Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

فلسفة عصر النهضة

هذا النص هو مقدمة إلياس مرقص لترجمته كتاب إرنست بلوخ (فلسفة عصر النهضة) الصادر عن دار الحقيقة في بيروت. وقد تم نشر هذا النص أيضاً في كتاب (مقدمات من أجل التنوير) الذي يجمع مقدمات مرقص للكتب التي ترجمها، وقد صدر عن دار ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.

1- النهضة

Renaissance تعني نهضة، بعث أو إحياء، وحرفيًا ميلاد جديد أو تكرار الميلاد. هكذا يجب أن تفهم. عربيًا تقول: نهضة، عصر النهضة، حركة النهضة. لكن يجب أن تفهم أيضًا ميلادًا ثانيًا، تكرارًا للولادة. 

«فلسفة عصر النهضة» تندرج في حركة النهضة، وهي جزؤها المجهول أو المهمل، بلا وجه من حق. وحركة النهضة تندرج في عصر النهضة الذي هو عصر النهضة والاكتشافات الجغرافية والإصلاح البروتستانتي وأمور أخرى. هذا العصر يندرج في مسيرة تاريخية أطول بكثير، هي تاريخ أوروبا، التاريخ الكوني. إنه عصر انطلاق الرأسمالية. لكن الرأسمالية أكبر بكثير من الكلمة، بل من «الاقتصاد». 

من الصعب ومن غير الضروري إعطاء عصر النهضة تحديدًا زمنيًا دقيقًا. إنه لا ريب انقطاع ولكنه أيضًا اتصال وتواصل. انقطاع نسبة إلى ما قبله، لكنه انقطاع لا يتحدد بسنة ولا بعقد ولا حتى بنصف قرن، وانقطاع لا يلغي ما قبله. وهو نسبة إلى ما بعده شيء بارز ناتئ، ومذهل. وما بعده يواصله، أجل، وينمِّيه، لكنه أيضًا يضيِّع بعضه، يقلِّص، يخفِّض: غوته، الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، هيغل، الجدل، هـم، في حيثيات مهمة، رد على هذا التقليص من جانب فكر القرنين السابع عشر والثامن عشر ورجعة إلى عصر النهضة واهتماماته الكلية الكونية، التي لها أصول في العصور الوسطى وفي اليونان القديمة. 

يمكن القول إذًا إن عصر النهضة يمتد من سنة 1400 إلى سنة 1600. الطليان يقولون: الـ Quattrocento أي السنوات ألف وأربعمئة، أي القرن الخامس عشر والـ Cinquecento أي السنوات ألف وخمسمئة أي القرن السادس عشر. لكن النهضة – الميلاد الجديد تبدأ، في إيطاليا، في القرن الرابع عشر. وهناك نهضة في القرن الثالث عشر، مركزها فرنسا، ودائرة نفوذها أوسع من فرنسا، نهضة وسطوية، نهضة في العصور الوسطى. و«فلسلفة عصر النهضة» تواصل بعض جوانب أو خطوط فكر العصر الوسيط، التي يضيعها فكر القرنين السابع والثامن عشر، أي «العقل» _Ratio البرجوازي الصاعد الفاتح والمقلِّص الخاصي. دانته Dante عاش حوالي سنة 1300، بين النهضتين. 

إن العصور الوسطى الغربية لم تكن زمنًا فارغًا. العكس أقرب إلى الصواب، من وجهة نظر التاريخ الكوني. لو أردنا تلخيص تاريخ العصور الوسطى الغربية بعبارة واحدة لقلنا: «من البربرية والفوضى والظلام إلى المنظومة الإقطاعية ومعها المدن». فالبرابرة أعادوا البسط التاريخي إلى بدء جديد من الصفر أو تقريبًا، إلى بدء البربرية ونتف من معطيات حضارية. عمليتهم كانت دمارًا لا مثيل له، في حروب مستنفدة لا عدد لها ولا نهاية: المدن انقرضت أو تقلصت إلى ربع حجمها أو إلى أقل بكثير، روما هبطت من مليون نسمة إلى 50000، وكانت نزوحًا للتاريخ في اتجاه الشمال، خلقًا لأوروبا الجرمانية – الرومانية المغايرة، كحيز تاريخي، لروما وعالم البحر المتوسط. ثلاث موجات أو مجموعات موجات بربرية تعاقبت وغطت، رغم الفواصل، النصف الأول من العصور الوسطى (ق5- ق10). الأولى موجات الفيزيغوت والاوستروغوت والبرغوند والالامان والفاندال وأخيرًا الغوانك (ق5). الثانية، بعد فاصل عابر هو محاولة إمبراطور الشرق جوستينيان إعادة وحدة الإمبراطورية الرومانية المسيحية (ق6) وموجة الأنجل والسكسون التي أخذت بريطانيا – إنكلترا (ق6) وموجة اللومبارد التي دلفت على إيطاليا من الشمال. هذه الحقبة تسفر عن قيام دولة الكنيسة في وسط إيطاليا (ق8) التي ستعيش حتى القرن التاسع عشر، وإمبراطورية شارلمان (800) العابرة أول نسخة من حلم «الخلافة» الرومانية المسيحية الغربية. الثالثة موجات متعددة أهمها موجة النورماند «رجال الشمال» (ق9-10) وتسفر عن قيام النظام الإقطاعي في فرانكيا، (فرنسا)، الذي لا يلبث أن يصير (ق12-13) المنظومة الإقطاعية «التامة» مع المدن «البرجوازية» الأولى، حركة الكومونات: النظام الإقطاعي يبلغ ذروته ويبدأ بالأفول فورًا (ق13)؛ المدن تنعتق؛ القنانة ذاتها، قاعدة النظام، تتراجع، في الغرب الأقصى؛ والمدن تشهد صراعات طبقات. النصف الثاني من العصور الوسطى وخصوصًا القرون الوسطى الأخيرة (ق12-15) تحقق اختراعات تقنية بالغة الأهمية، تحسينات كبيرة في الشروط التقنية للشغل والتبادل: منفاخ الصهر، المحرك المائي، الطاحونة الهوائية؛ طوق الجلد المغلي على كتفي الحصان (ق10)؛ طرقات وجسور وفنادق وملاجئ عند الممرات الجبلية؛ قنوات؛ منائر وخرائط بحرية وتعمم البوصلة؛ المقود المحوري للسفينة؛ صناعة ورق الخرق؛ البارود والأسلحة النارية. ويبدأ الانطلاق الصناعي والتجاري من مركزين هما الفلاندر (بلجيكا) في الشمال حيث مرفأ بروج Bruges القنواتي ومدينة غاند Gand وصناعة الجوخ، وتوسكانا (شمال إيطاليا)، حيث مدينة فلورنسا، وصناعة الجوخ، ومدينتا البندقية وجنوة البحريتان التجاريتان غير بعيدتين عن توسكانا. علمًا بأن قاعدة الإنتاج تبقى هي الزراعة، والقاعدة التقنية تبقى هي المحراث الروماني المتفوق على أداة الفلح الشرقية البدائية والذي يسمح بفتح أوروبا المغايرة مناخيًا وطبيعيًا للشرق الأدنى. الفن الوسطوي يتجلى في العمارة الرومان Roman (ق11-12) ثم في العمارة الأوجيفية أو الغوتية Gothique (ق12-13): الكاتدرائيات، ودور الكومونات. 

الفلسفة تنتعش من جديد، وتتقدم في صراعات متنوعة: إنه عصر «مشاجرة الكليات» بين الاسمانيين، و((الواقعيين))، و«الابن رشدية اللاتينية»، ومدرسة بادوا، والسكولاستيكا الأرسطوية، ومذهب توما الأكويني، ثم أفول السكولاستيك (ق14). وبينما الحلم الروماني الخلافي الكاثوليكي «يضيع» ألمانيا والكنيسة في شكل «الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة»، الغرب الأقصى يتبلور في أمم _ دول، يتكون كمونارشيات قومية، مع المبدأ السلالي على خط. وحرب مئة العام (ق14-15) تسفر عن انفصال فرنسا وإنكلترا وتبلورهما بوصفهما دولتين – أمتين – لغتين. الهرطقات الأخيرة تسدد ضربات مؤذية للكنسية التي دخلت في عصر انحطاط بعد أن لعب دورًا كبيرًا وقياديًا في خروج الغرب من البربرية إلى المنظومة الإقطاعية. 

النهضة، الاكتشافات الكبرى، الإصلاح البروتستانتي وحروب الدين والسياسة، تثبت نمو الدول القومية في الغرب الأقصى، انطلاق الاقتصاد الرأسمالي المالي التجاري والمانيفاكتوري، عمليات تجري على هذه القاعدة التاريخية الاجتماعية التي ليست البربرية التي لم تعد -منذ برهة- إقطاعية مغلقة. وهي عمليات مذهلة وبدء جديد. حركة النهضة حركة في الثقافة جبارة: فنون، آداب ولغات، فلسفة وعلوم وسحر وتقنية، فتح. وهي بدء جديد، عودة إلى بدء، عودة تامة، جدية، أي نقدية فاحصة ومؤسسة للمستقبل. سنلقي نظرة سريعة على الوجهين في آن معًا وتباعًا. أولا ماذا في القرن السادس عشر؟ وماذا في القرن الخامس عشر؟ ومن؟ 

حوالي سنة 1500، عاش الثلاثي الأشهر ليوناردو دافنشي ورافايل وميكل أنجلو، ومعهم بابوات عصر النهضة. وكذلك دورر Durer أكبر الرسامين الألمان ومعه غرونفالد وكراناخ، أي مدرسة الرسم الألمانية العظمية الوحيدة، والتي هي بمثابة شيء ناتئ وشاذ في تاريخ العبقرية الألمانية. وإراسم Erasme أو إراسموس الهولندي، صاحب «مدح الجنون» (1501)، وهو نقد لاذع لكنيسة زمنه، ربما أكبر «أنسانويي» عصر النهضة والملقب أحيانًا بـ فولتير اللاتيني. والإنكليزي توماس مور Moore أو موروس، صاحب كتاب «اليوتوبيا» ورائد الشيوعية اليوتوبية في العصر الحديث، ومستشار إنكلترا العظيم الذي يدفع حياته ثمنًا لمبدأ الوجدان (1535). وعالم الفلك كوبرنيك البولوني، قالب النظرة إلى الكون والعالم، والرمز العلمي الأكبر للعصر كله. والأسقف الإسباني بارتولوميو دو لاس كازاس  Las Casas أول مناهضي الاستعمار في التاريخ الحديث. 

بعدهم عاش الأديب الفرنسي مونتيني Montaigne، مؤلف «المحاولات» (1571-1592) _ وفيها «دفاع عن ريمون سابوند» الطبيب الإسباني الذي عاش في فرنسا رافعًا لواء «كتاب الطبيعة»، ومدشن الفكر الفرنسي الحديث بنفس جميل من ريبية وتسامح وخفة روح. وفي إنكلترا، ماراو Marlowe مؤلف «حياة وموت الدكتور فاوست))، ثم شيكسبير Shakespeare (حوالي سنة 1600) أعظم مؤلفي المسرح في التاريخ الحديث (الدراما: تراجيديا وكوميديا). العصر هنا يعرف بعصر إليزابيت، فهي أعظم ملوك تاريخ إنكلترا (1558-1603). وفي إسبانيا سرفانتس Cervantés مؤلف «دون كيخوت» (1605) رائعة الأدب الإسباني، وقبله بقليل كاموينس Camoens أكبر شعراء البرتغال. وفي إيطاليا الرسام كارافاجيوالذي جعل المسيح – الإنسان إنسانًا وأمه أمًا والألم ألمًا بالتمام وقبحًا والموت موتًا بالتمام وقبحًا، واضعًا خاتمة جيدة لمسيرة طويلة جبارة، إيطالية، بلجيكية، ألمانية، إسبانية وغير ذلك، هي مسيرة تأسيس الرسم الحديث. وبالسترينا Palestrina، مصلح الموسيقا الدينية، خاتم عهد وبادئ عهد في تاريخ الموسيقا الغربية: «الموسيقا الكلاسيكية» تلوح في الأفق؛ مونتيفردي Monteverdi يضع أول أوبريت «أورفيو» في سنة 1602. 

الفلسفة تتمثل بـ جوردانو برونو G.Bruno الذي يحرق حيًا في روما سنة 1600، ويخلفه كامبانلا Campanella الذي يقضي 27 سنة من عمره في السجن: كلاهما خرجا من رهبنة الدومنيكان؛ وفي ألمانيا بالطبيب – الفيلسوف – الساحر باراسلس Paracelse (1493-1541) ثم بالإسكافي والمتصوف ياكوب بوهم أو بُم Jakob Boehme (1575-1624) «الفيلسوف التتوني»، أبو الفلاسفة الألمان. وفي إنكلترا، بـ فرانسيس بيكن F. Bacon (1561-1621) رائد «الفلسفة الحديثة»، معاصر لـ (بوهم)، ويقع في طورين فلسفيين. الفلسفة السياسية والحقوقية تتمثل بالإيطالي ماكيافل صاحب «الأمير» (1532)، والفرنسي بودان Bodin مخترع مفهوم السيادة (1571)، بالألماني التوسيوس Althusius («السياسات»، 1603) والهولندي غروتيوس Grotius («حقوق الحرب والسلم»، (1625) حاملي فكرة الحق الطبيعي. ماكيافل يفصل السياسة عن الأخلاق، يؤسسها علمًا وضعيًّا، معرفة لواقع، ويعطينا – بين أمور أخرى – صورة عن واقع عصر لم يكن فقط عصر عمالقة الفن والفكر والاختراع والاكتشاف بل كان أيضًا عصر عمالقة الجريمة، في إيطاليا وغيرها. 

قبل هؤلاء جميعًا، قبل منعطف سنة 1500، عاش عدد من كبار الفنانين الطليان: عمارة، نحت، رسم، في فلورنسا العاصمة الأولى للنهضة والبندقية ومدن إيطاليا الأخرى، والرسام الفلاماندي فان أيك Van Eyck (1375-1440) في مدينة بروج Bruges (= جسر) «بندقية الشمال» المطلة على العالم بالتجارة والعمل. الألماني جان غوتنبرغ J. Gutenberg اخترع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر وطبع الكتاب المقدس في سنة 1456؛ وأنشأ الإنكليزي كاكستون مطبعته في وستمنستر سنة 1476؛ بسرعة البرق، وكأن الناس على موعد، ظهرت مطبعة في كل مدينة ذات شأن، تكونت طبقة من القراء، نشطت حركة الترجمة والتأليف، صدرت كتب باللغات القومية – الشعبية، مع استمرار اللاتينية في ميدان مقلَّص، وبروز اليونانية في التعليم، ومواصلة ومضاعفة بعث التراث القديم اليوناني واللاتيني. الأديب العلامة الإيطالي بترارك Pétrarque أول كبار «إنسانويي» حركة النهضة عاش في أواسط القرن الرابع عشر. أما دانته Dante، صاحب «الكوميديا الإلهية»، شاعر إيطاليا واللغة الإيطالية الأول والأعظم، مؤسس اللغة الأدبية القومية، فقط عاش قبله، في فلورنسا حوالي سنة 1300 ومعه الرسام جيوتو Giotto، الحلقة الوسيطة والحاسمة نحو فن حديث مخالف ومناهض للفن البيزنطي. 

«فلسفة عصر النهضة» تعيش بداياتها، بعد سقوط القسطنطينية في سنة 1453، بترجمة جديدة لأعمال أو أفكار أفلوطين وأفلاطون وبارمنيد وأرسطو وأبيقور وابن سينا وابن رشد، وابن جبيرول وبعودة إلى أرسطو «الحقيقي» من فوق الكنيسة ومن فوق ابن رشد، على يد الفاتحين الأوائل رجال «الأصول»: مارسيل فيسين، بيك دو لا مبراندول، تيليزيو، باتريزي، بومبونازي (ق15 وق16). مدرسة بادوا Padoue موجودة من القرن 14، «الابن رشدية اللاتينية» من القرن 13، الكنيسة تدين ابن رشد في القرن 13 ثم أيضًا في أوائل القرن 16؛ ريمون لول، سِيد إكهارت، غيوم أوكام ختموا عصر السكولاستيك الكبير، نقولا دو كوزا رجل ما بين عصرين. 

النهضة – الميلاد الجديد حركة شاملة، أشهر مظاهرها في معرفة الناس نهضة الفنون الجميلة (عمارة، نحت، رسم) لاسيما في إيطاليا. لكن، مثل ما لاحظ القارئ لتوه، القضية أكبر بكثير. 

جغرافيا، النهضة تصيب، بدرجة وأخرى، بصورة وأخرى، كل بلاد أوروبا المسيحية الكاثوليكية التي تنشق آنذاك بعصا لوثر (1517-1520): إيطاليا، البلاد المنخفضة (بلجيكا وهولندا)، فرنسا، إنكلترا، ألمانيا، إسبانيا، بولونيا، وغيرها. 

وهي تشمل ميادين الفكر كلها، الروح، المعرفة، التملك: الفنون، الآداب، العلوم (رياضيات، طبيعيات)، الفلسفة، الفكر السياسي والفلسفة الاجتماعية، التقنية (بما في ذلك السحر) وتلعب في هذه المجالات كلها دور تأسيس أو حتى في معظمها دور التأسيس تقريبًا. 

إذًا، هذه الحركة الثقافية لا تقتصر على الفنون. والفنون نفسها هي تعبير عن روح عامة تشمل الميادين جميعها، هي ترجمة عن نظرة جديدة إلى الإنسان والكون. الرسم الحديث يتأسس في إيطاليا أولًا ضد الفن البيزنطي وموجودات الفن الوسطوي الغربي. أولًا، على أساس الواقعية البصرية، أي رسم الأشخاص والأشياء ومثلما تُرى بالعين عينيًا، وهذا يتطلب عملية تجرد غير سهلة؛ وتابع لذلك اكتشاف أو اختراع المنظور perspective. ثانيًا، كواقعية سيكولوجية تكشف ثروة النفس الإنسانية والفردية الشخصية والعيانية على الوجوه، وكواقعية إنسانية روحية جسدية لموقف حي. ثالثًا وبالتلازم، كرسم لإنسان أو لبشر في طار حقيقي هو منظر passage وطبيعة حقيقية وودِّية، وليس قاعًا مذهبًا كما في الفن البيزنطي أو «طبيعة» من شياطين وأبالسة كما في التصوير الوسطوي الغربي. أخيرًا، الموضوعات الدينية التي تبقى في الحالات معظمها موضوعات دينية، تصير ذات دلالة إنسانية بشرية متعاظمة في ثروتها. مواضيع تتكرر ويتبارى فيها الرسامون والنحاتون: صلب وموت المسيح، المسيح النازل عن الصليب في حضن أمه، العشاء الأخير، آدم وحواء، العذراء وطفلها، داود…إلخ. الدراما اللاهوتية تغدو دراما، تعود دراما: مواقف، عواطف، هيجانات، حب، صدق، خيانة، ألم، موت، جمال، قبح، أشخاص. داود يستهوي النحاتين: إنه يمثل ظَفَر العقل الذي له يد وله جسم بالتمام على القوة الخام. المرحلة التالية في البسط – الرسم الهولندي في القرن السابع عشر – تستغني في الحالات معظمها عن وساطة المواضيع الدينية؛ الهولنديون يرسمون الحياة البرجوازية البسيطة العظيمة، الهادئة الواثقة، لشعب فاتح. 

الفكر يتجدد، لاسيما بالإنسانوية humanism. هذه الكلمة تعني، بطبيعة الحال، الاهتمام بالإنسان، اتخاذه مركزًا ومحورًا، فهو جزء من الطبيعة والطبيعة جسده الخارجي، ضد الموقف السابق، اللاهوتي، حيث التركيز على الإنسان – حين كان يحصل وبقدر ما كان يحصل – كان تابعًا للمتعالي، للخالق الذي خلقه على صورته وحكَّمه على الكون المادي (وقد بقي أثر من هذه العقيدة الدينية الإيجابية الجبارة حتى في العصور الوسطى، رغم الانتكاس الجوهري إلى مخلوطة الأرواح والشياطين)، وكان يجعل (وا أسفاه!) من أرضه – حسب الكنيسة والكتاب ومنظومة بطليموس الداعمة للكتاب والمدعومة به – مركز الكون، المركز القار الذي تدور حوله الشمس والأفلاك والسماء الزرقاء. إنسانوية عصر النهضة تتضمن إذن أو تفرض نزع هذه المركزية المثالية أو الهاذية والتوجه نحو الموضوعية والموضوعوية، في خط منظومة كوبرنيك كخط عام في طريقة النظر إلى الأمور وتملك الأشياء، مع الشعور باتساع ولا محدودية الكون، بضخامة وهول، المسائل الإنسانوية تغدو علمًا. 

ولكن هذه الكلمة – إنسانوية – تعني بشكل خاص (فن زمن النهضة ونسبة إليه) حركة البحث في العصر القديم اليوناني – الروماني، العودة إلى أدب وفلسفة وفن اليونان والرومان واهتماماتهم الكونية والإنسانية، من فوق رأس العصر الوسيط الذي كان، بوجه الإجمال وإلى حد كبير جدًا، يرفض التراث العظيم بوصفه «وثنيًا))، مديرًا ظهره لـ «إنسانية أو إنسانوية ذلك العصر القديم المتجسدة في الأدب (الملحمة، الدراما، الشغر الغنائي) والفن (النحت) والفلسفة والفكر السياسي والتربية البدنية. الكنيسة كانت قد احتفظت من العصر القديم بما دخل في العقيدة اللاهوتية – الفلسفية من معطيات فلسفية يونانية ويونانية – شرقية – رومانية (أفلاطون، نيو أفلاطونية، رواقية، وأخيرة وبقوة: أرسطو توما الإكويني والسكولاستيك) تحت سلطة الإيمان والكتاب واللاهوت، وبـ «روما» والتنظيم الروماني والحلم الروماني الكوني. حركة النهضة تثوِّر الموقف، عصر النهضة والطباعة والإصلاح البروتستانتي والدول القومية يعصف بهذه الحالة. «الإنسانويون» humanists هم الذين يقومون بإحياء التراث القديم اليونانل – الروماني، بقوة وتصميم وجدارة، فهم علماء واسعو الاطلاع. هم علماء لا نظير لهم باللغات القديمة، وهم بنفس الوقت في معظم الأحيان الإنسانويون الكبار، مكونون للغات الأدبية – الشعبية أي القومية في عملية جبارة توسع دائرة الثقافة، تحقق الدمج بين الثقافة والشعب – الذات – الفاعل، عملية مهد لها عمل قرون من تاريخ تكون الأمم الأوروبية، وها هي تخلق الآن للثقافة رقعة وعمقًا في المجتمع لم يعرفا من قبل، أو لم يعرفهما «العصر القديم» أو «العالم القديم». هذه الكلمة – عصر قديم، عالم قديم Antiquité – تعني مبدئيًا – في ترجمتا لكتاب أرنست بلوخ – العصر القديم اليوناني الروماني، الذي يعقب الشرق الأدنى القديم في التاريخ الكوني. اليونان أخذت «المواد» من الشرق الأدنى القديم، بنت «شكلًا» جديدًا وأعطته لـ «أوروبا»: الأساطير، الأنواع الأدبية، الفن التشكيلي، مفهومات سياسية، المعرفة المجردة أو العلم المحض لاسيما الرياضة الفيثاغورية والهندسة الإقليدية الخ، والفلسفة. أعطته لـ «أوروبا» عدة مرات: روما ثم المسيحية، النهضة، هيغل، الخ، ولعل أهم هذه المرات وأشملها وأعمقها لحظة النهضة. العصر القديم اليوناني الروماني هو حقبة ما بين القرن السادس أو السابع ق.م والقرن الرابع م، حوالي ألف سنة من التاريخ الكوني، أهمها القرون 6-5-4 ق.م اليونانية. في هذه القرون اليونانية الأولى، عاش كبار الفلاسفة الرواد، أصحاب المدارس، آباء الفلسفة. إليهم بالدرجة الأولى يعود فلاسفة عصر النهضة. 

إليهم تعود حركة النهضة، إليهم وإلى غيرهم، يونانيين وغير يونانيين، فلاسفة وأدباء وعلماء. تُبعث الخطوط المدفونة، تنمَّى، تُنقد في سجال لا ينقطع. هذا الميلاد الجديد للوعي يتجلى في الروح العلمية، في الاهتمام بالعلوم، وفي تدشين مسيرة تأسيس العلوم، العلوم الحديثة، الوضعية، مثل ما نعرفها اليوم. عند الاقتضاء، والاقتضاء نوعًا ما قائم حكمًا وعلى طول الخط ضد الأقدمين، ضد سلطة بطليموس وجالينوس وأرسطو، ضد «حجة السلطة» التي ليست حجة. ذكرنا البولوني كوبرنيك Copernic الذي برهن في كتابه الصادر سنة 1542 (قبيل وفاته)، حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس -ببساطة- ناسفًا بالبساطة منظومة بطليموس بالغة التعقيد. في هذه الأثناء كان أندريه فيزال Vésale البلجيكي، أكبر علماء التشريح في القرن السادس عشر، يمارس منهجيًا تشريح جسم الإنسان، يتجرأ ويهاجم بعنف آراء جالينوس والتقليد الجالينوسي الطويل. ميشيل سرفه Servet الطبيب والفيلسوف الإسباني يدرس الدورة الدموية الصغيرة، ويحرق حيًا في جنيف (1553) بتحريض من كالفن: كان قد عارض عقيدة الثالوث الأقدس وألوهية المسيح. تيشو براهه Tycho-Brahé الفلكي الدنمركي، الملاحظ الجبار للكواكب، يمهد الطريق لقوانين كيبلر Kepler. أما فييت Viéte (ق16) الرياضي الفرنسي فيعد خالق علم الجبر الحديث الذي كان العرب قد دفعوا قضيته خطوة كبيرة إلى الأمام. العرب قدموا موادَّ عظيمة (من علوم وفلسفة وتقنيات) لعصر النهضة وللنهضة الأولى التي سبقت الميلاد الجديد، وللعصور الوسطى الغربية بوجه عام، ونقلوا إلى الغربيين أرسطو والصين. الأوروبيون أخذوا، تمثلوا، هضموا، أدخلوا في الجسم الآخذ في التكون. حوالى سنة 1590، يظهر الميكروسكوب. 

هذه الحركة، حركة الاهتمام بالعلوم، حركة المخاض الطويلة الشاقة للعلوم ـ بدأت من قبل، قبل كوبرنيك وفيزال وفييت بقرنين أو أكثر. ألبير من ساكس Albert de Saxe (ق14) يضع نظرية عن الثقالة. نقولا أورسم Necolas d’Oresme (ق14) يشتغل في الرياضيات (يضع فكرة «التابع»)، في الفيزياء، في التنجيم والفلك، يضع نظرية عن العملات. قبلهما بقرن، في سنة 1252، وضعت، بأمر من الفونس العاشر ملك قشتالة، الجداول الألفونسية، التي تقسم السنة إلى 365 يومًا و5ساعات و49 دقيقة و16 ثانية. نقولا دو كوزا Nicolas de Cusa (ق15) يهتم -بين أمور أخرى- بعلم الهندسة والكوسموغرافيا (علم وصف السماء أو الكون). ريجيو مونتانوس Regiomontanus (ق15) ينكب على علم المثلثات وعلم رسم الخرائط. البوصلة تعمم استعمالها قبله بقرن أو اثنين. الرحلات البحرية الكبرى بدأت في سنة 1416، بقيادة ابن ملك البرتغال، الأمير هنري الملاح، الذي لم يركب هو البحر: الفتح ليس محض شجاعة وبطولة وحركة خام. 

شخصية نقولا دو كوزا جديرة بوقفة. نوعًا ما، معظم عمالقة العصر هم من هذا النوع، وكلهم مع ذلك أو بذلك مختلفون! إنه كاردينال ألماني، عالم، فيلسوف، متصوف، رجل دولة وسياسة و((مشروعات)). ولد في كوز أو كوزا قرب ترير (تريف) في أقصى غربي ألمانيا، قريبًا من وادي الراين الذي كان بين جملة أمور «شارع القديسين» أي المتصوفة. درس الحقوق في هايدلبرغ، تعلم الرياضيات واللغة العربية واللغة العبرية، تخرج دكتورًا في بادوا (إيطاليا)، رُسم كاهنًا، أصبح عميدًا لمعهد كوبلنتس (ألمانيا الغربية)، اشترك في المجمع الكنسي ببال (سويسرة) سنة 1431. كان مؤيدًا لمبدأ غلبة المؤتمرات المسكونية على البابوات. رحل إلى القسطنطينية سنة 1437 في محاولة لإقناع الإمبراطور والبطريرك في بيزنطة المحاصرة باللجوء إلى إيطاليا تحت جناح روما والوحدة. عُيِّن رسولًا بابويًا في ألمانيا وكاردينالا، لكنه اصطدم بالأكليروس الألماني وبأرشيدوق النمسا، الذي أبقاه سجينًا سنوات عدة. ثم أصبح حاكمًا للممالك البابوية الرومانية، وكرس نفسه لمشروعه الكبير في التوفيق بين المسيحيين والمسلمين وتوحيدهم. هذا الكاردينال النهضوي والأيزوتيري (الباطني) يؤمن بأن «التنزيلات» متعددة والعقائد والطقوس الدينية حقائق جزئية. وهو يدفع البابا إلى كتابة رسالة للسلطان التركي «يعرض» له فيها وراثة أباطرة روما الشرقية. لكنه يدرك على نحو متزايد «اختلاف الشعوب التاريخي»، ومشروعاته تفشل. فكره الجوهري: الطبيعة البشرية إلهية حقًا، الإنسان مركز العالم، التقدم العلمي شيء عظيم. نقولا دو كوزا متأثر بأفلاطون، ومدافع عن منظومة بطليموس التي كانت موضع سؤال تنوء بجبل من تناقضات وأحاييل ومفارقات وافتراقات عن الملاحظة، لكنه مع ذلك من رواد الفكر الحديث. يجد في الرياضيات والتجربة، في الخبرة والحساب، الطريقة الوحيدة التي تسمح بمعرفة العالم. مع أنه كما ذكرنا في الأيزوتيرية (الباطنية – التأويلية). لكنه ليس في «السرية». بحسب رأيه، المعرفة الحقة إيزوتيرية، و«الحكمة تصرخ في الساحات العامة»، لكن ما تصرخه هو أنها تسكن فوق القمم». (هذا كان موقف كبيري المتصوفة العرب السنيين الشعبيين والمنبوذين من الشعب والسنة). ترك مؤلفات عدة منها في التوافق الكاثوليكي، في الجهل العالم، دفاع عن الجهل العالم، في سلام الإيمان، في الفحص النقدي للقرآن، في البحث عن الله، في ملاحقة السعادة، وأخيرًا: في تربيع الدائرة! سوف نجد اسمه مرارًا في «فلسفة عصر النهضة». 

الفنان الكبير، المخترع الجبار للسلم والحرب، العبقري الكوني، ليوناردو دافنشي (1452-1519)، عملاق النهضة ورمزها الأشهر والأعظم، أعلن بوضوح أن العلم لا يمكن أن يتقدم إلا بالاستخدام المتراكب للملاحظة والتجربة والبرهنات الرياضية. هذه الفكرة كانت في الجو منذ أمد، وها هي الآن تبرز بقوة عند الطلائع، وهي قوام الفكر العلمي كله. 

على هؤلاء جميعًا وأقرانهم الأقل شهرة انبنت أوروبا الحديثة والعلوم. الاتجاه واضح ومبلور إلى حد كاف منذ زمن كوبرنيك وفيزال وفييت: الفكر الحر، الحر من كل سلطة خارجية، والوجدان الذي لأنه يحترم ذاته والحقيقة ليس مستعدًا للركوع لغير الحقيقة ولغير ذاته كوجدان، لأنه يحترم الإنسان والكون (كونه، وكله) لا يسجد لإنسان معين، لجزء، لـ «مادة»، لوثن. الخبرة، الحواس، التجربة، التجريب كفتح للأقفال، كإنتاج، كعمل على أساس السببية الكلية والموضوعية المطلقة؛ العقل وسلاحه المفهومات، المقولات، الاستنتاج وبناء الأداة الرياضية الجبارة: من أجل هذا البناء يستولون على فيثاغور ويعلمنونه. العصر التالي (ق17، ق18) تراجع وتقليص، في الفلسفة، من حيثيات عدة، لكنه يحقق برنامج تأسيس وبناء العلوم: العلوم الرياضية، و«العلم الطبيعي الرياضي». يعد غاليله (1564-1642) وكيبلر (1571-1630)، نيوتن (1642-1727) يتوج العلم الجبار في بساطته. التقنية تنتصر على السحر والعلم على الأسطورة. 

 

2- الاكتشافات الكبريات

عصر النهضة هو عصر النهضة والاكتشافات الجغرافية الكبرى، والإصلاح البروتستانتي وحروبه، واختراع وانتشار الطباعة، وبروز الأمم – الدول، والدول – الأمم على أساس القومية اللغوية. وبالمونارشية الصاعدة إلى الحكم المطلق، وبدايات الاقتصاد الرأسمالي على هذه الأسس وعلى أساس التاريخ الاجتماعي السابق. هذا العصر، في تحقيب علم التاريخ، يدشن حقبة «الأزمنة الحديثة» للتاريخ الأوروبي والكوني التي تعقب حقبة العصور الوسطى (ق5-15)، وتصل حتى أيامنا هذه أو حتى الثورة الفرنسية (1789) أو الثورة الإنكليزية (ق17): اصطلاحات في التحقيب مختلفة ولها جميعًا مبرراتها، سنة 1453 تتخذ عادة سنة الفصل بين حقبتي العصور الوسطى والأزمنة الحديثة. ففي هذه السنة سقطت القسطنطينية على يد الأتراك العثمانيين، انتهت «إمبراطورية روما الشرقية» الموروثة عن العصر القديم، والتجأ علماء بيزنطة إلى إيطاليا حاملين معهم اللغة اليونانية والتراث اليوناني القديم أو بعضه فأسهموا إسهامًا ملحوظًا في حركة النهضة؛ وفي الشرق المسلم تنتهي سيادة العرب (1516، 1517) التي تنتمي إلى حقبة العصور الوسطى، ويقيم العثمانيون إمبراطورية على قارات ثلاثة، ستبقى قوة كبيرة، في مد -طارقة مرتين أبواب فيينا عاصمة إمبراطورية النمسا- ثم في جزر وأزمة لا دواء لها، طيلة الأزمنة الحديثة حتى أوائل القرن العشرين. من جهة أخرى سنة 1453 هي أيضًا سنة انتهاء حرب مئة العام ونيف التي أسفرت عن انتصار الفرنسيين على ملك إنكلترا وانفصال الأمتين وتبلور الدولتين القوميتين الغربيتين الكبريين. وفي ربع القرن التالي، تتوطد فرنسا بفشل شارل الجسور ومصرعه، سيد بورغونيا وبلجيكا واللورين، وتبخر الحلم اللوثارنجي الوسطوي العريق. لقد انتصر المبدأ الدولتي – القومي – اللغوي على فكرة الدولة الوسط بين الفرنسيين والألمان والطليان، الدولة الخليط من الناحية اللغوية والقومية، انتصارًا هو بمعنى ما انتصار على اعتبارات «اقتصادية))، اقتصادية مجردة مما عداها، ووهمية. لكن -أحيانًا- تتخذ سنة 1492 فاصلًا بين حقبتي التاريخ الكبيرتين: فهي سنة اكتشاف أميركا على يد كريستوف كولوب أولًا، وثانيًا سنة سقوط غرناطة العربية وتمام الدولة القومية الإسبانية الكاثوليكية والفاتحة. موعد اختراع الطباعة يدفع الاصطلاح التحقيبي نحو سنة 1453. هذه الأمور الهامشية قرينة على أن الزمن – المفصلة غني بالتطورات والوقائع الحدِّية. إنه زمن أزمة مهولة في الواقع والوعي سواء بسواء. هي أزمة نمو. التطورات كلها تصب -في النهاية- في تكوين صورة أوروبا الحديثة. هذه التطورات «جملة»، كلٌّ تامٌّ حيث لا تتوقعن هذه الجملة، التاريخ يراوح مكانه وإن تقدم، ثم ينتكس. 

سنتناول بادئ بدء الاكتشافات الكبريات وعواقبها. ثم ننتقل إلى الإصلاح وما رافقه وتبعه من أحداث ونتائج. مرتكزة على الفتوحات التقنية والعلمية الكبيرة المحققة في العصور الوسطى (المقود المحوري للسفينة، البوصلة، الخرائط، «حساب النقطة»، الكارافيل)، ومدفوعة بالدرجة الأولى بالرغبة في العثور والسيطرة على طريق بحري محض إلى التوابل والسلع الثمينة الآتية من آسيا (ذهب، حرير، أحجار كريمة)()، تبدأ الحملات البحرية العملاقة على يد البرتغاليين سنة 1416. المرحلة الأولى طويلة وشاقة. أخيرًا في سنة 1487، يصل بارتولوميو دياز إلى رأس العواصف ويعود. بعد عشر سنوات، يسلك فاسكو دو غاما الطريق نفسه، بمحاذاة شاطئ إفريقيا الغربي، ويجتاز الرأس المذكور، «رأس الرجاء الصالح»؛ يصعد على طول الشاطئ الشرقي حتى شاطئ زنجبار، ويتابع، يرشده ملاح عربي، وتدفعه الريح الموسمية الجنوبية الغربية، وصولًا إلى ميناء كاليكوت في الهند (1498). ويشن البرتغاليون حربًا لا هوادة فيها على منافسيهم العرب وأهل البندقية، وتنتقل السيادة البحرية إلى البرتغاليين. البوكرك يستولي على الموانئ المهمة؛ عدن، أورموز، ملقة. معاونوه يصلون إلى جزر الصند ثم إلى ماكاو في الصين (1517). كان كابرال قد أصاب شاطئ البرازيل بالصدفة سنة 1500. هكذا تكونت إمبراطورية البرتغال المؤلفة فيما عدا البرازيل مع قواعد حربية وقواعد تجارية. جزر الصند منذ أواخر القرن 16 تسقط في أيدي الهولنديين. 

بعد البرتغاليين، يأتي الإسبان كريستوف كولومب (وهو إيطالي جنوي) أراد الوصول إلى بلاد الهند عن طريق الغرب: أليست الأرض كروية؟ عرض مشروعه على ملك البرتغال الذي رفض، فتعامل مع ملكة إسبانيا، إيزابلا. انطلق بثلاث سفن (كارافيل) فوصل بعد شهرين وأسبوع إلى إحدى جزر بحر الكاراييب القريبات من أميركا الشمالية (1492). وظل بعد رحلاته التالية الثلاث وحتى وفاته مؤمنًا بأنه وصل إلى منطقة ما في جوار الهند. ماجلان، وهو برتغالي في خدمة إسبانيا، أثبت خطأ ظن سلفه العظيم، وحقق -من دون أن ينجزها شخصيًا- أول رحلة دوران حول العالم (1519-1522): سار بمحاذاة شاطئ أفريقيا الغربي ثم انعطف وتقدم في عرض المحيط الأطلسي فوصل إلى شاطئ البرازيل وسار بمحاذاته نحو الجنوب ثم عبر المضيق المعروف باسمه إلى المحيط الهادي وتابع في اتجاه الشمال الغربي حتى جزر الفيليبين حين لقي مصرعه؛ وتابعت الحملة سيرها بقيادة أحد معاونيه عبر المحيط الهندي جنوبًا، إلى رأس الرجاء الصالح، وعادت إلى إسبانيا. الرحلة استغرقت ثلاث سنوات. في أميركا بعد جزر الأنتيل، هجم الإسبانيون على القارة. لقد علموا من السكان الأصليين، «الهنود»، أن المعادن الثمينة التي يبحثون عنها موجودة «وراء». دهشوا حين رأوا إمبراطوريتين وحضارتين رائعتين: دولة الآزتيك في المكسيك، ودولة يحكمها الأنكا مركزها البيرو. دمروهما، نهبوا الذهب والفضة. كورتيز يفتح المكسيك (1519-1522)، بيزار يفتح البيرو (1532-1535). ويرتكب الفاتحون جرائم مروعة. الأهالي يزجون في عمل المناجم، يموتون بالملايين. في المنطقة الحارة يحل محلهم الزنوج الذين يستقدمهم الإسبان من أفريقيا. هكذا تبدأ تجارة الرقيق الغربية الحديثة التي ستستمر ثلاثة قرون وتبلغ أوجها في القرن 18؛ عليها سيقوم ازدهار ليفربول، نانت، بوردو، أفريقيا تنزف إلى ما لا نهاية. على الرغم من أصوات الاستنكار في الغرب. 

كان أولها صوت الأسقف بارتولوميو دو لاس كازاس (1474-1566)، ابن إشبيلية وإسبانيا الأعظم، معاصر توماس مور وإراسم ولوثر وإينياس دو لويولا وغيرهم، الذي يكشف الوقائع الأميركية بإصرار لا يلين (بحسب بعض المؤرخين: بالغ، سوَّد الصفحة أكثر من حقيقتها، «كلامه غير معقول»، و: أساء لبلده!)، وينتهي إلى الطعن بكل مبدأ الاستعمار ـ التمدين ـ نشر الرسالة (انتشال الهنود وغيرهم من عبادة الأوثان وتعريفهم بالإله الحق … العادل الرحيم!). هذا الأسقف الكاثوليكي الذي لقب بـ «أبو الهنود» هو أيضًا أب لسلالة فكرية مهمة في تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر: سلالة مناهضي الاستعمار، يغرفون كلهم من معينه الذي لا ينضب. 

الإمبراطورية الإسبانية كبرى الإمبراطوريات الاستعماريات في القرن السادس عشر. وأغناها (ذهبًا وفضة). تضم() قارة أميركا من دون البرازيل البرتغالي، ومن دون أميركا الشمالية: هنا يأتي الفرنسيون والإنكليز ويستوطنون في مناطق الساحل الأطلسي بدءًا من حوالي سنة 1600 (تأسيس كيبك، مركز كندا الفرنسية، 1608)، يستوطنون، يعمرون، يستعمرون. إسبانيا تنظم إمبراطوريتها الأميركية على أساس مبدأ الخضوع الدقيق واحتكار المتروبول للتجارة مع المستعمرات، وعن طريق مرفأ واحد هو إشبيلية. الإسبانيون لا يطبقون الاستعمار بالمعنى الحقيقي الأصلي: استعمار – سكن – زراعة وغير ذلك، إنهم يحكمون، يأخذون الذهب والفضة، يثرون، يعودون. الثروة! والثروة هي المعدن الثمين. هذا هو الموقف المركانتيلي في صفائه الأول، في شكله التاريخي الأول، الإسباني إن صح الوصف. الفرنسيون في كندا، الإنجلوسكسون في أميركا الشمالية، الهولنديون في جنوبي أفريقيا، مستعمرون. الأتراك ليسوا مستعمرين الروس (ق18) يستعمرون جنوبي روسيا بعد إخراج المحتلين الأتراك، وسيبيريا الغربية، وقبلها شمالي وشرقي روسيا الأوروبية. الصينيون (ق17-18) مستعمرون، يستعمرون مناطق التلال في الصين الجنوبية والأراضي الفقيرة في بعض مناطق منشوريا وغيرها. الجرمان ثم السلاف وغيرهم فعلوا ذلك من قبل، في العصور الوسطى، في أوروبا الوسطى والشرقية.

العصور الوسطى الغربية كانت بالأساس استعمارًا. العمل الأساسي الجوهري للإنسان منذ ألوف السنين كان استعمارًا كله. فلننزع عن الكلمات، عن الكلمات جميعها، عن هذه الكلمة أيضًا، صفات الألوهية والشيطانية، الجمال والقبح، خارج السياق، خارج التحديد، خارج هدف الضرب! هذا شرط أول أولي ابتدائي وبدائي جدًّا لأية معرفة غير مصوِّفة وغير مضيِّعة للعمل. 

والمسألة، مسألة إسبانيا والآخرين، ليست بالأساس في أميركا، بل هنا في أوروبا. إسبانيا الغنية القوية المرعبة لا تلبث أن تنكشف عن كونها متأخرة فقيرة وضعيفة على الرغم من الذهب والفضة، والأسطول الذي لا يقهر، والإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، بل على الرغم من كونها مونارشية قومية. 

العواقب التي ترتبت على الاكتشافات الكبرى كانت عديدة وحاسمة وبعيدة المدى، اقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا. 

كانت النتيجة المباشرة تحول خطوط التجارة العالمية عن البحر المتوسط والشرق الأدنى، انحدار موانئ البحر المتوسط، إثراء موانئ الأطلسي. وفي هذه الجملة سقوط مصر واشتداد طور الانحدار الطويل في تاريخ الأمة العربية. الإمبراطورية العثمانية الفتية والشديدة البأس، التي ضمت سورية ومصر وطرابلس والجزائر وتونس، كرهًا أو طوعًا التي ستصعد بوصفها قوة سياسية وحربية في القرن السادس عشر قاعدة في وسط أوروبا()، وتزن بثقلها في ميزان سياسة دول القارة الأوروبية، هي فاقدة من البداية هذا الامتياز الذي كان للعرب: الموقع الوسط في التجارة بين الشرق والغرب، بل الشمال والجنوب، في ما كان، لمعايير وشروط العصر الآفل، الاقتصاد العالمي. الآن الطريق إلى التوابل هو رأس الرجاء الصالح، الدورة البحرية حول أفريقيا بالنسبة للغرب -والآن- أكثر فأكثر، تظهر تجارة كبيرة بين أوروبا وأميركا، والمحيط الأطلسي يحتل مكان الصدارة بين البحار والمحيطات. هذا يفيد وقتيًا إسبانيا والبرتغال وعلى مدى أطول قليلًا فرنسا وهولندا وإنكلترا. مركز التاريخ الكوني، الذي يصير أكثر بكثير من ذي قبل التاريخ الكوني، اتساعًا وعمقًا، ينتقل إلى أوروبا الغربية الشمالية. عصر النهضة والاكتشافات والإصلاح البروتستانتي والاقتصاد الرأسمالي البادئ يحقق هذه الانتقال بصورة متوترة ومكثفة؛ هذا أولًا. 

ثانيًا؛ تدفق الذهب والفضة على أوروبا من ناتج المناجم، وأيضًا من نهب القصور والمعابد والتماثيل، أدى إلى ارتفاع هائل للأسعار وإلى غلاء المعيشة وإفقار ملايين من الناس ولا سيما الفلاحين. هذا المعدن الثمين جاء إلى أيدي التجار والصناعيين ورجال المصارف، ما دفع نمو البرجوازية وتكونها الرأسمالي الحديث خطوة كبيرة إلى الأمام(). والتضخم النقدي لعب دوره «الطبيعي» لأول مرة وعلى نطاق لا مثيل له، أداة لإعادة توزيع الدخل القومي بين السكان: الناس كلهم، طبقات وفئات وأفرادًا، أثروا أو أُفقروا، سرقوا أو سُرقوا. الغالبية أُفقرت، خسرت. الناس لم يخسروا «شيئًا»، مادة، ثقلًا، محسوسًا، مفردًا، نقودًا رنانة، كمًا ماهويًّا ماديًا معدنيًا؛ خسروا شكلًا، روحًا، علاقة، واقعًا، قيمة، ماهية حقيقية. حيث ليس ثمة «تعويض» من عمل وتقدم، البشر هبطوا ومعهم الوطن والدولة. العقَّال من الحكام المسؤولين والمفكرين الحقيقيين ما لبثوا أن شعروا وأدركوا «أن مستقبل الأمة يتوقف على أمور أخرى، على العمل، على الإنتاج، وأدركوا «أن فلح الأرض وتربية الماشية هما الثديان اللذان يطعمان فرنسا، هما مناجم ذهب البيرو الحقيقية»، على حد قول مأثور لوزير فرنسي «شعبي»، هو سولي Sully البروتستانتي وزير هنري الرابع، منهي حروب الدين (حوالي سنة 1600). غير أن المركانتيلية عاشت، بعد زمنها الأول، استمرت بعد تحولها من سياسة النهب الأبسط للمعدن المعبود إلى سياسة تجارة «صادرات – واردات» مونوبولية مع تشجيع الصناعة شبه الحكومية في نوع من اقتصاد دولتي – رأسمالي خاص، أو إذا شئتم في ضرب أول من «اشتراكية». والإنكليز كانوا الأسرع تكيفًا مع متطلبات التقدم الحقيقي المتكامل، في مسيرة مراحلية تلقائية وداعية. والإنكليز سوف ينجبون آدم سميث، بينما فرنسا قبلهم بقليل أنجبت الفيزيوقراطية (ق18). الفيزيوقراطية (حكم الطبيعة أو مذهب الطبيعة) ترد الاعتبار في المستوى النظري الأعلى للزراعة، إذن للشغل الزراعي؛ آدم سميث يجرد الشغل بوصفه محض فاعلية ذاتية للإنسان، وعلى هذا الأساس من تجريد كلي و((تذويت)) يبني علم الاقتصاد السياسي البرجوازي العظيم. العثمانيون كانوا في حال واقعية أسوأ من حال الإسبان: ليست مناجم البيرو في حوزتهم، لكن ناتجها يأتي إليهم أيضًا، ويفعل فيهم وفينا مفاعيله الملائكية الشيطانية بلا شيء من تعويض: غلاء الأسعار، تدهور أحوال الشعب المنتج والإنتاج، وتدهور القيمة الحقيقية لمال الخزانة التي لا تشبع، ومضاعفة الأتاوى المفروضة على شعب المنتجين من قبل الخزينة، الولاة – الجباة، أي من قبل «فرع النهب في الداخل» في دولة «الاستبداد الشرقي»، وتعطل أو تلكؤ «فرع الأشغال العامة»، مع ضعف أو عدم جدوى نشاط الفرع الثالث والأخير: نهب الخارج أي وزارة الحرب. أخيرًا يختلط الداخل والخارج، الداخل يميل إلى الخروج، حفظه يقع على عاتق فرع نهب الخارج! من حوالي سنة 1500 إلى حوالي سنة 1800، تنحدر مصر وبلاد الشام انحدارًا مخيفًا. بالطبع: المعدن الثمين والعثمانية التركية العربية وضياع الموقع الوسط، هذا كله كان أيضًا، إضافة إلى أهميته بذاته، كاشفًا ومفجرًا لعيوب ونقائص حالة عربية – شرقية – إسلامية سابقة. 

ثالثًا. في المجال الفكري والثقافي، أدت الاكتشافات الكبرى إلى توسع عظيم لكل المعرفة الإنسانية. انكشف للناس عدد لا يحصى من أشياء جديدة، أراض وبحار، قارات ومحيطات، نجوم وأجواء ورياح ومناخات، أجناس بشرية، حيوانات، نباتات الخ، مما حفز الاستطلاع والفضول العلمي وقلب النظريات والمعتقدات القديمة رأسًا على عقب. الأمر الذي التقى بالتمام وبصورة مباشرة مع حركة النهضة، مع النزوع الجوهري لهذه الحركة الثقافية العريقة. هذا الوجه للأمور لم يصبنا، وعلى الأرجح لم يلامسنا؛ ربما لم يعد عندنا آنذاك أناس يظنون أن الأرض كروية. والتقى أيضًا مع تكون الأمم والدول الحديثة: «الرحلات» حملات، حملات تنظمها الدول: إسبانيا، البرتغال، فرنسا، هولندا، إنكلترا، الدانمارك وغيرها؛ في وقت لاحق، ستكون هناك حملات علمية، حملات استكشاف في البحار ووراء البحار، في مجاهل القارات، في أعماق سيبريا، في هذه الحيثية، روسيا القرنين 17 و18 ولا سيما روسيا كاترين الثانية، أوروبية تمامًا، وفي الطليعة. والتقى أخيرًا مع التطور الاقتصادي البرجوازي الرأسمالي. لنقل باختصار أنه جزء من روح الفتح التي تميز العصر كله الذي يدشن أوروبا الحديثة التي تتجلى مع أشكال وهيئات مختفة. هؤلاء القادة الملاحون الذين توغلوا في محيطات المجهول وجابهوا الأمواج العاتية وقوى الطبيعة المنفلتة كان بإمكانهم أن ينشدوا مع لوثر وقبله «الله ونفسي»، أو «ربنا حصن أمين»، مارسييز القرن السادس عشر، بحسب تعبير إنغلز. 

هذا الأثر الثالث يمكن أن نميز فيه وجهين: أولهما أن مسيرة نشوء وتكون المعرفة العلمية الوضعية الإيجابية غير الخيالية، الحديثة، بما فيها سيرورة تفرع شجرة العلم وتخصص العمل العلمي المعرفي، دفعت خطوة حاسمة إلى الأمام. وهي تبدأ أساسًا بعملية جرد الوقائع، الكائن، الدنيا، الموجود، تبدأ بالفهرسة بالتصنيف، وبينما الثورة الكوبرنيكية الفلكية – وهنا انتقل إلى الوجه الثاني – تنسف التمركز الهاذي في الكرة الأرضية وطن الإنسان، فإن هذه الثورة الكوبرنيكية الأخرى، الأرضية، تنسف، في الوعي المتقدم، التمركز الهاذي في الإقليم الصغير: أوروبا أو أوروبا والعرب – الترك – المور Maures الكوبرنيكية منظومة ذهنية شاملة، نمط فكري كلي. وضوحًا، العالم ليس عالم «المؤمنين» و«الكفار» وحدهم؛ بل هو أيضًا عالم «الوثنيين»، ربما الصين أكبر من مجموع أوروبا بأممها المتطاحنة؛ ربما الصينيون واليابانيون وأهل الهند والصند وسود أفريقيا وهنود الغرب أكثر عددًا بكثير من مجموع الكاثوليك و«الهراطقة» و«المنشقين» وطوائف «الكفار» الذين رفضوا الإيمان المسيحي أصلًا وتوسعوا، من يوم ظهور دينهم قبل تسعة قرون حتى يوم ضياع القسطنطينية واستعادة غرناطة وبعده، على حساب المسيحية، مضافًا إليهم أولئك الذين «صلبوا المسيح» والأحياء في كنف هؤلاء وهؤلاء. مقولة «الوثنيين» والمقولات «الدينية» الأخرى تهتز في وعي المتقدمين، ملوكًا، مفكرين، أساقفة، مبشرين، مثقفين. القرن السادس عشر ليس سوى بداية. لكنه بداية، البداية الجذرية القوية، الضاربة في الأرض والشامخة إلى السماء. ذكرنا نقولا دو كوزا، التصوف، الأيزوتيرية، الفلسفة. اليسوعيون في الصين سوف يتكيفون مع الصين ويكيفون المسيحية مع العبادة الصينية. إن هذا النزع للتمركز «البطليموسي» على الإقليم والذات شرط للكلية، للكونية، للموضوعية، للتقدم اللامحدود، وبالتالي وعلى أساس هذه الموضوعية ذاتها، شرط لتفوق أوروبا وسيادتها على عالم العوالم الأرضي ولصيرها الفعلي المتعاظم مركز التاريخ الكوني. العثمانيون، في القرن السادس عشر وبعده، مؤمنون بالتمام والكمال بتفوقهم على أوروبا الكفر والبربرية؛ هذا بحد ذاته، هذا وحده، نقطة ضعف وسقوط وهلاك. الأوروبيون، وهم من الآن في القرن 16 متفوقون، يشعرون بنقص، بحاجة، بعوز، بفقر، بحاجة إلى شيء آخر. هكذا كانت الحال في اليونان القديمة. بل هكذا كانت الحال في أوروبا المسيحية الغربية، على الأقل، لأن الغرب كان يرى تفوق العرب الحضاري والثقافي، ويبهر بالشرق المتمدن. وهكذا الحال خصوصًا في زمن النهضة، وهكذا ستكون في القرن الثامن عشر، عند عتبة الثورة الفرنسية والثورة الصناعية. بالمقابل، الشرقيون بوجه عام، فيما عدا بعض الفواصل أو الفصول من أهمها طور الصعود العربي()، مكتفون جوهريًا، لا يشعرون بفقر، بعوز، بحاجة إلى شخص آخر، إلى شيء آخر، إلى غير وتغير. إنهم أغنياء، مستغنون. إنهم في الهوية، اللافرقية واللاتناقضية، وفي السرمدية. أوروبيو القرن الثامن عشر سيخترعون نظرية «المتوحش الطيب». وهم من الآن يسلطون النقد على الذات. الشرقيون غارقون في الذات، يرون تفوق الغرب ولا يرون، يصدقون ولا يصدقون. 

ترجمة لفويرباخ، تعريبًا للغة فويرباخ شعبيًا وترجمة لها إلى وجهة نظر التاريخ ومصائر الإنسان أضيف: من ليس عنده حاجة ليس عنده «حاجة»، من ليس عنده آخر وغير ليس عنده ذات، وحده الكائن المعوز والمعتل هو الكائن الحق؛ وهيغليًا: وحده الصائر كائن! النهضة والاكتشافات الكبرى تطرح مسائل الإنسان كبشرية، الاكتشافات الجغرافية وتوابعها الاستعمارية والبربرية تطرح مسائل العالم بوصفها مسكونة ومسائل المسكونة بوصفها عالمًا مليئًا: بارتولوميو دو لاس كازاس مثال كبير جدًا في بساطته الدينية والعقلية، في بساطته كوجدان ووعي. الإنسان مسكونة مبسوطة، تقول الاكتشافات الجغرافية. لوثر يضرب ضربة أخرى في العمق. 

 

3- الإصلاح والأمم

القرون الوسطى الأخيرة (ق12-15) عرفت حركات دينية أخرى، «هرطقات» هي – من بعض الحيثيات، أو لنقل في حيثية اليسار والسياسة والكدح – أكثر ثورية من لوثر والبروتستانتية كلها. لوثر يقف مع الآراء، على رأس الأمراء ضد الفلاحين الثائرين في حرب مكشوفة، مستمطرًا عليهم لعنات السماء وسكاكين الأرض. والبروتستانتية، في زمن لاحق وحاسم، في عدد من البلدان أو ربما في بلدانها معظمها، تتخذ شكلًا برجوازيًا صارمًا وتافهًا أو حقيرًا من بعض المناحي المهمة؛ لسانها: فقر الفقراء، فشلهم في الدنيا، دنيا الأعمال business، دليل على أنهم من غير المختارين المصطفين، وغنى الأغنياء بالعكس! لا رحمة ولا شفقة ولا مسيحية إنجيلية ولا مسيحية بدء وأصل وسلف صالح ولا من يحزنون؛ ولا صدقة ومحبة وإحسان. إن هرطقات القرون الوسطى جميعًا بعيدة عن هذا الموقف البرجوازي الذميم. وهي هرطقات متنوعة في طابعها وتكوينها الاجتماعي واتجاهاتها. كلها تحمل طابع تمرد على الواقع الكائن، بلباس ديني هو أيديولوجيتها الوحيدة الشاملة وحافزها الجبار. بعضها «رجعي» مبدئيًا، يعبر عن ميول رعاة وفلاحي جبال الألب وعن تصميمهم على المحافظة على العلاقات الأبوية البطريكية ضد الإقطاعية الآتية الصاعدة وكنيستها. بعضها «شاذ» في خط التطور الغربي الأوروبي، هذا ما يمكن قوله؛ لكن يجب القول أيضًا: خط التطور الأوروبي الغربي ليس معطى مطلقًا، مجردًا ومعزولًا، إنه ابن التاريخ العام الكوني، العياني وطبيعة الأشياء، وهو محاط بالعالم، يأخذ من هذا العالم «الخارجي» موادًا ضخمةً وعناصر مهمة، لا سيما من «الشرق» القريب، وبصورة خاصة عند منعطفات التاريخ الكوني ومفصلات «خط التطور الغربي». بعضها بل معظمها لعب على نحو ما دورًا تقدميًا، من وجهة نظر التاريخ صب في خط التطور المذكور، متنوع الروافد، المتناقض ومتكامل الاتجاهات، والمنتهي إلى مجتمع مدني برجوازي. وبعضها الأخير والكبير (جان هوس Huss وأنصاره التالون) لعب دور سلف مباشر للإصلاح اللوثري والبروتستانتي. وبالطبع، جميعها لها طابع ما من تصوف، طابع سوف يكون كل مصلحي القرن السادس عشر تحت تأثيره. معظمها مسيحي، وجميعها ذات صلة بالمسيحية، وإن كان معظمها يبتعد عن العقيدة المسيحية القائمة والتاريخية. وجميعيها له طابع هجوم قوي على الكنيسة، المؤسسة والأيديولوجيا، الكنيسة السيدة والسيادية، حاملة مفاتيح السماء وعلى الأقل بعض مفاتيح الأرض، في المجتمع الإقطاعي الفيدرالي الغربي، حيث لا يوجد خليفة أمير للمؤمنين بل يوجد بابا وإمبراطور، وهو المجتمع الذي تعترض عليه الهرطقات وترفضه. 

ثمة خطآن يجب تفاديهما في تقييم تلك الثورات الوسطوية. الخطأ الأول: بما أنها ثورات، بما أنها موجهة ضد الإقطاعية والكنيسة، أن تضفي عليها طابع الثورة التقدمية، وكأن الإقطاعية والكنيسة هما الشر المطلق القاعد خارج التاريخ. ذلك موقف ينفي، من العتبة، التاريخية والجدلية والمادية، أو المادية والجدلية والتاريخية، معًا على حد سواء. الخطأ الثاني: أن نعد كل فكرة عودة أو رجوع رجعية. هذا خصي للجدل الذي يفترض ويتضمن ويقتضي فكرة العودة والرجوع إلى بدء، خصي للجدل يحوله إلى تطورية غير جدلية (موقف عدا ذلك يمكن أن يلتقي مع الخطأ السابق في تصور طيراني). حين تطرح بعض هرطقات العصور الوسطى الغربية شعارًا من نوع «حين كان آدم يركش وكانت حواء تغزل أين كان النبيل؟»، فإن هذا الشعار ليس، بالضرورة، وفي حكم الموضوعية والتاريخ، رجعيًا. يمكن أن يكون كذلك، ويمكن أن يكون بالعكس، ويمكن أن يكون الاثنين في آن معًا، بحسب السياق والجملة ومرحلة البسط. فهو يرفع فكرة الشغل ضد النبالة والفروسية والشاعرية وما شابه من قيم العصور الوسطى، يرفع فكرة الشغل التي هي إنسانية برجوازية()

إن هرطقات العصور الوسطى، في حيثية اليسار والسياسة والفقراء، بمزدوجين أو من دون هما، أكثر ثورية، وأحيانًا بكثير من لوثر والوثرية والبروتستانتية. ولكنها بوجه الإجمال ليست أكثر تقديمة. بتعبير آخر: «تقدمية» حاكمة على «ثورية» و«ثورة»، في منظور العقل. لسوء الحظ، لا يبدو اليسار عندنا آخذًا قياس هذا الحكم! وآخذًا وعي حقيقة أن تاريخنا مليء بـ «الثورات»، وليس بالتقدم. البروتستانتية عمومًا، بل اللوثرية أولًا، هي التقدمية وهي الثورية من وجهة نظر الجدوى التاريخية، وهي تختلف جوهريًا عن ما سبقها كله. 

لنقل مباشرة أن اللوثرية – البروتستانتية – الكالفينية، بعكس «البروتستاتنيات» (الاحتجاجات) التي سبقتها كلها، انتصرت. امتدت في مد كاسح، شملت شعوبًا وأممًا، طبعت شعوبها وطوائفها وأفرادها، عاشت حياة مديدة، هي حياة أي حركة وتغيير وتنوع منقطع النظير، تنوع معلوم ومنظور، علاني. صارت حاكمة. انتصارها الكاسح تحقق من البداية، وكأن الناس والتاريخ على موعد. ملابسات؟ ملابسات متنوعة، سياسية، أميرية، دولتية، قومية، ظروف، أسباب، عوامل مختلفة غير دينية وغير شعبية، ساعدت هذا النصر. وَقْعَنَت() هذا النصر؟ لا ريب، لكن بالضبط: وكأن التاريخ على موعد! التاريخ بمعطياته ومضامينه. هذا أولًا. وثانيًا، على الرغم من اللبس جميعه، فإن دعوتي لوثر ثم كالفن «سرت بين الناس سريان النار في الهشيم»، على الأقل في أوروبا الغربية الشمالية؛ شمال الألب وشمال البيرينه. اكتسبت، من اللحظة الأولى طابعًا أوروبيًا غربيًا عامًا، وقوميًا متعدد الطبقات، في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا وسويسرا والمجر والنمسا وسكوتلندا وسكاندينافيا، في بلدان متقدمة وبلدان متأخرة. أجل، هذا الطابع المزدوج نجده، من قبل في هرطقات القرون الوسطى بدرجة وأخرى، بصورة وأخرى، لكن على نحو محدود، أو محدود جدًا إذا ما قورن بواقع «الهرطقة» الجديدة. وهذا النمو يعبر عن نمو أوروبا وحدة، وعن نمو أممها وطبقاتهن، سواء بسواء. والبروتستانتية في هذا تلتقي مع حركة النهضة بحصر المعنى ومع العصر كله. جملة هذا العصر نمو ثوري لجملة العصر السابق. ولنقل، بصدد حركة النهضة وحركة الإصلاح، إن الثانية أضخم بكثير من الأولى، أضخم شعبًا، إن الأولى تصيب بشكل مباشر الثقافة والمثقفين والمتعلمين (وهم قلة وإن قفزت في الحجم والفعل) بينما الثانية تصيب الشعب، الجمهور، تخض أعماق المجتمع، كل المجتمع، بدءًا من المثقفين فرسان النهضة والإنسانوية: إنها دين. الأولى فنون وآداب وعلوم وفلسفة، الثانية دين؛ دين في زمن ما زال تحت هيمنة الدين: نيف و95% من الناس يؤمنون بهذا الدين بالمعنى التقليدي تمامًا، يؤمنون بأن هناك جنة تنتظرهم فوق أو جهنم في مكان آخر؛ ونيف و95% من فكر المفكرين والفلاسفة الأحرار يجري على قاعدة مسألية دينية؛ الميادين كلها مربوطة بالدين، البروتستانتية دين، ودين يطبع الثقافة ويحررها؛ بصمت، بهدوء، ببطء، بفعل طويل، لكن يحررها. يحررها أولًا وأخيرًا بضربة السلطة في الدين، السلطة الخارجية الإنسانية العليا، بتأكيده الجوانية، مبدأ الوجدان. الفلسفة الألمانية، الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، بنت لوثر، بنت لوثر والمسيحية، بين أمور أخرى، ونوعًا ما على رأس أمور أخرى بنت موسيقا باخ، بنت لوثر، لوثر والمسيحية، «النشيد» اللوثري (choral) والغوتية Gothique والكاثوليكية، بنت الوجدان والنظام والعمارة. وآدم سميث السكوتلندي «لوثر الاقتصادي السياسي» (إنغلز الشاب). ولنقل أخيرًا، بصدد هذه اللوثرية البروتستانتية والاحتجاجات، الثورات، الهرطقات التي سبقتها، إن هذا الاحتجاج الأخير في المسيحية، والأشد قوة وعمقًا وعنفًا في المسيحية إيمانًا وعقيدة، هو في المسيحية، داخل المسيحية إيمانًا وعقيدة، دينًا ولاهوتًا وسيكولوجيا. ولهذا السبب، يبدو أشد قوة وعمقًا وعنفًا، لهذا السبب هو أكثر انتشارًا وأكثر شعبية. إنه أكثر انتماء للمسيحية، وأكثر انتماء لأوروبا وتطورها، وأكثر فعلًا في خط تطورها الغربي، مركز التاريخ الكوني. 

كانت الكنيسة في طور انحطاطها. بعد أن لعبت دورًا إيجابيًا كبيرًا في خروج أوروبا الطويل الشاق من البربرية إلى المنظومة الإقطاعية ومعها المدن، دور تنظيم و«تثقيف»، بحسب هيغل: بكرباج القنانة وكرباج الكنيسة تعلم الأوروبيون الشغل؛ وتعلموه جيدًا(). كانت الكنيسة قد دخلت في أزمة مديدة، وفقدت قسمًا كبيرًا من هيبتها وسلطتها. الجامعة الكاثوليكية الرومانية ذات الرأسين: بابا وإمبراطور، تتداعي بنشوء الأمم وصعود الممالك القومية في الغرب الأقصى: إنكلترا لا تخلق مشكلات، إنها مطيعة وبعيدة، مبدئيًا؛ قشتالة، إسبانيا غارقة في حرب «الاستعادة» والكنيسة معها؛ فرنسا «البنت البكر للكنيسة» وجلالة «ملكها المسيحي جدًا» مصدر مشاكل مؤذية. الملك فيليب الجميل (حوالي سنة 1300)، وهو بعد فيليب أوغست أهم بناة المملكة القومية، ملك قومي برجوازي الاتجاه في الحقوق والتشريع وفاقد لأية روادع خلقية، يطعن الكرسي الرسولي، يعتدي رجاله على شخص البابا العجوز متسببين بوفاة هذا الشيخ العنيد والآمر المتكبر (1303)؛ ثم ينصب بابا جديدًا، فرنسيًا وعميلًا لملك فرنسا، ينتخب في سنة 1305،«يغطي» بعض أعمال ولي نعمته لا سيما إبادة رهبنة فرسان الهيكل (إعدام حرقًا بعد محاكمة طويلة) والسطو على أموالها الطائلة، بعد أن جاء ليقيم في مدينة آفينيون Avignon التي صارت مقرًا رسميًا للكرسي البطركي بدلًا من روما مدة سبعين سنة (1309-1376). ومن 1378 إلى 1429، أي مدة خمسين سنة، يقع ما يدعى بـ «انشقاق الغرب» أو «الانشقاق الكبير»: بابوان وأحيانًا ثلاثة في آن واحد، أحدهما في آفينيون. هذا أولًا. ثانيًا، الهرطقات وحمامات الدم التي أنهتها، محاطب العصور الوسطى الأخيرة، تركت وتترك أثرها في النفوس في مناطق عدة(). ثالثًا، الكنيسة تراجعت أمام الفلسفة، بل «عمدت» أرسطو، أدخلته في العقيدة الفلسفية الرسمية: هكذا التومائية، مذهب القديس توما الإكويني (ق13). ومع أن هذا الموقف كان تقدمًا أكيدًا يسوغ العقل، العقل والخبرة والواقع الخارجي الموجود والمحسوس والمدرك، وإن تحت جناح الإيمان والكتاب واللاهوت، فإن الفلسفة، لهذا السبب الأخير، لم ترض به؛ ولم ترض به النفوس المؤمنة كلها (أفلاطون أقرب منالًا من أرسطو، للاهوت، ظاهرًا على الأقل): سيجر دو برابان، مدرسة بادوا، ريمون لول، أوكام، سيد أكهارت، نقولا دو كوزا، هم في أحد هذين الخطين، أو في كليهما معًا (فلسفة وإيمان في وحدة توفيقية أو غير توفيقية). لوثر سيكون تحت تأثير غيوم أوكام الأسماني() (ق14) «الدكتور الذي لا يقهر»، «الدكتور الوحيد»، الإنكليزي تلميذ دنس سكوت في باريس، والمقاتل الضاري ضد البابا وسلطة البابوات، وتحت تأثير سيد إكهارت والتصوف المسيحي واسع الانتشار في ألمانيا وادي الراين. 

أخيرًا، جاء زمن النهضة والإنسانوية والطباعة: إراسم من روتردام يصدر النص اليوناني للإنجيل، وكتابه مدح الجنون وهو هجاء لاذع لكنيسة زمنه. «قصص الخوارنة» كانت معروفة جيدًا عند قراء «ديكامرون» بوكاسيو Boccace (وهو خليفة بترارك في تاريخ نهضة الأدب الإيطالية)، وعند الذين لا يقرؤون. الإنسانيون يقلبون التعليم (الجامعي) في اتجاه حرية البحث. طبعات الكتاب المقدس تتواتر، خصوصًا في ألمانيا. ومطابقة النص اليوناني والنص اللاتيني تذهب ضد «السلطة»، وضد عملية سحب الروح القدس من فوق رؤوس الإنجيليين الأربعة إلى فوق رأس المترجم اللاتيني القديس جيروم الذي عاش حوالي سنة 400، وضد كل عملية الرفع إلى فوق (الأناجيل كتبها أربعة آدميين وإن كانوا مسلحين بالوحي) التي درجت عليها الكنسية بصورة طبيعية في أزمنة الظلام والبربرية، وما زالت عليها في زمن النهضة. بابوات زمن النهضة (إسكندر السادس بورجيا)، جيوليو الثاني، ليون العاشر: (1492-1521) أمراء طليان نهضويون غارقون في الفن والأدب أو في السياسة والحرب، أو في الاثنين وفي حياة اللهو والبذخ؛ الأول مشهور باسمه وكنيته، بحياته الخاصة وحروبه ومكره وعطاءاته السخية لأفراد عائلته؛ الثالث مهتم بتشييد كنيسة القديس بطرس، مثال السلطة والهيبة. والكنيسة من فوق إلى تحت في حالة ارتخاء خلقي عام؛ المناصب تباع للذي يدفع أكثر؛ الأكليروس يسترسل في الممارسات الخارجية للعبادة، من حج إلى أماكن مقدسة لم تعد تحصى، وغفرانات، واحتفالات ومواكب دينية متنوعة، تتحول إلى عمليات مالية مثمرة. قراء الأناجيل يتساءلون: أهذه كنيسة المسيح؟ (مسألة فقر المسيح وفقر أتباع القديس فرانسيس شغلت أوكام وزمنه). ولسان بض اللاهوتيين (و90% من المفكرين والفلاسفة لاهوتيون): هذه «الكنيسة الظاهرة» ابتعدت كثيرًا عن «الكنيسة الحقيقية أو الواقعية réelle»، جامعة الإيمان الحق، روح الله وجسد المسيح الحي، حسب بولس الرسول. حسب لوثر، منتسر، هوتن، ميلانكتون، كالفن، وعشرات الآخرين، إنها الفسق بعينه، إنها روما الفاسقة، سادوما الرومية. فكرة الإصلاح في الجو، إنها مطلب عام، في أوروبا زمن النهضة، مطلب عام وإن كان هناك اختلاف وخلاف في السبل والأشكال. الكنيسة لم تستجب لمطلب التاريخ. الانشقاق يقع بصورة حادة، مفاجئة، جذرية وعارمة، هذا الشكل يختلف كثيرًا عن «انشقاق الشرق» الذي كان مسيرة طويلة (ق9-11) بين عالمين مختلفين متباعدين، وكان بنسبة تسعة أعشاره قضية «سياسة» بين بيزنطة الشرق – الإمبراطور وروما – البابا – الغرب، في زمن وسطوي تمامًا؛ كان إن صح التعبير إمضاء على واقع تلقائي. 

مارتن لوثر Luther (1483-1546)، راهب أوغسطيني، أستاذ لاهوت، في عمر النضج والثورة والهداية. تقواه الحامية والقلقة تثور أمام مشهد بيع لصكوك غفران: الكنيسة حاملة مفاتيح السماء فتحت بنكا هنا، تحت؛ خليفة بطرس الرسول يريد أن يبني له كنيسة في الدنيا الفانية تليق بدار البقاء. لوثر يعلن على الملأ أن الغفرانيات معاكسة للكتاب (1517)، يلقى عليه الحزم، يطرد خارج الكنيسة، سفينة نوح التي لا نجاة خارجيها (1520). لوثر يضع مذهبه: الإنجيل هو القانون الوحيد؛ الخلاص يأتي بالإيمان، لا بالأعمال، الممارسات الخارجية؛ ثلاثة أسرار مقدسات عمادة، مناولة أو مشاركة، توبة بدلًا من سبعة في الكاثوليكية (عمادة، تثبيت، مناولة، توبة، مسحة ما قبل الوفاة، رهبنة، زواج)؛ الطقس العبادي يُبسَّط، الصلوات تتلى بلغة أهل البلد (لا باللاتينية)، الصور تحذف من الكنائس؛ وزراء العبادة (أي خادموا العبادة، الكهنة) يمكن أن يتزوجوا. لوثر يترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية، «يطهر إسطبلات اللغة الألمانية عدا عن تطهيره إسطبلات الكنيسة» (إنغلز)، يؤسس اللغة الشعبية الأدبية القومية للألمانيين جميعهم. وهذا عمل من صميم عصر النهضة في مختلف البلدان؛ يطور الموسيقا الدينية، يضع «النشيد» المعروف باسمه، الكورال (le choral) اللوثري ولاسيما أناشيد: ربنا حصن أمين، الله ونفسي، الله مات (الله نفسه مات: المسيح). على هذا الخط، سوف يكون باخ، وهيغل، الموسيقى الكلاسيكية الألمانية في أساسها (ولا بيتهوفن بلا باخ)، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية في ذروتها وخاتمتها. الرسم يموت في ألمانيا، لكن يبلغ ذروته في هولندا (ق17). 

لوثر قام بعملية تذويت قطعية، هذا جوهره، ألغى الكاهن الخارجي، «دخل» الكاهن جوانيًا، جعل كل إنسان كاهنًا أو راهبًا (وهذا أمر راعب) رقيبًا على نفسه. وكل موقفه ضد الأعمال، الممارسات الخارجية، وحساب الأعمال الكاثوليكي في الميزان وضد الصور في الكنائس مرتبط بها الموقف الجوهري: الجوانية، بهذه البذرة، النواة الذاهبة ضد جماعية وجمعية وقطيعية «الجماعة»، البذرة التي هي أيضًا موقف المسيحية الأولى: روما الأخيرة، أفول الرق، عالم الإمبراطورية وأفوله، انبساط الاقتصاد السلعي «البرجوازي»، الرواقية، أوغسطين، البذرة التي لا غنى عنها لإقامة مجتمع مدني هو مرحلة ضرورية في التاريخ الكوني، بسط الإنسان. ولوثر أجرى تطويرًا مهمًا على مفهوم «الدعوة»، «النداء»، Vocation، Beruf. بحسب رأيه: ليس الكهنوت، الرهبنة، خدمة العبادة هي أو هي وحدها «دعوة»، بل العمل، المهنة، الحرفة. إذن الشغل مأخوذًا بوصفه حياة فرد في مجتمع أعمال، مهن. 

على الرغم من كون لوثر أيد الأمراء وقادهم ضد الفلاحين (والأمراء قمة الإقطاعية)، إنغلز لا يفتأ يسميه مصلحًا برجوازيًا. في اختزاله لسيرة «حرب الفلاحين في ألمانيا» يقول إنغلز: الجناح الإصلاحي البرجوازي (لوثر) في الثورة البرجوازية الألمانية الأولى تغلب على الجناح الثوري العوامي (منتسر)، وانتصرت بالنتيجة الأميرية والإقطاعية والقنانة والتجزؤ القومي على الثورة البرجوازية برمتها وعلى الحرية كلها وعلى الوحدة القومية (إنغلز يشدد كثيرًا على التجزؤ والوحدة. هذا اللحن القومي يسيطر على بداية وخاتمة بحثه). بالطبع هذا كله، بثرائه الكبير، لا يستنفد القضية والمسائل. في كتابات أخرى، ماركس وإنغلز أعطيانا أضواء كاشفة للطريق، فلسفية وتاريخية وسياسية: تجريد، إنسان، فرد، أمة. 

عملية لوثر (1520) خضت على الفور ألمانيا وأوروبا. إيراسم لا يؤيد لوثر، يخشاه، يجد فيه -بحق- جانبًا مناهضًا للثقافة، وجهًا فلاحيًا جرمانيًا غليظًا. توماس مور لن يؤيد بدعة ملكه وانشقاق إنكلترا. أما في ألمانيا، فالإنسانوي أولريش فون هوتن Hutten (1488-1523) يؤيد الحركة، يدعو إلى الحزم، يشن حملة على الأمراء والأساقفة وأيضًا على برجوازية شعب ألمانيا: إنه منظر «ثورة النبلاء» ضد الأمراء وأمراء الكنيسة. كل طبقات ألمانيا دخلت حلبة الدين والسياسة، وعددها ليس طبقتين أو ثلاثًا، بل ستًا أو سبعًا. والإنسانوي الآخر ميلانكتون Melanchton صار ملازم لوثر، وسيكون محررًا «بيان إيمان أوغسبورغ». الأمراء وجدوا في الإصلاح وسيلة للاغتناء بتجرير الكنيسة من أملاكها؛ واستولوا على هذه الأملاك، «علمنوها» حسب مصطلح الزمن. الفلاحون ثاروا في منطقة التورنج Thuringe بقيادة توماس منتسر Munzer، ومعهم شيعة المعمدانيين (أنصار مذهب العمادة الثانية)، وبعض عوام المدن ورجال من أصول متنوعة: ثورة فلاحية عوامية شيوعية، مساواتية دينية نبوية، في «جيش تحرير شعبي»، يسحق على يد جيش الأمراء في يوم فرانكينهاوزن (1525): لوثر تراجع عن بعض مواقفه الأولى، لكنه بالأصل ليس توماس منتسر. الحرب بين الإمبراطور شارل الخامس (وهو إمبراطور النمسا – ألمانيا وملك إسبانيا وسيد البلاد المنخفضة والمستعمرات الإسبانية) والأمراء البروتستانت الألمان المتحالفين مع ملك فرنسا الكاثوليكي تنتهي في صلح أوغسبورغ (1555) بتراجع الإمبراطور الذي يعترف للأمراء اللوثريين بحق تسوية شؤون الدين في دولهم مثل ما يشاؤون: «كما دين الأمير كذلك دين الرعية». تجزؤ ألمانيا يتعمق في شكل تجزؤ مذهبي – إقليمي: دول، ولايات بروتستانتية ودول، ولايات كاثوليكية. اللوثرية تصير كنسية رسمية لدول – ولايات ألمانيا الشمالية والشرقية، ولمملكة بروسيا التي ستنشأ بصعوبة في القرن 17 وتتحول فجأة إلى دولة عظمى في القرن 18. حرب الثلاثين عامًا (1618-1648) تثبت التجزئة وتلحق الخراب بألمانيا مسرح تطاحن الدول العظمى وعملاءها من دول – ولايات. ألمانيا بعد لوثر ومنتسر وحروب القرن 16 وحرب (الثلاثين عامًا) جسم مشلول تقريبًا، بلد متأخر ويتأخر أكثر فأكثر عن جيرانه في الغرب، عن هولندا وإنكلترا وفرنسا؛ واللوثرية مدجنة، متخلفة، رسمية، محافظة، ضيقة الأفق. 

من ألمانيا، اللوثرية انتشرت على الفور في الدول السكاندينافية. ملك السويد ثم ملك الدانمرك والنروج تبنيا البروتستانتية اللوثرية وحرما العبادة الكاثوليكية. اللوثرية صارت إذا كنيسة قومية رسمية حكومية. السويد تحررت من ملك الدانمرك (1523). ثم صارت دولة عظمى، مع جيش قومي نظامي حديث متقدم في التسليح والتدريب والتاكتيك القتالي، على يد ملكها غستاف أدولف (1611-1632). 

في فرنسا، كان هناك حزب إصلاح منذ أوائل القرن. في 1523، ترجم أحد الإنسانويين الكتاب المقدس إلى الفرنسية، ولكنه كان يأمل أن يتحقق الإصلاح من دون قطيعة مع روما. الكنيسة الرسمية اضطهدت أنصار الأفكار الجديدة، ثم وقف الملك فرانسوا الأول (وهو من ملوك النهضة، أي ناقل النهضة الإيطالية إلى فرنسا: «قصور نهر اللوار») ضد البروتستانت(). عندئذ فر جان كالفن Calvin إلى سويسرا. صاغ عقيدته في كتاب مهدى إلى الملك المذكور وعنوانه «تأسيس الدين المسيحي» (1536) وهو من روائع آداب اللغة الفرنسية. كالفن يدفع أموره، عقيدة وتنظيمًا، في خط لوثر، لكن أبعد من لوثر: الإيمان وحده ينقذ الإنسان، والله اختار من الأزل مصطفيه، الذين أعطاهم الإيمان الذي ينقذ (مذهب التقرير المسبق)؛ كالفن يحذف سر التوبة، يبقي على سرين فقط، يرفض الممارسات الخارجية كلها، وكل تسلسل أكليركي، وكل زينة في الكنائس؛ وزراء العبادة، القساوسة، يتجندون تحت رقابة جمعية المؤمنين. هكذا، شكلت الكنائس الكالفينية من البداية جماعات حرة وديمقراطية الطابع؛ الأمر الذي جعل الملوك والأمراء يناصبونها العداء. 

كالفن الذي كان في مدينة بال، يدعى إلى جنيف (سويسرا فرنسية اللغة)، يحكمها من 1541 حتى وفاته في سنة 1564، حكم سيد مطلق، يفرض حياة صارمة على المجتمع، ولا يرحم من يجرؤ على العقيدة: هكذا يُعتقل ميشيل سرفه ويُحرق حيًا (1553). بقيادة كالفن، تصبح جنيف نوعًا ما عاصمة البروتستانتية في أوروبا. الكالفينية تنتشر انتشارًا واسعًا في فرنسا، سكوتلندا (وهي قطر مستقل ومتأخر)، البلاد المنخفضة، ألمانيا، المجر وغيرها. الكالفينية تبدو من حيث طريقة انتشارها مختلفة عن اللوثرية، وقريبة من المسيحية الأولى المضطهدة التي لم تصبح بعد دين الدولة على يد قسطنطين (ق4): الاعتناق الفردي الذي يكتسح الوجدانيات (وفي بعض الأقاليم أكثرية الوجدانات، مشكلًا عندئذ جماعات حية حاكمة في إقليمها)، الإيمان الصامد في وجه جبال الاضطهاد. مذهب التقرير المسبق، وهو بالأصل مذهب أوغسطيني، يسلح المؤمنين، في السياق التاريخي الواقعي، بطاقة هائلة في الكفاح ثم في العمل والأعمال. من جهة أخرى، إن عصرية كالفن تظهر في قبوله فائدة أقصاها 5 بالمئة على المال. كانت الفائدة محرمة بموجب النص والشرع الديني في العصور الوسطى (محرمة مبدئيًا، على الرغم من وجود آراء بالعكس). كالفن تحت ضغط الحاجة والضرورة والعقل، غيَّر الموقف السائد، غيره كارهًا إن صح التعبير، فهو مدرك أن المؤمنين سيتخطون هنا وهناك نسبة الخمسة بالمئة، لكنه فعل، وبذلك أسقط الهالة، أنهى هذا الموقف الذي يعزل جزءًا عن الكل، وقضية المال وفائدة المال عن مسألة العمل والإنتاج والتبادل، ويفتح الأبواب أمام أكبر استغلال: فلان لا يقرض مالًا بفائدة لمزارع (فالمال غير منتج)، ولكنه يشتري له بالمبلغ مئة كيس من القمح ويسترجعها ثلاثمئة كيس عند الموسم، بل لعله في الطريق «اشتغل» وساعد المزارع قليلًا وأزعجه وأربكه أكثر. الكنيسة الكاثوليكية تصلبت رسميًا، إلى حين، لكن في إسبانيا كان إقراض المال بفائدة ثلاثين أو خمسين بالمئة شيئًا مألوفًا يمارسه الجميع بما فيهم رجال الكنيسة! في التصور الاقتصادي الصحيح لا المال منتج لقيمة ولا القمح والآلة، لكن الشغل؛ المنتج للقيمة هو شغل إنتاج اجتماعي مبسوط، علاقات، حدود، تساو. هذا التصور يقيم «الكل»، حدودًا وتكاملًا وتساويًا، يلغي المخلوطة والإبليسية والتميمية في اتجاهيها، يلغي عبادة الجزء أيًا كان وأية كانت، بوصف عبادة الجزء هي الوثنية. 

في الاتحاد السويسري، الذي كان قد نشأ في سنة 1291 ضد الإمبراطور، ونما ضد الإمبراطور وأخيرًا ضد شارل الجسور، بمثل اتحاد حر لكانتونات حرة، وكان مؤلفًا من 13 كانتونًا ألماني اللغة، نشر البروتستانتية المصلح السويسري زفينغلي Zuvingli وقد انضم أتباعه بعد وفاته (سنة 1531) إلى أتباع كالفن ولوثر. غالبية كانتونات الاتحاد السويسري الراهن بروتستانتية. 

البلاد المنخفضة التي كانت من قبل تحت حكم شارل الجسور، انتقلت بعد مصرعه، بموجب الزواج والوراثة، إلى الإمبراطور شارل الخامس، ثم حين اعتزل هذا الأخير في دير* عقب صلح أوغسبورغ مباشرة (1555)، إلى ابنه فيليب الثاني ملك إسبانيا. دوق آلبا Alba الجنرال الإسباني هو الذي حكمها في العهدين، بالحديد والنار. القسم الشمالي خرج منتصرًا في شكل جمهورية «الإيالات المتحدة» (1577) التي نالت الاعتراف الدولي، وصارت البلد الأكثر تقدمًا في أوروبا القرن السابع عشر، البلد الذي صمد في وجه لويس الرابع عشر «الملك الشمس»، فاتحًا على جيش الغزاة مياه أراضيه الواطئة المسكوبة على البحر. إنه هولندا الحرة، البروتستانتية الكالفينية البرلمانية البرجوازية، حيث أمستردام وروتردام وليدن، وملجأ للأحرار. القسم الجنوبي، بلجيكا، ظل تحت حكم الإسبان، عاد أو أعيد إلى الكاثوليكية، فقد صناع الجوخ الفلاماند الذين هاجروا إلى إنكلترا، صار مسرحًا لحروب ملك فرنسا، وتأخر عن هولندا حتى زمن الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وقيام الدولة المستقلة (1830)، حين قفز إلى موقع في الطليعة بحزب أحرار مناوئ للكنيسة وللحزب الكاثوليكي البالغ القوة. 

في إنكلترا، الملك المزواج والنزوي الديني الوسواسي هنري الثامن تيودور (من 1509-1547)، حين رفض البابا، في هذه المرة، مسايرة نزوته، ومنحه أذنًا بالطلاق، أعلن نفسه رئيسًا أعلى لكنيسة إنكلترا (1534) وقطع الصلة مع «أسقف روما». أمر بإحراق البروتستانت كهراطقة وبشنق الكاثوليك كخونة، وبقطع رأس مستشار إنكلترا توماس مور الذي رفض الاعتراف به رئيسًا لكنيسة إنكلترا وآمرًا للإيمان فيها (1535). في الذكرى الأربعمئة لهذه الشهادة، الكنيسة الكاثوليكية أعلنت قديسًا هذا المستشار لمملكة إنكلترا الذي كان مؤلف «يوتوبيًا» وصاحب أول شيوعية يوتوبية في التاريخ الحديث. خلفه ابنه الشاب إدوار (1547-1553)، وهو لوثري مثل أمه الألمانية وحاشيتها، تقي متعصب، ومريض. ثم أخت هذا الأخير من أم إسبانية، وهي ميري تيودور (1553-1558)، كاثوليكية حامية تريد إعادة شعب إنكلترا إلى الإيمان الحق، وتجنيبه نيران جهنم في الآخرة وغضب الرب في الدنيا؛ تتزوج ملك إسبانيا فيليب الثاني لكن ترزق منه طفلًا يخلفها على العرش بموجب العرف السلالي لمملكة إنكلترا، ويتابع رسالتها، لكنها في سن متقدمة، وزوجها يدرك ألا مكان له في إنكلترا، فيودعها، ويرحل. وتقضي نحبها تاركة العرش لأختها الصغرى (من أبيها ومن أم إنكليزية غير نبيلة ذهبت ضحية زوجها الوسواسي المزواج)، إليزابيت (من 1558-1603)، بانية مجد إنكلترا. إليزابيت أمرت باختراع الكنيسة الإنجيليكانية، كنيسة إنكلترا القومية: عقيدة كالفنية ولغة إنكليزية، مع طقس عبادي وتسلسل كهنوتي كاثوليكيين. إلى جانب الإنجليكانية، التي باتت دين الغالبية، بقي في إنكلترا كاثوليك، وبروتستانت كالفينيون أحرار. هذه البروتستنتية الحرة ستنقل مع المهاجرين إلى الولايات المتحدة، ومعها الإنجليكانية، و(الكاثوليكية)، الأمر الذي سيعطي البروتستانتية الأميركية لونها الخاص من تعددية ومرونة وسيولة وانفتاح متبادل وروح عملية وتجارية. كرومويل (ق17) زعيم الثورة الإنكليزية البرجوازية ودكتاتور إنكلترا سيكون من فرقة الطاهرين الملتزمتين وهي كالفينية حرة، سكوتلندة خارج الإنجليكانية، في كالفينة حرة. 

في فرنسا، اشتد الاضطهاد ضد البروتستانت (ويسمون هوغنوت Huguenots) بعد فرانسوا الأول؛ الأمر لم يمنع عددهم من التزايد. أنه مد يصيب طبقات مختلفة وإن كان لا ينال الأكثرية: نبلاء، برجوازيون، حرفيون، فلاحون، مثقفون. بين المعتنقين الجدد عدد لا بأس به من النبلاء gentils homes وهم «رجال سيف» مستعدون للقتال. تقع ثلاثة حروب قصيرة مهددة لسلامة الوطن، «فالإسبان والإنكليز داخلون في الموضوع))، تنتهي بصلح وتسوية مرضية، ثم تأتي مجزرة السان بارتيلمي الشهيرة (1572) التي تقضي على حياة ألوف البروتستانت في العاصمة والأقاليم، وعلى رئيسهم وقيادتهم معظمها. يتراجع الملك مقرًا بمبدأ حرية الضمير، لكن الموقف يزداد بلبلة. الملك هنري الثالث الكاثوليكي (1574-1589)، وهو المخنث المشهور بغلمانه وتبذيره الخيالي لكنه ذكي ماكر، يستطيع حماية العرش والسلالة والوطن من تآمر آل غيز والعصبة المقدمة والرهبان والإسبان، على النحو الآتي: يخرج من باريس (حيث الجمهور مع العصبة)، ثم يستدرج خصمه هنري غيز إلى بلوا حيث يغتاله رجال الملك بالخناجر، ويتحالف مع الوريث الشرعي للعرش وهو هنري دو نافار زعيم البروتستانت (1588). بعد مصرع الملك (1589) على يد راهب ينتقم لـ غيز، يتولى الوريث الشرعي العرش تحت اسم هنري الرابع، ثم يعتنق الكاثوليكية، ويقول قوله المأثور: «باريس تساوي قداسًا ونيف!»، ويدخل العاصمة على ظهر حصانه الأبيض (1593)، ينهي حروب الدين، يصدر مرسوم نانت (1598): بموجبه ينال البروتستانت الحريات والمساواة وامتيازات تجعلهم نوعًا من حزب ودولة داخل الدولة، امتيازات سياسية عسكرية (مئة موقع أمن بيدهم لاسيما مرفأ لاروشيل)، هذا الإجراء الغريب كان إجراء حكيمًا في الشروط التاريخية العيانية، هنري الرابع، الذي يبدأ آل بوربون وهم فرع من سلالة كابيت (البادئة في القرن العاشر والقوية بملكها منذ أوائل القرن 13)، يثبت السياسة القومية ضد إسبانية وروما وزوجته وبعض شلل البلاط، ويبقى «الملك الشعبي» المحبوب في تاريخ فرنسا. بعد وفاته، الكاردينال ريشيليو، وزير لويس 13، ثم الملك لويس الرابع عشر، يتابعان السياسة القومية ضد النمسا وإسبانيا وخط المونارشية المطلقة التي تبلغ ذروتها (ق17)، ريشيليو يضرب الحزب البروتستانتي، لويس الرابع عشر يتخطى ذلك إلى اضطهاد لا مثيل له ضد البروتستانت: إلغاء مرسوم نانت (1685). يلحق أضرارًا كبيرة بفرنسا: هجرة البروتستانت الفرنسيين مع خبراتهم ونشاطهم الطليعي إلى براندبورغ، بروسيا وهولندا وإنكلترا، غضب الدول البروتستانتية على فرنسا دافعًا كبير إلى الأحلاف والحروب الأخيرة التي استنزفت فرنسا الملك الشمس، حرب الفلاحين البروتسانت في منطقة السيفين Cevennes في إنكلترا، على الرغم من وجود التمييز ضد الكاثوليك والكالفينين الأحرار، الأمور لم تصل إلى هذا الحد: سياسة الاضطهاد الإنجليكانية الملكية كانت أحد الأسباب التي قادت إلى الثورة الأولى وحكم كرومويل وإعدام الملك (1649)، ومشروع ملك آخر الرامي إلى إعادة إنكلترا إلى الكاثوليكية كان من أهم أسباب الثورة الثانية، السلمية (1689) واستبدال ابنته البروتستانتية وزوجها الهولندي البروتستانتي به، وقد جاءا من هولندا. 

إن حوادث القرن السادس عشر في إنكلترا وفي فرنسا، حيث الدين والسياسة والأطماع، انتهت إلى تثبيت فكرة الأمة والدولة والعرش، وهي في كل من البلدين غنية بالدروس، ولا سيما بدرس غريب عن تجربتنا، من أول يوم في الشورى والمبايعة أو لنقل في «القيادة الجماعية» و«الانتخاب والديمقراطية» حتى الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني (بوجه الإجمال لم نتجاوز الرقم 2 في العد)، درس يتعلق بمسألة الخلافة على العرش. إن المبدأ السلالي الخطي، على خط محدد معلوم ومنزل، في شكليه الإنكليزي والفرنسي، انتصر مرة أخرى، في كل من البلدين، انتصر انتصارًا مذهلًا في ظروف عصيبة، هزم الاعتبار الديني و«الأطماع البشرية»، و«الوسواس الخناس»، كان موجودًا على طول الخط وفاعلًا في وعي الفاعلين، في روح «أولي الأمر» منهم. هذا المبدأ السلالي الخطي الغربي، الأوروبي، بدأ نشوؤه قبل قرون. التاريخ مال في اتجاهه ثم برز فجأة، ثم تثبت مرة ومرة. البرابرة الجرمان مثل الجماعات البشرية كلها في بداية البسط التاريخي يطبقون الديمقراطية والانتخاب والتشاور. والمسألة هي المرحلة التالية، الامتحان، ثم الوصول إلى استقرار من أجل تقدم يتراكم. الأوروبيون وصلوا، اكتشفوا، وطبقوا المبدأ السلالي على خط، سواء في شكله الفرنسي (إسقاط حق الإناث) أو في شكله الإنكليزي (الإبقاء على حق الإناث، لكن إنزاله دون حق الذكور). لا شورى ولا مبايعة ولا استخلاف، لا مجلس عائلة أو قبيلة يقرر، ولا خلع، حتى إذا كان الملك مخلوعًا أي مجنونًا. في القرن السادس عشر، هذا المبدأ السلالي ينتصر على الدين أيضًا، فهو منزل في المونارشية المطلقة «الملك يصنع القوانين ولا تقيده القوانين»، لكن هناك قانون واحد على الأقل لا يصنعه الملك، ويقيد الملك: قانون الخلافة على العرش! إنه فوقه. في المونارشية المطلقة الإلهية الحق، الملك ظل الله على الأرض، لكنه ليس الله. في دولة الاستبداد الشرقي، الله عال جدًا والملك قاعد على يمينه، هذه المونارشية المطلقة في تاريخ أوروبا مرحلة تقدم كبير نحو ما بعدها، نحو سيادة البرلمان أو سيادة الشعب، الليبرالية والديمقراطية، المونارشية البرلمانية الليبرالية أو الجمهورية الديمقراطية البرلمانية. في إنكلترا، المونارشية المطلقة تبلغ ذروتها في زمن سلالة تيودور (1485-1603)، ذروتها التقدمية المجدية، وآل ستوارت يعيشونها بعد زمنها ويهزمون مرتين (ق17). في فرنسا، المونارشية المطلقة تصل إلى ذروتها الإيجابية في زمن هنري الرابع وريشوليو وبداية الملك الشمس صاحب العمر الطويل والحروب المديدة العديدة، فتدفع الأمة ثمن استمرارها. 

الكنيسة الكاثوليكية ردت على الإصلاح وانتشار البروتستانتية بـ «الإصلاح المضاد» الذي اضطلع به مجتمع ترانت (1545-1563) ورهبنة اليسوعيين التي تأسست سنة 1534. هذا الاصطلاح المضاد طهر الكنيسة من الشوائب، ساعد على استراجاع الأرض المفقودة في بلجيكا وبافاريا والنمسا، وكان بمنزلة سد على تقدم الشعوب الكاثوليكية. الكنيسة الكاثوليكية استمرت في حلم «الخلافة» الرومانية الوسطوي إلى حين، مع شارل الخامس، وفيليب الثاني، و«المونارشية الكونية». ثم، في فرنسا، تكيفت تمامًا مع الأمة والملكة «الغاليكانية نوع من «أنجليكانية» فرنسية كاثوليكية، والأسقف بوسويه Bosuet مفتي المونارشية المطلقة الإلهية الحق في زمن إلغاء مرسوم نانت. وظلت الكنيسة حليفة القوة الإقطاعية والمونارشية في القرن 18، وقوى الردة في القرن 19. على الرغم من الاستثناءات الجديرة بالانتباه: إن عددًا من مفكري الأنوار المهمين هم من رجال الكنسية (ق18). في القرن 19، «اليسار» في الكنيسة يدعو في آن معًا إلى قلب الاتجاه التقليدي والتحالف مع قوة الليبرالية والتقدم ضد الردة الإقطاعية والوسطوية وإلى فصل كنيسة فرنسا عن دولة فرنسا وإلحاقها تمامًا بالكنيسة في روما. لكن الكنيسة تدين هذا اليسار. ثم يصدر البابا الـ Sullabus أو «مختصر أغلاط هذا الزمن» ونصه «ملعون من .. ملعون من .. ملعون من ..))، يدين فكرة فصل الدين والدولة، بل حرية المعتقد. لكن عصر محاكم التفتيش والمحاطب انتهى، ويقرر مجتمع الفاتيكان في روما المحاصرة مبدأ العصمة البابوية (1870). في إيطاليا، بقيت دولة الكنيسة في وسط شبه الجزيرة (بعد 11 قرنًا من تكونها في زمن رد خطر اللومبارد ودمارهم) حاجزًا أمام الوحدة القومية وجب اقتلاعه بالقوة العسكرية لحرب التحرير والوحدة. وظلت الكنيسة الكاثوليكية قوة رجعية كبيرة: تتابع وضع لائحة الكتب المحرمة قراءتها، وتسهر بسلطتها الروحية على تطبيق هذا التحريم؛ «الأحزاب الكاثوليكية» أو «الديمقراطية المسيحية» أو «الاجتماعية المسيحية» هي أحزاب يمينة، على الرغم من صبغة «عمالية» جزئية إلخ. ثم، بدءًا من منتصف القرن العشرين، دخلت الكنيسة في خض كبير. الربع الثالث من القرن العشرين يطوي صفحة طويلة جدًا: رومانية، استبدادية، تقليدوية، عقيدوية. الكنيسة، ككل شيء اليوم، في المغطس: مصائر الإنسان! أجل، إنها لم تنتقل من الرجعية إلى التقدمية، و«الرجعية» و«التقدمية» ليستا أقنومين أو كائنين ماهويين ميتافيزيين. لكن التغيير الحاصل (والثورة) في الكنيسة واللاهوت شيء مفاجئ، ويجب الاعتراف أولًا بهذه الحقيقة، مفاجئ للماركسيين جميعهم، مع أن له مقدمات سابقة غير صغيرة، في الواقع والفكر. الماركسي آرنست بلوخ «على صلة» باللاهوت المسيحي، واللاهوت المسيحي الجديد (مثلًا اليسوعي رانر Karl Rahnet) في مناظرة مع كتابه «المبدأ: الأمل». من المؤسف أننا بوصفنا قراء عربًا ما زلنا محرومين من أعمال صاحب «فلسفة عصر النهضة». 

مصائر الإنسان! لا بأس أخيرًا من ذكر أن عصر النهضة هو أيضًا زمن الشيوعية الطوباوية. لأمر ملفت للانتباه أن توماس مور وتوماس منتسر وتوماس كامبانيلا عاشوا في بداية انطلاق الرأسمالية (وأن الشيوعية الطوباوية اختفت من الحقبة التالية، لتعود إلى الظهور في المدة الممهدة للثورة الفرنسية: مبلي، موريل). آرنست بلوخ وضع كتابًا عن «توماس منتسر، لاهوتي الثورة». كارل ماركس، في «المسألة اليهودية»، ينقل عن توماس منتسر قوله: إنه لأمر لا يطاق «أن يحول كل مخلوق إلى مملوك، الأسماك في الماء، الطيور في الهواء، النباتات على الأرض». إنه لأمر لا يطاق أن يستملكوا الأحراج والجبال والشاطئ ورماله وأمواج البحر والأسماك فيه، أن يمتهنوا الطبيعة والإنسان إلى ما لا نهاية. إن عصر الوثنية الأكبر يضع شعبنا والبشرية أمام خيار كامل. هنا «الأوروبية»، فائدتها، قيمتها؛ هنا كونيتها وجذريتها. هنا هيغل وماركس وآدم سميث وزمنهم. وهنا الميلاد الجديد و«فلسفة الميلاد الجديد». 

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية