Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

إلياس مرقص وإعادة تأسيس المفاهيم القومية

لم يكن المفكر الراحل إلياس مرقص منتمياً، سياسياً وتنظيمياً، إلى التيار القومي العربي أو “ا لقوماوي” بتعبيراته، رغم انتمائه الحاسم، فكرياً وروحياً، إلى المسألة القومية العربية، ودفاعه العنيد عن فكرة الوحدة العربية، ولكن على أسس ومبادئ ومقدمات مغايرة ومتعارضة مع المضامين المعتقدية للأيديولوجية القومية العربية على اختلاف تجلياتها التنظيمية والسياسية، وعلى الأخص متعارضة ومغايرة للأوثان، التي أقامتها تلك الأيديولوجيا، كوثن “الأمة الخالدة “ووثن “اللغة المقدسة “ووثن “الخصوصية”، ووثن”الأصل”، وغيرها من الأوثان التي تضع العرب خارج منطق الصيرورة، منطق التشكل والانحلال، وخارج الانتماء إلى التاريخ البشري.

ولطالما دعا إلى تأسيس فكر قومي داخل التاريخ والعالم في مواجهة “الفقه القومي “السائد، ودعا إلى تفريغ شحنتة الميتافيزيقية القائمة في رؤيته للأمة، ونزع تصوره “الفخذي “عن القومية العربية. فالهوية القومية الحقيقية في نظره: (ليست “بطناً”، البطن فارغ… الهوية هي رابطة ال”هو”مع الكون، مع العالم، مع الإنسان والتاريخ، كتقدم وكمسائل، رابطة محددة دائماً ومعينة، ومفتوحة على اللانهاية. هكذا الهوية الفردية، المليئة حقاً لشخص، لشعب، لأمة، لحزب، لطبقة، لجماعة حية، للبشرية بالكامل، وعلى هذا الأساس، الهوية هي توجه، تطلع، نزوع إلى مستقبل ممكن وواجب، الهوية بالمعنى الآخر تجريد ميت، لا هوية).[1]

ولأن أيديولوجية التيار القومي العربي كانت “فقهاً “قومياً، طردت العلمانية والديمقراطية والحداثة من بناها السياسية والتنظيمية والثقافية، وتصالحت باكراً مع التقليد، وأعادت إنتاج الماضوية والمذهبية والعنصرية وكل مظاهر التأخر في رؤى أحزابها وحركاتها وفصائلها وميليشياتها، فأرست بهذا المقدمات المجتمعية والثقافية لنشوء التيارات الارتدادية الظلامية. فلم يعد خافياً أن انهيار”الاجتماعات الوطنية” في كل من سورية والعراق واليمن وليبيا، وانفجار الحروب الأهلية فيها، هو من نتائج السياسات ما دون الوطنية، التي انتهجتها “الدول “السلطانية المحدثة في تلك البلدان، التي رسّخت سلطاتها وهيمنتها تحت سحر العناوين القومية وجاذبيتها التعبوية.

لذا، كان إلياس مرقص، مبدئياً ونهائياً، معارضاً للمقدمات المعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية”للفكر القومي “العربي، والتي أفضت إلى النتائج الكارثية التي تعيشها اليوم بلدان ما أصطلح على تسميته: “الربيع العربي”، وميّز بين الأهداف والمناهج، ففي الوقت الذي تصدى فيه لتفنيد ودحض مناهج ورؤى التيارات القومية، انحاز بشكل حاسم إلى الأهداف القومية العربية، فيقول: “إيماني مطلق بأن لا مستقبل ولا حياة للشعوب العربية بدون الوحدة القومية لأمة العرب، وإيماني مطلق أيضاً: بأن المسيرة الطويلة الشاقة المتعددة الوجوه نحو الوحدة، المسيرة التي هي اليوم – أكثر منها في أي وقت مضى – عمل دؤوب ومعركة وثورة، هذه المسيرة تتوقف، بين جملة أمور، وفي رأس جملة أمور، على الوعي إذن على الفكر…. في رأيي، لا وحدة عربية، بدون الديمقراطية والعلمانية، فإما أن تكون أمة العرب أمة مدنية ديمقراطية حرة أو لا تكون، إما أن تكون أمة مواطنين في دولة حق، أو أن تكون ممالك مملوكية”.[2]

نعم، لقد كان مهموماً بتأسيس مفهوم الأمة العلماني بمواجهة مفهوم الملة الديني، والأكثرية السياسية بمواجهة الأكثرية الإثنية أو المذهبية، ودولة الحق والقانون بمواجهة السلطات المستبدة و”فوضى الدول”، وكذلك، كان مهموماً بنزع الهالة الأسطورية عن اللغة العربية وتحويلها إلى لغة قومية في خدمة تقدم الكيانات العربية القائمة، ونزع الهالة الأسطورية عن تاريخ العرب ورؤيته كما تحقق بالفعل. بكلام آخر: نقل إلياس مرقص مفاهيم المسألة القومية من مجال “الأوهام الأيديولوجية “إلى ميدان التاريخ الواقعي.

في البدء لا بد من الإشارة إلى مرحلتين، شكلتا أفكار إلياس مرقص ومنظورته تجاه مواقف التيارين القومي والماركسي من القضية القومية ومسائلها:

المرحلة الأولى: وتمتد من منتصف الخمسينات حتى أوائل السبعينات من القرن الماضي، وفيها ساجل القوميين والماركسيين حول قضايا الوحدة العربية، وإمكانات تحول الثورات القومية للأمم المضطهدة إلى ثورات اشتراكية، فكتب نقد الفكر القومي عند ساطع عام 1966، وفي هذا الكتاب تناول مفهومي اللغة والتاريخ، اللذين حاول الحصري تظهيرهما بوصفهما عامليين مركزيين في تشكيل الأمم، لكن هذا الكتاب على ضخامته، كانت سجالاته ونقاشاته مرتبطة بأحداث سياسية مباشرة عربية وعالمية، في تلك المرحلة، تخطتها ظروف وإشكالات عالمنا الراهن، وكذلك الشروط السياسية والثقافية والمجتمعية في المنطقة العربية.

وأيضاً تناول بالنقد المنهجي الحازم نظرية ستالين حول الأمة، تلك النظرية التي غرفت منها غالبية الأحزاب الشيوعية العربية في مواقفها من المسألة القومية، باعتبارها مسألة مرتبطة بالبورجوازية وبالتطور البورجوازي، وعارض مواقف تلك الأحزاب من الوحدة العربية، وعلى وجه الخصوص الموقف البكداشي من الوحدة السورية – المصرية، وتبنى الموقف اللينيني من الأمم الأسيوية والأفريقية المضطهدة، ولا سيما تركيزه على مفهوم “الشرق الثوري والقومي”، وعلى إمكانية التحول في الثورات القومية لتلك الشعوب إلى الاشتراكية. “فلقد تابع لينين قضية الاستعمار والإمبريالية، وقضية الغرب والشرق، قضية نهوض الشرق منذ وقت مبكر. وما قاله راهن بالتمام. لقد أُقحمت شعوب أسيا وأفريقيا في تاريخ العالم الآخر، كمادة وكموضوع للتاريخ، ولهذا عليها أن تتحول من موضوع ومادة إلى ذات فاعلة وصانعة لهذا التاريخ…..ومن أجل أن ينتصر وأن تنتصر البشرية، على الشرق أن يتثقف، أن يتمدن، أن ينشل نفسه من البربرية”.[3]

المشروع القومي، الذي تقع الوحدة العربية في صلبه، هو مشروع نهوض شامل، في نظر الياس مرقص، مشروع معرفي وثقافي واجتماعي واقتصادي وأخلاقي قبل أن يكون مشروعاً سياسياً، مشروع النهوض هو مشروع تمدن، فالأمة لا تتجسد عيانياً إلا في المجتمع المدني. المجتمع المدني الذي ينتج السياسة ويهيئ شروط تشكل الدولة وانبثاق السلطة من الشعب، كان حاضراً في رؤيته للأمة، منذ ستينات القرن الماضي، وكان حذراً من مقولة”الأمة العربية”، حذراً من طغيان الصفة على الموصوف وحلولها محله وتحولها إلى صنم، أو من الصفة التي تأكل الموصوف، بتعبيره، على نحو ما حدث بالفعل.”العنصرية مرض القومية الخبيث”، وكذلك الإمبريالية

ويعتقد إلياس مرقص: بأن القومية العربية لم تتشكل في السوق الرأسمالية كما تزعم النظرية الستالينية، بل تشكلت كردود أفعال: على محاولات التتريك العثمانية أولاً، وعلى محاولات الهيمنة الغربية ثانياً، وعلى التحدي الإسرائيلي ثالثاً. ولكنها أخطأت شروط التحدي باتجاهها إلى الماضي، لا إلى المستقبل، فخرجت وأخرجت العرب من التاريخ.

ويمكن القول: أن هذه المرحلة من أفكار الراحل اتسمت بالمضمون السجالي مع الأيديولوجيتين القومية والماركسية وأفكارهما في القضايا القومية، ورغم ارتكازها على تصور منهجي واضح لديه، لكنها لم تتضمن تأسيس المفاهيم الأموية وأخواتها، بل ظلت محصورة بالأحداث السياسية لتلك المرحلة التاريخية.

المرحلة الثانية: التي بدأت منتصف السبعينات، وفيها اهتم بتفكيك وتأسيس المفاهيم، فمفاهيم مثل: الأمة والدولة والقومية والشعب والحرية والمجتمع المدني والتشابه والاختلاف والفردية والإنسية، أعطاها مدلولات تختلف عن مدلولاتها المعتادة، التي درج عليها الفكر السياسي الرائج. صحيح أن إعادة بناء هذه المفاهيم المتعلقة بالمسألة القومية، لم ترد في نصوص كاملة وواضحة، إنما كانت شذرات متفرقة في مقدماته ومقالاته ومقابلاته وكتابيه”المذهب الوضعي والمذهب الجدلي “و”نقد العقلانية العربية”، وفي كتاب “حوار العمر “الذي أجراه معه الأستاذ جاد الكريم الجباعي، وكتاب “إلياس مرقص – حوارات غير منشورة “إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. إلا أنها رغم تبعثرها، تستند إلى جذر معرفي ونظري صارم وحاكم.

سأحاول في هذا البحث أن أنشأ من هذه الشذرات المبثوثة في نصوص متفرقة نصاً منسجماً ومتكاملاً.

مفاهيم ورؤى أعاد إلياس مرقص تأسيسها في المرحلة ما بعد الناصرية:

مفهوم الاستمرار التاريخي للأمة العربية، لم تتخل الأيديولوجية القومية، أو “الفقه “القومي يوماً عن الأفكار، التي تربط التجزئة القومية للعرب بالفعل الاستعماري الخارجي أولاً، والإمبريالي ثانياً، وبأن الأمة العربية كانت مكتملة التشكل والنضوج قبل الاجتياح الكولونيالي للمنطقة العربية، لكن الهيمنة الغربية الغازية بأشكالها المختلفة هي من قطّعت أوصال الأمه التي تمتد إلى قحطان وعدنان.

يعتقد إلياس مر قص: هذا ضلال. عصر الاستعمار أو “العصر الليبرالي “كما أسماه ألبرت حوراني، هو عصر نهضة وطنية وقومية، عصر صعود ثقافي وسياسي ومجتمعي، في الزمن الكولونيالي بدأ للمرة الأولى في بلادنا، يتشكل “أجنة “مجتمعات مدنية، و “أجنة “دول وطنية.

فيقول: “هناك أناس يعتقدون أن الغرب بنى تقدمه ورفاهيته (مع أنه لم يصل إلى الرفاه إلا في آخر 30 سنة) على استغلال بلدان أسيا وأفريقيا، وأن تقدم الغرب قائم على السرقة، وأعتقد بصراحة أننا وقعنا في مبالغة كبيرة. إن مقولة الإمبريالية يجب أن تدرس مجدداً. وأتساءل: من هو أحرص على شعوب العالم الثالث، حكامها وأحزابها أم البنك الدولي؟ أنا أشك في أن يكون حكام هذه الدول أكثر حرصاً على اقتصادها وشعوبها من البنك الدولي ومن ملياردية البنك الدولي الذين هم أمريكيون وسويديون وإنكليز وفرنسيون”.[4]

ينطلق إلياس مرقص، بنفية منطق استمرارية الأمة المكتملة التشكل، من حالة الانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والأخلاقي والصحي والأمني، التي سادت في الحقبتين المملوكية والعثمانية، ويدلل على حالة الانحطاط تلك بمجموعة من القرائن الهامة منها: تحول التجارة العالمية عبر رأس الرجاء الصالح، وتحول المحيط الأطلسي إلى مركز التجارة العالمية، وتراجع أهمية البحر الأبيض المتوسط التجارية، وكذلك انحسار مساحة الأراضي الزراعية، وتراجع الأمن، وتفشي الأمراض والأوبئة الجماعية، وانعدام التبادل بين البشر، وتحول اقتناء الذهب المصدر الوحيد للثراء والأمان.

ويضيف إلى القرائن الدالة على الانحطاط: “في عام 1520 كان هناك نحو خمسة ألاف قرية تدفع الضريبة، في سنة 1800 م، لم يبق منها سوى 1500-2000 قرية، وانحدر عدد سكان بلاد الشام إلى مليون ومئة ألف نسمة، حسب مختلف التقديرات، وانحدر عدد سكان مصر إلى مليونين ونصف عام 1800…….يرافق ذلك انحدار الأمن وانحدار القانون ونمو المصادرة بدلاً من نمو الملكية، ولجوء الناس إلى كنز ما يدّخرونه ذهباً، أي الغاء التراكم وإلغاء الملكية، ونمو المصادرة، سقوط العقل بمختلف المعاني، سقوط العقالة بين البشر والعلاقات بين الناس، انغلاق العائلة وانغلاق الطائفة على نفسها، والخوف المتبادل”.[5]

ويستحضر مذكرات الشيخ البديري الحلاق، ذاك الحلاق الدمشقي الذي كان يصف الحياة الدمشقية في القرن الثامن عشر، والتي كانت تتمحور حول حدثيين رئيسيين: أخبار قافلة الحج وغزوات البدو للحضر. كانت دمشق في القرن الثامن عشر مجموعة من المجتمعات المغلقة المتحاجزة وعساكر انكشارية، وكادت أن تنقرض وتلحق ببابل وتدمر، اذ بلغ عدد سكانها في ذلك القرن أقل من خمسة الأف نسمة، وما زاد في خطورة الأوضاع وجود الجهل والمرض والفقر والضرائب والأتاوات. وكان الرحالة الأوربيون يسحرهم بهاء وعظمة استنبول، ولكن عندما كانوا يصلون إلى حلب وحماة ودمشق، ويروا مستوى البؤس والفقر، يدركون سر بهاء الأستانة، التي كانت تنهب الولايات نهباً مطلقاً، فآلاف أصحاب المهن اليدوية في المدن الشامية والمصرية أُ خذوا إلى العاصمة استنبول، مما زاد من تدهور الحياة الاقتصادية في الولايات العثمانية، معطوفاً على ذلك توقف حروب العثمانيين الخارجية، أي مع توقف نهب الخارج، انتقلت حرب “الدولة “حينها إلى الداخل على السكان المحليين وعلى القبائل وبين القبائل ببعضها.

إن انحدار الأمن والزراعة والقضاء على الحرف اليدوية والتراجع المذهل في عدد السكان ونمو الصحراء على حساب الأرضي الزراعية، وتحول المدن إلى ثكنات عسكرية وحارات تقليدية مغلقة، وانعدام التبادل بين البشر، قرائن دالة على حالة انحطاط تاريخي مديد، اطلق عليها إلياس مرقص: نمو العدم في حياة البشر على حساب الوجود، العدم ينمو والوجود يتقلص، عدم الأمن، عدم الزراعة، عدم الطمأنينه، عدم الكفاية، عدم الأخلاق… “حس الانحدار تغلب واتخذ صيغة أن العصر القديم هو العصر الذهبي، العصر العالي، وما بعده فساد متزايد، وعدم متزايد. فكرة المشروع سقطت، لم يعد هناك مشروع. لم يعد هناك قذف إلى الأمام، الروح ضعفت، وخفضت إما إلى روح حيوانية وإما إلى لا روح”.[6]

والحال، إن حالة الانحطاط تلك تنفي وجود أمة عربية سابقة للاستعمار الأوربي، وتنفي فكرة الاستمرار التاريخي للأمة، وتدحض مسؤولية الغرب عن التجزئة القومية للعرب، كما تزعم الأيديولوجيا القومية، العرب كانوا مجزئين قبل دخول الغربيين، وظلوا مجزئين بعد خروجهم، وأحد العوامل المهمة في انقاذ دمشق عاصمة الأمويين من الانهيار بيولوجياً، بعدما وصل عدد سكانها بضعة آلاف، هو إدخال الاستعمار الأوربي الأدوية وخاصة (الأنتي بيوتك) لوقف حالات الموت الجماعي.

يجب أن نعيد النظر بمرحلة الاستعمار الأوربي، فالصدمة التي أحدثها لمجتمعاتنا التي كانت حياتها تدور حول أخبار قوافل الحج وغزوات البدو للحضر، هي التي أخرجت تلك المجتمعات من حالة العدم إلى حالة الوجود، وتطورت لاحقاً إلى تشكيل مجتمعات ودول وطنية وأحزاب سياسية ونخب وطبقات وبرلمانات وصحافة حرة وإعلام وحياة حديثة.

نزع المضمون الميتافيزيقي لمفهوم الأمة:

طالما تعامل القوميون العرب مع فكرة الأمة وفق منطق الإدراك الحسي، الذي هو منطق الوجود، بدون النظر إلى سيرورة الإنوجاد والتشكل في التاريخ. فهم يقولون “أمة عربية “كما يقولون جبل أو شمس، الأمة موجودة كما الجبل والشمس موجودان، فيما الأمة كائن خاضع لمنطق الصيرورة، ينطوي على قابلية التشكل والانحلال، كائن صائر منتج قابل للتغيير والارتقاء كقابليته للنكوص والانحلال.

حوّل القوميون العرب مفهوم الأمة إلى “جوهر “معلق فوق قوانين التاريخ، فالأمة بنظرهم قائمة منذ ما قبل الإسلام، فهم يمطّون الأمة إلى عدنان وقحطان، إلى أصل “نسلي “وفخذي: “هنا أولى مفارقات الفكر القومي القوماوي. فهو يمد الأمة إلى وراء، إلى تحت، إلى الجاحظ وذي قار وغسان وقحطان إلى سام ابن نوح وأبيه وجده آدم، ان استطاع. وهو احياناً يستطيع باسم الانسان-اللغة – الأمة”.[7]

إن فكرة الأصل مهيمنة على العقيدة القومية العربية، وبالتالي فإن”بعث الأمة “عبارة عن عودة إلى ذلك”الأصل “الذي لم تغيره عصور الانحطاط المديدة، وهو محكوم بثنائية البطل -الملاك. يرد إلياس مرقص على ذاك التصور النسلي: “أنا أعتقد أن فكرة (البطل – الملاك) هي أهم “مفهوم”! في الوعي واللاوعي العربي للتاريخ، اليوم إنه الهاجس وقد صار فكراً. الهاجس المفكر! أصحابه يكتبون التاريخ بلغة (نحن وأنتم). لا يعرفون (هم) ضمير الغائب. يتصورون أنهم هم ابن النفيس والخوارزمي الأدريسي والأيوبي السهروردي والفينقيون. لسان حالهم: نحن اكتشفنا الدورة الدموية واخترعنا الجبر والجغرافيا، وصلنا إلى جزر القصدير، ودرنا حول إفريقيا، وبنينا روما، وانتصرنا على الروم والفرس والإفرنج….. كلا يا سادة، نحن لم نفعل شيئاَ من ذلك بتاتاً. الذين فعلوا عاشوا قبلنا بكثير، بل لا يستطيع أحد الادعاء بأنه من نسل أحد منهم، ما دمتم تحبون النسلية ولا ترون تشكلاً، تكوناً تاريخياً، ليس نسلية وبطنية”.[8]

لقد وضع المعتقد القومي مفهوم “الأمة العربية “خارج قوانين التطور البشري، وخارج قوانين المنطق والتاريخ، فلا تشكل ولا صيرورة ولا نمو، إنما عودة إلى ذلك الأصل السرمدي: “بدلاً من الديالكتيك، أي من العقل، قامت بدائل: فقه، فقهان، لاهوت كوسمي. مفهوم التاريخ صار انحداراً والمسعى تصحيحاً أو محاكاة للأوائل الراشدين. بعد الرشد، اللارشد أو أيضاً الهرم. يأخذون الجانب الشرقي من أفلاطون: المعرفة تذكّر والتقدم انحدار. بل الانحدار يرتفع إلى لاهوت، يصير لاهوتياً”[9]

كما أن تلك الرؤية السرمدية الجوهرانية لمفهوم الأمة لدى القوميين، جعلتهم لا يعيرون أدنى أهمية لمسارات الانحطاط والانحلال في التاريخ العربي والتي امتدت نحو ألف عام، وخاصة في الحقبتين المملوكية والعثمانية. “إذا كانت الدولة هي الامتداد، والانحدار هو انحدار الدولة، عندئذ فالانحدار يبدأ فوراً بعد الأمويين بانفصال الأندلس والمغرب نهائياً، أي في القرن الثاني الهجري، ويكتمل تماماً في القرنين الثالث والرابع. لكن الأهم من الانفصال الامتدادي، انقسام الدولة في النواة، في العاصمة بغداد. في بغداد يقوم أمير للأمراء، يسمل عيون ثلاثة من الخلفاء. عصر الأوج العباسي انتهى إلى غير رجعة….. ليس أمرنا استثناء، خصوصية، لا داعي للبكاء. لكن ثمة وجوب لنبذ الجوهرية، واعتماد فكرة التكون والتاريخ. الكوائن الاجتماعية نتاج تاريخ اجتماعي. يجب الانتقال بالفكر إلى ما تحت الدولة، إلى المجتمع، إلى الكينونة الاجتماعية والجوهر الإنساني”[10]

إن نزع المضمون الميتافيزيقي لمفهوم الأمة، ووضع هذا المفهوم في التاريخ هو البدوة اللازمة للتحرر من فكرة الأصل، التي لا زالت تزن بقوة على وعي النخب ووعي البشر العاديين، وتجعل الأموات يمسكون دوماً بتلابيب الأحياء، مما يبقيهم مستلبين ماضوياً، وعاجزين عن التحول إلى ذوات فاعلة، في مناخ انقسامات عالمنا المعاصر إلى أمم قومية ممركزة على ذواتها، و”شعوب “هامدة لا تزال موضوعاً لإرادات الآخرين، وتقع “الشعوب العربية “في مقدمتها.

إن فكرة “الأصل “هي من الأفكار المشتركة بين القوميين العرب والإسلاميين، وهي ما يجعل الأصولية عبارة عن منظومة تفكير أكثر منها مجموعة أفكار، وهذا الاشتراك في منظومات التفكير بين القوميين والإسلاميين يجعل المبادئ الإبستمية لكلا المنظومتين مبادئ متهاوية.

الخصوصية وعقدة الهوية:

تتناسل أوهام الخصوصية وعقدة الهوية من فكرة “الأصل “المعلق سرمدياً فوق الصيرورة والمنطق والتاريخ. الخصوصية رؤية وثنية تضع العرب خارج طينة الجنس البشري، علماً أنه لا يوجد في علمي البيولوجيا والأنتروبيولوجيا ما يشي بأن العرب من طينة مختلفة عن بقية الشعوب، كما تتلازم أوهام الخصوصية مع عقدة الهوية، التي عانى منها العرب بعد صدمة الحداثة أثر”جرحهم النرجسي”، جراء صحوتهم على تفوق غربي حاسم مع غزو نابليون لمصر. يؤكد إلياس مرقص وحدة النوع البشري وما تعرض له العرب في تاريخهم شهدته أغلب الشعوب والأمم في أزمنة مختلفة، نازعاً صفة القداسة عن “جوهر “متعالي مفترض: “معظم قادة الفتح انتهوا نهاية مأساوية، ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلاً، الفتنة قامت منذ البداية، عدد من أحفاد الرسول قتلوا في كربلاء، الزنج أحيوا أراضي جنوبي العراق، وثاروا، وقتلوا 300000 قتيل أو نصف مليون، ليس في هذا استثناء ولا غرابة. لا “الفتنة “ولا صراع أمية وهاشم وعباس ومروان الخ ولا مذبحة العبيد، كل ذلك نجده في أمصار شتى في عصور شتى في الشرق والغرب والشمال والجنوب، في عوالم المسيحية والهندوسية والبوذية والاحيائية ” [11]

ولأن العرب جزء من التاريخ البشري، ويخضعون لقوانين التاريخ ذاتها متفاعلة مع شروط وجودهم الاجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية، فهو يدعو إلى وضع تاريخنا تحت مقولة عبودية الإنسان: “يجب فحص تاريخنا تحت مقولة عبودية الإنسان…إن لائحة العبودية في تاريخنا طويلة: هناك احتقار اللون الأسود (تراث جاهلي عريق ودائم… ) وبغداد العباسيين أكبر مركز لتجارة العبيد بأنواعهم وألوانهم وأعمارهم وجنسياتهم، الشقر والبيض والسمر والصفر والسود، الجيورجي والافرنجي والسلافي والهندي، الرجال والنساء، والأسعار معروفة في سوق بغداد أو البصرة”[12]

إن وضع العرب تحت مقولة العبودية-حرية، يعني ادخالهم في مسار التاريخ البشري، وإقامة الحد على هلوسات الخصوصية، فتاريخ البشر هو تاريخ تقليص العبودية ونمو الحرية، فالنزوع نحو الحرية يحكم الشعوب جميعها، بصرف النظر عن اللون والعرق والفروقات الأخرى.

وأيضاً، تولد أوهام الخصوصية والتميز والفرادة، أفكار المؤامرة لدى معتنقيها، ويتضح ذلك من اعتقاد ابناء “الأمة “المتجوهرة، بأنهم ضحية دائمة لتآمر الآخرين عليهم، وهؤلاء الآخرون هم الأغيار او “الغوييم”، فعلى “الأمة “ذات الرسالة الخالدة وفقاً للفهم القومي، و”خير أمة أخرجت للناس “وفقاً للفهم الإسلاموي، أن تظل في حالة حرب دائمة مع هؤلاء الأغيار حتى قيام الساعة: “من ركب مذهب الخصوصية (خصوصية طاردة للعمومية)، إنما هو: 1 – مؤمن بجوهر تجلى ثم خبا بأمة هي صخرة مناضلة من الأزل إلى الأبد ضد الاستعمار، لكنها أيضاً ومن البداية ألعوبة بيد الجواسيس. 2 – جاهل بتاريخ الشعوب والأقوام الأمم، … رافض لفكرة البشرية ذاتها ولمفهوم الإنسان، وبالتالي رافض لمفهوم التاريخ من أساسه “[13]

إيمان القوميين العرب بوجود أمة اكتملت هويتها العربية في عصور سالفة، يناقض مع واقع التجزئة والتأخر والتشظي والاستبداد في العالم العربي، ويدل على عدم إداركهم أن الهوية هي سيرورة تشكل ثقافية ولغوية ومجتمعية وسياسية وجمالية وأخلاقية، مندرجة في العالم ومترابطة معه، ومتطلعة إلى بناء المستقبل، وليس محاكاة لماض ذهب ولن يعود، يفضي إلى عقدة الهوية، التي هي شكل من أشكال الدفاع المتأخر عن “ذات أموية “مهزومة، وتعيش خارج الكونية والتاريخية، “فالرقص المسعور حول الذات الميتة لا يجعلها تنبعث من رمادها”بحسب عبدالله العروي.

ويؤكد إلياس مرقص: “حين تكون هوية لا تكون عقدة هوية. والتمهيد الفكري للوحدة الألمانية كان البعث الروحي والفكري العام (فلسفة، موسيقى، آداب، علوم،..)، الذي غمر أمة متأخرة ومجزأة وكوّنها كشعب وذات. أن يكون شعب مبتلياً بالهوية عقدة فهذا يفهم، يعلل، يبرر. أما أن يركب مفكرون على هذه الحالة، فهذا سقوط الذات، إنساناً وأمة على حد سواء”[14]

نعم الأيديولوجيا القومية العربية مسؤولة عن تنضيد أقانيم الأصل والهوية الخالدة والخصوصية التي تشي بمضامين “شعب الله المختار “بما ينطوي ذلك على اختيارات عنصرية كامنة في المبادئ الإبستمية للأفكار والتوجهات، فتلك الأيديولوجيا، التي تدعي نفسها فكراً، مسؤولة عن إقامة أصنامها وثوابتها، النابعة من رؤية استاتكية ومنهج لا تاريخي ولا جدلي: “الفكر العربي ليس الفكر العربي. المثقف العربي المعاصر لم يكتشف الذرة. الفكر العربي لم يفتح شيئاً. وهو لن يفتح إلا إذا توفرت له شروط وأسباب: أولها في صعيده الخاص، الأيمان بذاته كفكر. وإلغاء التضمينات الملتبسة (القومية والعربية واللغوية) للصفة العربي”[15]

وغني عن القول: أن مبادئ الخصوصية، الهوية-الأصل، “الأمة ذات الرسالة الخالدة”، “وكنتم خير أمة أخرجت للناس”، تغلق قناة العرب إلى الكونية والمعاصرة، فالأزمات التي يواجها عالمنا المعاصر، لم تعد محلية الطابع، فالعرب في قلب الأزمات الراهنة، رغم أن الكثيرين منهم يعتقدون: أن آثار تراكم الأسلحة النووية بعيد عنهم، مثلاً، أو لا علاقة لهم بثقب الأوزون أو مرض السيدا، يؤكد الراحل مرقص على وحدة مصير البشرية، ووحدة مستقبلها، بالرغم من الطابع التناقضي لوحدتها الراهنة: “لقد وصلت البشرية الآن، في هذه اللحظة المنطقية والتاريخية، إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. وصلت إلى نهاية. إما أن تكون نهاية تقدم وثورة تأسيس لتقدم آخر وإما أن تكون نهاية النوع. هذه القضية تخصنا بالتمام!

الأسلحة النووية، تلوث البيئة، نفاذ ثروات باطن الأرض، التصحر والتصلع. استمرار أو اتساع النفوذ والجوع، عودة أمراض وظهور أمراض، التفجر الديمغرافي… توسع الهوة شمال/ جنوب…. هذا كله ليس بعيداً عنا ولسنا بعيدين عنه وأزمتنا العربية ليست من مادة أخرى أو جوهر آخر”[16]

ويعتبر إلياس مرقص ثنائية جوهر عظيم/ واقع فاسد ثنائية مغلوطة وغير جدلية وغير تاريخية، وهي ثنائية غير منتجة للتقدم والارتقاء، بل هي ثنائية منتجة للعدم على حساب الوجود، فإلى الذين يعتبرون أن جوهر الأمة عظيم، لكن واقعها الراهن فاسد، يقول: “لا يوجد جوهر عربي عظيم ولا جوهر عربي فاسد….إن جميع شعوب الأرض وجميع شعوب بني آدم من معدن واحد ومن طينة واحدة. وإن الفرق في اختلاف الحالات هو الفرق في التركيبات. لا جوهرنا عظيم ولا واقعنا فاسد. لنأخذ الأمور بهدوء. فعندما نؤمن بأن الجوهر عظيم والواقع فاسد، سيصبح عملك كله ونفسك وسيكولوجيتك وروحيتك متشنجة لكي تجعل الواقع مطابقاً للجوهر، وهذه مشكلة لأنك تريد أن تجوهر الواقع. الأمة العربية الواحدة هي الجوهر، ومعركتنا الوحدوية هي تحويل واقع الانفصال الفاسد إلى جوهر، أي تحويل الانفصال إلى وحدة. لقد مال تفكيرنا إلى عسكرة السياسة وعسكرة الحياة السياسية”. [17]

اللغة العربية وضرورة إعادة تشكيلها مفهومياً:

تعتقد قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، ومنهم مشتغلون بحقل اللغة العربية، بأن اللغة العربية تتمتع “بقدسية “كونها لغة القرآن، وكثيرون من العرب يعتقدون أنها لغة أهل الجنة، هذا مما يجعلها تنطوي على شحنة ميتافيزيقية أيضاً، تربطها بذلك الأصل السرمدي المتعالي، وبخاصة إذا نظرنا إلى ارتباطها العضوي تاريخياً بخطابات الفقهاء ورجال الدين الوضعي، فذلك يزيد من هالتها”السحرية”المعيقة لجعلها أداة للتفكير وبناء الأفكار والاجتماع، ولجعلها أساساً لغة قومية.

“موضوع اللغة العربية يدرج، في العادة، تحت لواء القومية العربية، وتحت لواء الوحدة العربية وتحت لواء الأصل العربي. لكن في المقابل يوجد نقد للغة العربية، يجب أن أحدد ماذا أنقد، وماذا أقصد باللغة التي أنقدها…..هناك مستوى حيادي وجوهري، واللغة مهما كان شأنها في التفكير، فهي ليست منبع الأفكار، واللغة أداة للتفكير ووسيلة للفكر، وهي مادة بناء الفكر كما يقول ماركس. واللغة هي واقعية الفكر المباشر، أي إن فكرك المباشر هو كلامك. اللغة إذاً وسيلة للتفكير، وهي أدوات وألفاظ وبنى عقلية، ووسيلة للتواصل بين الناس ووسيلة لقيام اجتماع بشري، وبالتالي هي وسيلة من وسائل إنتاج الوجود”.[18]

ولتبديد هالة القدسية عن اللغة العربية، بهدف جعلها لغة قومية من جهة. وأداة للتفكير وبناء الأفكار والتصورات والمفاهيم من جهة ثانية. وكي ترقى إلى مستوى أداة للاجتماع البشري والتواصل البنّاء من جهة ثالثة. يقترح إلياس مرقص إعادة هيكلة اللغة العربية وفق ثلاثة مناحي:

المنحى الأول، انهاء الانقسام ما بين اللغة الفصحى التي يسميها اللغة الأدبية واللهجات العامية، بهدف تأسيس تلك اللغة القومية: “اود أن أصل إلى نتيجة مضمونها أن اللغة العربية ليست اللغة السامية المسماة اللغة العربية الفصحى. اللغة العربية المكِونة للقومية العربية هي اللغة العربية المعرفة في علم الألسنية. وهذا ينقلنا إلى موضوع الفصحى والعامية. القول إن اللغة واحدة، أما اللهجات فمختلفة هو قول عليه كثير من التحفظ. أنا أفضل الحديث عن اللغة العربية الأدبية واللغة العربية الشعبية. اللغة العربية الأدبية واحدة، أما اللغة العربية الشعبية فمتعددة. واكتمال اللغة القومية العربية باعتبارها لغة واحدة لأمة واحدة لن تأتي من تعميم الفصحى وإزالة العاميات لأن إزالة العاميات مستحيلة. والعاميات لن تزول. فإذا تطورت العلاقات بين الأقطار العربية، فذلك يقرب اللغات الشعبية بعضها من بعض، وربما يحقق نوعاً من الاندماج، ويقرب العامية من الفصحى”.[19]

المنحى الثاني، إعادة الاعتبار للجمل الإسمية على حساب الجمل الفعلية، بوصف الجمل الإسمية أقرب إلى القانون والمنطق وصياغة المفاهيم، وأكثر وضوحاً وسلاسة: “سمعت في حياتي مراراً وتكراراً أن العرب يحبذون الجملة الفعلية، ومن يكثر من استعمال الجملة الاسمية فهو يقلد الأسلوب الفرنسي واللاتيني والألماني. بتعبير آخر إن هؤلاء يدّعون أن النحاة العرب فضلوا الجملة الفعلية على الجملة الإسمية. حاولت التحقق من الموضوع ووجدت أن هذا الكلام غلط. وفي رأيي أن الجملة الاسمية هي وحدها التي تتلاءم مع التعبير عن القانون. الجملة الاسمية هي شكل القانون: الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس. من المحال أن أقول: تدور الأرض حول نفسها وحول الشمس. الله نور السموات والأرض. أما عبارة (تمدد الحرارة المعادن) فهي غلط. (الحرارة تمدد المعادن) و (الحرارة تمدد الاجسام) فهذا هو الشيء الطبيعي. الهروب من الجملة الاسمية ضد القانون وضد الفكر. بعض الأشخاص راجعوا القرآن وقالوا إن أقوى الجمل القرآنية هي الجمل الاسمية لا الجمل الفعلية”.[20]

المنحى الثالث، الاتجاه إلى إيجاد قاموس تاريخي دلالي غير اشتقاقي، كي يستوعب المفاهيم والمصطلحات الحديثة التي دخلت إلى حياتنا، وهناك صعوبة بترجمتها إلى العربية وتخوف بنفس الوقت من ابقائها في لغاتها الأصلية، بدعوى الحفاظ على الأصالة والأصول، وعدم التفريط بسحرية الكلمات في اللغة العربية، إلياس مرقص يختلف مع منهجية الجمود تلك ويقول: “اللغة يجب أن تكون مرتبطة بالفكر، وتلبي حاجات التفكير الفلسفي الأساسي عند الإنسان، وإلا لا معنى لها أبداً. ليست مشكلة أن نترجم مصطلحات علم الحيوان وعلم الحشرات وعلم الفراشات من اللاتينية أو الإنكليزية أو لا نترجمها. أنا أقول لا تترجمونها أبداً، بل تناولوها كما هي أكانت لاتينية أم إنكليزية ولو بلغ عددها 500 ألف مصطلح، فهذا لن يؤثر 1 بالمئة في طبيعة اللغة العربية”.[21]

إن المفاهيم هي أدوات القبض على الواقع ورسم صورته وتفاصيله، وهي أهم في عملية الفهم من قواعد النحو والصرف. لذا يغدو إنشاء ذاك القاموس ضرورة من ضرورات الارتقاء والنمو: “فنحن نحتاج إلى قاموس تاريخي دلالي. إن رفضنا كأمة وإلى اليوم كأكاديميين، كنخبة، إن رفضنا إنشاء هذا القاموس معناه أننا نرفض التطور والنمو ونرفض مقولة الجديد، أو كأننا نؤمن بأنه لا يوجد شيْ جديد وأن الثقافة موجودة منذ خمسة الأف سنة لأن كلمة ثقف الرمح موجودة. وأن الدولة موجودة وبديهية وأصلية ما دام فعل دال موجود….اليوم ظهرت عندنا كلمات جديدة كالحرية والجمهورية والشعب والأمة و الثورة الديمقراطية”.[22]

إذا أردنا أن تبقى اللغة العربية على صلة بالكونية وبالحياة الواقعية، علينا أن ندمج هذه المفاهيم والمصطلحات الجديدة في عداد كلماتها الجوانية بصرف النظر عن مصادرها. بكلام آخر أن اللغة العربية هي كائن خاضع للتشكل وإعادة الإنتاج على الدوام، وهذا يتطلب كسر قواعد الجمود فيها ونزع مضامينها السحرية.

“إن أحد مكونات الأمة هو اللغة. واللغة ليست واحدة. ثمة خطأ ارتكبناه جميعاً بدرجات متفاوتة، عندما كنا نقول إن لغتنا واحدة. وأن لا مسألة لغوية أو معضلة لغة لدى العرب. اليوم أؤكد وجود معضلة لغة عند العرب. هناك ألسنة إقليمية، وهذا طبيعي. هناك عامية وفصحى، ولا بد من أن تتطور اللغة لتمكيننا من استيعاب أساسات الفلسفة والعلم الحديث وغير ذلك .. أنا أقول بوجود لغة عربية أو لغة أموية عربية بتعبير ياسين الحافظ. حيث ستندمج اللغة الشعبية المسماة عامية واللغة الأدبية المسماة فصحى، سينجم من ذلك أمر ثالث هو لغة الأمة”.[23]

في مساءلة مقولتي”الشعب “و “الجماهير”:

تعتبر الأيديولوجيا القومية العربية مقولة “الشعب العربي “مقولة ناجزة ومنتهية، بصرف النظر عن التجزئة القومية، وعن تشارك العرب مع غير العرب كالأكراد والأمازيغ والشركس والأرمن والسريان والأشوريين….وأن “الشعب العربي “بنظرها هو تلك الكتلة”المتجانسة”، التي تقطن الأرض الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، فلا ترى تعارضاً ولا اختلافاً ولا فرقاً، إنما وحدة وتجانس، وما تلك الفروقات والاختلافات سوى صناعة من قبل أعداء الأمة والشعب.

يذهب إلياس مرقص مذهباً آخر: الشعب ليس مفهوماً قبلياً، إنه خاضع للتشكل والتكّون أيضاً، وهو يؤيد بقوة مقولة عبد الناصر “الشعوب العربية”، بما تشير إليه من اختلافات بين شعوب الوطن العربي:

“في هذا المجال أؤيد صيغة عبد الناصر حين كان يردد عبارة (شعوب الأمة العربية) أو طموح ( شعوب الأمة العربية) إلى الوحدة. عبد الناصر قال (شعوب الأمة العربية) وأكد وجود أمة عربية. وأكد وجود شعوب عربية. وكان حريصاَ على ما سماه الوحدة الوطنية، أي وحدة كل قطر بذاته.”.[24]

إن الفروقات والاختلافات بين “الشعوب العربية “لا تستنفذ الفروقات والاختلافات داخل “الشعوب”في الكيانات العربية، التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية: “ثم: إن هذا الشعب هو شعب اختلاف! إنه شعب تغاير وتباين وتمايز…. وإلا سقطت المقولة العلمية في هوة الهوية. تهاوت بهذا المعنى.. إن التماهي العربي الحاضر هو فعلاً تهاو، تهاو في هوة الهوية. ارتكاس قبيح. تعويض لا معنى له عن الفرقة والانقسام والتشتت والتقاتل وهو موضوعياً قتال ضد الفكر وضد التقدم، ضد العقل واجتماع الناس، ضد الشعب والأمة…الأفراد المختلفون يجتمعون فيصير معنا مجتمع. أو شعب هكذا العملية أو السيرورة. هذا بالطبع غائب عن تراثنا بشكل عام”.[25]

قبل عصر الاستعمار الذي هو عصر نهضة وطنية وقومية، لم يكن العرب يعرفون فكرة الشعب أو مفهوم الشعب. أتى مفهوم الشعب على ظهر الدساتير الكولونيالية مترافقاً مع حزمة من المفاهيم الأخرى، كالدولة والأمة والمواطنة والحرية والديمقراطية: “لم تكن كلمة (شعب) مستخدمة لدينا نحن العرب قبل القرن الثامن عشر، بل كان لدينا مفهوما العامة والخاصة، وكلمة الشعب تعني العامة”.[26]

كما دخل العرب في المرحلتين الكولونيالية والاستقلالية، في كياناتهم الحالية، وخاصة في سورية والعراق ولبنان ومصر، في حالة تشكّل جنينية وواقعية لكل من الدول والشعوب والمجتمعات، ثم جاءت الانقلابات العسكرية الثورية لتنقلب على المرحلة الوطنية، وأعادت مجتمعاتها إلى تاريخها المملوكي –العثماني. وبالتالي، قطعت سيرورة التشكّل الوطني بمضامينها المختلفة، وعدنا مع “الثورية “القومية إلى حالة العامة والخاصة، أو الرعاع والأوليغارشيات الأقلوية.

فمفهوم الشعب خاضع للتكّون، للتقدم والتراجع، للنمو والتقلص، بوصفه علاقات حرة بين مواطنين أحرار:

“الشعب كيان سياسي ثابت، والجمهور، بدءاً من الجمهور في صالة السينما، ليس له كيان ثابت. الشعب يتكوّن من أفراد مختلفين، وهو مقولة اختلافية. فالإنسان وهو واحد من الناس له حق الائتلاف مع غيره من الناس، وحق تأليف زمر (مجموعات) وجماعات وشركات وجمعيات ومجتمعات بجميع معاني الكلمة. أنا وأنت وفلان وفلان نريد أن نؤلف ناديّاً أو حزباً سياسياَ أو نقابة أو ديناَ جديداً. أحدنا أعلن نفسه نبياً ويوجد من يؤمن به فليكن. هذا حق. وفي ضوء ذلك نستطيع القول إن الشعب هو العلاقات بين الناس. أما القطيع المؤلف من أفراد فهم مثل بعض. هؤلاء كتلة وليسوا شعباً. والتاريخ هو تاريخ إنتاج البشر لوجودهم اجتماعياً. البشر ينتجون وجودهم اجتماعياً، وهذا الإنتاج له تاريخ، وله بيئة جغرافية، وبهذا المعنى فإن التاريخ محصلة الكيفيات المختلفة”.[27]

كان إلياس مرقص على الدوام، يعتبر مفهوم الشعب هو أحد ركني الديمقراطية، فكان يعرّف الديمقراطية، بأنها: الليبرالية + مفهوم الشعب. فالليبرالية حدُّ على الشعب كي لا يتحول إلى حركات شعبوية مجوهرة. ومفهوم الشعب حدُّ على الليبرالية كي لا تتحول إلى أوليغارشية أقلوية.

لقد أسقط التيار القومي العربي طرفي المسألة الديمقراطية، أي الليبرالية والشعب، فهو تصالح باكراً مع التقليد وطرد الحداثة من برامجه ومناهجه ومنظوراته، فكانت الليبرالية بالنسبة له مرتبطة بالاستعمار والإمبريالية، واستحضر المجتمع التقليدي بكل تأخره الثقافي والسياسي والاجتماعي لمواجهة الخارج، في ذات الوقت الذي أسقط فيه مقولة الشعب، مستعيضاً عنها بمقولة”الجماهير”الكادحة، المناضلة، العظيمة، السائرة نحو دحر الصهيونية والإمبريالية الخ.

مع طرد مقولتي الشعب والليبرالية، أسقط التيار القومي العربي مقولة الديمقراطية أيضاً من سلوكه ومنظوراته، وبالتالي سقطت ثلاثية الليبرالية، الشعب، الديمقراطية، ومع اسقاط هذه الثلاثية، بدأ التيار القومي الاشتراكي، يؤقنم مقولتي “الجماهير “و”الديمقراطية الشعبية”، وبذلك بدأ بتأسيس التوتاليتارية، “فجماهير “التيار القومي المؤطرة في مؤسسات”الدول”السلطانية المحدثة، هي التي كانت سنداً لمشاريع الاستبداد القومي وانظمته، التي قادت العراق وسورية واليمن وليبيا إلى الدمار والخراب، حيث كان “المجتمع الجماهيري “الذي أسسته ورعته “الدول التسلطية “الحامل التاريخي للاستبداد والحركات الأصولية الارتدادية، وكذلك أعاد “المجتمع الجماهيري”إنتاج التأخر التاريخي وتظاهراته المتنوعة.

إلياس مرقص يؤكد: أن مفهوم الجماهير = الكتل الكبرى + فكرة التقدم. “دول “التسلط القومي نزعت فكرة التقدم، فعدنا إلى الرعوية والاختلاط والسديمية.

الجماهير بدون فكرة التقدم تتحول إلى حركات توتاليتارية حاملة للتأخر والاستبداد والشوفينية والعنصرية والأصولية، وهذا الذي حدث في بلادنا في حقبة النظم الثورية.

في مواجهة تغول ثنائية “دولة تسلطية”/ “مجتمع جماهيري”، وقف إلياس مرقص إلى جانب تعميق مضمون “الثورة الوطنية الديمقراطية “أو “الثورة القومية الديمقراطية”، التي اسقطها الفكر القومي العربي، وهي تحمل مهام ومضامين طاردة لظواهر التأخر التاريخي: “فالثورة الوطنية الديمقراطية التي طرحناها، والثورة القومية الديمقراطية التي طرحها ياسين الحافظ في السبعينات هي طرح متقدم. ومع ذلك فكل هذه الطروحات ناقصة إلى هذا الحد أو ذاك. واليوم يجب أن نعيد النظر ونعمق. هذه الطروحات ناقصة لأنه يجب أن نأخذ بمقولة التأخر على نحو أغنى مما طرحه ياسين. نريد أن نعطي فكرنا النظري كل ما تستحقه الجذور الروحية، الجذور الثقافية العامة، التربية التي تحيط بشجرة الفكر العلمي، وبالأشجار الأخرى إلى جانب شجرة الفكر العلمي. على سبيل المثال يجب أن نستوعب علم الأخلاق (الأتيقا)، وعلم الجمال (الأستيطيقا) وندخلهما في ثقافتنا وتربيتنا وتعلمنا”.[28]

في نقد غياب مفهوم الدولة:

كان إلياس مرقص يعتبر الكيانات العربية القائمة كيانات حقيقية، وخاصة في مصر والعراق وسورية، وكان يعارض بشدة أصباغ الصفات على “دول “هذه الكيانات، بما في ذلك صفة القطرية، لأن الصفات بنظره كانت “تأكل الموصوف “أي الدولة. خاصة أن القوميين العرب ركزّوا على صفات الدولة وليس على ماهيتها ومضامينها العامة، على صفاتها “الكدحانية “والطبقية والعرقية، وبهذه الصفات الجزئية اطاحوا بفكرة الدولة وبمحتواها العمومي. في نظره يجب إقامة الحد على تلك العقلية التوصيفية غير المدركة “لسمو “فكرة الدولة وتعاليها، لم يكن إلياس مرقص موافقاً على وصف الماركسيين للدولة بأنها أداة قمع طبقي، أو أداة هيمنة طبقية، ولا على وصف القوميين “للدول “القائمة في البلدان العربية “بالقطرية “لقناعته الراسخة: بأن الصفة جزئية وحصرية لا يجوز أن تُطلق على كائن عام غير قابل للخصخصة والتخفيض. فعلى سبيل المثال، عارض جورج طرابيشي بتبنية لمصطلح “الدولة القطرية”: “إن موال الدول القطرية هي امتداد للاستعمار ويجب إلغاء الدول القطرية، هذا كلام فارغ. وردّي كان: أنتم ضد الدول القطرية أم ضد الدولة كلها من الأساس؟ “.[29]

إن سيرورة اصباغ الصفات الذاتية على “الدول “من دولتي البعث في كل من سورية والعراق، إلى “دولة العلم والإيمان”في مصر إلى “دولة القذافي “الديمقراطية الشعبية العظمى وغيرها من صفاتها المعروفة، هي ذاتها سيرورة خراب “الدول والمجتمعات”، التي أوصلت هذه البلدان إلى ما وصلت إليه من كوارث ونكبات، لم تشهدها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

في مواجهة انحطاط “الدولة “مفهومياً ونظرياً في البناء النظري القومي، وفي مواجهة انحطاطها فعلياً إلى مجرد تسلط واستبداد في البلدان التي حكمها القوميون، لم يتوان إلياس مرقص من ابراز أهمية إعادة تأسيس مفهوم الدولة نظرياً في بيئة ثقافية ومجتمعية ليست بيئته، فهو مفهوم غير قابل للترثنة، لأنه من انتاج الحداثة، أو أحد ذرى الحداثة الأوربية، وبالتالي فإن أشكال الحكم التي عرفها العرب كالسلطنة والإمارة والخلافة لا تقارب هذا المفهوم الوافد، الذي يحتاج إلى تبيئة وتجوين عربيين.

“في العصر اليساري، في عصر عبد الناصر، في الستينات والسبعينات، انتشر في صفوف اليسار موقف معاد للدولة ولفكرة الدولة ولمفهوم الدولة. هذا الموقف كان سيئاً وخطيراً. وإذا لم نفند هذا الموقف وندحضه ونحذفه فهو خطير وخطير. هناك أناس يقولون: إن الدولة أكلت المجتمع. وفي رأيي أن السلطة والتسلط أو الاستبداد هي التي أكلت المجتمع. ويجب أن نميز الدولة من المجتمع بفكرة أخرى مفادها أن الدولة الحقة والحقيقية والحقوقية هي التي لديها الاستعداد بموجب كيانها كله، أن تدافع عن مواطن، عن فرد إزاء الجماعة، وإزاء المجتمع، وإلا فإن المجتمع ينحط إلى جمهور والشعب ينحط إلى جمهور، ومن هنا يجب أن نؤيد فكرة سمو الدولة”.[30]

نعم ذهب إلياس مرقص مذهب النهاجية الهيغلية، بربط مفهوم الدولة بمفهومي المطلق والمتعالي، لكي يكسبها سمة السمو والحياد تجاه المعتقدات والأيديولوجيات والمذاهب والطوائف والإثنيات المختلفة، وبأنها دولة الجميع، وهذا ما لم يتحقق في تاريخنا مع أشكال الحكم التي تعاقبت فيه: “في نظري أن المصيبة الرئيسية في التاريخ العربي الإسلامي، بصدد الخلافة هي أن الخلافة لم يكن لها عملياُ وفعلياً أي نوع من القدسية، بدءاً من عثمان بن عفان ومقتله وصولاُ إلى مصطفى كمال أتاتورك. الخليفة خليفة رسول الله كان يٌقتل ويستبدل به خليفة آخر، … الخليفة لم يكن له عملياً أي نوع من أنواع القداسة، ولا أي سمو ولا أي حرمة”.[31]

كما أثنى إلياس مرقص على كتابات عبد الله العروي، خاصة تلك المتعلقة بمفهومي الدولة والحرية، بوصف هذين المفهومين يحتاجان إلى تأسيس نظري شاق، في ظل فقر نظري شامل أبداه القوميون والماركسيون في التعامل مع مفهوم الدولة. يجب أن ننتهي من ربط كلمة دولة بفعل دال – يدول المتصل بترويض الخيول وسياستها، يجب ربط الكلمة بوصفها مفهوماً بمصادره الكونية والإنسانية وصيرورته التاريخية، ونقل قدسية “الله “وسموه إلى الدولة بوصفها تعبيراً عن عمومية المجتمع وكليته: “يجب الانتقال من (الديمقراطية مع مزدوجين!) إلى (دولة حق) وديمقراطية. دولة حق. دولة حق وقانون الخ هذا هو الأساس المنطقي للديمقراطية.

لا دولة ديمقراطية إذا لم تكن أولاً (دولة حق)

لا ديمقراطية بلا دولة.

لا ديمقراطية مع اللادولة.

واللادولة هي الدّول (بالجمع)، الفوضى والعسف والاستبداد. هي المخلوطة دول – طبقات-طوائف – قبائل وهلمجرا.

دولة حقُ: هذا يعني أولاً سمو القانون. بدءاً من الدستور (دستور الدولة) وصولاُ الى نظام السير في الشوارع مروراً بالقوانين.

إذا كانت فكرة (الله تعالى) لا تؤسس فكرة سمو القانون. فهذه مفارقة كبيرة تستحق الاهتمام”.[32]

لم يكن انحدار “الدولة “في تاريخنا القديم والمعاصر وانحدار الاجتماع والعمران والقانون العام، سوى انعكاس لسقوط فكرة المطلق في حياتنا، وتقدم النسبيات فيها، وتنصيب النسبيات كمطلقات، فصار”القائد الضرورة”مطلقاً و”الحزب القائد”مطلقاً و”الزعيم المقاوم”مطلقا و “الزعيم التاريخي “مطلقاً، وكل ذلك على حساب عمومية الدولة وتعاليها.

تشكل الأمة يستوجب نمو الفردية:

بنت الأيديولوجيا القومية مسألة الأمة على فكرة الكتلة الأكثرية، الأكثرية الإثنية أو الأكثرية المذهبية، وقام الاستبداد الثوري للنظم القومية على منهجية تسوية الاختلافات، من طريق تساوي البشر في شروطهم العبدية، فعقل الطغم القومية التي حكمت في العقود الماضية، كان عقلاً مدحلياً، يؤمن بتسوية الاختلافات بطريقة الدحل، سواء بالمدحلة الإثنية أو المدحلة المذهبية، أو المدحلة الحزبية الأيديولوجية المتراكبة مع المداحل الأخرى.

إن قتل فردانية الأفراد المختلفين، وتذويب ذواتهم في الجمهور-الكتلة، بصرف النظر عن ماهية هذه الكتلة، سواء كانت الكتلة-الطائفة، أو الكتلة-الإثنية، أو الكتلة-“المجتمع الجماهيري”، هي منهجية الاستبداد المثلى في الهيمنة على البشر، وقتل قابليتهم للحرية والاجتماع الحر: “ما ليس كائناً مفرداً فهو ليس بكائن. وهذا متفق مع فيورباخ الذي يرى أنه في بداية المعرفة، أو بداية علم الظاهرات ليس لدي سوى التناقض بين الفكر ومعه الهوية، والوجود ومعه الاختلاف. أي إن الذي في فكري هو هوية وكليات، وإزائي، خارج رأسي، يوجد الوجود الذي قوامه الاختلاف، (إذن إزاء الهوية والكليات ثمة الأفرادية والاختلاف).”[33]

ويعتقد إلياس مرقص أن تضخيم “نحن “عند العرب، حجب أنا المفكرة وأنا العارفة، وأنا المتمردة على الاستبداد والثقافة الاستبدادية، وعلى التساوي في شروط العبودية: “إن إحدى ملاحظاتي النقدية على الندوة، (ندوة العقلانيين العرب)، وعلى الخطاب العربي المعاصر، هو تضخيم “نحن “على حساب ال “انا”. قد تكون “نحن “ستاراً ل(أنا الأنانية). وقد يكون فقدان ال(انا أفكر)، ال(أنا مع الفكر)، سبب فقدان وضياع وتبدد”نحن”. المجتمع مجتمع الاختلاف، وإلا فهو ليس المجتمع. لكن: والهوية؟ أنا قلت: مجتمع الاختلاف! الهوية في “مجتمع”. أما المزاودة فتضيع المجتمع والهوية”.[34]

وبنظره، أيضاً، لا يمكن بناء وحدة وطنية، أو وحدة قومية، استناداً إلى الكتل الهوويّه، فتلك الوحدة تفضي إلى استبداد الرأي العام وسلطة الأكثرية، وتؤدي إلى اعطاب الاندماج الوطني، ولطالما ردّد مراراً وتكراراً: “إذن سأقول: أنا لا أدعي التعلق بلسان الأمة، ولا بلسان أحد أيا كان. حين ندرك أن الأمة العربية هي 200 مليون أنا، تكون قضية الوحدة العربية خطت خطوتها الأولى”.[35]

بدون إظهار الصفة الأفرادية للواقع، وإبراز الاختلافات والفروقات بدلاً من حذفها، لا يوجد تقدّم وتجاوز لما هو قائم. لقد كانت المسيرات المليونية في سورية والعراق أثناء حكم حزب البعث في البلدين خير تعبير عن تسوية الاختلافات بمدحلة الطغمة: (لقد تعلمنا قبل أربعين سنة أن التقدم الأوربي قام على (الطبقة الوسطى)، الطبقة الكادحة-المالكة. تعلمنا أن المجتمع الأوربي فيه طبقة وسطى كبيرة. فيه فروق وتدرجات طويلة، كثرة أعمال وعلاقات وزمراً اجتماعية…..إن مجتمع الاستبداد الشرقي هو مجتمع العامة المتساوية).[36]

إن مجتمع العامة المتساوية هو مجتمع العطالة والركود، وخنق الابداع، وكان هذا”المجتمع “أساس الاشتراكيات السفّاحة، التي بنتها السلطات القومية، والتي أطلق عليها ياسين الحافظ “تأخركيات “نسبة إلى التأخر التاريخي العربي، الذي هو سمة من سمات “مجتمع “العامة : “لا تغيّر بلا التغاير. لا تغيّر بلا اختلاف. … لا تاريخ لولا التفاوت. لولا التفاوت بين البشر لما كان هناك أي تاريخ، أي تقدم، أي نمو للإنسان”.[37]

كما أن الأفراد الأحرار الذين تحرروا من روابطهم الأولية وهويّاتهم الصلبة، هم الذين يشكلون الجسور والمعابر المجتمعية، التي ينبني عليها التواصل والعلاقات المشتركة والعقد الاجتماعي أساس الدولة القومية. والأفراد المختلفون الأحرار هم الذين يشكّلون المجموعات الحرة، والعلاقات الحرة، التي تفضي إلى بناء مفهوم الشعب. كما أن الفردية هي منطلق التفكير الحر والضمير الصاحي والحياة الأخلاقية للشعب: ( أريد مئتي مليون عربي يفكرون، من النجار والحذاء إلى القائد السياسي ورجل الدين. ومبدأ الفكر هذا هو مبدأ الوجدان والضمير، وهو أيضاً مبدأ الفرد والضمير والتفكير والإبداع والخلق… ونرفض أن يكون العمل البشري تنفيذاً لإرادة غير إرادة الفرد الحر (والحر هو العارف والواعي والمسؤول). أن يتحول البشر إلى منفذين فهذا دون الحيوانية، ولا يجوز أن يصبح العمل الفكري تنفيذاً، الحجر لا يخطئ والنحلة لا تخطئ. (علم النحلة تام أما علم الإنسان فهو ناقص دوماً، والخطأ ظل العمل ورديف التفكير) .[38]

الإنسية حاكمة على القومية:

لا تكتمل فردانية الفرد، إلا إذا كان انتماءه للجماعة الإنسانية حاكماً على جميع انتماءاته الأخرى. والحركات القومية مهددة على الدوام بخطر هيمنة نزعتين مترابطتين: النزعة الاستبدادية تجاه الداخل، وهذه مبنية على حذف الاختلافات والفروقات الداخلية والقضاء على الصفة الأفرادية للواقع. والنزعة العدائية والشوفينية تجاه الخارج المختلف، وهذه مبنية على حذف الإنسية من منظورات وممارسات الحركة القومية المعنية.

التيارات القومية العربية امتلكت كلا النزعتين، فتبلورت، داخلياً، في أحزاب شمولية وأنظمة عسكرية وحركات توتاليتارية استباحت الدواخل في البلدان العربية واغتصبت السلطات فيها اغتصاباً. ومع التكّور على موضوعات الخصوصية والأصالة و”الأمة الخالدة”، تبلورت لدى مختلف التيارات القومية نزعة انكفائية داخلياً، ونزعة عدوانية تجاه الخارج، أي تجاه (الآخر) المختلف، لكن وجود تلك “الدول “التي تبنت القومية العربية في القسم المتأخر والرث من العالم، وانعدام فرص تأثيرها في السياسات الدولية، جعل بعدها الشوفيني التوسعي غير ظاهر ومؤثر إلا في الإقليم العربي. مثلاً، احتلال الكويت من قبل العراق في فترة حكم صدام حسين تعبير عن نزعة عدوانية توسعية لدى النظام”القومي العربي”في العراق، وكذلك هيمنة النظام السوري على لبنان يقع على خط نمو العناصر التوسعية العدوانية في بنية الأيديولوجية القومية العربية وحواملها من الأنظمة والحركات المختلفة.

كانت النزعتان الفردية والإنسية غائبتين عن منظورات وممارسات الأحزاب القومية العربية، وكان هذا من الأسباب الهامة التي أوصلت بلادنا إلى هذه المصائر الكارثية. لذا دعا إلياس مرقص إلى بناء مفهوم الأمة على مفهوم الإنسان، وأكد أن العلمانية بوصفها أداة اندماج قومي وتوحيد، يجب أن ترتكز على الإنسية: “ولئن كنت أؤيد العلمنة، وأيدوها بشكل قطعي، فليس ذلك فقط لأنني أؤيد الاندماج القومي الاجتماعي، ليس لأنني ملتزم التزاماً مطلقاً بالأمة، بل أولاً وأساساً لأنني ملتزم بالإنسان ضد الأوثان. ليس هدفي ولا مبدئي أن انصب وثناً آخر يدعى العلمانية. مبدئي وهدفي أن أقيم مفهوم الأمة على مفهوم الإنسان، اذن على مفهوم الإنسان والتاريخ، على الكلي”.[39]

يرى أيضاً أن مفهوم الإنسان يجب أن يكون حاكماً على أية منظومة ثقافية-سياسية، وإن إزاحته عن مركزها تؤدي بالمنظومة إلى الوثنية والحلولية والمانوية، وهذا الذي حدث للمنظومة القومية العربية التي أزاحت مفهوم الإنسان، فحوّلت قادتها “التاريخيين “إلى أوثان، وحولت شعاراتها إلى أوثان. فيقول: ( هنا أشير باصبع الاتهام إلى الحلول الكاملة. المنظومة الأيديولوجية الثقافية العربية الإسلامية الشرقية مصابة بالحلولية. فكل منظومة تزيح الإنسان وتزيح فكرة أن هناك عالماً مدنياً هو من إختراع الإنسان وإبداعه وإنتاجه، إنما تحل الله في الطبيعة، فيصبح الله والطبيعة شيئاً واحداً. الخروج من الحلولية يبدأ من الإنسان وتاريخ صعود الإنسان) .[40]

“اجعلوا الإنسان حاكماً على كل أمة، اجعلوا التاريخ حاكماً على التواريخ”هو مبدأ المبادئ عند إلياس مرقص في مواجهة الخصوصية والأصالة والعرقية والنسلية والفخذية والجواهرانية والسرمدية الخ. ففي معارضة الهويّة النسلية منزوعة البعد الإنساني، التي كانت إحدى مضامين الحركات القومية العربية ذات الطابع التوتاليتاري، يؤكد إلياس مرقص: “العرب الذين نتكلم عنهم كأصحاب فتوحات وحضارة وريادة ليسوا عرب اليوم. وليسوا عرب القرون 14-19. ثمة كثير من التجاوز حين نتكلم عنهم بلغة “نحن”. نحن لم نفتح بلداناً، لم ننشر حرية ومساواة، لم نكسر سداً، لم ننجب الفراهيدي والخوارزمي وجهم بن صفوان والمعتزلة والمعري والأدريسي وابن رشد وابن حزم وابن النفيس….ولا الغزالي أو أبن سينا. ولا أعتقد أنهم فيما لو بعثوا أحياء كانوا سيفهمون أو سيرضون عن دفاعنا ! عنهم.

الأرجح أنهم كانوا سيقولون لنا: يوجد تاريخ بعدنا، يوجد جديد حقيقي، توجد شعوب وحضارات “بعد”العرب وغير العرب. أنهوا ثالوث الوثنية والمانوية والحلولية فهو قاتلكم. لقد وصلت البشرية إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. أنتم منها وهي منكم. يوجد عالم، ليس فقط نوع بيولوجي أنتروبولوجي واحد، بل يوجد عالم أكثر فأكثر، أنتم منه وهو منكم. اجعلوا الإنسان حاكماً على كل أمة، اجعلوا التاريخ حاكماً على التواريخ. ثمة تقدم بعد أمة العرب. لماذا أنتم تخلفتم بينما تقدم غيركم؟ واجهوا الموقف الآن. مع العالم بتناقضاته”.[41]

مع ضمور البعد الإنسي في الأيديولوجيا القومية العربية، تحولت إلى مذهب هوويّ قومي متراكب مع مذاهب إسلامية وذكورية: “الفكر القومي – في غالبيته – يريد الأمة العربية، بل الأمة العربية القومية، لكنه بسرعة يمذهب نفسه عروبياً وأصالياً”.[42]

“إن تصور الواقع كتطبيق لمذهب، هو مثالية، إرادية، ذاتوية. سواء كان المذهب الذي نزعم أو يُراد أن الواقع هو تطبيق له، (شرعاً دينياَ) قديماً أو (اشتراكية علمية) حديثة، ودّعت الدين منذ زمن طويل ولا تعي أن علمويتها هي (دين) “.[43]

و”إن طريقة معرفة الذات (ذاتنا القومية والتاريخية الخ) ليس التوغل في بطن الذات (فالذات ليست بطناً، شيئاً ولا رمزاً أو كلمة بل واقع وحقيقة) بل الذهاب في العلاقة، الكائن الكون…”.[44]

إن مذهبة الفكرة القومية وتحويلها إلى عقيدة، قطع صلتها بالكونية، وحذف بعدها الإنسي، وبالتالي لم يعد مفهوم الأمة العربية كائناً في العالم والتاريخ، لأن المذهبة ضد الكائن، وضد صيرورته:

“صفة الكائن: الضرورة، العقل، الحرية.

المذهبة: قسر وعنف.

الكائن صيرورة وتاريخ.

المذهبة: تجميد وإعطاب.

و، الصيرورة صيرورة كائنية.

المذهبة “الثورية “جنون وتخريب”.[45]

وبسبب مذهبة الفكرة القومية بمعارضة الكونية التي سادت في العقود الماضية، لم تستطع التيارات القومية توحيد مجتمعاتها ومنع سيرورة التشظي التي وصلت إلى ما وصلت إلية، لأن الوحدة الوطنية والمجتمعية تحتاج إلى حضور إنسانوي حاسم و نافٍ للصفات ما دون الوطنية، في الوعي والممارسة، وهذا ما لم تمتلكه الحركات القومية، لهذا غلبت فكرة الأصل أفكار الشعب والأمة والوطن:

“فكره الذاتي هي فكرة”الأصل”، أسطورة الأصل، الشيئية والرمزية. (في الرأس، بما في ذلك رأس أهل الفكر: الأشياء تنوب عن الواقع، والرموز والكلمات عن المفاهيم).”الأصل”، إذن الذريّة (النسلية)، المدّ في الزمن المجرّد كبديل عن التاريخ، مع طوطمية متقدمة مؤنسنة. سيرة”الأوائل”في التاريخ، أو في ما يبقى منه في الذاكرة، تؤسطر.. إسلام البدء يحزَّب في القرن العشرين: يسار، عروبة، ثورة اجتماعية، عالمية كونية محافظة تقليدية أو ثورانية نورانية. أبطال الإسلام الأوائل يصيرون أجداداً ل”أحزاب”الحاضر، لقبائل وطوائف الحضارة. فكرة”الأصل وامتداداتها الحديثة تغلب فكرة الوطن، والمكان يبقى المكان المجرد المبسوط في الامتداد”.[46]

كما أن الديمقراطية كإحدى قضايا المسألة القومية، يقيمها إلياس مرقص على مفهومي الإنسان والفرد:

“إذاً، لنقل إن الديمقراطية هي، في الموقع الأول، تغليب الواحد، مجتمعاً وفرداً، وتغلب ممكن لفرد واحد على إجماع”المواطنين”. فإذا ما أجمع سكان”بلد متمدن”، مثلاً فرنسا، وقرروا أن فلاناً من الناس لا يجوز أن يرشح نفسه لأعلى منصب في الدولة، لأنه لا يؤمن بالله أو لأنه يؤمن به، أو لأنه يكره التاريخ الوطني والجبنة الوطنية، والنبيذ الوطني، ويحب أكل الأفاعي السامة، فإن الدستور سيغلّب هذا المواطن الواحد على المجموع، بدون ذلك لن يكون هناك المواطن ولن يكون مواطنون.

وإذا لم يُسّر هذا المجموع بانكساره فسيكون عليه أولاً أن يغير الدستور إلى شبه دستور، بتعبير آخر: الديمقراطية تقيم مفهوم الإنسان ومفهوم المواطن، الديمقراطية تقيم الواحد، هذا الواحد الذي ليس عدداً، الديمقراطية تُغّلب الإنسان والمواطن على الرعية، أو بتغبير آخر: إنها تغلب المواطن وحسب على”المواطن الصالح”.. [47]

إن وجود العرب في العالم والتاريخ، كجزء من البشرية الحالية، يجعلهم معنيين بأزماتها ومصائرها وصيرورتها، والجزء المتقدم من البشرية أقام المجتمع المدني مع تنافيات خطيرة وخطيرة جداً. وإذا لم تضع البشرية التي نحن منها وهي منا “المجتمع المؤنسن “في أفق عملها، المجتمع الذي تنتفي فيه عناصر الحرب والصراع، ويضع فيه الإنسان حدوداَ لحاجاته الزائفة ولمصادر استلاباته، ويضع قعراً وحداً لسيرورة استهلاكه المتصاعدة، فإن البشرية التي نحن منها سائرة نحو الهاوية:

“المجتمع الإنساني”أو”المؤنسن”؛ أن قضية ومعضلة هذا”المجتمع الإنساني”أصبحت راهنة وملحة كونياً؛ كما قضية”المجتمع المدني”أصبحت راهنة وملحة لنا ولغيرنا من الشعوب، ولاسيما لشعوب الحضارة والتأخر المستنقعة؛ إن”الإنسان السياسي”(= الاجتماعي) بمعنى أرسطو، يتراجع في الغرب وفي العالم امتداده، أمام إنسان الاستهلاك والفرد المعزول في الجمهور الكتلة، تراجعاً يقيم قاعدة كبيرة لقهر شمولي”.[48]

في رؤيته الداعمة والنقدية لعبد الناصر والمرحلة الناصرية:

يرى إلياس مرقص: أن عبد الناصر والحركة الجماهيرية التي مشت وراءه في الخمسينات والستينات، تمثل خلاصة النهوض القومي العربي، وكان يردد دائماً، أن عبد الناصر متقدم على تسعة أعشار الذين انتقدوه من البعثيين والقوميين واليساريين والمقاومين والإسلاميين. لذا يمكن التقاط بعدين في موقف إلياس مرقص من عبد الناصر، البعد الأول، سياسي وهو داعم لمواقف عبد الناصر في موضوعات فلسطين والوحدة العربية وفي المحافل الدولية، وداعم لعبد الناصر في مواجهة هذا الرهط اليسراوي (الشامي)، الذي كان يتصور بأن الثورة هي مجرد اشتعال عود كبريت. وانا من الذين يعتقدون: أن إلياس مرقص لم يكتب نقداً متكاملاً ومفصلاً عن الناصرية، كما وعد الكثيرين من أصدقائه، وكما فعل ياسين الحافظ، بسبب تعاطفه الشديد مع عبد الناصر في مواجهة هذا الرهط الرديء سياسياَ وثقافياً وأخلاقياً.

البعد الثاني في موقفه، هو تاريخي، ثقافي، معرفي، تأسيسي، كان فيه ناقداً للناصرية في بنيتها الثقافية والمعرفية. وأعلن أنه “ماركسي ناصري”، لتأكيد هذا التشابه والاختلاف في آن معاً، وأيضاً قال: أنا لست قومياً عربياً، لكنني مع عبد الناصر، ونقل حوار جرى بينه وبين أحمد حمروش، حيث قال له الأخير: أن الماركسية تحتوي على عشرين قضية، أخذ منها عبد الناصر سبعة عشر قضية وترك ثلاث قضايا، فسأله إلياس ماهي هذه القضايا التي تركها عبد الناصر؟ فذكر حمروش اثنتين: موقفه من العمال والطبقة العاملة، حيث عبد الناصر كان يؤيد مقولة تحالف قوى الشعب العاملة، فأجابه إلياس أنا معه بهذا. والقضية الثانية هي موقفه المؤيد للتدين، إذ أن عبد الناصر رجل مؤمن، فأجاب مرقص: وأنا معه بهذه أيضاُ. ويقول أيضاً: “أنا لست قومياً عربياً. أنا مع عبد الناصر، وأعتبر الناصرية أكثر عمقاً بكثير من فكرة القومية العربية. مع اعترافنا للفكرة القومية العربية (السورية، اللبنانية، الحجازية، العراقية) بأنها فكرة عظيمة، ونحن نريد أن نوصلها إلى مرحلة بطرس البستاني. وانا أعتبرها مرحلة أغنى من المرحلة التي تلتها والتي تسيّست جداً. ويمكن رجل مثل بطرس البستاني، أن يكون أكثر قدرة على التفاهم مع المصريين أو مع الجزائريين والتونسيين، من ساطع الحصري وميشيل عفلق، ولا يمكن أن أفهم النهضة العربية من دون الإمام محمد عبدة والكواكبي وقاسم أمين”.[49]

في الأسباب التي جعلت إلياس مرقص منحازاً إلى عبد الناصر:

أولاً، عقلانية عبد الناصر السياسية تجاه القضية الفلسطينية، فبموقفه العقلاني، قسّم العرب إلى ديماغوجيين وعقلانيين، وكان المزاودون يتهمونه بالتخاذل في موقفه من قضية فلسطين، وميله إلى التسوية السياسية، خاصة بعد قبوله مبادرة روجرز للسلام. فيقول مرقص في ذلك:

“عبد الناصر كان يمثل العقل ضد الديماغوجيا. وكنت أتمنى لو أنه كان يكرر ما قاله في غزة يوماً: أنا ماعنديش خطة لتحرير فلسطين ….. وليته قسم العرب (وهم منقسمون) بين الديماغوجيا والعقل وبين المزايدة والعقل، وبين العقل وكل أنواع المزيدات”.[50]

ثانياً، موقف عبد الناصر من مسألة الوحدة العربية كان أقرب إلى العقلانية والواقعية والصدق الأخلاقي، في مقابل موقف الرهط اليسراوي الشامي وطفوليته اليسارية، الذي كان يثوي في قاعه عناصر مذهبية مضمرة، ظهرت لا حقاً في مرحلة ما بعد عبد الناصر. تبنى عبد الناصر مصطلح “شعوب الأمة العربية”، تأكيداً على الاختلافات بين الشعوب العربية، بينما تقوم الفكرة القومية المشرقية المزاودة على حذف الاختلافات وحذف الأقطار من طريق الفعل الإرادوي الذاتوي، الذي ارتّد إلى طائفية ومحلوية صريحة فيما بعد: (في هذا المجال أؤيد صيغة عبد الناصر حين كان يردد عبارة “شعوب الأمة العربية”أو طموح (شعوب الأمة العربية) إلى الوحدة. عبد الناصر قال (شعوب الأمة العربية)، وأكد وجود أمة عربية. وأكد وجود شعوب عربية. وكان حريصاً على ما سمّاه الوحدة الوطنية، أي وحدة كل قطر بذاته) [51]

وبعكس الرؤية القومية المشرقية المعادية للكيانات القائمة، كان عبد الناصر يعتقد بأن الوحدة تمر عبر وحدة هذه الكيانات من طريق الاتفاق وليس من الطريق البسماركي والعنفي، وأن هذه الكيانات هي حقيقية وغير مصطنعة: “أنا أعتقد أن الوحدة العربية ستثّبت الكيانات الموجودة، وستقوم الوحدة على أساس وحدة الكيانات الموجودة. إذا كان هناك بلدان عربيان يتجاوران، لكن التخوم بينهما تغيرت عبر التاريخ، فهذا لا يعني أن الكيانين مصطنعان”.[52]

ثالثاً، مشروع عبد الناصر كان مشروع توحيد داخلي في الكيانات العربية، بالنظر إلى المرحلتين الكولونيالية والاستقلالية، والأثار التي أحدثتها هاتان المرحلتان في كل مجتمع عربي بمفرده، حيث قسّمت المجتمعات العربية إلى شطرين: واحد “متحضر “ويشمل أغنياء المدن والمتعلمين وأصحاب المهن العلمية الجديدة، وشطر متأخر ويشمل فقراء المدن وسكان البوادي والأرياف. أطلق عبد الناصر في رأي إلياس مرقص حركة تسييّس واسعة لردم الهوة بين هذين الشطرين، بين هذين “المجتمعين “او “الأمتين”على حد تعبيراته. المشروع الناصري هو مشروع توحيد داخلي، وقد جلب عبد الناصر تلك القطاعات الشعبية الواسعة إلى السياسة، وإلى العمل العام، فحقق حضور أكثروي يعتبره مرقص انجاز ديمقراطي كبير، فبتوحيد المجتمعين كادت أن تتحقق معادلته: الديمقراطية= الليبرالية + مفهوم الشعب. لقد جر عبد الناصر كتل شعبية واسعة وكبيرة إلى دائرة التسييس ودائرة الفاعلية والتأثير.

(هنا أريد أن أقول إن النتيجة السلبية الرئيسية لعصر النهضة، في مسيرة الصعود إلى تكوين وطن وأمة وشعب، هي أن ذلك العصر انتهى إلى قيام مجتمعين واقتصادين وثقافتين في كل دولة: المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي، المجتمع المسيّس والمجتمع غير المسيّس، المجتمع الفاعل والمجتمع المهمّش. المجتمع الأول يضم الأقسام الحديثة من المدن وبعض الأرياف المتقدمة وهي قليلة. والمجتمع التقليدي يضم المدن العتيقة وأقساماً تقليدية من المدن والريف والبادية. وبحسب تصوري فإن عبد الناصر مثّل مشروع توحيد المجتمعين في كل قطر. الوحدة العربية لها وجه آخر هو الوحدة الوطنية في داخل كل قطر. إن عصر النهضة الليبرالية بدلاً من أن يكوّن مجتمعاً واحداً انتهى إلى تكوين مجتمعين، حديث وتقليدي. والمجتمع التقليدي أمي لا يقرأ ولا يكتب، وفقير، وذو ثقافة تقليدية، ومشروع عبد الناصر يتلخص في أن النهضة والاستقلال الكامل وتقرير المصير والبناء الاقتصادي وبلوع مجتمع الكفاية والعدل، وكل ذلك يتطلب مشاركة المجتمع كله ومشاركة الأمة جمعاء ويتطلب الاندماج بين المجتمعين) [53]

رابعاً، الحركة القومية الواسعة التي نشأت في زمن عبد الناصر، تختلف عن الطابع الأيديولوجي المعتقدي للقومية المشرقية، فالجماهير التي مشت وراء عبد الناصر، بدافع احساسها بصدقه البعيد عن التكاذب البعثي والسلاحوي، وحركة التسيّيس الواسعة التي أطلقها جرّت ملايين البشر كي تصبح فاعلة، فغادرت انفعالها وسلبيتها وركودها الدهري، فكان الحراك الجماهيري الواسع محتوى ومضمون الحركة القومية الصاعدة في الخمسينات والستينات، عبارة عن تحرك الكتل الكبرى + مفهوم التقدم:

( الجماهير بحسب تعريفي، هي الجماهير زائدً فكرة التقدم، بهذا المعنى أصر على أن العصر الناصري، والحركة الجماهيرية الناصرية، هي الكتل الشعبية الكبرى+ فكرة التقدم، وهذا التعريف هو المدخل لفهم تلك المرحلة،…. وتستحق هذه الحركة أن تسمى حركة قومية، لكن ليس بالمعنى التقليدي المتعارف عليه لدى السوريين، حيث عبارة قومية تعني نفي الأقطار، أي أن الأقطار ليس لها وجود. وكأن مصر دولة مصطنعة وحدودها مصطنعة. هذا هراء في هراء.) [54]

خامساً، نزوع عبد الناصر الصريح إلى مناخات السلم العالمي، ووقوفه ضد التوترات والصراعات الإقليمية والدولية، خاصة في مرحلة مؤتمر باندونغ. “كانت مرحلة جمال عبد الناصر أرقى مراحلنا، ومن أهم القضايا لديه كانت قضية السلام العالمي. وسعى إلى التوفيق بين روسيا وأميركا عام 1960. بينما نحن ما زلنا نعتبر أن من يتكلم على السلام هو خائن للثورة. السلام أفضل من الحرب بألف مرة. أما عند عبد الناصر فكانت القضايا الأكثر إلحاحاً: السلاح النووي وتحرير شعوب آسيا وأفريقيا والوحدة الوطنية في داخل كل قطر عربي، والوحدة العربية.”55

ويضيف إلياس مرقص: ( إن العصر الذهبي كان عصر مؤتمر باندونغ، وهو عصر اعتدال وعصر عقل. ثم جاءت مرحلة هافانا ومرحلة كاسترو، وفكرة أن ريف العالم يطوق مدن العالم الرأسمالي الإمبريالي الصناعي).[55]

رؤية نقدية للناصرية والنظام الناصري:

إن إلياس مرقص النقدي والمهجوس بأفكار التقدم، وإعادة تأسيس المفاهيم، والتمدّن والتثقيف، وتوحيد المجتمعات داخلياً بالعلمنة، ومناهضة التأخر التاريخي بكافة أشكاله وتعبيراته، وتشكيل شعوب ومجتمعات ودول عصرية ومتقدمة، لم يكن بمقدوره إلا أن يتناول الناصرية والنظام الناصري بالنقد الحازم منهجياً، برغم تأييده للناصرية بصفتها حركة قومية عربية عميقة وواسعة وعقلانية، وذلك في مواجهة الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب والإسلاميين.

“أول نقطة أريد أن أقولها: إن نقد مرحلة عبد الناصر وتفكيره وأيديولوجيته، ونقد الحركة الناصرية، أو ما يمكن أن نسميه الحركة الناصرية في الوطن العربي، ونقد التفكير كله، نظام الدولة، نظام الواقع، إن نقد هذا كله جزء مهم، ونوعاً ما أهم جزء في فهم التجربة التاريخية للعرب”.[56]

تتضمن رؤيته النقدية للناصرية المسائل والقضايا التالية:

أولا، لم يهتم عبد الناصر بالثقافة وتحديث المجتمع، بالتوازي مع حركة التسييس الواسعة التي أطلقها، على امتداد البلدان العربية، وكانت تنقصه الفلسفة والجذرية في معالجة استعصاءات مجتمعية ذات طابع تاريخي، لا تعالج بالتسييس المباشر، وزاد إلياس مرقص على هذا أيضاً: تأييده التام للنقد المنهجي الذي قام به ياسين الحافظ للناصرية، وبخاصة فيما يتعلق بهذه القضية، قضية تأخر النظام الناصري ثقافياً، حيث قال الحافظ: “إن النظام الناصري كان يحصد الأخوان المسلمين سياسياً ويزرعهم ثقافياً، في المدرسة وفي الجامعة وفي الميادين العامة”.

“مع ذلك أؤكد أن عبد الناصر لم يول الثقافة والفكر حقهما. وهناك نقطة تتعلق بذلك، فأنا لا انتقد عبد الناصر لنقص العلمية، أنتقده تقريباً بالعكس، فقد كان في كثير من الأحيان، ينجر إلى العلموية… ففي اليوم الذي قال فيه: لا توجد إلا اشتراكية واحدة هي الاشتراكية العلمية….يومها لم أكن مسروراً بهذا التعبير (الاشتراكية العلمية)….أنني لا أريد أن يقع عبد الناصر تحت المناخ الوضعوي والعلموية”.[57]

ثانياً، رغم محاولة عبد الناصر دمج “المجتمعين “أو “الأمتين”، المجتمع الحديث الناشئ بفعل صدمة الحداثة والتقليدي المتأخر سياسياً وثقافياً، إلا أنه لم يوفق بذلك، بسبب عدم متابعته القضايا الكبرى، التي طرحتها النهضة العربية، وطرحها رجالات النهضة: بطرس البستاني والأفغاني ومحمد عبدة وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي، كقضايا: الاستبداد والحرية والأمة والشعب والدولة والقانون العام والديمقراطية. لقد طوى عبد الناصر قضايا النهضة العربية، التي هي من طابع ليبرالي، فضّلت معادلة: الديمقراطية = الليبرالية + مفهوم الشعب، غير متحققة في الواقعين العربي والمصري، وبذلك تحولت الحركة الشعبية الواسعة التي مشت وراء عبد الناصر، إلى تحرك كتل كبرى بدون فكرة التقدم، بعد فصلها عن قضايا النهضة ومسائلها، وظهر ذلك جلياً في المرحلة ما بعد الناصرية، حيث نكصت تلك الحركة وانحدرت إلى ما قبل تاريخ المنطقة العربية الكولونيالي.

ثالثاً، أنتقد إلياس مرقص التعارض الذي كان قائماً بين مشروع عبد الناصر الطموح والجسور، وبين بنية النظام الناصري البيروقراطية والمخابراتية المتأخرة، وكان ذاك التناقض من أسباب دخول المصريين والعرب مرحلة الركود ولانحدار اللاحقة للناصرية. فظل النظام الناصري مثقلاً بتأخره الثقافي وبنيته البيروقراطية، كما أن غياب نخب عربية قومية أو يسارية قادرة على مجادلة الناصرية زاد من عطالته البيروقراطية: ( ففي الوقت الذي تكون فيه قيادة الحزب هي الدولة، والدولة هي الحزب، فإن مثل هذه الدولة تتصور أن الواقع كواقع غير موجود، الموجود فقط هو خطة الدولة. والبشر والواقع منفذون لهذه الخطة. الواقع هنا لم يعد له أي نوع من الاستقلال. ونستطيع أن نسمي ذلك بالبيروقراطية، أو التصور البيروقراطي عن العالم والواقع) [58]

ويرى إلياس مرقص: إن تاريخ العرب الحديث الذي بدأ مع غزو نابليون مصر، ومع صعود تجربة محمد علي باشا فيها، ينقسم إلى ثلاث حقب رئيسية: الحقبة الأولى، وتمتد من تجربة محمد علي وصولاً إلى خمسينات القرن العشرين. والحقبة الثانية هي حقبة عبد الناصر وصعود الناصرية كحركة قومية شعبية واسعة وعريضة عربياً حتى نهاية السبعينات. والحقبة الثالثة، هي حقبة تراجع وانحدار بدأت مع أفول الناصرية في سبعينات القرن الماضي.

ويرى أيضاً: أن المرحلة الاستعمارية لا تُستنفذ بعملية الاجتياح الكولونيالي للوطن العربي فقط، بحسب وجهة النظر القومية العربية، بصفتها غزواً عسكرياً يهدف إلى الهيمنة والإخضاع والنهب، بل كانت مرحلة نهوض وطني وقومي، وصعود من القبر إلى الحياة مجدداً، فهي مرحلة جمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي ومحمد عبدة وبطرس البستاني واليازجي وعبد الرحمن الكواكبي وطه حسين…. وفيها نبتت ونمت مفاهيم المسألة القومية: الشعب والأمة والديمقراطية والحرية والسياسة والصحافة الحرة الخ. فكانت بجدارة مرحلة نمو سياسي وثقافي واجتماعي وأخلاقي، وكان فعلياً يتراجع فيها العدم ويتقدم الوجود.

وكانت المرحلة الثانية، مرحلة عبد الناصر، أفقر من المرحلة الأولى معرفياً وثقافياً، رغم سمة التسييس والتحرك الشعبي الواسع الذي ميّزها، لأن هذا التسييس الكبير لم ينبن على مكتسبات المرحلة الأولى، بل ترافق مع نزع هذه المكتسبات أو التضييق عليها في أحسن الحالات، وتجلى ذلك في موقف عبد الناصر من سعد زغلول وحزب الوفد وأحمد عرابي، فكان يُغّلب أحمد عرابي على سعد زغلول. وهذا يؤشر إلى تغليب منظومة المجتمع التقليدي على منظومة الحداثة.

إن تغليب منظومة المجتمع التقليدي على منظومة الحداثة الوافدة مع الاستعمار، أتت في سياق المصالحة المدّلسة التي عقدها التيار القومي مع التقليد، بهدف كسب “الشرعية الجماهيرية “وجمع المجد من أطرافه، والجمع ما بين التراث العربي الإسلامي والحداثة التقنوية بدون جذورها المعرفية والثقافية. هذه المصالحة بين العقيدة القومية والتقليد، والتي أدت إلى “تقلدة “الفكر القومي، بحسب ياسين الحافظ، وأفضت إلى دمج وتوحيد سيرورة نزع الاستعمار مع نزع ما تسرب من أفكار حداثية إلى مجتمعاتنا، كانت الراعي الأمثل لنمو التيارات السلفية في قيعان مجتمعاتنا، وخروجها من تلك القيعان لتشكيل ثنائية الاستبداد / قوى الإسلام السياسي، ووضع مجتمعاتنا أمام أحد هذين الخيارين.

تأسست عناصر مرحلة الانحدار اللاحقة للمرحلة الناصرية في رحم مرحلة الصعود القومي، “فدولة “الحزب الواحد والحزب القائد أو تحالف قوى الشعب العامل، انحدرت إلى “دولة “سلطانية محدثة، تغولت في “مجتمعاتها “وأكلت الحياة المدنية والسياسية وحطمت روح الاجتماع الوطني، ولم تبق إلا”الجماهير”وقد نُزعت منها فكرة التقدم، فانحدرت إلى سديم بشري تخترقه العلاقات المذهبية والطائفية والإثنية والغيبية، فتحولت إلى سند موضوعي واجتماعي لإنحدار “الدولة “إلى مجرد تسلط واستبداد.

وأيضاً انحدر في هذه المرحلة، التي أسس لها القوميون، الفكر والثقافة إلى مجرد فلكلور، وإلى مجرد “ثقافة قومية اشتراكية “هابطة ومسفّة، فتراجعت مع تردي الثقافة القيم الجمالية والأخلاقية والإنسية، فانقطعت “مجتمعات الثقافات الاشتراكية “عن الكونية والمعاصرة، وعادت تلك “المجتمعات “إلى وضعية تراصف الجماعات ما قبل الوطنية، وإلى ذوبان الفرد في الجمهور – الكتلة، والهويّة-الثقب الأسود. فغدت بلا إنسية ولا فردية، وضُمرت فكرة العام، وفكرة القانون، وتراجع الدين كجوهر روحي، وصعد كوثنيات وعصبيات، كل ذلك ليس خارجاً عن الدائرة، التي أسّس لها القوميون أيديولوجياً وإبستمولوجياً، والتي تماهت مع المبادئ المعرفية والثقافية لقوى الإسلام السياسي.

ويرى إلياس مرقص، إن تكوّن الأمم الأوربية الحديثة، وتشكل القوميات جاء عبر مسيرة نهوض شامل وتاريخي بدأت في أوربا نهاية القرن الرابع عشر، طالت جميع البنى الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية للمجتمع الفيودالي الإقطاعي في العصر الوسيط، فكبرنيك حقق صدمة كوسمولوجية كبيرة للوعي الوسطوي، عندما برهن على أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وليس الأرض. بالتوازي مع تحطيم مارتن لوثر ديكتاتورية الكنيسة الروحية، وكسر احتكارها في تفسير الانجيل، وذلك بترجمته إلى اللغات الأوربية المختلفة، وإقامة الكنائس القومية، وتجوين الكاهن من طريق إلغاء صلة المؤمن بربه عبر الاكليروس الديني. ثم جاء ميكافيلي ليبني السياسية على فكرة المصلحة القومية العارية.

كل تلك التغيرات كانت معطوفة على توسع معارف ومدارك الأوربيين نتيجة الاكتشافات الجغرافية الكبرى، التي حدثت في ذلك العصر، مثل اكتشاف أمريكا ورأس الرجاء الصالح، وأثر ذلك على التجارة العالمية وتراكم الرأسمال الأولي للنهوض الرأسمالي. كذلك شملت تلك النهضة الفن والأدب والفكر والفلسفة، وعلى الأخص، إعادة بعث التراث الأدبي والفلسفي لكل من اليونانيين والرومانيين من فوق القرون الوسطى، الذي عُرف آنذاك بالحركة الإنسية أو الإنسانوية، لإعادة الاعتبار للإنسان بوصفه كائناً كلياً وليس رعية دينية.

مثّل عصر النهوض الشامل هذا ذروة في التاريخ الأوربي، عضدّتها ذروة أخرى نمت استناداً إليها، هي عصر التنوير اللاحق، وهاتان الذروتان هما ذروتان في حيثية الكلي. وبين هاتين الذروتين وبعدهما، وعلى هديهما انبسط المجتمع المدني في العالم والتاريخ، بوصفه التجسيد الواقعي للأمة بمعناها العلماني، المناقض للمعنى “الملي “لها، وظهر في الغرب في صيغة المجتمع البورجوازي، الذي أنتج الدولة – الأمة. كما أن العلمانية والديمقراطية والإنسية والفردية والحرية، بوصفها قضايا لازمة للتقدم وللنهوض القومي، لا يمكن أن تنبت وتنمو إلا في رحاب المجتمع المدني، علماً، أن المجتمع المدني الذي هو ميدان الاختلاف والصراع والتسويات والفردية وميدان الحرية لا يشكل نهاية التاريخ في رأي إلياس مرقص، والتحدي المطروح على البشرية هو تجاوزه إلى “المجتمع المؤنسن”. لكن لا سبيل أمام “المجتمعات “المتأخرة لكي تنهض قومياً إلا بتحقيق مضامينه ومنطوياته، التي هي مضامين كونية عامة.

بعكس هذه السيرورة الأوربية في تشكيل الأمم والدول والمجتمعات، نضّد الفكر القومي العربي نفسه خارج سياقات النهضة والنهوض وأسسها ومبادئها، وخارج إشكالية المجتمع المدني بمضامينها التعددية والاختلافية والتفاوتية والعلمانية والديمقراطية والإنسية، فهو يقول: “فكرة المجتمع المدني ضعيفة في العقل العربي الراكب على “الأشياء “و “الموجود “والمركوب ب “الدولة”، الذي يتصور أن الدنيا هي الدولة، وأن الدولة هي الدنيا.

هناك من يريد “العلمانية السياسية “بدون “العلمانية الاجتماعية “وكبديل عنها، علمانية “الولاية “بدون وضد علمانية “الكينونة”، اجتماعية الدولة بدون اجتماعية المجتمع. كائنية الشكل بدون كائنية كائنة. يريد دولة تكوّن مجتمعاً مع تقرير أن المجتمع يجب أن يبقى “جماعات”، بل أحياناً تأتي قومية الدولة مع “لا “قومية المجتمع، من الرأس القومي وعلى اللسان القومي العربي”.[59]

أراد”الفكر القومي”العربي أن يموضع نفسه قومياً بدون الأسس والمبادئ، بدون المقدمات اللازمة، بدون فكرة النهضة، بدون فكرة المجتمع المدني، بدون فكرة الدولة الوطنية، دولة الحق والقانون، بدون أن يتعارض مع واقعة “الجماعات “الإثنية والمذهبية، بدون أن يتصادم مع المجتمع التقليدي ومع أيديولوجياته وتصوراته وممارساته، فهو لا يرى أن النموذج الأوربي في النهضة القومية هو نموذج كوني، إن مسائل الأصل والخصوصية منعته من رؤية البعد الإنساني الحاكم على المسألة القومية، الخصوصية الطاردة للعمومية جعلت الفكر القومي ينحط إلى “فقه قومي”مبتذل. يقول إلياس مرقص: (“الفكر القومي”، في غالبيته، يريد الأمة العربية، بل الأمة العربية القومية، لكنه بسرعة يمذهب نفسه عروبياً وأصالياً: “قوميتنا العربية ليست القومية الأوربية”. في وقت أول، يبدو هذا مناظراً من “إنسانية القومية العربية “ضد “عرقية واستعمارية القوميات الأوربية”، …. يصرح الرأس القومي أو شطر منه بأنه يريد الأمة لكن ليس “الأمة الأوربية”. إنه لا يرى أن هذا “المثال” (= الفكرة، المفهوم ) ليس أوربياً خاصاً إلا بمعنى، وهو معنى كبير، إنه توقف واكتمل “نسبياً”لكن أساسياً بشكل غالب ونهائي في أوربا. لا يرى أن الواقع يحمل مسأليته وقضيته على شكل آخر دائماً وفي كل مكان).

وبهذا، يكون “الفكر القومي العربي “أنجز قطيعة تاريخية مزدوجة، مع التراث التنويري والنهضوي العالمي من جهة، ومع التراث النهضوي العربي بداية القرن الماضي، على تواضع هذا التراث، من جهة ثانية. ولم يول قضية المجتمع المدني أية أهمية تذكر، وكذلك قضية الدولة، وتصور أنه بالدعوة القومية يمكنه إلغاء العصبيات الطائفية والمذهبية والجهوية، فكانت النتيجة: أن التاريخ قد ثأر لنفسه، وأصبحت تلك العصبيات ما دون الوطنية هي المتحكمة بأطر وهياكل ومؤسسات الأحزاب والحركات القومية، وخير مثال على ذلك التجربة البعثية المشرقية، التي التحق فرعها السوري التحاقاً ذليلاً بالخمينية، والتحق فرعها العراقي بالداعشية. نعم لقد تحولت الأحزاب والحركات والشخصيات القومية العربية إلى شخصيات وأحزاب وحركات للإيجار لدى القوى المذهبية والطائفية والعنصرية وقوى الاستبداد عموماً.

ليس هذا وحسب، بل يمكن القول براحة ضمير أيضاً: أن الحروب المدمرة التي تشهدها سورية والعراق واليمن وليبيا حالياً، أُقيمت مقدماتها وعناصر تفجرها في المرحلة القومية، التي استقر فيها نظام الانقلابات العسكرية العربية وجثم على صدور أبناء المنطقة طيلة العقود الماضية، وأنتج “الدول التسلطية “التي قادت منذ نشأتها ما كان يسميه الراحل إلياس مرقص “حرب الدولة على المجتمع”، أجل لقد كان التيار القومي العربي تيار حرب على الدولة والمجتمع والشعب والقيم الأخلاقية والجمالية وعلى الإنسان، وأسس لنظام عبودية جديدة، تحتاج البلدان التي حكمها عقوداً للخروج من تأثيراته وأفعاله الانحطاطية.

  1. – ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، الأعمال الكاملة لياسين الحافظ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، ص 960.
  2. – مقدمات في نقد الفكر القومي. إصدار مركز دراسات الوحدة العربية ص 1 – 2.
  3. – مقدمة كتاب العبودية لموريس لانجيليه، في “مقدمات من أجل التنوير”، مراجعة وتقديم جاد الكريم الجباعي، نسخة الكترونية، ص 83.
  4. – الياس مرقص حوارات غير منشورة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، 2013، ص 351.
  5. – الياس مرقص، حوار العمر، حوار أجراه جاد الكريم الجباعي، دار حوران، 1995. ص 107.
  6. – مرقص، حوار العمر، ص 106.
  7. – مقدمات في نقد الفكر القومي. ص 5 نسخة الكترونية متاحة على الشبكة.
  8. – مرقص، مقدمة كتاب العبودية، ص 68 .
  9. – مرقص، مقدمة كتاب العبودية، ص 41.
  10. – مرقص، مقدمة كتاب العبودية، ص53.
  11. – مرقص، مقدمة كتاب العبودية، ص 53.
  12. – مرقص، مقدمة كتاب العبودية، ص 56.
  13. – مرقص، مقدمة كتاب العبودية، ص 54.
  14. – مجلة الوحدة العدد الأول عام 1984. إشكالية المنهج تحديث أم تأسيس؟
  15. – مجلة الوحدة.
  16. – مجلة الوحدة.
  17. – مرقص، حوار العمر، ص 155.
  18. – مرقص حوارات غير منشورة، ص 291.
  19. – مرقص، حوارات غير منورة، ص 297.
  20. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 298.
  21. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 154.
  22. – مرقص، حوار العمر، ص 143.
  23. مرقص، حوارات غير منشورة، ص 84 – 85. –
  24. مرقص، حوارات غير منشورة، ص 84. –
  25. – مجلة الوحدة مقال المغايرة والتاريخ نُشر بعد وفاته في كتاب العقلانية والتقدم.
  26. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 351
  27. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 327.
  28. – مرقص، حوار العمر، ص 150.
  29. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 150.
  30. – مرقص، حوار العمر، ص 153.
  31. – مرقص، حوار العمر ص 153 – 154.
  32. – مجلة الوحدة العدد 6 أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة.
  33. – مرقص، حوار العمر، ص 71.
  34. – الياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد، دمشق، 1997، ص 13.
  35. – مرقص، نقج العقلانية العربية، ص 13.
  36. – مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 39.
  37. – مرقص، حوار العمر، ص 72.
  38. – مرقص، مقدمات لنقد الفكر القومي ص4.
  39. – مرقص، حوار العمر، ص 73.
  40. – مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 15.
  41. – مرقص، مقدمة كتاب “المرأة في العالم الإسلامي”، لجولييت مانس. ص 257 نسخة الكترونية.
  42. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي، ص 254.
  43. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي، ص 257 .
  44. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي، ص256.
  45. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي، ص 264.
  46. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي، ص 267.
  47. – مرقص، حوارات غير منشورة/ ص 151.
  48. – مرقص، حوار العمر، ص 119.
  49. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 84.
  50. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 84.
  51. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 358.
  52. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 83 – 84.
  53. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 239.
  54. – مرقص، حوارات غير منشورة، ص 240.
  55. – مرقص، حوار العمر، ص 105.
  56. – مرقص، حوار العمر، ص 123 – 124.
  57. – مرقص، حوار العمر، ص 109.
  58. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي.
  59. – مرقص، مقدمة كتاب المرأة في العالم الإسلامي.

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn
احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية