فصل الدين والثقافة كمقولتين ومفهومين، فصل الدين والأمة، الهوية الدينية والهوية القومية، أي العمل بالمفاهيم عملاً واعياً. والا فسنكرر بعد خمسين سنة أطروحات قيلت بشكل أفضل وأقل التباساً وتجارة قبل ثلاثين سنة. وستكون المجاهرة بالهوية القومية الدينية تعويضاً بائساً عن تبعية مطلقة، عن بؤس عام وفقر عام وقهر عام، لا يترك مجالاً لأية ثقافة ولأية هوية. رد الفعل أسوأ أشكال التبعية.
يجب استئناف المسألة الدينية المتروكة قبل عشرة قرون، وصرف المسائل المذهبية والطائفية وشتى التجارات بالتي هي أحسن. يجب إدراك أن السؤال مبدأ، أن المبدأ سؤال، أن المسألة مسألة شيء ما، هي حياة هذا الشيء.
حقوق الانسان، الحق الإنساني، المساواة، حرية الضمير، فصل الدين عن الدولة والدولة عن الدين، تعاتق الدين والدولة، حرية الدين مع وفي المجتمع، في الدنيا وفوقها وتحتها: هذه المبادئ يجب، بعد صراع طويل، أي بمواجهة منهجية ومسؤولية، ان تكون بديهيات، أن تصير مبدأ أول في كل دستور للعرب، في دستور الأمة – الدولة. إن عصر كلية القهر وجدلية القهر (الغالب مغلوب المتنامي هو المملوكية…) يُنبئ بمجيء كلية الحق. لكن، اذا كان الفكر مستقيلاً أو غائباً، فإن الأثمان المدفوعة ستذهب هدراً.
يجب عدم الخوف من الطوائف، من الجماعات، من المذاهب، من الأديان الخ. لو كان أو صار عندنا بسحر ساحر أو قدرة قادر أو بمشيئة الله عبر دنيا الإنسان وتاريخه خمسون ألف طائفة أو مليون جماعة دينية مذهبية صوفية اجتماعية لكان يكون ذلك انتصاراً للوحدة. لا حق ولا قانون مع الواحدية: اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.
يجب فك الارتباط بين مفهوم الدولة وفكرة السلطة. إنهما إثنان. يجب إقامة مفهوم الدولة – المجتمع السياسي – العام، كلي الخاص، أو العام إزاء الخاص. استنفاد الدولة في أداة لطبقة ضد طبقة يلغي مفهوم الدولة والدولة.
الدين بالنسبة للدولة خاص. وهذه ليست قضية عدٍّ وعدد. الدين بالنسبة للمجتمع – الدولة في ومن ميدان الخاص. الناس أحرار. وهذا لا يعني حصر الدين في العلاقة بين الفرد أو المواطن وربه. لا، الخاص المذكور غير الفرد المستنسخ على ملايين النسخ. المجتمع ميدان الخاص إزاء الدولة، علاقات حرة، تشكلات وتشكيلات جماعات وجمعيات ومنظمات وأحزاب، مذاهب من أنواع شتى وتنتظم وتتمأسس. في أوروبا الغربية، الديمقراطية المسيحية حزب كبير جداً ويحكم يأخذ أكثرية في السلطة التشريعية ويشكل الحكومة منفرداً أو بحلف مع غيره، تحت الدستور، تحت القانون الأساسي الديمقراطي، تحت دستور التكوين والتأسيس الملتزم بحقوق الانسان والمواطن، والذي يميز ويفصل فكرة القانون السيدة عن فكرة “أعراف” الناس المختلفة. أجل، هذا الدستور (نحوٌ متعارف عليه بين أهله) لكنه أكثر من ذلك بالتأكيد. السيرافي ألحق بنا ضرراً لا حصر له! من يعتقد أن الحزب الديمقراطي المسيحي وأقرانه من أحزاب دينية – سياسية (ألمانيا، ايطاليا، بلجيكا، هولندة…) ليست أصولية مخطئ. ومن يعتقد أن المسيحية علمانية مع فصل الدين والدنيا، وأن الإسلام يوحد الدين والدنيا والدولة (والسلطة!) مخطئ أكثر، وعلى جميع اللوحات: أولها عدم تساؤله عن معنى الكلمات: دين، دنيا، دولة، سلطة، إسلام، مسيحية، ثقافة. بالنسبة للثقافة، الدين جزء منها. في نص الماركس (المدخل ١٨٥٧) الدين شكل من أشكال الروح، التملك. لكن الدين غير الثقافة والثقافة غير الدين. كلاهما يتخطى الآخر. دائرتان تتقاطعان في الواقع، ككل. ثمة تداخل. الدين يطبع الثقافة. الثقافة تطبع الدين. لكن الإيمان لن يقبل في يوم من الأيام بأن يُستغرق وأن يُخفض وأن يؤخذ في شيء مادي دنيوي تاريخي زمني. وهو على حق. يجب تمييز الدين (الإيمان والعقيدة) والإيديولوجيا الدينية والثقافة الدينية والحضارة المنسوبة إلى دين وشعوب الدين، “أمة” الدين الأرضية، التي قد تكون جد مبتعدة عنه. كما لاحظ بقوة محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، وعشرات المفكرين غيرهم، في حاضرنا وماضينا القريب وماضينا البعيد. وإن هذا الاحتجاج قد حمل الضمير والحق والحقيقية، روح الإنسان، آن له أن ينتصر. انتصاره شرط للمفهومية والواقعية شرط للانتقال من الترميز الى رؤية الأشياء.
المرجع: كتاب نقد العقلانية العربية من صفحة 841 حتى 843