة لكتاب جاك ميري: دعوا شعبي يمر 1948. ↑
- * الدين la religion. خصوصية اليهودية لا تحذف عموميتها. اليهودية هي دين، الخاص هو عام. ↑
- () والمثقفون اليهود التقدميون في ألمانيا، زمن الحلف المقدس والثورة الديمقراطية ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، يفتحون أفضل طور في تاريخ «الأمة اليهودية، الأمة الأكثر تعرضًا للاضطهاد أو المطاردة»، بحسب عبارة لينين في 1913، الطور الذي تميز بغلبة العناصر الديمقراطية والكلية والأممية في الثقافة اليهودية وبنسبة اليهود العالية في الحركات الثورية (على حد تصريح لينين): ألمانيا الفتاة، هاينه، ستيفن بورنه، ماركس، لاسال، روزا لوكسمبرغ، يوغيشه، ه دانيلسون، آكسلرود، البوند، ماركوف، تروتسكي، زينوفييف، باومان، بيلاكون، كرت آيزنر، جورج لوكاكش، آنا باوكر وسلانسكي وياكوب برمان وموشه بياده والثلاثي أو الرباعي الستاليني المجري (راكوشي، جيرو، فركاش، ريفاي) … وفي الوطن العربي: يعقوب صنوع، داود حسني، الشيوعيون اليهود في المشرق والمغرب.بصرف النظر عن أخطائهم، بصرف النظر عن تشخيصهم في الثورة بشرًا ويهودًا، عن أمور أخرى محتملة بالنسبة إلى بعضهم – هذا كله جدير بالدراسة – هؤلاء انخرطوا في العالم والأمم، (لسوء الحظ، بعضهم انخرط في العالم بلا أمم) انخرطوا في «المسيحية» أو المسيحية المضادة (حاملين نفسًا مسيحيًا خلاصيًا، جدير بالتثمين والنقد).هذا الطور انتهى. فيه بدأ الطور الصهيوني (الذي سلفه هس) داخل طور الإمبريالية والثورة الاشتراكية العالمية في التاريخ الكوني. ↑
- () عماد نويهض. ↑
- () نقل شرح Valentinois بدلًا من Valentinien. ↑
- () هذه الملاحظة لليون، هذه الفكرة الأساسية في كتابه، تتخطى ماركس الشاب. هذا التخطي في اتجاه التاريخية ضروري، بديهي، ولكن لا يجوز أن يكون حذفًا، إلقاءً. ↑
- () انظر أيضًا مجادلته ضد وزمبارت، ص107-111 من الطبعة الفرنسية. ↑
- () وبدون قضية الزواج داخل الجماعة، بدون الطابع الديني – القومي العرقي، تفقد المسألة وجهًا أساسيًا. ↑
- () الله هو السبب الأول، فكرة أنه يفعل بواسطة أسباب ثانية تشرع دراسة هذه الأسباب عقلانيًا وضعيًا إلخ. هذا إلى حد كبير موقف بوسويه Bossuet ضد القديس أوغسطين. ↑
- () نموذد هذا الفكر الأخير: اندريه شوراتي: تاريخ اليهودية P.U.F. سلسلة «ماذا أعلم؟» ولا يستطيع إخفاء حرجه أمام مصير البشرية الحاضرة أمام المستقبل. ↑
- * أقصد موقف ماكسيميليان روبل ص 1677 من طبعة la pléiade، كارل ماركس: المؤلفات، الاقتصاد، الجزء الأول. ↑
- () بحسب كتاب Pelletier et Goblot، المادية التاريخية وتاريخ الحضارات، 1969،Ed. Sociales، باريس، ص 2190. ↑
- () جورج تومسون: دراسات عن المجتمع الإغريقي القديم، لندن 1955. ↑
- () إنغلز: انحطاط الإقطاعية وصعود البرجوازية، ماركس: مدخل 1857. ↑
- * رافضي السلام الروماني، بعكس الشعوب معظمها، بعكس شعب بلاد الغال Gaule الذي اختار السلام بعد الحرب. انظر مقدمة رودنسون. ↑
- () حلقة وسيطة بين هيغل وماركس، ضد فكرة القطيعة، عند ألتوسير. (المحرر) ↑
- () أبراهام ليون، (1918 – 1944) مؤلف كتاب “المفهوم المادي للمسألةاليهودية”(1942)، تقديم أرنست ماندل وتعقيب مكسيم رودنسون وناثان وينشتوك، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1973. وكتاب التفسير الماركسي للمسالة اليهودية، والأرجح أن الياس مرقص يحيل على الكتاب الثاني.(المحرر) ↑
- () بحسب هتلر وروزنبرغ وبحسب اليمين المناهض للسامية، تكون ثورة 1789 وليدة مؤامرة يهودية وماسونية. ↑
- () علمًا بأن الشغل قديم قدم الإنسان وأن السلعة ترقى كوجود لى «ما قبل الطوفان)). بلوغ هذه الكلية المجردة هو إذن مفتاح فهم التاريخ والمجتمعات والإنسان، وليس فقط المجتمع الحاضر، فهمًا علميًا. ↑
- () انظر بشكل خاص كتاب مكسيم رودنسون: الإسلام والرأسمالية. ↑
- () بحكم طور تاريخي طويل، بحكم محدودية القوة الإنتاجية وبحكم الملكية الخاصة والطبقات. ↑
- () إبراهام ليون، التفسير الماركسي للمسألة اليهودية، النسخة الفرنسية، ص68. ↑
- () كارل ماركس: رأس المال، الكتاب الثالث. ↑
- () ليون التفسير الماركسي، ص69. ↑
- ليون، ص69. ↑
- () ليون، ص 11.قد تكون هذه الإحالة، وما قبلها، على النسخة الفرنسية من كتاب أبراهام ليون، التفسير الماركسي للمسألة اليهودية، ولم نجد له ترجمة عربية. (المحرر) ↑
- () ماكسيميان روبل (1905 – 1996) مؤرخ ماركسي فرنسي، من مؤلفاته: “حياة ماركس وأعماله” و”ماركس بلا أسطورة، دراسة كرونولوجية لحياته وأعماله”. (المحرر) ↑
- () مستندات أو مراجع ماركس في «المسألة اليهودية»: هيغل، روسو، توماس منتسر، إلخ. ↑
- () قد يكون المرجع المقصود: روبل، “ماركس، مؤلفاته وأعماله، ص 65. ↑
- () أبراهام ليون يبدو كأنه يقلصها مؤكدًا على الكالفينية. ↑
- () نقلًا عن روبل، ص 1702. ↑
- () كارل ماركس، رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الأول (السلعة)، الفقرة 4 (الطابع التميمي أو الصنمي للسلعة). ↑
- () هذا المذهب هو نوعًا ما الموقف الغالب عند فلاسفة القرن الثامن عشر الفرنسيين. ↑
- () ماركس، رأس المال، الفصل 24، تحول فضل القيمة إلى رأسمال، الفقرة 2 ↑
- ** في النص الألماني: «بالتعارض مع الروح الأرستقراطية القديمة، التي كما يقول هيغل بحق. «تقوم على استهلاك الموجود…. » ↑
- * هيغل: مختارات. لوفافر وغوترمان، idees، جزءان، الجزء 2، ص277-281. كان يمكن (أو يجب) نقل كل النص. خلاصته «المسيحية)) الهيغلية الثورية: الوجدان – العقل ضد يهوه. ↑
- () هذا لا يجوز أن يكون موضع شك أو جدل، ولكن ما يبدو كذلك هو معنى كلمة «تاريخية». ↑
- () من هذه الحيثية، أوكد في الزوج شعب – طبقة على كلمة شعب أولًا. ↑
- هذه المادة هي مقدمة إلياس مرقص لترجمته كتاب (حول المسألة اليهودية) لبرونو باور وكارل ماركس وأعيد نشرها في كتاب مقدمات من أجل التنوير الصادر عن دار ميسلون للنشر والطباعة.