Elias Morcos Inistitution

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.

لا حق ولا قانون مع الواحدية. اختلاف البشر وخلافهم ومصالحهم واتجاهاتهم وأحزابهم، هذا ما يحمل الكلي والقانون والحق ومفهوم الدولة.​

القرى الأولى في بلاد الشام

هذه مقدمة إلياس مرقص لترجمته كتاب (القرى الأولى في بلاد الشام من الألف التاسع إلى الألف السابع قبل الميلاد) من تأليف جاك كوفان. وقد صدرت الترجمة عن دار الحصاد في دمشق عام 1995.

 

((القرى الأولى في بلاد الشام من الألف التاسع إلى الألف السابع قبل الميلاد)). منذ مطالعتي هذا الكتاب قبل ست سنوات وأنا أفكر في نقله إلى القارئ العربي.

ما الأسباب؟ لنقرأ العنوان مرة ثانية ((القرى الأولى))، نشوء القرى، نحن اليوم نحبّ المدن.

((بلاد الشام)) (أو في النص الفرنسي وبالمصطلح الفرنسي ((سورية فلسطين)) palestine-syrie-حقيقة ما، واقعُ ما. بحسب عنوان الكتاب ومتن الكتاب. بلاد الشام كينونة تاريخية، تتكوّن وتطفو آنذاك، اجتماعية، حضارية، إنتاجية، روحية، قبل ((اللغة والقومية والدولة والدول والسياسة)) وكل هذا الذي يستهوينا عادة.

قضية كوفان وآخرين تقع في ما ((قبل)) هذا، منطقيًا وتاريخيًا، في ما قد يكون قاعه وقاعدته.

((من الألف التاسع حتى الألف السابع ق. م))، وأيضًا من الألف العاشر حتى الألف السادس أو الخامس. هذا، تاريخيًا قبل ((الهجرات العربية السامية))، وقبل الحضارات النهرية الكبرى، مصر وبلاد الرافدين، قبل الكتابة والأبجدية، المدن والمدن الكبرى، التجارة البرية والبحرية، الدولة والدول. إنه في ((ما قبل التاريخ)) وفي ((تمهيد التاريخ)) أي في هذا الذي يقيم الأساس لكل تاريخ، إنه في الاجتماع البشري الذي ليس من دونه دولة ودول.

موضوع ((الهجرات العربية، السامية)) موضوعُ يفتتح عادة في كتبنا المدرسية، تعليم التاريخ، تاريخ الوطن. وقد يبدأ الكتاب المدرسي، مثلًا في الصف الخامس الابتدائي (سورية)، أو في صف أعلى منه، بمقدمة سريعة، عن ((ما قبل التاريخ))، عن ((الإنسان الأول))، العصور الحجرية، زمن الصيد والقطف مع صور عن بعض الأدوات.

لكن الانتقال من هذه المقدمة ذات الطابع العمومي والعالمي إلى قضية ((الهجرات العربية السامية)) (المعززة بخريطة من أسهم ) في وطننا العربي أو بالأصح في جزء محدد منه! ليس انتقالًا بل هوة. الكدح البشري يظهر في المقدمة تلك، ويختفي أو تقريبًا في الفصول التالية، الفصول ((التاريخية)) و)) الحضارية)) والأمجادية، لصالح ((الهجرات العربية)) و(أما !) ((الشعوب الوافدةٍ)) غير العربية (مثل السومريين: فإنهم يقعون، في تسلسل الكتاب المدرسي المذكور، وبموجب ((منطقه))، بعد الخ) وربما ((الاستعمار المقدوني))، وصولًا إلى الفتح العربي الإسلامي أو التحرير العربي. هنا، بعد أمجاد البداية (الأمويون والعباسيون الأوائل) وبروز الجوهر، تأتي ((الانفصالات))، مفهومة أو غير مفهومة، معترفًا بها أو غير معترف بها، أي يأتي انقسام الجوهر، الانقسام ((المرفوض)) فكرة الجوهر والأصل أكلت فكرة التشكل. ثم يطغى النضال ضد العدو الخارجي، الشعور الكارثي (البادئ مع البداية، تحت السطح)([1]) يشتد، الحالة الاجتماعية والتاريخية غائبة، وهناك فجوة طويلة (عصر المماليك، العصر العثماني)، الزراعة والديمغرافيا خارج حقل النظر، ((الانحطاط)) غير مفهوم أو هو (عند أهل الردّة اللاقومية) منفي. التاريخ يُختزل أكثر فأكثر كمحتويات، كمنطق، كزمان وكمكان، المغرب العربي غائب. هذه المادة الدراسية، في وضعها الراهن بعيدة عن تحقيق مهمتها الطبيعية والمنشودة، إنها بعيدة، كموضوع قائم أمام الطلاب، عن ثالوث المعقولية والموضوعية والاجتماعية، إنها لا تسهم إسهامًا صحيحًا في تكوين الوعي العربي والوجدان العربي.

في هذه الحال، بدا لي كتاب جاك كوفان ذا أهمية تتعدى كثيرًا نطاق ((المختصين)) (إذا ما وُجدوا: فقد يكون عندنا مختصون في ((ما قبل التاريخ)) و((تمهيد التاريخ))) لتصيب قضية التربية وقضية الثقافة في أساساتهما.

وإن مطالعتي للائحة مواد ((فرع التاريخ)) في الجامعة تزيدني اقتناعًا بسوء الحال. هذا المجموع ليس علمًا، إنه (في أحسن حال) مادة لعلم، وهو يتناسب بوصفه جهدًا يُبذل وزمن جهد مع سنة واحدة لا أكثر. فعليًا، يدرس الطالب شهرًا أو شهرين في السنة و((ينجح))، بالنسبة له إن الجامعة (في هذا الفرع وفروع أخرى) انعتاق من مشقّة التعليم الثانوي وصف البكالوريا. هنا أيضًا فائدة كتاب كوفان وكتب كثيرة من هذا ((النوع)) أو هذه ((الطبيعة)).

يجب أن تدرس، يجب أن تعرف قضية القرى في بلاد الشام بين الألف العاشر والألف الخامس قبل الميلاد، إذن قبل ماري وإيبلا وأوغاريت وسيانو، يجب أن نقرأ قصة الانتقال من كهف إلى بيت، من قطف وصيد إلى زرع ورعي ومكاثرة، من الأخذ والقنص إلى الإنتاج بحصر المعنى، إنتاج العيش، يجب أن نقرأ قضية التملك والأنسنة في وطنها الأول، بمعنى ما، وفي مستوى ما وحاسم، وهو وطننا. إنها ((الثورة الريفية))، ((العتبة)) الكبرى.

لنقل إن هذه المسألة القديمة راهنة قوميًا وعالميًا: البشرية تنتكس اليوم إلى إنسان القنص والإسراف والتخريب، على راهنية القضية ينتهي كتاب عالم الآثار الفرنسي، الذي -على سبيل المثال- ومن جهة أخرى إن صح القول، يدخل في ((مناظرة)) (أي في صلة، في تماس أو احتكاك) مع كتاب عنوانه وموضوعه ((الماركسية ونظرية الشخصية)) من تأليف لوسيان سيف seve. لنقل إذًا إن هذا التخصص، اللاتخصص، هذا العلم المحدد والكلي فعلًا، هذا الانضباط الميداني discipline الذي هو فكر إنساني، باختصار إن هذا الموقف العلمي، الفكري بعيد عن غالبية الوعي العربي الحاضر، أو الحاضر الغائب، المنقطع عن الواقع أو العالم، الممتنع الآن عن الإنسان وتاريخه ومصائره الذي يستخدم أخطر كلمات اللغة البشرية كأنها بدهيات معلومة.

بالنسبة لي، إن كتاب هذا المستكشف الفرنسي لتل مرييط على الفرات يساعدني على فهم الكلمات الكبرى حقًا، الشعبية، الفلسفية: بيت، وطن، عالم، وعي، إنسان، طبيعة، تاريخ، مجتمع، فكر، زراعة، ثقافة، صناعة، أغراض، أشياء، ملكية، تملك، روح، عمل، قرية، بلدة، مدينة، كومونة، بلدية، قيمة، تبادل، أخلاق، أمة، شعب، الخ، وأيضًا: ثورة. هذه ليست قضية لغوية خاصة، عربية أو فرنسية أو ألمانية، ولا حتى لغوية عامة أو محض ألسنية (هذا، إذا كان ثمة من يؤمن بهذه المقضية)، بل هي قضية فكر يسعى إلى واقع وتاريخ لهما منطق. اللغة ((تابعة))، اختلاف اللغات ثانوي بالمقارنة مع القضية الآنفة، ويمكن أن يخدم، إذا ما ((جمعنا)) لغات مختلفة، في فهمها وجلائها. إن ((الاعتماد)) على ((سلالم)) أو ((سجلات)) مفرادتية مختلفة([2]) يمكن أن يساعد في معرفة الموضوع الحقيقي بمساعدته على التحرر من العادات والصنميات التي تفرضها لغة بعينها (كل لغة بلا استثناء، فصحى أو عامية، قومية أو محلية، أدبية أو علمية أو شعبية أو إدارية إلخ)

وأيضًا: ثورة))، انقلاب، revolutiojn. يمكن القول إن موضوع هذا الكتاب هو ((الثور النيوليتية))، أي ((الحجرية الجديدة)) مصطلح غوردون تشايلد (الماركسي غير ((الأورثوذكسي)) لحسن الحظ: سأعود إلى هذه النقطة)، إنها ((ثورة)) استغرقت مئات السنين أو بالأصح ألوف السنين، ويجب أن تؤخذ بمفرداتها أي: حدودها، مفهوماتها، أو جملة أو مترابطة كل متنوع، متباين (متخالف) ومتفاعل، لا بمفردات السببية الميكانيكية (آ سبب، ب نتيجة) التي توحي بها ماركسية مبسطة، مبتذلة وماسحة: هذه ((الماركسية)) تعزز بـ ((التحسين)) موقفًا بدهيًا نابعًا من ضرورات العمل اليومي([3]) والحياة اليومية، ومن ((الإدراك السليم)) بوجه عام، اقتصادويتها وعلمويتها غطاء لسياسويتها وإيديولوجيتها، وهي -عندنا- تعزز بحداثتها شيئًا قديمًا في ذهننا وثقافتنا.

يجب أن تؤخذ الثورة الكبرى المعنية، ((العتبة)) ويردد braidwood بوصفها عملية طويلة، غير مباشرة وغير مفاجئة، متعددة الجوانب والعناصر، مع انتكاسات عدة ومتكررة لجوانب وعناصر، سيرورة واقع وجهاد بشري، في مسار يلقي عليه كتاب القرى الأولى ضوءًا جديدًا، بالاستناد إلى ((الوثائق)). الأدلة والشواهد من هذا البلد وهذه البلاد: فلسطين والفرات، البلاد الدمشقية والتدمرية، نهر الأردن ولبنان والساحل الشمالي وطوروس الغربي.

البداية معروفة، والنهاية معروفة، والكتاب يدرس ما بينهما: المسار الشاق، آليات التغيير، مسيرة تكون الكائن الجديد: هذه مسألة نظرية في أعلى مستوى ((الثورة)) تقيم الآس النهائية لـ ((الحضارة)) لحياة الإنسان، النوع ((الإنسان العاقل)) و((العاقل))، يمكن أيضًا ((ترجمة)) بـ ((العالم))، ولتاريخه اللاحق.

أن يكون لسورية هذا الدور الكبير، الطليعي والريادي، وإن اختلف على حجمه بطبيعة الحال، وعلى المسارات عبر المعمورة، وإن كان هناك ((اتفاق بين المختلفين)) على عراقة العملية ذاتها في أصقاع مختلفة وتحت سماوات مختلفات. هذا يمكن ويجب أن يكون بالنسبة لنا ليس فقط مفخرة وطنية وقومية، بل بالضبط درسًا في الوطنية والقومية والعروبة والوحدة والتقدم والثورة، أوّل الدروس. نحن نوعًا ما أول من بلغ سن الرشد. علينا الآن أن نبلغه من جديد، في مستوى أعلى: سن الرشد، ثالوث الاجتماعية والمعقولية والموضوعية، ضد الطفولة والمراهقة، ضد أنوية أنا ألعب ولغة اللعب، ضد البربرية والعُجْمية.

-11 –

لهذه الأسباب، من أجل مسألة التعليم وقضية الوعي والثقافة، فكرت بأن نقل هذا الكتاب ضروري، وبأن أقوم شخصيًا بهذا النقل. حالت دون ذلك أسباب كثيرة، منها، عدا عن أحوال النشر العربي غير المشجعة للعمل الفكري والمرتبطة بالأحوال العامة، كثرة المصطلحات، وخصوصية الميدان وتنوع الميادين الداخلة في القضية. بعد الدراسة والتجربة العملية، يبدو لي الآن أن الصعوبة ليست متأتية من مسألة الاصطلاح العلمي مباشرة، بل من قضية مصطلحات لغوية ((عادمة)) تفتقد إلى مزيد من الضبط في لغتنا، إلى الوحدة بين ((الفصحى)) و((العامية)) إلى العمل الإنساني، كدح النجار والمعماري والزراع ((مثقف الأرض. باختصار، إنه غياب الوحدة: من وحدة سوق النشر إلى وحدة اللغة والمجتمع والعمل والحياة.

أما ((باليوليتي)) و((ميزوليتي)) و((نيوليتي))، مثلًا، فيمكن (ويجب) أن تبقى مثل ما هي، مع الإشارة إلى أن:

باليو= قديم، ميزو = وسيط، نيو = جديد (أو حديث)، وليتي من ليتوس = حجر، حجري([4]) أما بروتو proto فهي تعني ((تمهيد)) أو ((بداية)): ((البروتو تاريخ يقع ((بين)) ما قبل التاريخ prehistoire والتاريخ. والبروتو زراعة هي ((تمهيد زراعة))، زراعة أولى مبتدئة. Archaique= عتيق سابق للكلاسيكي، أو بالأصح: شيء فات أوانه، مسبوق كليًا (كونيًا، عموميًا) في المنطقة أو في العالم (مع أنه قائم وموجود فعليًا)، هذه ليست ((مشكلة)).

قد يكون هناك ((مشكل)) أمام caprines caprides الأول هو اسم الفصيلة (أو العائلة) الثاني اسم لجنس أو ((تحت،فصيلة)). هذا المصطلحان الأوروبيان والعالميان يحيلان كليهما إلى الأصل capra = العنزة، التي تكون إذًا هي ((المحور)) لفظًا، للفصيلة الكبيرة الجامعة والجنس الذي تحتها (تحت، فصيلة) والجامع بدوره لأنواع أجد، في القاموس الفرنسي- العربي، وحسب ما اصطلحه العرب أصحاب الميدان العلمي المعني، ((الماعزيات)) عن الثانية و((الغنميات)) عن الأولى. لا أفهم سبب هذه المخالفة للاتجاه في الاصطلاح التوسيعي. أتصور أن الاصطلاح العالمي له مبرراته، وأنه كان يمكن بالتالي أن يصطلحوا بـ caprides ((مواعزيات)) مثلًا (أي مع واو بعد الميم). هذا من جهة. من جهة ثانية، جهة النص الفرنسي الذي يتعامل مع تاريخ بيئي، إنساني معيّن، أرى أن كوفان استعمل caprides مرة واحدة وذلك في الفصل الثاني، بين موقعي الحاشيتين 45، 46، حيث ذكرت بوصفها ((حيوان الجبل)) مقابل ((حيوان السهب (غزلان، أبقار، خيليات))). فيما بعد، استعمل caprines (أي ((تحت – الفصيلة))). هكذا مثلًا في الفصل الخامس. عند الحاشيتين 68، 73، حيث ضمت -بصورة واضحة- العنزة والخروف، الماعز والغنم (ovis capra mouton)، والغلبة (في التأهيل) هي للطرف الأول … بعد تردد، وجدت المصطلحين (مخالفًا النص الفرنسي)، لكن وراء العنزة، استعملت في الحالتين ((ماعزيات)) أرجو أن أكون قد وٌفقت في هذا ((التصرف)).

سمحت لنفسي بمخالفة واعية ثانية. في نص الحاشيتين 72 و 73 من الفصل الرابع وجدت، بدلًا من الرمزين pnb و ppna ((الكلاسيكيين)) على امتداد الكتاب، وجدت pnb pna، اعتبرت أننا أمام خطأ مطبعي، وأن المقصود هو هنا أيضًا ppna وppnb (وهما اختزال بالأحرف الأولى لعبارة ((prepottery neolithic…) إذن ((النيوليتي السابق للفخار a)) و((النيوليتي السابق للفخار b)). قضيةُ من نوع آخر مسألة ((المستطيل)):

عند ((rectahgulaire))، رأيت من الضروري، إلى جانب كلمة ((مستطيل))، أن أقول ((قائم الزوايا)). فمفهوم ومصطلح الـ rectangle لا علاقة لهما بفكرة الاستطالة، بل ينتسبان إلى الزاوية القائمة ومفهوم الاستقامة rect. المستطيل ليس مستطيلًا إلا إزاء المربع، وصفيًا، وهذه الإزائية ملتبسة: و((المربع مستطيل ذو…))، رياضيًا، وقد يكون معنا في نص كوفان بيت مستطيل بعداه 5*5 – مازلنا، في علمنا وتعليمنا، ندعو الـ rectangle ((مستطيلًا))، وندعو الـ RAYON في الدائرة ((نصف قطر))‍). هذا عكس مبدأ العمل المفهومي الاستنتاجي، إنه عكس التسلسل. وأشك في أن يكون الإلحاح – إذا وٌجد – على أن نصف القطر ((أهم)) من القطر، وأن ((المربع مستطيل ذو..))، وافيًا وكافيًا وشافيًا. المستطيل المزعوم ليس إزاء المربع، بل أبوه، وهو بوصفه مستقيمات وقوائم مقابل أو معارض الدائرة (الانحنائية‍) مثلًا وبصورة خاصة. هنا أيضًا فائدة قضايا جاك كوفان، وقرانا الأولى. أجدادنا، في وقت ما وبموجب منطق ما، انتقلوا من البيت الدائري في حفرة إلى البيت ((المستطيل)) الذي يمكن إضافة غرفة وغرف، مع ما ((يستتبعه)) أمر كهذا في مستوى الزمرة الاجتماعية القائلة.

المقولات (المفهومات) كينونية، تاريخية، مرتبطة بالعمل الإنساني. الإنسان يكتشفها، يخترعها. وأخيرًا تكتشفها وتخترعها المعرفة النظرية في المستوى النظري العلمي. اللغة يخترعها (بين المستويين، معهما، ومتأخرة حتمًا عنهما (حتى اللغة الإنكليزية متأخرة اليوم، مفردات ومصطلحات، عن سير تقدم العلوم وثورتها).

تلك مسائل يمكن أن تواجه المترجم وأن يعانيها ليست الوحيدة ولا الأهم.

بالنسبة لي، الأصعب كان التعامل مع أسماء أدوات الشغل ومواده وأجزاء الأدوات؛

ثمة فرق واجب بين instrument و outil. الأول، بحسب القاموس الفرنسي العادي، أداة شغل أو آلة (ماكينة) أو جهاز يخدم في ….، الثاني ((شيء مصنوع، يستخدم من أجل تنفيذ عمل يدوي أو ميكانيكي، مثلًا أدوات النجار outils )) لنقل أداة شغل.

Outillage مجموع أدواتعدة، ولنقل ((عتاد أدواتي))، صونًا لطابعها المقولي المفرد، ولكي نجمعها على أعتدة: جمع للمقولةoutillage التي هي مجموع([5]) عدا ذلك، ثمة وجود فعلي وعملي لهذه المفهومات الهندسية الرياضية، وجود يرتبط بصناعة الإنسان، شغله، إنتاجه. يرى بعض الكتاب: أن الانتقال من البيت المستدير إلى المستطيل ومن المنحني إلى المستقيم يرتبط بانتقال السلطة من المرأة إلى الرجل، نظريًا: الدائرة مثالية الانحناء، المنحني المثالي. وهذا يقابله (يعارضه) الخط المستقيم. إنهما على طرفي نقيض، في المملكة المثالية الفكرية. السومريون اخترعوا الدولاب (أو ((العجلم))): العجلات تدور، السيارة تتقدّم. وهكذا الصناعة الحديثة، الثورة الصناعية: دوران تقدم. وهكذا ماركس مع الاقتصاد السياسي، مثلًا دورة المال بوصفه رأسمال: مال، سلعة، مال أكبر (مع ((فضل))، دروة (المال، الرأسمال)، هي نمو ثمة نفي للنفي. في القرن الخامس عشر، أعلن نقولا دوكوزا وحدة الانحناء والاستقامة، إذا رسمت خطأ ((مستقيمًا)) لكن مع انحراف بدرجة صغيرة جدًا، وثابتة ولتكن 01، 0 درجة ستكمل في اللانهاية. هنا، في الواقع ومنطقه منطق التقدم (واللغة يجب أن تتبع، بوعي ومسؤولية)، مسألة تجريد، عزل، مسارُ من عمومية وتحدد وتخصص إلخ بالنسبة إلى erninette (أوherninetti) مثلًا، تقول القواميس الفرنسية، العربية : قاطمة، بليطة، فأس النجار، قدُّوم. اعتمدت مبدئيًا المصطلح ((الأبعد)) عن استعمالنا: قاطمة. واعتمدت لـ hache: فأس، لكنها أيضًا بلطة (لعل البلطة، فكرة البلطة، هي الواقع الأقدم ). في أدوات الأثاث ((المنزلي))([6])، ((المشكلة)) أكبر ربما: قواميسنا الفرنسية – العربية تعتمد أكثر من ((مرادف)) أو ((موازيات)) عدة، لمصطلح فرنسي واحد، هناك قاموس مصطلحات آثاري قديم ولم يفدني عمليًّا. اعتمدت ((غضار)) argile ((طين)) terre، ((غضار مكمل)) argile rapportee ((آجر)) briques، ((خزف))ceramique (الكلمة الفرنسية شاملة، واسعة الدائرة) و((فخار)) لـ poterie اعتمدت ((سهم)) لـ fleche (مستبعدًا سواها) و((رأس سهم)) لـ poine de fleche و((تمثال شخصي)) أو ((شخص)) و((شخوص)) لـ figurine ((كان يمكن أن أقول ((دمية))). بذلت جهدًا غير قليل، وإني أتوجه بالشكر للذين ساعدوني فيه جميعًا، معلنًا أن كل نقاط ((عدم توفيقي)) تقع مسؤوليتها علي وحدي بطبيعة الحال.

-111-

علمًا بأن، مشروعنا لم يكن -بادئ بدء- ترجمة الكتاب بل إعداد ندوة عنه: ففي يوم من ربيع هذا العام 1985، بلغني أن الكتاب قد ترجم أخيرًا، وجدناه في إحدى المكتبات (طبعة جيدة جدًا، عند النظرة الأولى على الأقل، فاخرة، غالية الثمن)([7]) وقررنا عقد ندوة أو عدة من أجل دراسته وتناول بعض القضايا النظرية التي يثيرها: نفر من ((الشباب)) المهتمين، اثنان من الآثاريين في مدينتنا (اللاذقية)، وربما ندعو الأستاذ المترجم (الأستاذ: قاسم طوير) الذي هو من المختصين. وبدأنا الدراسة الجادة تمهيدًا للندوة، لكن ما إن بدأنا حتى دهشنا. كان الكتاب الفرنسي في يدي، وأردت التأكد من فهمي لجملة وردت في مقدمة بريدوود الإنكليزية أو من شيء ما كان بنظرنا مسألة وقضية، فلجأت إلى صديقي حامل النسخة العربية، وكان هو نفسه يريد التأكد من أشياء كثيرة، وأصابنا الذهول.

أغلقنا الكتاب، ونظرنا إلى الغلاف، العنوان العربي يقول: ((الوحدة الحضارية في بلاد الشام بين الألف التاسع والألف الثامن قبل الميلاد)) إذًا، ((من الألف التاسع إلى الألف السابع صارت ((بين الألف التاسع والألف الثامن))([8]) وهذا غير ممكن، منطقيًا ورياضيًا بين ((التاسع)) و((الثامن)) لا يوجد سوى العدم، ومن ثم لغويًا وعربيًا. أما ((التعويض)) المعاكس الذي جعل ((الألف العاشر)) ((الألف التاسع)) في السطر الأول من نص كوفان (ص7، في ترجمة قاسم طوير) فهو خطأ آخر، وتساءلت: ألا يستعمل الألمان الأرقام الرومانية؟ (فالأستاذ طوير خريج جامعة همبولدت) هل من المعقول أن يجهل مثقف v11 و v111 و 1x ؟

هكذا انسقنا، مجبرين، إلى عملية مطابقة بين النصين العربي والفرنسي، أي بين ((التعريب)) والأصل، صفحة صفحة، جملة جملة. صارت هذه العملية، من دون إرادة ثم بوعي وإرادة، ترجمة جديدة للكتاب.

في هذه الترجمة، التي لا تدعي الكمال، السابع لا يصير ثامنًا ولا العاشر تاسعًا: لا سيما أننا في علم تاريخي، والخنازير لا تصير قرودًا (ص 30 في ترجمة طوير)، فـ sanglier غير singe، على الرغم من اشتراكهما في حروف كثيرة، ولا سيما في ((علم الآثار)) وفي بلادنا، و((الارتفاع عن خط الاستواء)) أي الدرجة على خطوط العرض (بالفرنسية latitude وهي غير altitude) لا تصير ((ارتفاعًا عن مستوى سطح البحر)) (ص، 103 ترجمة طوير)، فهذه النقطة ذات صلة وثيقة بمسألة النبات (سياق القضية)، ((الفقرات))، ((الفقرات المحصول عليها بواسطة الغربال أو المنخل)) لا تصير عددًا من ((الهياكل العظمية)) للأسماك (ص 98) فهذه النقطة تدخل في اختصاص البحث الآثاري، ربما (أنا خارج الميدان،لكن لغويًا)) هذا غير صحيح).

هنا، العالم الشهير لوروا غورهان (أندره لوروا،غورهان)، عالم الأتنولوجيا والأنترولولوجيا وما قبل التاريخ، لا يصير الباحثة الآثارية، المعروفة في سورية، ((السيدة أرليت لورا غورهان)) (ص111)، الفصل بين الاثنين يراعي في الأماكن جميعها، ولا نستغني عن لائحة المراجع التي لها فائدة أن تدرأ لبسًا كهذا: الأول اسمه يبدأ بحرف a والثاني أو الثانية يبدأ اسمها ب arl، وهذا فرق يفرق، ولا شيء عبث، وهما في اللائحة نوعان من التأليف مختلفان تمامًا([9]) لكن فائدة اللائحة أكبر من ذلك، وضرورة نقلها تنبع من الإحالات، الحواشي في متن الكتاب، وعددها بالمئات (في كتاب طوير أيضًا)، وهي جميعًا تكتفي بذكر اسم صاحب المؤلف، المرجع وسنة صدور مؤلفه تاركة عنوان الكتاب أو البحث والمعلومات الأخرى (دار النشر، أو المجلة المختصة…) للائحة المراجع الماثلة في نهاية الطبعة الفرنسية لكتاب كوفان والغائبة عن طوير !! كذلك، لا نستغني، من جهتنا، عن جداول ضرورية([10]) عن شروح الصور، عن أقسام من الحواشي،الإحالات.([11]) وهنا، في بعض هذه الحواشي إذا قال الفرنسي إن التأريخ بالكربون 14 تاريخًا واحدًا، أو تاريخين كذا وكيت لكن الثاني بعيد جدًا عن الأول ومرفوض لمخالفته بعض المعايير: هذا ما نفهمه من كتاب كوفان، بل -أحيانًا- في ترجمة طوير أيضًا. لذلك يجب الاستغناء عن ((التصرف)) الآنف: هذه الـ ((بين قاتلة!.. لقد خربت أيضًا عنوان الفصل الرابع (ص61). ((بين نهاية الألف الثامن والسابع لا يوجد أحد أو شيء.

هنا، في ترجمتنا، ((الثقافة)) Culture لا تتحول إلى ((الفكرة))، ((العتبات)) لا تتحول إلى ((مؤشرات))، ((التياران الفكريان الرئيسيان)) لا يتحولان إلى ((مبدأين جاريين))، ((النظرية)) لا تصير ((الفرضية)) ولا العكس. هذا، ومثله كثير، كأنه انحياز من جانب طوير، لكنني لا أفهمه. Culture كلمة ألمانية وترجمتها ((ثقافة)) وربما ((حضارة)). أجل courant، كصفة هي، في عبارة L، EAU COURANT، ((الماء الجاري)) في مطابخنا أو في غرف الطلبة الأجانب في باريس وغيرها، لكنها كموصوف: تيار، تيار ماء أو فكر أو كهرباء أو إلهام إلخ.

هنا، في ترجمتنا نصون العناوين. مثلًا عنوان الفصل الثالث ((تطوّر العمارة: من النطوفي حتى منتصف الألف الثامن ق.م)) لا يصير ((ارتقاء العمارة النطوفية في منتصف الألف الثامن قبل الميلاد)) (طوير، 33). أجل هنا ((أفهم)) جيدًا‍ فالعنوان الفرنسي يقول: ((L، EVOLUTION ARCHITECTURALLE: DU NATOUFIEN AU MILIEU DU 8E –MILL)) مع تكبير الحروف جميعها بوصفه عنوانًا. 1- طوير حوّل كلمتي البداية من ((موصوف وصفة)) إلى ((مضاف ومضاف إليه))، وهذا ممكن وصحيح. 2- طوير استغنى عن النقطتين الفاصلتين، هذا ممكن بشرط بقائهما في الرأس، والأفضل (إذا كان البقاء المذكور صعبًا) عدم الاستغناء عنهما. 3- إن DO أو DE يمكن أن تكون، في استعمال لغوي مهم، أداة الإضافة وحسب بمثل ما في قولنا بالفرنسية LE LIVRE DU MAITRE (كتاب المعلم)، لكن: ليس هنا. ويمكن أحيانًا تحويل ((المضاف والمضاف إليه)) إلى ((موصوف وصفة))، هنا. هنا، DU DE حرف الجرّ ((من)). 4- كذلك، إن AU يمكن أن تكون ((في))، يمكن أن يكون معي: ((في منتصف…)). لكن: ليس هنا. هنا. A، AU هي حرف الجرّ ((إلى))، ((حتى)). 5- NATOUFIEN مذكر بينما الموصوفان EVOLUTION وarchitecture (تطور، وعمارة) هما كلاهما في الفرنسية مؤنثان. لا يمكن أن تكون matoufien صفةً للمضاف ولا للمضاف إليه في ((تطور العمارة)) باللغة الفرنسية. فمؤنث الصفة المذكورة هو matoufienne شأنها شأن مئات الكلمات (صفات وأسماء) التي تنتهي ب ien في المذكر. 6- من جهة أخرى، طوير لم يستلهم الللغة الألمانية، ولم يقرأ فهرس المواد ( cavuviv، ص161). فبخلاف العنوان بحسب ما ورد في بداية الفصل (cauvin ص22)، حيث الحروف كلها بلا استثناء كتبت بحرف طباعي كبير(لكن حيث العنوان وزّع إخراجيًا على ثلاثة سطور، ينتهي الأول بالنقطتين، ويختص الثاني بزمن البداية: ((من النطوفي))، والثالث بزمن النهاية: ((حتى منتصف الألف الثامن))، هنا في الفهرس جاءت الحروف عادية جميعًا ما عدا حرف n (في natoufien) الذي شذّ وكتب كبيرًا. وبالألمانية، في الكتابة الألمانية الاسم الموصوف يبدأ دائمًا بحرف كبير، بعكس الصفة التي تبدأ دائمًا بحرف صغير. ((إذن)) (!)، لو ((استلهم)) طوير هذه النقطة لكان (ربما) أدرك أن natoufien هذه ليست صفة لعمارة أو لارتقاء بل هي نفسها قد ارتقت وصارت هنا اسمًا موصوفًا هو ((النطوفي)) بمعنى ((العصر النطوفي)). واضح أنه لم يستلهم ولم يقرأ الفهرس: أليست هذه القراءة نافلة؟ وهكذا فقد أعطانا عنوانًا يقول ((ارتقاء العمارة النطوفية في منتصف الألف الثامن)) (طوير، ص33) وهذا يوقعنا في خطأ من نوع آخر، خطأ تاريخي وتأريخي، خطأ في التحقيب. طوير لم يتساءل متى ينتهي العصر النطوفي (أو بمثل ما يقول الألمان: الحالة، الشيء بأكبر معنى sache). لعله ينتهي قبل منتصف الألف الثامن، قبل سنة 7500 ق.م. بالضبط، هذا ما نفهمه من النص مرارًا، حتى في ترجمة طوير: النطوفي ينتهي حوالى سنة 8300 ق.م، الفرق 800 سنة، يجب تعلم حروف الجرّ، والمحافظة على النقطتين (بوصفهما قطعًا فاصلًا في ((صميم)) العنوان …

هنا، في ترجمتنا، الاحتمال لا يصير يقينًا، كذلك النفي لا يصير تأكيدًا ولا التأكيد نفيًا، صيغ الماضي لا تتحول إلى حاضر أو مستقبل ولا العكس، عبارات الربط بين جملة وجملة تبقى كما هي([12]). وإذا ما قرأ القارئ الصفحة الأولى من نص كوفان، فهم بسهولة أن هناك بداية وهناك مآلًا أو نقطة وصول وأن بينهما مسارًا هو موضوع الكتاب ومسألته: لكن ليس الأمر كذلك في نص طوير (ص7). وإذا ما قرأ مقدمة بريدوود، أدرك مباشرة أن هناك نقطتين اثنتين في ((آسيا الجنوبية الغربية، من وجهة نظر ((موضوعنا))، هما تحديدًا منطقة بلاد الشام، ميدان كوفان – ومنطقة ((طوروس الشرقي وزاغروس)) (ميدان بريدوود وآخرين). طوير قال ذلك، لكنه أيضًا قال خلافه وعكسه، والنتيجة ((تعادل)). لقد أحلّ ((شعوب بلاد الشام)) محل ((آسيا الجنوبية الغربية)) (ص5)، وتكلم عن ((منطقتي طوروس وزاغروس)) (ص6)، فضاع المعنى وتاه الذهن في هذه الجغرافية الآثارية، بالنسبة تمامًا، لكن، ربما!؟ الأسلوبية والأمجادية. كذلك مصطلح ((بلاد الشام))، في أماكن متنوعة من كتاب طوير: يمكن أن تكون ((بلاد الشام))، la syrie-palesstine)) وحسب، وهذا محال في نصّ كوفان. ومحال أيضًا كلام من نوع قوله ((وفي علم ما قبل التاريخ لمنطقتي بلاد الشام المشرق)) (ص112): هذا غير ممكن وبجميع المعاني الممكنة. إذا كان المشرق هو levant فهو بصورة أخص بلاد الشام. وإذا وسعنا المعنى (فهذا من حقنا) كيفما شئنا تبقى بلاد الشام والمشرق… وعند الرجوع إلى الأصل، يتبين أن كوفان قال: ((منطقة الشرق الأدنى))، لا شام ولا مشرق ولا منطقتين.

هنا في ترجمتنا، ((الثورة النيوليتية)) لا تصير ((ثورة العصر الحجري)) (ص7 وهي الأولى في نص كوفان) ولا ((الثورة الحجرية)) (8، مرارًا): فهذا مُحال. كلها حجرية: النيوليتي (الحجري الجديد) والميزوليتي (الحجري الوسيط) والباليوليتي (الحجري القديم) القديم جدًا، الطويل جدًا جدًا (مئات الألوف من السنين)([13]) كلّها ((حجرية))! كلّها، وأقسام كلّ منها، ((حجرية)) وفي العصر ((الحجري)). وإذا ما قرأ القارئ في كتاب طوير: ولقد أمكننا الأخذ بمفهوم تلك الثورة الحجرية عندما أظهر الأثريون خلال تنقيباتهم في بلاد الشام كافة الابتكارات التي أحدثها العصر الحجري بصورة متزامنة فعليًا)) (ص8)، عليه أن يجهد وأن يجاهد عبر هذه الصفحة نفسها، وعبر الصفحات الفاتحة، العربية اللسان والفصاحة، وعبر هذا الكتاب ((العربي)) كله، لكي يدرك أن الأمر لا بدّ أن يكون غير ذلك تمامًا، في الأصل الفرنسي: علماء الآثار الأوروبيون أدركوا الثورة النيوليتية بوصفها جملة تحوّلات غير ذلك تمامًا، في الأصل الفرنسي؛ علماء الآثار الأوروبيون أدركوا الثورة النيوليتية بوصفها جملة تحوّلات واختراعات متواقتة فعلًا. هذا ((في بلادهم))، أما التنقيبات في بلاد الشام فقد كشفت في ذلك: البيوت والقرى (الاستقرار الحضري، التجمعات السكنية) سبقت الزراعة، والزراعة بالمعنى الواسع (عناية متنوعة بالأرض ومحاصيلها الطبيعية) سبقت الزراعة بحصر المعنى (الزراعة بالمعنى الضيّق أو الوثيق، مع فعل الزرع أو الغرس محورًا)، وكذلك تربية الحيوان: أولًا نوع من منادمة أو مزاوجة، ثم السيطرة أو التحكم، التربية والرعاية. إن ((الثورة)) جملة، وهي -هنا- في المصدر (بلاد الشام)، لم تظهر جاهزة من البداية و((تامة التسليح)). هذا، لعمري هو الجديد في الكتاب، من الناحية النظرية العامة، أو هو بالأصح قسم مهم من جديد الكتاب، وإنه ركيزة المسألة التي يعالجها كوفان (نظام سير وترتيب الأمور، تعليل المسار، آلية التغير والتكون). أجل، هذا يمكن أن يجده القارئ عند طوير، لكن يمكن أن يجد ((خلافه)) أيضًا؛ أخطاء لغوية، أخطاء من نوع آخر، ((تصرفات)) بالجملة والمفرق لا مبرر لها، شطح ذاتي من أجل ملء فجوات القراءة، تضييعُ لمعان وشطب على مصطلحات، استعاضة عن الضبط والدقة بالعبارة ((الأدبية)) (؟) إلخ: القضية تضيع.

من العبث المتابعة. يستطيع القارئ، إذا شاء، أن ينشئ مطابقة بين ترجمتنا (الحرفية، إن صح القول) وتعريب طوير، على الفصل الأول مثلًا، وهو أقصر الفصول (ص 7-15 في ترجمة طوير هذا الفصل يتألف من 26 مقطعًا. إن نظرة أخيرة على هذه المقاطع([14]) في النسخة العربية مثل ما صححتها، وهي أمامي، تكشف لي أن طوير أخطأ أخطاء غير قليلة في نيف وعشرين منها.

ليس كافيًا أن يكون الأستاذ قاسم طوير ((خريج جامعة همبرلدت بألمانيا الديمقراطية بدرجة ماجستير في الآثار الإسلامية وتاريخ الفن)) أو ليس كافيًا إن كان ويكون ((محاضرًا في جامعة دمشق، وفي جامعة لوس أنجلوس بكاليفورنيا، أو محاضرًا متجولًا في جامعات نيويورك، بييل، أوهايو، أريزونا، سان دييغو، فيلادلفيا، هاواي، مونريال، تورونتو، الرياض، وروما، وصاحب أبحاث في المجلات العلمية الاختصاصية في سورية وألمانيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة)) (ص180)، وصاحب 12 تعريبًا لكتب في الآثار (مذكورة بأسمائها، ص181)؛ لكي يترجم كتاب ((القرى الأولى في بلاد الشام)). ليس كافيًا ولا ضروريًا! إن ترجمة كتاب جاك كوفان تحتاج إلى معرفة اللغة الفرنسية، وإلى بضع أمور أخرى، بينها أمر أوّلي يجعلك-على سبيل المثال- إذا ما ترجمت sangliers بقرود وإذا ما اكتشفت، بعد صفحات كثيرة من ذلك، في موقع تالٍ (طوير ص141)، أنها ((خنازير برّية))، تعود وتبحث عن خطئك بقصد تصحيحه. هذا ما لا يفعله طوير لسوء الحظ. لعلّه لم يقرأ ما كتب: القراءة ليست تجوّلًا، الذهاب إلى تورنتو وهاواي لا يفيد، الأفضل منه قراءة فيلسوف كونجسبرغ، كتاب ((نقد العقل العملي))، مبدأ الضمير. ذكرتُ فيلسوف كونجسبرغ أي إيمانويل كانط. لعل الأفضل أيضًا فون همبولدت، فلهلم فون همبولدت وشقيقه ألكسندر فون همبولدت. إنهما من عصر كانط وهيغل، من بناة الضمير والقانون والانضباط. لم يكونا من الأنبياء، ولم يتصورا أن الجامعة التي ستحمل اسمهما. سوف أعترف بأنني أقاوم هنا إغواء كبيرًا. لقد فكرت دائمًا إن الترجمة، أقصد الترجمات في ساحتنا معظمها، تحمل بوصفها تعريبات جاهلة وجاهلية مسؤولية لا بأس بها في تدهور الوعي العربي عقلًا وثقافة. هل أفتح هذا الملف هنا، هل أعالج القضية على هذا الكتاب؟ إذا كان لي أن أقوم بمطابقة التعريب والأصل، على ثلاثة أعمدة متوازية، أولها للنص الفرنسي، الثاني لنص طوير، الثالث لما أعده الصواب والأمانة، وذلك من دون أي تعليق أو شرح، عندئذ سيكون أمام القارئ، بعد التساهل، كتاب بحجم هذا الكتاب الذي بين يديه على الأقل. أما إذا كان لي أن أشرح أيضًا، أن أعلل، وأن أبسط أبعاد كل خطأ ومفاعيله الطبيعية على القارئ العربي، عندئذ يكون العمل أكبر حجمًا بكثير. هذا إغوء لكنه أيضًا قضية. قد ((يقع)) في الإغواء آخرون. من جهتي، إن ((الامتياز)) الذي يُمنح هكذا لصاحب التعريب المعني يكون إجحافًا بحقه وبحق القارئ. ليس الأستاذ طوير وحيدًا في نوعه. والذين هم أفضل منه أجدر بالنقد وأخطر على القارئ. (إنهم بخلافه ((يعرفون)) اللغة الفرنسية أو الإنكليزية وبعض تقنيات العمل السريع). يثبتون على عبارات أو جمل لم يفهموها، يعوّضون عن الفجوات بمعارفهم أو خيالهم، يحّولون الأمور نحو السهولة والسلاسة والخفة، يقلصون ((المادة)) إلى نصف ما هي عليه ويُصنعون ((العقل)). وقد ينالون الاستحسان على رشاقة الأسلوب. لحسن الحظ، عندنا وزارة ثقافة وترجمات جيدة صدرت عنها ورجال مؤمنون بالعمل والمسؤولية. ثم، أن يرتكب فلان هذا الخطأ المحدّد أو ذاك فالأمر ليس مهمًا وهو قابل للإصلاح، والقضية هي، أولًا وأخيرًا، قضية الفكر العربي والوعي العربي، قضية الشعب والأمة والوحدة.

ثم، لندع طوير والترجمة، ولننظر في شيء أجدى الآن.

– 4 –

ليس واردًا، بالطبع، أن أعرض كتاب كوفان، أن أقدم ملخصًا عنه (على الرغم من فائدة ذلك)، فالكتاب بين يدي القارئ، لكنني أريد التوقف عند جانب مهم فيه، عند ما يمكن أن أدعوه قضية كوفان والماركسية، أريد إلقاء نظرة على الماركسية في ضوء ((القرى الأولى في بلاد الشام)).

من وجهة نظر ماركسية مبتذلة، ما زالت سائدة في بلادنا (بل هي أقوى عند الماركسيين الجدد منها عند الجيل القديم)، يكون كتاب كوفان كتابًا مثاليًا، يضع الفكر قبل المادة، والإيديولوجيا أو الدين والفن الخ قبل شروط الحياة المادية، والبنية الفوقية قبل التحتية، وهلمجرا. مرّة أخرى، لا بدّ لي من دين هذا الابتذال ((المادي)) في حيثياته جميعها، بدءًا من مقولاته اللغوية ومن خلطه الذي لا يقف عند حدّ. في الجيل ((الماركسي)) الجديد، أو العجيب، تضاعفت ((المادية)) بمثل ما تضاعفت الذاتوية الثورية أي بينهما هو ((الطبقة العاملة)) المزعومة أو ((الكادحون)) أي فعليًا ((نحن))، ((الحزب))، ((منظمة كذا)) و((حلفاها))([15])

ومثالًا عن الاختلاط النظري، يمكن القول إن ((ماركسيين)) كثيرين يتصورون أن شروط حياة المجتمع المادية أو ((الشروط المادية لحياة المجتمع)) هي شيء كـ ((المادة)) من نوع ((المادة))، المفهوم ((الفلسفي)) أو ((الفيزيائي)) لا فرق، بتعبير آخر: ((الكينونة الاجتماعية))، ((نمط الإنتاج)) أو ((أسلوب الإنتاج)) mode، علاقات الإنتاج relations أو rapports خبرة الإنتاج وعادات الشغل، الشغل نفسه وغير ذلك، هذا كله يكون كـ ((المادة))، من نوعها وأصلها، خارجًا متحدرًا منها. عند ستالين نفسه، الذي لا يمكن أن يذهب هذا ((المذهب)) تمامًا وإلى النهاية، الذي وضع علامة التشديد على الكلمات الآنفة بوصفها عناوين أو مفاتيح، تبدو العلاقة بين ((الشروط المادية لحياة المجتمع)) و((حياة المجتمع الروحية))، بين ((نمط الإنتاج)) و((الوعي الاجتماعي))، بين ((علاقات الإنتاج)) والبنية االفوقية))، مستنتجة من العلاقة مادة، وعي، طبيعة، روح، كينونة فكر، المجرّدة الخالصة الصافية التي يمكن تلخيصها في الصيغة الأولى: مادة، وعي، أوّلية على الوعي (أو الفكر أو الروح). ستالين يعلن من بداية كتابه (المادية الجدلية والمادية التاريخية، 1938): إن ((المادية التاريخية)) هي ((تطبيق)) لـ ((المادية الجدلية))[16]*. وهذا محال. فمن وجهة نظر ((مادية)) ستالين ((الفلسفية))، لا يمكن الحديث عن فكر ووعي وروح، من دون المجتمع وخارجه و))الفكر الاجتماعي)) و))حياة المجتمع الروحية)). ليس ثمة أي كيان ممكن للمقولات الثلاث المجردة، ((الفكر))، ((الروح))، ((الوعي))، (ومن ثم لا وجود لعلاقة تكون لها مع مقابلاتها ((المادية المجردة)) خارج ((المجتمع الإنساني))، من دون ه، قبله، بصورة مستقلة ومسبقة العلاقة مادّة – فكر، طبيعة – روح، التي هي قضية ((المادية الجدلية)) بوصفها ((المادية)) و))المادية)) الفلسفيةٍ))، هي تابعة إذن لتطبيقها المزعوم ((المادية الجدلية)) تابعة هي الأخرى، وبوصفها مادية، لـ ((المادية التاريخية)). وإلا تحول الاثنان المجردان، مادة وفكر، كينونة ووعي – إلى إلهين، أوّل وثانٍ. هذا هو التناقض الكبير في مجمل عرض ستالين، ((المادية الجدلية والمادية التاريخية)) : انبثاق الثانية من الأولى مستحيل ((بحكم التعريف))([17])

هذا أبعدنا بعض الشيء عن كتاب كوفان، لكنه كان ضروريًا من أجل ما يلي.

إن قراءة متأنية، بل إن قراءة طبيعية، غير مؤدلجة، تجعلني أعتقد أن كتاب كوفان ليس ((مثاليًا أو أن ماركس نفسه (وكل ذي عقل) مثالي! وتبقى المسألة والمساءلات.

عند ماركس، إن الفكر، الذي هو انعكاس وصورة (انعكاس من نوع خاص)،هو أيضًا استباق anticipatikon هذه الصفة تدخل في ((تعريفه))، ولذلك هو جزء أو تعيين في العمل الإنساني، ويؤدي دور إرشاد وقيادة. بالأساس، هنا ((تقع)) الفكرة المتنوعة المعبَّر عنها بالمفردات الآتية: صورة، شكل، فكرة، ((مثال))، ((ايدوس)) اليونانية، و((مثل أعلى)). لذلك توجد ((مثالية فلسفية)) و((مثالية أخلاقية))، يتكلم عنهما جورج بوليتزر في كتابه ((مبادئ الفلسفة الماركسية))، لكن لكي يمايز بينهما ويفصلهما معارضًا الأولى ومؤيدًا الثانية، أي مبررًا كون الماركسيين ((ماديين)) وحمَلةَ((مثل عليا)) في وقت واحد، إلا أنه لم يبرز تسمية الاثنتين ((مثالية idealisme وهو موصوف واحد (مذهب مثالي أخلاقي) حامل لِـ ((مثل عليا)) أو لِـ ((مثل أعلى))، باسم ((العمل)) الهادف المشروع الثوري. لكن إذا رُدّت للعمل منزلته في المذهب الفلسفي، وجب القول إن بوليتزر ((مثاليّ أخلاقي)) لأنه حاملٌ لِـ مثال)) أو ((فكرة)) idee أو صورة أو مفهوم إلخ أو تصوّر مرشد([18]). لنذكِّر، من جهة أخرى وبالمقابل، بأن بوليتزر في مقاله الخطر أهميةً، ((الفلسفة والأساطير))، مجلة la penee عددها الأول، سنة 1939، ثم أيضًا سنة 1955: عدد خاص، تذكاريّ، رفع لواء ((أفلاطون طاردًا الشعراء من المدينة مكللين بالزهور)) أي لواء الفلسفة أو الفكر المفهومي (الفلسفة أو العلمْ) ضد الأشباح، وذلك في غمرة المعركة التي يخوضها ضد الفاشية و((الوجوديات)) من حولها. هذا يبدو، جزئيًا كأنه بوليتزر آخر، غير بوليتزر ((مبادئ الفلسفة الماركسية)) الأشهر.

لنذكِّر أيضًا بأطروحة ماركس الأولى عن فويرباخ: الفاعلية، الذاتية، العمل الإنساني إلخ هذا كله يبدو في صف المثالية الفلسفية وليس في صف ((المادية بما فيها فويرباخ)).

الفكر الإنساني له صفة الاستباق ANTICIPATION هذا صريح في تعريف الشغل عند ماركس، في المقارنة الشهيرة بين النحلة والمعماريّ (في كتاب رأس المال)([19]).

لكنه لا يصحّ فقط على كدح فرد (نجار، حذّاء، ومثل ذلك) وما تقتضيه هذه العملية المفردة (صنع طاولة و حذاء أو بيت) من تصوّر هو بحسب نص ماركس تصميمّ بالمعنين (إرادة تصوّر أو تخطيط)، ويشتمل على أشياء أخرى غير ما نسميه عادة ((العقل)): = (الفهم، المحاكمة، ومثلهما) يشتمل على انفعال وعواطف وانتباه وإرادة وتوجّه وتوترّ، وهو، في أساسه، مع كونه صورة وصورًا، تخيّل وخيال IMAGINATION ونظر مضارب SPECULATION بل هو يصح أيضًا، مع الفرق والفروق، على عمل وفكر المجتمع الإنساني، لنقل على (البراكسيس) الاجتماعي بضمنه (بضمنه ومقابله) الفكر والروح، الوعي والوجدان. ماركس، على سبيل المثال، يقول عن الحقوق الرومانية إنها ((استباق)) للمجتمع البرجوازي الحديث. وموقف كهذا جزء من الماركسية بوصفها سعيًا وراء منطق الواقع ولا أقول ((مادية تاريخية)) بل أقول بصيغة ماركس ((تصورًا ماديًا للتاريخ)). ثمة ((بعض)) الفرق بين ((المادية)) موصوفا ًLE MATERIALISME و((المادية)) صفةً لموصوف هو ((التصور)) أو ((النظرية))‍) هنا استخدمت ((مادية)) سيرًا مع الدارج. والأصحّ ماديانية، مادياني.

إنّ هذا الموقف لماركس، ونظرته إلى ((المسيحية)) و))أشكالها الحديثة، البروتستانتية، الإلهية DEISME (وذلك في مقطع كثيف من أحد الفصول الأولى في كتاب ((رأس المال))، وهو مقطع قصير يتكلم فيه ماركس أيضًا عن ((الشعوب التجارية)) في العصر القديم، وعن الحبل السرّي الذي يربط الفرد بالجماعة والذي لم ينقطع بعد)) إلخ([20])، وحديثه (في الفصل الثالث، ((طريقة الاقتصاد السياسي))، من نصّ المدخل INTRODUCTION 1857 الشهير الآن، ولعله أهم وأخطر نصوص ماركس) عن ((الروح ESPRIT والتملّك))ANEIGNUNG APPROPRIATION (تملك الإنسان للعالم، عالمه) وأشكال التملك التي هي، علاوة عن ((الفكر الناظر النظريّ)) (الفلسفة، العلم، العلوم، علم الاقتصاد السياسي الخ)، ((الفنّ، الدينُ، الروحُ العمليّة))، وحديثه (في الفصل الرابع) عن الخيال والأساطير والفنّ، الخ، وحديثه ( في الفصلين المذكورين) عن ٍ((الطبيعة)) (المفهوم الواحد المزدوج) إزاء التاريخ والصناعة (الطبيعي إزاء التاريخي والصناعي والثقافي الخ) و))الطبيعة بما فيها المجتمع))، هذا كله بعيد عن ((المادية)) الذائعة السمعة (وعن ((مثاليات)) مشهودة وساقطة).

لا معنى للكلام عن الفن أو الدين، أو عن الفكر المفهومي النظري، بموجب المذهب الانعكاسي، أي بموجب فكرة الانعكاس وحدها، من دون فكرة التطلع والاستباق والخيال والحلْم، ومن دون فكرة الفِكرة أو المثال أو المفهوم ذاتها. يمكن في هذه الحيثية، أن ننقل هنا مقاطع كثيرة ومهمة جدًا من ((الدفاتر الفلسفية)) للينين، لا سيما من خلاصة ((منطق)) هيغل أو خلاصة ((ما ورا الطبيعة)) لأرسطو (مناظرة لينين مع مُثل أفلاطون، العام والخاص، الخيال، الحلم….)؛ هذا لا يعني أن لينين أو ماركس أو آخرين قد وفوا المسألة حقّها. في ظني، نحن بحاجة إلى ((أكثر))، لا من بعد ومن فوق ((تطوير))، بل أيضًا وأولًا من قبل ومن تحت (أساسيات، جذور): هذا شرطُ للتطوير الجدي.

يجب أن نرى إرنست بلوخ مثلًا، ترجمتُ كتابه فلسفة عصر النهضة([21])، لم أقرأ له كتابًا آخر (لم يُتح لي ذلك)، لكنني، في كتاب مدرسي فرنسي (مفهومات ونصوص فلسفية، الصفوف الأخيرة الثانوية)، أجد له نصوصصا عدّة، منها نصّ ضدّ برغسون. فحوى ما يقوله بلوخ أنّ هذا ((المتحرّك الدائم الحركة)) البرغسوني ليس تغيّرًا وليس فيه ((جديد))، إنه ((دائم))، ومن ثم فإن ((الاستباق)) البرغسوني ليس استباقًا حقيقيًا، يمكن أن نقول من جهتنا أن الماركسية السائدة تخلت عن فكرة الاستباق المركزية، وأن برغسون ركب على هذه الفكرة والكلمة، لكن، رجوعًا إلى بلوخ، لنقل إن فكرة الاستباق الحقيقية ((تابعة)) لفكرة ((العمل)) الحقيقية وأن الوعي، الشعور بالمعنى

البرغسوني (الشائع عندنا وعند غيرنا) تابع لمقولة الروح، الوعي، الفكر الفلسفية غير المنحلّة بتاتًا في ((السيكولوجيا))([22]) فكرة الاستباق الجدية فكرة ماركسية وفكرة فلسفية عريقة ودائمة.

إن دين الوضعوية ( الوضعانية positivisme) دينًا صريحًا وجذريًا -مثل ما يفعل كوفان- واجب أوّلي على الفكر الماركسي العالمي وعلى الفكر العربي التقدمي أو شبه التقدمي وسواه. لا يمكن أن تكون ثمة ماركسية حقيقية في مناخ مذاهب الوضعية والاقتصادية والميكانيكية والمنفعة التي ((تستطيع)) جميعًا أن تلبس لبوس ((العقل))، وأن تسميّ نفسها ((عقلانية)) حتى حين لا تفعل ذلك فإن أنصارها عندنا يفعلونه، يتصورون أنها هي ((العقلانية))) بالضبط، إن الجدل جدل هيغل وماركس، هو -بأساسه- اعتراض على هذه العقلانية الزائفة متعددة الصور. بالضبط، إذا كان ثمة لدينا عنوان هو ((الجدل))، ((الديالكتيك))، ويميزنا من عقلانية سابقة (حقيقية وناقصة بالأساس)، فمن أجل هذا الاعتراض الآنف على ما هو انحدار وانحطاط وكاريكاتور العقلانية نفسها تاريخيًا ومنطقيًا.

لا مجال لماركسية من دون مفهومات ومقولات الروح والتملك والبراكسيس (العمل، لا ((الممارسة)) الملتبسة)، ومن دون مقولة ((التناقض)) في المبدأ أي فكرة ((النفي)) negatikon المفهومية([23])

والماركسية هي اليوم، وربما أكثر من أي وقت سابق، في الساحّة وفي الحلبة، ساحة الفكر والمعرفة والعلم والمناظرات الفكرية والعلمية الساعية وراء الحقيقة، وحلبة الصراعات الايديولوجية المرتبطة بمصائر البشرية.

إن كتاب كوفان، إشاراته المتكررة إلى الماركسية، لـ غوردون تشايلد أو إنغلز أو لوسيان سيف، تلميحه إلى سوء أو حسن استخدام المنهج الماركسي، الخ، يدفعني إلى القول بأن الماركسية لعبت دورًا كبيرًا في العلوم الإنسانية، خصّبت الفكر الأوروبي، طرحت المسائل الرئيسة، فتحت الطريق لإنماءات ثمينة، ودخلت نهائيًا في الفكر الإنساني، أُدْمجت إيجابيًا في الفكر ((الغربي))، العالمي. بالمقابل، الماركسية في بلادنا مجهولة من خصومها (كارهيها) ومن ((العلميين)) (((المحايدين)) إزاءها ومن أنصارها (محبيها). ليس نادرًا أن نجد شبانًا من شبابنا المخضرم، ذهبوا للتخصص في هذا العلم أو ذاك من ((أحدث العلوم الإنسانية))، فغطسوا فيه وسعوا في مناكبه، لكن من دون الماركسية التي باتت شيئًا باليًا ومتجاوزًا في نظرهم.([24]) من جهة ثانية، تحوّلت الماركسية في قسم كبير من العالم إلى مؤسسة لدولة ودُول، إلى مذهب تبريرو ((دعاية))، ضد وظيفتها الطبيعية: النقد. التطور الثاني ليس هو الأفضل. لكن التطورين في آن معًا يكونان -عدا ذلك- ضياعًا، في ما إذا فقدت الماركسية دورها مشروعًا ثوريًّا، جذريًا و((كامل)) (أقصد: شامل لمختلف جوانب الحياة والحضارة). فالاندماج الإيجابي الذي ذكرناه عن الغرب يمكن أن يكن استيعابًا واحتواء. ولعلها أيضًا، من الجهة الثانية وعالميًا، بقدر ما تتأدْلج بالمعنى الزائف ( ضد الحقيقة ومع اللعب بالحقيقة والحقائق) تفقد اليوم طابعها بوصفها أيديولوجية معبئة لمئات الملايين من البشر ونظرية هادية فعلًا في مستوى فكر المفكرين وكفاح الجماهير علمًا بأنّ ألوفًا وعشرات الألوف من رجال الفكر والعلم العاملين في شتى الحقول والميادين مجمعون اليوم على ضرورة ووجوب تغيير شامل. ومن الواضح أن جاك كوفان واحد من هؤلاء. إن اللحن الذي يختم كتابه عن لماضي البعيد والراهن يجعلني أتذكر الـ ((تعريفات)) العديدة، والمتنوعة، التي أعطاها ماركس وإنغلز عن هدف المشروع الثوري (الاشتراكيٍ، الشيوعي، الاجتماعي، الإنساني وغيرها، لا فرق في ذلك عند هذا المقام الأوّل في النظرية)، قبل نيف وقرن، واستحضر واحدًا من هذه ((التعريفات)): ((تصالح)) الإنسان)) مع ذاته)) و((مع الطبيعة)) (نعم: تصالح))، الكلمة من إنغلز وليست من هيغل ((المتصالح))).

وليكوننّ خطًا كبيرًا أنْ نتصوّر مثلًا أنّ الماركسية المبتذلة (بدرجات مختلفة) قد رفعت لواء الطبيعة ضد لواء الروح. بالحقيقة، خفّضت الإثنين معًا، لصالح مقولات ((ثانية))، تالية، هما، مثلًا! ((المادة)) و((الفكر))،أو أيصًا الكينونة (لكن ((الكينونة المادية))) و((الفكر)) أو ((الوعي))، أو هما ((الأساس)) و((البنية الفوقية))، ولصالح ((تاريخ)) يريد أن يقوم مفهومًا فلسفيًا من دون ((الروح)) ومن دون ((الطبيعة)). عمليًا، يكف ((التاريخ)) و((الطبيعة)) عن كونهما مفهومين، وذلك في صلب النظرية الفلسفية. عمليًا، في عرض ستالين (1938)، ((المادة)) على الرغم من تفوّق كمّي لكلمة ((الطبيعة))) هي المسيطرة([25]) ((المادة))) (((المادة المتحرّكة))، أجلْ هي إله ((المادية الجدلية))، وأدوات الإنتاج هي ((المادية التاريخية))، والتاريخ المتقدّم من مرحلة إلى مرحلة ثائرٌ الآن بقيادة حزب الطبقة العاملة.

في حيثية التاريخ هذه، كثيرًا ما يُلام على كتابه عن ٍ((أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)) المتهم بأنه برر تصور التاريخ الخطّي والميكانيكي الذي بلوره ستالين و ((عممه)). كوفان يلومه على كونه أنشأ بناءً متسرعًا، قافزًا فوق فقر معطيات المعرفة العلمية الوثائقية آنذاك. هذا صحيح، ومسألة التصحيح والتصحيحات قائمة على هذا وغيره. بالمقابل، لابأس من التذكير بأن إنغلز كافح التشويه الاقتصادي للماركسية وبأن كتابه المنقود يمكن ويجب أن يُفهم كخط عريض، بوصفه إعلانًا أو إفصاحًا، عريضًا أو غليظًا، عن عملية صعود كبيرة مما قبل ((العائلة والملكية والدولة)) وما دونها إلى الثالوث المذكور. هذه العملية هي تقدّم وثورة، مثلما ((القرى الأولى في بلاد الشام)) تقدّم وثورة. بالتأكيد، هذا أيضًا يدخل في جملة ما يهمله ماركسيون ((ثوار)) متنوعون. في نظرهم، ((العائلة ولملكية الخاصة والدولة)) شيطان مثلث. إنهم لا يرون أن ثمة ما يقع قبلها، أو دونها في عصور مختلفة، وهو، مثلًا، اللاملكية نظام المصادرة، اللاقانون، الفوضى الاستبدادية([26]). هذا الموقف تصفية واحدة لفكرة التاريخ وفكرة التقدم، استغناء عنهما بفكرة ((الثورة))، الدائمة والعقيدة: تحويل الأرض إلى جنّة، ((مُلْحدة)) أو اليوم ((دينية)). أما ((القرى الأولى)) فلا علاقة لها بـ ((صراع الطبقات))، وهذا صحيح بطبيعة الحال بحكم المنطق والتاريخ.

لنقل، من جهتنا، إن الانحراف الكبير عن الماركسية، أي شبيه الماركسية الباطل، تحت بند ((المادية التاريخية)) أو ((التصور المادي للتاريخ))، يتمثل في إقامة مستوى علاقات الإنتاج والملكية الخاصة والطبقات أو اللاطبقات من دون الركيزة: الكينونة الاجتماعية، الإنتاج ونمط الإنتاج ككل، ومن دون فكرتي الطبيعة والشغل، وفي إقامة ((الأيديولوجيا)) و((البنية الفوقية)) من دون مقولة الروح والفكر أو الوعي، والوجدان. إن ((تجربتي)) مع ((العلوم))، وبالطبع الفلسفة، والفن والدين، هذا كله داخل تمامًا في ((الأيديولوجيا)) أو تحتها، ومستنفد فيها بوصفها الأيديولوجيا الطبقية أو المربتطة حصرًا بـ ((علاقات الإنتاج))([27])

لنلاحظ أن مسؤولية ستالين كبيرة في هذا الاتجاه كله، لكن مزية أنه تمسك بفكرة التقدم، معلنًا أن الرق مثلًا كان ((في حينه)) تقدمًا، ومزية أنه في سنة 1950، ((بصدد الماركسية وعلم اللغة))، فتح بابًا ضد الأسْر الإيديولوجي الطبقوي، معلنًا أن اللغة ليست ((بنية فوقية))، أنها ليست لطبقة (بل لشعب أو أمّة أو قوم) ليست تابعة للنظام الاقتصادي، الاجتماعي، مفسحًا المجال لإخراج المنطق والمعرفة العلمية من الحيز المذكور، ولإعادة النظر في سائر ميادين ((حياة المجتمع الروحية)) سعيًا وراء جانب آخر غير ((الأيديولوجي الطبقي)) (بالطبع في العرف الماركسي الصحيح، أو الماركسية، إن ((المنطق)) يرتبط بالشغل، بعملية الإنتاج ذاتها، بالحياة اليومية، الخ، لا بـ (علاقات الإنتاج، إنه ليس ملكًا لِـ ((الطبقة العاملة وحزبها)) بل للعدو أيضًا، للجميع، وكذلك عكسه!) جاك كوفان، من جهته، يعطي مصطلح ((الأيديولوجيا)) مدلولًا أوسع، مدلولًا آخر غير المدلول الطبقي الطبقوي، غير المدلول ((الاجتماعي، الاقتصادي)) المقلّص والمقطوع في الأساس. لكن المصطلح الذي يحظى بتفضيله، وبحق، يبدو لي مصطلح الثقافة. والثقافة culture يبرزها كوفان، في الفقرات الأخيرة بصورة خاصة، ((وسطًا داخليًّا))، روحًا، فكرًا وعاطفة وخيالًا. هذان المصطلحان موضع مناقشة في الفكر العالمي، لا سيما الماركسي. لنلاحظ من جهتنا أن الثقافة أقل ((فكرية)) (بحصر المعنى: أقل ((نظرية)) وأكثر حيادًا)) لكن -بهذا المعنى- يكون من واجبنا أن نقول أن ما تعانيه شبيبتنا المثقفة والمخضرمة هو تضخم ((أيديولوجي)) ونقص ((ثقافي)) و((نظري)) في آن معًا:

إن الأسئلة التي يطرحها كوفان في خاتمة فصله الأخير وفي خاتمة أسئلة جدية وبدهية. ولا ريب على الإطلاق في أن ((الكيمياء الحديثة مشتقة من السيمياء أو الخيمياء أي كيمياء العصور الوسطى)) ولا شأن لفكرة القطيعة rupture)) القطيعة الأبستيمولوجية)) وبذلك: هذا موضوع آخر، هاتان قضيتان اثنتان([28]) ولا ريب في أن صناعات التعدين الابتدائية مفعمة بطقوس ومربوطة بنواة ((سحرية)). نعم، ((هذه الهوامات وهذه الإسقاطات)) قد تكون ((محرك الاكتشافات))، بحيث قد لا يكون ((الفعل الخلاق ذا غاية محققة عيانيًا إلاّ بعد الضربة)). كذلك ((اختراع الطائرة)) وأسبقية ((هواة محترفين عاشوا مرة أخرى أسطورة إيكاريوس)) و((حاولوا ((تخريج)) ((حلم الطيران)) بوصفه هوامًا يكاد لا يكون واعيًا)). هذا يبدو لي بدهيًا قضية (ومسألية). كوفان هنا يدين المنفعية ويتكلم عن ((الأسس النفسية للاختراع))، وهذا مستوى مهم، وإلى العالمين إيلياد([29]) وبريل والعلماء الذين يذكرهم كوفان يمكن أن نضيف آخرين وميادين أخرى (مثلًا جان بياجه، هنري والون، سيكولوجية الطفل والنمو).

ومثل ما يقول الماركسي السويدي جوران ثربورن في كتابه ((سلطة الأيديولوجيا وإيديولوجية السلطة)) (دار الوحدة، بيروت)، ثمة منفعية (مذهب منفعة) وتأثير منفعيّ في الماركسية يجب الانتهاء منه. وبحسب ما قلنا في مكان آنف، المنفعية تسمي نفسها عقلًا ومذهب عقل (وذلك بدءًا من صيغة من نوع ((مصلحة الطبقة العاملة المفهومة جيدًا)) التي تغطي وتبرر ذاتويات سياسية متسرعة).

أخيرًا وأولًا، يجب ((ردّ الاعتبار)) للمقولات الماركسية الكبرى: الواقع، الفكر، العمل. ((العمل)) ليس ((المنفعة)) وليس العملي)) مأخوذًا ((من أقربه)) ((الفكر)) ليس العلم الوضعي، لا ينحل فيه، ولا ينحلّ من جهة ثانية في ((نفسيّ)) عمومي أيًا كان. الواقع، ((الواقع الموضوعي)) نتاج تموضع العمل الإنساني، ليس في ((معظمه))، ((طبيعة)) سابقة للإنسان، ونتعامل معها في ((المادية الجدلية)). إنه لا ينقسم ويضيع في قسمي ((الطبيعة)) و((المجتمع)) الستالينيين:

يجب أن يكون له كيان أوّل، في نظرية المعرفة، قبل أية ((قسمة))، (هكذا ماركس، مثلًا في نصوص المدخل التي أشرنا إليها). عندئذ تأخذ المستويات والجوانب والعناصر والمقولات (القطعات) الجدية كلها مكانها ودورها بوصفها نتاج وأدوات العلم المحض (سلاح التجريد بديل المبضع والمفاعلات الكيماوية، على حد تشبيه لماركس، في المقدمة الأولى لِـ رأس المال). الطبيعة في ذاتها (أو بذاتهاen soi) لا وجود لها، يقول كوفان في الصفحة الأخيرة من كتابه: لا شك في ذلك، ولا وجود لأي شيء في ذاته …. الطبيعة مفهوم فلسفي كبير.

V1

ثمة ((نقطة)) في كتاب كوفان تثير اعتراضي وتفرض استطرادًا لا أرى لي غنى عنه. في مناظراته الثمينة مع غوردون تشايلد، الذي أثر تأثيرًا كبيرًا في ((علم الآثار الجديد)) الأميركي وغيره في اتجاه مادي بلا مزدوجين([30])، قال كوفان: ((كان تشايلد يستند صراحة إلى ماركسية زمنه حين كان يعد أن ((الموارد الطبيعية السكن)) هي في عداد ((قوى الإنتاج المحددة لبنية مجتمع من المجتمعات))… ((الفصل الأوّل)).

أية ماركسية؟ بالضبط، لم يكن ستالين يعد ((الموارد الطبيعية)) جزءًا من ((قوى الإنتاج…)) بتاتًا. إن جانبًا من أهم جوانب التصنيف الستاليني أو المقولات الستالينية كانت إخراج ثروات الطبيعة أو شرط البيئة خارج مقولة ((قوى الإنتاج)) و))نمط الإنتاج))… وماركسية ستالين هي ماركسية الزمن المعني، هي الماركسية السائدة، السوفياتية، الفرنسية، العالمية (ربما فيما عدا الماركسية الأنجلو سكسونية). وستالين يتعارض، هنا، مع إنغلز، بليخانوف، وماركس، هيغل، بأشكال مختلفة. لننظر إلى القضية عن كثب.

ستالين قام بعملية تصنيف جبارة ودقيقة، بعملية قطع مقولاتية، ضرورية بل وبمعنى ما صالحة: ليست باطلة في هذه العملية، بل في ((مكان)) آخر، عند الدور التعييني ((التحديدي))، التقريري) أو اللاتعييني، وهذا الباطل له موقعه في سياق باطل أكبر: 1- في عرض مبادئ ((المادية الجدلية)) ولا سيما ((الطريقة الجدلية الماركسية))، رفع ستالين -كما ذكرنا من قبل- لواء الطبيعة ككلمة تتكرر وتتواتر، لكنه لم يتعامل معها بتاتًا بوصفها مفهومًا حقيقيًّا، فلسفيًّا، ((الطبيعة)) إنها لا تقيم علاقات مع مفهومات مقابلة: تاريخ، ثقافة، صناعة، حضارة، عمران، شغل، إنسان، فاعلية الإنسان الذاتية الهادفة([31])

هذه المقولات محذوفة أو تابعة، ملحقة ذيلية، فـ ((المادية الجدلية)). وعمليًا، هذه الطبيعة ما هي إلاّ ((المادة المتحركة))). لكن التاريخ يتصدّر ((المادية التاريخية)) التي أُعلن أنها تطبيق ((المادية الجدلية)). 2- إذًا، في ((المادة التاريخية))، إن ((الطبيعة))، السيدة هناك -ولو في الشكل الذي أشرنا إليه- سيّدة على الروح أو الفكر نتاجها، وسيدّة ((مبدئيًا)) على المجتمع والتاريخ ميدان تطبيق مبادئها وقوانينها، تنحدر فجأة، تسقط من علِ، تنخفض إلى ((بيئة جفرافية هي شرط ثابت ودائم لحياة المجتمع، ولها دور إعاقة أو تسريع، لا أكثر. إنها ليست مًحدّدة، معينة، مقررة determinante ليس لها دور تحديد وتعيين وتقرير على التاريخ بوصفه مسار تقدم وأنظمة محددة تتعاقب. فالشروط الطبيعية الجغرافية لم تتغيّر جديًا في ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة، بينما قطعت أوروبا مثلًا ثلاث مراحل، والاتحاد السوفياتي أربع مراحل وحقق المجتمع الاشتراكي 3-كذلك السكان، العامل الديمغرافي، كثافة السكان. هذا أيضًا ليس له صفة التعيين أو التقرير على درجة التقدم الاجتماعي الاقتصادي وغير ذلك؛ ستالين يعقد مقارنة برهانية بين بلجيكا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. هذان العاملان، الطبيعي أو الجغرافي، والسكاني، الديمغرافي، يدخلان في ((الشروط المادية لحياة المجتمع))، لكن ليس في ((نمط الإنتاج)) نمط الإنتاج، المقولة الممتازة تشمل حصرًا مستويين أو جانبين هما: قوى الإنتاج وعاداتهم في الشغل([32]) علاقات الإنتاج أي علاقات البشر في الإنتاج، هي علاقات تعاون أو هيمنة (الطبقات الاجتماعية). وهي ترتبط بنظام الملكية، المأخوذ هنا بوصفه واقعًا موضوعيًّا. أما الأفكار والمؤسسات الحقوقية فهي تدخل في ((البنية الفوقية)) النابعة من هذا ((الأساس)) base الذي هو ((علاقات الإنتاج)).

بالمقابل، كان إنغلز، في رسالته إلى شتاركنبورغ (25/ 1/ 1894) يُدخل ((القاعدة الجغرافية)) في مفهوم ((العلاقات الاقتصادية)). وهو شيء لا يقبل به ستالين وتصنيفه. أما بليخانوف فهو يعطي للشروط الجغرافية دورًا تعيينيًا، تقريريًا على قوى وأدوات الإنتاج، شبيهًا بالدور المعطى لهذه الأخيرة على علاقات الإنتاج، وينظر، كأمثلة وبراهين، إلى مجتمعات قديمة وبدائية في المعمورة، وهو يعلل، باختلاف البيئة الجغرافية وتأثيرهأ، افتراق)) خطين في التطور)): من التنظيم الاجتماعي العشيري إلى ((المجتمع القديم antique)) في اليونان، روما أو إلى ((النظام الاجتماعي الشرقي)) في مصر، الصين، الهند، ((النمط الآسيوي للإنتاج)). هذا واضح في كتابه المسائل الأساسية للماركسية وفي مؤلفات عدة. وبليخانوف ينقل شواهد كثيرة من رأس المال تذهب في اتجاهه. بل لنذكر أن ماركس، مثلًا يلاحظ، في مكان ما من كتابه الأشهر([33]) أن وطن الرأسمال ليس ((في المنطقة المدارية، حيث النبت الغزير الزاخر)) وحيث ((طبيعة سخية معطاء تمسك الإنسان باليد كما يمسك طفل بحبل))، بل ((في المنطقة المعتدلة))، غير أن ماركس يمثّل منهجًا آخر غير منهج بليخانوف أو ستالين في النظر إلى القضية من أساساتها (الجدل، الجملة، التناقضات، تجاوز قطبيّة ((الطبيعة)) و((الإنسان)).

لقد تكلمنا عن السببية الميكانيكية: آ. سبب، ب. نتيجة، هذا المنهج يضيف بالطبع أن النتيجة تؤثر بدورها في السبب. لكنه لا يرى أنهما مأخوذان في وتحت جملة تتخطاهما، وأن مقولة السببية يجب أن توضع بتمامها تحت مقولة الترابط والفعل المتبادل … في الحاصل، إن ((آ))، أدوات الإنتاج أو ((وسائل الشغل))، عند ستالين، تبدو كأنها ((السبب الأوّل))، نوع من إله، في ((المادية التاريخية)) (فالسبب الذي ليس له سبب هو الله). بليخانوف أقرب إلى ((الوحدة)) النظرية. ((المادية)) أو الوهم المادي، وإلى وحدة ((الماديتين)) ((الجدلية والتاريخية))، مادام يحيلنا كسبب أوّلي إلى الطبيعة، الشروط الجغرافية.

إن التخفيض الجذري للشروط الجغرافية والبيئة الطبيعية، في ماركسية ستالين وزمنه، ارتبط بعملية دفن مقولة ((النمط الآسيوي للإنتاج))، وبغرض قالب التطور الخطّي الخماسي المشهور الذي لا يستند إلى أساس سوى الخلط بين نموذج نظري أو فكري (عام مجرد) عن ((المجتمع البشر)) وتاريخه وواقع العالم العياني وتاريخه([34]) (أقرب إلى الصواب أن نقول لا يوجد مجتمع أو بلد مرّ بالمراحل الأربع)، وهذا التخفيض يبدو لي، في أحد وجوهه، جزءًا من مثالية ستالين، من الإرادوية

التقدمية والثورية، من الطحش مع التاريخ، الذي يتقدّم تطوريًا وثوريًا على خط معلوم. ولنذكر مرة أخرى إن هذا الموقف ضد ((الشروط الجغرافية)) يتعارض أيضًا مع هيغل))المثالي))! ماركس، من جهته، كان أوّل تماسً له مع ما يستحق أن يسمى المادية (الشروط المادية والمذهب المادّي) وهو دروس الجغرافيا البشرية والسياسية التي حضرها في الجامعة. إنّ ((مادية)) تؤمن بـ ((المادة)) ولا تبالي كثيرًا بالشروط الجغرافية، المناخ والبيئة والإقليم، هي ((مادية)) بعيدة عن علم الاجتماع والتاريخ، أو هي مثالية ذات سياسيّة متسلحة بالاقتصادية والطبقوية: إنها تخفض البراكسيس، عمل المجتمع، إلى ((تطبيق)) للقوانين الموضوعية لعلم صراع الطبقات أو علم الاقتصاد السياسي([35]). يمكن مثلًا أن ترى الطبقات في القرية الروسية عام 1928، أي ((الفلاح الغني)) (الكولاك) و))الفلاح المتوسط)) و))الفلاح الفقير))، لكن من دون أن ترى ((الفلاح)) ذاتًا، من دون أن ترى الفلاحة la paysannerie (((الفلاحين)) مقولة مفردة، تتصوّر بسهولة أن هذا الكائن الأخير قد انقسم واختفى لصالح أقسامه بموجب التطور الراكض إلى أمام. لنذكر، من جهتنا، أن ((الفلاح)) بخلاف ((العامل المأجور))، تحيل أولًا إلى نوع عمل، هو علاقة بشر مع أرض (ومناخ وطقس وحشرات وأحجار) أو (بالفرنسية) مع بلد.

لقد دُفنت مقولة ((النمط الآسيوي للإنتاج))، لكن، رجوعًا إلى تشايلد، من المفيد أن نذكر بأن ((الماركسية الأنجلوسكسونية)) شذّت بعض الشيء عن القاعدة العامة([36]). من جهة أخرى، إن نشر مؤلفات بليخانوف، أو كتاب رأس المال ذاته، كان ((شذوذًا)) يخالف ((التطوير الستاليني المتقدم))، السائد والذي ((يزهر)) في مؤلفات متنوعة. أخيرًا، بعد ستالين، بعثت المقولة ((الآسيوية)) من جديد وبصورة حادّ. هذه الحدة ذاتها تستحضر قوة الدفن السابق. المكبوت ينفجر. هناك مبالغات ((جغرافية))، وعكسها، وهناك موافق عجز عن استرجاع فكرة الجملة))، هناك طغيان للموديلات، النماذج، هناك سحبات سياسية، وهنا لا بد لي من ملاحظة أن بعض الذين أخذوا المقولة ((الآسيوية)) و((طوروها)) شرعوا يطهرونها من قاعدتها ((الجغرافية)) – الإنتاجية الصريحة عند إنغلز وعند ماركس بصرف النظر عن أية فروق بينهما (الهند، مصر، الخ، بالمناخ، الصحراء والنهر، أي مسألة الريّ)، يوسعونها بحيث تشمل عدا عن مسألة الري الآنفة مسألة السيطرة على خطوط التجارة ..، بل يحولونها إلى ((نمط خراجي)) عام تكون الإقطاعية الغربية أحد أشكاله، ويُخفضون ((الشروط الجغرافية)) مرة أخرى، وكثيرًا ما يرتبط هذا التخفيض باليسراوية الأيديولوجية والسياسية.

هذا كله يحتاج -لا ريب- إلى تدقيق، تمييزات تفرز الخطأ والصواب، عند الرواد والتلاميذ سواء بسواء. بليخانوف مثلًا، وقد قلنا ذلك، يرتكب خطأ جغرافويًا مرموقًا (له بحسب ما أظن بعض الصلة بالمادية البليخانوفية، السبينوزية،الفويرباخية الميل([37])أو بمذهب ((الوحدانية المادية)) البليخانوفي) بالمقابل، يكفي أن نطابق بعض كراسات الإعلان الصادرة عن ((دار التقدم)) (موسكو ) التي تُعلم عن الكتب التي تصدرها الدار المذكورة، بلغات شتى، حتى نجد، في المختصرات نفسها المعطاة عن بعض هذه الكتب، تكرارًا، لم يعد يطاق للصيغ الستالينية: ((البيئة الجغرافية)) تعيق أو تسهل، تُبطِّئ أو تسرّع، لكنها ليست محددة، معينة –مقررة determinate والمقصود ((حاسمة)) decisive ضد هذه الشعبيّة والبداهية، ضد هذا التسيب اللغوي، وأيًا تكن اللغة، يجب أن نردّ للمصطلح اعتباره، وأصله. إذا كانت البيئة الجغرافية تعيينًا determination وحدًا terme فهي معينة ومحددة ومقررة، إنها تدخل في جملة المعينات. (هذه ((الجملة)) التي هي كلّ،، أو مجموع من معينات يصلح ويجب أن تعامل بوصفها عوامل: إن نضال بليخانوف ضد ((نظرية العوامل)) ملتبس). إنّ واقع أن هذه ((الطبيعة)) ثُقفت وصارت تاريخية، إنّ واقع أنها ((اختلطت)) بشيء آخر هو عمل وعمران وصنع بشري لا يعنى أنها خرجت من الكينونة. لعله يجب القول إن ((الايكونوميا)) (علم الاقتصاد) تصبح اليوم ((جزءًا)) من ((الإيكولوجيا)) (علم البيئة أو الحياة، بيئة ). مؤلفات ماركس، عالم الاقتصاد السياسي الكبير، في علم الاقتصاد تحمل جميعًا في عنوانها ذاته أو تحته عبارة ((نقد علم الاقتصاد السياسي))، ((أسس نقد الاقتصاد السياسي)). ((كل نظرية اقتصادية هي، بما أنها اقتصادية، خاطئة))، كل علم (كل ميدان) هو تجريدٌ، قبض على جانب ستالين نفسه، في مؤلفه الأخير (المسائل الاقتصادية الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، 1951) يحدد موضوع علم الاقتصاد السياسي بأنه ميدان مستوى علاقات الإنتاج، مُخرجًا منه قوى الإنتاج، التكنولوجيا، إلخ. مع أنه هو نفسه وبطبيعة الحال، في تصوره المادي للمجتمع والتاريخ، يعلل المستوى المذكور بمستوى قوى الإنتاج، يحيلنا إلى قوى الإنتاج ولا سيما أدوات الإنتاج. ليس هذا كله باطلًا، البتة، لكن يجب إذن أخذ وعي قضية المعرفة والعلم من أساسها، أخذ وعي مبدأ التجريد والعزل، أخذ قياس المستوى أو الجانب. ليس من حكم مطلق يحسم قضية ((حسية)) أو ((تقريرية)) الأدوات أو الشروط الطبيعية البيئية أو أي شيء آخر في تطور الإنسان وتاريخه([38]).

الماركسية كلها شددت، بحق، في نظرتها العامة إلى التاريخ، على أدوات الإنتاج، وسائل الشغل. وكذلك الفكر العالمي، وتعليم التاريخ بخطوطه الأعرض: ((ما قبل التاريخ)) والتاريخ: العصر الحجري القديم وأقسامه الزمنية الطويلة، الجديد وأقسامه، وبينهما الوسيط، ثم الحجري القديم وأقسامه الزمنية الطويلة، الجديد وأقسامه، وبينهما الوسيط، ثم الحجري، النحاسي والنحاسي، ثم عصر البرونز (والحضارات الكبرى في الشرق الأدنى)، ثم عصر الحديد (بدءًا من حوالي منتصف الألف الثاني ق. م. أو بعد ذلك)، ثم الآلة البخارية والثورة الصناعية، النفط والكهرباء والسيارة الخٍ، وعصر الذرة.

هذا الإبراز لا يعني أننا نعطي الأوّلية للإدارة والآلة، بلا حيثيات وخارج التعيين. أية أولية؟ أولية على ماذا ؟ في إطار ماذا؟

الآلة البخارية لها أوّلية، الثورة الصناعية (بحصر المعنى، بدءًا من نهاية القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر وحتى أيامنا) انقلاب كبير جدًا، شامل، لكن أليس ((قبلهما)) أو (دونهما)) شيء؟ مثلًا ثورة ((ثقافية))([39])، ومثلًا ثورة زراعية([40]) (تقدم تكنولوجي زراعي متراكم يبدأ في هولندة وألمانيا ويكتمل في إنكلترا)، ومثلًا طبقة برجوازية ومجتمع برجوازي وجملة اجتماعية بشرية؟ أليس انتشار الاختراع المعيّن والثوري، مثلًا المطبعة (ق15)،أليس تابعًا لشيء اجتماعي وثقافي؟ ذيوع المطابع وكثرة الكتب في أوروبا الغربية والوسطى منذ سنة 1500 مثلًا (عدد كبير من العناوين المتنوعة)، هذا يجعلنا نقول: المجتمع كان على موعد([41]) والاختراع نفسه بوصفه اختراعًا أليس له ((أسباب، في مستوى الأفراد المخترعين وفي مستوى البيئة المحيطة، التي هي دومًا بيئة اجتماعية بشرية؟ والاختراع يعيدنا بالتأكيد إلى مقولة الروح، الفكر، ((النفسيّ)) le psychique الذي يقابل، في مفردات لينين، ((الفيزيقي)) le physique ([42])

إن قراءة كتاب رأس المال، وصفحات أولية محددة من هذا الكتاب الأشهر، صفحات عديدة ومتنوعة، فلسفية، تاريخية، تجعلني أقول إن الماركسية السائدة تخالف ماركس في الاتجاهين معًا، ((المادي)) و((المثالي))، إن صحّ المصطلحان، قصدتُ: ضدّ الطبيعة و((الجغرافيا)) وضد الروح.

والقضية كلها تنحدر أكثر عند الماركسي المتوسط، والقارئ المتوسط لكتاب ستالين الأشهر أو لكتب لا حصر لها تنسج على منواله ومعظمها دون مستواه: في مقولات ستالين عن مجتمع المادية التاريخية وبالأصح عن المجموع الذي هو ((شروط الحياة المادية)) في هذا البناء الواحد، الأداة هي الأكثر رسوخًا في ذهن القارئ فهي الأكثر ((مادية))، أما ((نمط)) أو ((أسلوب)) mode (نمط الإنتاج، علاقات، علاقات الإنتاج، خبرة وعادات، خبرة إنتاج وعادات شغل)، وكلها مشددة عند ستالين، فهي ليست أشياء (ولنقل: لا صلة لها، ظاهرًا، بـ ((المادة)) في مفهومها ((الفيزيائي)) و((الفلسفي))، لا فرق([43]) وكذلك يرسخ ((البشر))، المنتجون والمكافحون (لكن من دون الديموغرافيا، ومع عدم ملاحظة القارئ التجريد الذي أخذ هنا وأكدّ خبرة الإنتاج وعادات الشغل، وحذف الإيديولوجيا والسياسة والطبقات أي عدم ملاحظة لفكرة المقولات والعمل بالمفهومات، وعدم ملاحظة أن الشغل عقل ومنطق….) فهم ماديون، وكذلك ((الطبقات)) فهي محسوسة ومادية وهي كائنات أزلية (الفلاح كائن وينتقل من مجتمع إلى مجتمع، من ((إطار)) إلى آخر، في النظام الإقطاعي إلى الرأسمالي الاشتراكي، كذلك العامل هو هو، وكذلك عند الحدّ الأخير والذائع الشهرة، الجماهير الكادحة برمتها وعلى امتداد التاريخ…) أما ((الشروط الجغرافية، المادية جدًا (الشمس والغيم والمطر والبحر والسهل والجبل وربما الزيتون والنخيل ..) فقد جرى تبديدها الفاتح. وتتثبت ((الأداة)) في الذاكرة بفضل صيغة فرانكلين وماركس وستالين: الإنسان حيوان صانع أداة شغل)) ANIMAL IS A TOOL MAKING بل يمكن أن ينسى قارئ النص المذكور أن ((استخدام وخلق وسائل الشغل الأدوات موجود، كبذرة أو جنينيًا، عند بعض الأنواع الحيوانية)).

في الماركسية، الإنسان قائم إزاء الطبيعة (سيد عليها ومالك لها) والإنسان جزء من الطبيعة، الإنسان طبيعة عامة وخاصة، نوعية (صناعة، ثقافة، عمران، تاريخ). واليوم ثمة استرجاع، في الماركسية العالمية، لمقولة الطبيعة([44]).

أخيرًا لا بدّ من التوقف عند مقالة إنغلز الكلاسيكية (المنشورة مرارًا باللغة العربية): ((دور الشغل أو العمل في تحو ل القرد إلى إنسان))، الفائقة الأهمية والراهنية. أجل، من الضروري ((تغيير)) القسم الأخير من هذا العنوان، تدقيقًا يتفق مع المعرفة العلمية الحاضرة ومع الاصطلاح العلمي. الإنسان الحاضر واحد من الرئيسيات PRIMATES وهو، داخل الرئيسات، نوع واحد وحيد وجنس وحيد في فصيلة هي الـ HOMINIDES (البشريات).

والقردة الأقرب له والمسماة ((قردة شبيهة بالإنسان)) هي ثلاثة أجناس مختلفة (غوريلا، شمبانزة، أورانغ أو نانغ) في فصيلة أخرى هي الPONGIDES ولهاتين الفصيلتين، وهما الأحداث أرومة مشتركة علميًا، لا يمكن التكلم عن تحول ينقل من القرد إلى الإنسان. والشجرة هي ((الرئيسيات)) لا ((القردة))([45]) غير أن هذا الخطأ، أو غيره في متن النص، ليس هو الشيء المهم. ونظريًا أي علميًا، يمكن (ويجب) التكلم عن تحول ينقل من))الحيوان)) إلى الإنسان، أي الحيوان ((الصانع))، ((العاقل))، ((الفاعل))و))العارف)): وهذا موضوع إنغلز وقضية ونشوء الإنسان)) يصبّ في الراهن.

مقالة إنغلز تنتهي، بأمثلة ضاربة، على معاينة افتراق الأهداف والنتائج أي أي على إشكالية العمل الإنساني بوصفه فاعلية غائية، ((تيليولوجية)) (بحسب ما يقول لوكاتش)([46]) مع ظهور العمل الإنساني، يظهر ((الهدف وفعله في الدنيا. الإنسان،النوع يبني بيتًا يصنع حذاء قطارًا يزرع ويتوسع في زراعنه، ينشئ معامل ومصانع، يحقق (يوقعن) هدفه الذاتي: هذا في المدى المباشر والقريب في المستوى الفردي أو شبه الفردي. في مدى أكبر، ليس الأمر كذلك بتاتًا. النتائج البعيدة تتخطى الأهداف، المفعول ليس المقصود، العالم الناتج غير ما أريد. ما أراده صاحب العمل أو صاحب المشروع هو ((أصغر)) من أو مخالف وربما معاكس لـ عالم الحصول أو الوقوع. يقول إنغلز في نهاية مقاله: ((حين تعلم العرب تقطير الكحول، لم تكن قد اكتُشفت بعد.وحين اكتشف كريستوف كولومب أميركا، لم يكن يعلم أنه، بعمله هذا، كان يُرجع إلى الحياة نظام الرق الذي كان قد اندثر في أوروبا منذ زمن طويل، ويرسي قواعد نخاسة الزنوج والرجال الذين كانوا، في القرنين 17، 18، يعملون على تحقيق الآلة البخارية، لم يكونوا يفكرون بأنهم يخلقون الأداة التي، أكثر من أية أداة أخرى ستقلب النظام الاجتماعي في العالم بأسره، وخاصة في أوروبا، بتركيزها الثروة في جهة الأقلية والعري في جهة الغالبية العظمى)).

لئن كان ثمة من قيمة ومعنى لأوصاف المادية والموضوعية والواقعية التي يملها ((التصور المادي للتاريخ)) فهي هنا‍ إن هذا الافتراق بين الأهداف والنتائج، بين الوعي والواقع، هو الذي يفصل التصور المادي عن التصور المثالي للتاريخ. التاريخ ليس ابن الوعي بالمعنى الآنف. هنا الفاصل ليس عند المنفعة /و/ التطلع والاستباق. بل الماركسية الصاحية ضد تلك ومع هذين، وذلك بحكم تطلعها ومشروعها الثوري الشامل وبحكم نظرتها إلى الواقع والتاريخ كمنطق. بل وإن ((المنفعة)) تلك تابعة للذاتوية والمثالية([47]).

ولنتابع قراءتنا لخاتمة مقالة إنغلز ((كل أنماط الإنتاج السابقة لم ترم إلا إلى بلوغ النتيجة النافعة الأقرب، الأكثر مباشرية، للعمل، الشغل. كانوا يتركون جانبًا بالتمام العواقب البعيدة تلك العواقب التي لا تتدخل إلا فيما بعد، التي لا تدخل في اللعب إلا بنتيجة التكرار والتراكم المتدرجين ـ[…..] الغارسون الإسبان في كوبا الذين أحرقوا الغابات على المنحدرات، ووجدوا في الرماد ما يكفي من السماد لجيل واحد من أشجار البن المربحة جدًا، في ماذا كان يهمهم أن تجرف الأمطار المدارية فيما بعد، طبقة الترب السطحية التي باتت بلا حماية، تاركة وراءها الصخور الجرداء وحسب؟ إزاء الطبيعة وإزاء المجتمع، إنهم لا يعدون بشكل رئيسي، في نمط الإنتاج الراهن، سوى النتيجة الأقرب، الأكثر ملموسية، ومن ثم يندهشون لكون العواقب البعيدة للأفعال الرامية إلى هذه النتيجة المباشرة شيئًا آخر تمامًا، ومعاكسًا بالتمام في الغالب، يندهشون لكون تناغم العرض والطلب يتحول إلى ضده القطبي كما يبين لنا سير كل دورة صناعية عشرية، وكما أخذت ألمانيا عن ذلك طعمًا أوّل صغيرًا مع الانهيار الأخير [ المقصود أزمة 1873،74] يندهشون لكون الملكية الخاصة المرتكزة على الشغل الشخصي تطورت بالضرورة نحو غياب الملكية للشغيلة بينما يتركز كل امتلاك أكثر فأكثر في أيدي غير الشغيلة، ويندهشون لكون….

هنا تنتهي مخطوطة إنغلز: هذه المقالة جزء من مجموعة جدل الطبيعة، حيث لها، في مدخل هذا الكتاب الكبير، صفحة موازية أو بالأصح صفحتان، مقطعان مهمان، نأخذ من نهايتهما ما يلي: ((وحدة تنظيم واع للإنتاج الاجتماعي، يكون فيه الإنتاج والتوزيع خاضعين لخطة، يمكن أن يرفع البشر فوق العالم الحيواني من وجهة النظر الاجتماعية مثلما الإنتاج نفسه رفعهم كنوع. إن التطور التاريخي يجعل تنظيمًا كهذا أكثر ضرورة يومًا بعد يوم، لكن أيضًا أكثر قابلية للتحقيق)).

لنقل: هذا أحد ((تعريفات)) المشروع الثوري عند ماركس وإنغلز. وهو وثيق الارتباط بكل تصورهما للطبيعة والإنسان والتاريخ. إنغلز ذهب، في مقالته وفي القسم الموازي على أساس مسألية العمل الإنساني في التاريخ (سيطرة وعدم سيطرة البشرية على نتائج أفعالها). باختصار، في ضوء المقطع الأخير الذي نقلناه: من الإنسان، النوع إلى الإنسان، المجتمع أو الجماعة. بين الاثنين، التاريخ أنجب ((المجتمع المدني)): هذا ما يمكن قوله في ضوء أطروحات ماركس عن فويرباخ … تلك مسائل لا تنال حظوة في ماركسية ستالين (ولا في ماركسية كثيرين غيره. ألتوسير يلغي ((الهدف)) من تعريفه لـ ((الممارسة)) أو ((العمل ((LA PRATIQUE ويلغي ((المجتمع المدني)) كمفهوم غير ((إجرائي)) إلخ. كتاب ((المادية الجدلية والمادية التاريخية)) لا يتعامل مع قضية من نوع ((نشوء الإنسان). في ماركسية ستالين، هذا ((الانتقال)) صعب، أما إلغاء ((النمط الآسيوي للإنتاج)) فهو يعزز مقولات وأطروحات ((المادية التاريخية)): إخراج البيئة الطبيعية والديمغرافيا خارج ((نمط الإنتاج)) وخارج ((قوى الإنتاج))، وخارج قضية التعيين والحسم.

الصالح والطالح يتداخلان. ليست البيئة الطبيعية أداة نتاج، ولا فائدة من إدخالها في وتحت ((قوى الإنتاج)). يمكن أن تكون ((أكثر)) من ذلك أيضًا. موقف ستالين مناسب لـ ((تاريخ أوروبا)) خلال الحقب التاريخية (شرط ((رد الاعتبارٍ)) لفكرة الإنتاج نفسها، إذن وبالتالي للأرض والسكان. ونحن بحاجة اليوم، وعالميًا، إلى ما هو ((أكبر))، مكانًا وزمانًا ومنطقًا.

وكتاب ((القرى الأولى)) من أفضل الكتب التي تلبي هذه الحاجة. نضعه بين يدي القارئ، راجين أن يكون موضع دراسة متأنية ومثارًا لمناقشات مجدية. ومن أجل ذلك فإن أفضل ما ننهي به هذه المقدمة هو فقرتان من كلام كوفان.

الأولى، في الفصل الأول، وتقول: ((إن الأهمية الخاصة التي ترتديها عملية التحضر والقرى الأولى تنبع من حقيقة أنها تعرض بداية ذلك التحويل للطبيعة على يد الإنسان، الذي يكف عن كونه نوعًا قانصًا بين أنواع أخرى ويستولي آنذاك على دوره النوعي كبستاني للعالم، صائرًا بذلك، كما يقول ديكارت، ((سيده ومالكه)).

الثانية: خاتمة الكتاب: ((في العالم الحاضر، حيث شرعت أيديولوجيات فائقة الحرص على الاضطلاع بالحاجات الأكثر عيانية لمجتمعنا تتساءل عن الطبيعة الحقيقية لهذه الحاجات، وحيث جاءت اتجاهات أخرى أكثر جذرية أيضًا لتنادي بـ ((ثقافة، مضادة ردًا على تناقضات اقتصاد غازٍ مكتسح، قدلا تكون هذه التأملات القليلة، المستوحاة من ماض بعيد، بعيدة عن الراهن)).

  1. () الجذر الروحي- الفكري البدهي، إلا وهو الاعتراف بالتاريخ بوصفه دراما وتقدمًا، مفقودًا، على الرغم من وضوحه في دين الإله الواحد، عقيدة خلق (العالم) والإنسان، طبيعته وقدره وقدره (في القرآن، أو في سفر التكوين).
  2. () في هذا الصدد، يجد القارئ وجهات نظر متخالفة (عبد السلام بو منجل، جان بول شارني، محمد العلوي العبد اللاوي، وكاتب هذه السطور) في ندوة ((حوار الحضارات))، مجلة الوحدة، باريس، ديسمبر 1984).
  3. () كل عمل إنساني، بما أنه محدد، هو عملية عزل وقطع. بل إن العمل النظري والعلمي يفرض هذه العملية (مفاهيم ! مقولات!) كمبدأ، لكنه يجب أن يكون واقعيا/ً بالتمام. ((التحسين)) الذي نوهنا عنه لا يتعدى التأكيد على أن ب برد الفعل، تؤثر أو تفعل بدورها على آ. ما يلغى هو فكرة الجملة، فكرة الدائرة، فكرة الكائن الحي. حسب كانط وهيغل وإنغلز، في الكائي الحي، إن كل الأشياء (العمليات، الأعضاء الخ) هي، بعضها لبعض، وسيلة وغاية! إن واحدًا من أهم مفهومات الديالكتيك هو مفهوم ((الغاية الداخلية)).
  4. () والميكروليت: حجر صغير، شظية، من الخطأ الهرب من المصطلحات الأجنبية. سابقًا، قال العرب: فيزياء، فلسفة، ميتافيزياء، جيولوجيا، بيولوجيا… بالطبع، عدا ذلك، لدينا منجم كبير في جدول مزيدات الفعل الثلاثي ومشتقاتها. هذا المنجم يمكن أن تأخذ منه ما يلزم لشتى الميادين وأن نقيم مصطلحات العلم والعلوم، نهائيًا مع دفع الالتباس، وأن نعتمد بصورة خاصة الصيغ الطويلة وغير المألوفة. هذا عمل لأكاديمية كبيرة مدعومة بالعمل الطبيعي لعشرات الآلاف من المفكرين أو المثقفين.
  5. () المفرد اللغوي يؤكد الطابع المفهومي في كلمات فرنسية ك populatiojn و outillage ( = سكان شعب، جماعة: مقولة علم الإحصاء وعلم الديموغرافيا )، paaysannege (= الفلاحون)، artisanart (= الحرفيون أو الحرافة) إلخ. هذا التصرف اللغوي يؤكد كيانية تتخطى الكائن الفرد (الجسم المفرد المرئي،)، وهي كيانية حقيقية وليست محض مجموع لكائنات (أشياء) مفردة.
  6. () mobilier (= متحرك، قابل للنقل، مبدئيًا). وهو أثاث نافع، وظيفي، يلبي حاجة عملية وحياتية. ليس زينة حضارية ملتبسة في أيامنا.
  7. () دار المجد، دمشق، 1984 (السعر 50 ل.س).
  8. () ((الوحدة الحضارية)) تعزيز نافل. يكفي أن أقول ((بلاد الشام)) أو (بالفرنسية) ((سورية فلسطين)) حتى أكون أشرت إلى وحدة، إلى كيان، قبضت على مقولة، أعطيت اسما/ً. تضييع ((القرى الأولى)) خسارة فادحة، طيران ((حضاري)).((بين)) = تسيب الخ. أما الألف الثامن بدلًا من الألف السابع فهو محال.
  9. () مؤلفات الأول عناوينها: الإنسان والمادة، البيئة والتقنيات، أديان ما قبل التاريخ. الثانية لها بحثان في دراسة غبار الطلع في سوريا شبه الصحراوية وفي شانيدار وزاوي شيمي، صدرا في مجلتين. يبدو الأمر وكأن الأستاذ طوير حظي بالتعرف على الباحثة أرليت. أجل، إن التعرف على الناس مفيد.لكن القراءة ضرورية، ومعرفة بعض أساسيات العلم والثقافة ضرورية. على كل حال لا بد من شكره على المعلومة:((arl)) هي arlitta.
  10. () جدولان زمنيان أساسيان في نهاية الكتاب.
  11. () طوير يستغني، وبلا أي حرج. الناتج : محال، لا فهم، لا قيمة.
  12. () بخلاف ترجمة طرير، قاعدة عامة، في النقاط المذكورة جميعها.
  13. () الباليوليتي ينقسم بشكل أوّلي إلى أدنى (يمتد على جليديات ومابين جليديات) ثم أوسط ثم أعلى. بعد ذلك، يأتي الميزوليتي ثم النيوليتي. من غير الممكن أن نحدد في نص طوير أيّهما أوهى عنده المقولات التاريخية أم الجغرافية؟ المقولات قطعات، فصلات. وهي هنا (زمان، مكانن) في شكلها الأبسط. هذا بعيد عن ((المعّرب)).
  14. () أخطاء طوير الرئيسة ليست في مفردات عادية أو مصطلحات علمية من الصعب إحصاؤها. إنها في الجمل في المقاطع، في الاستغناء عن مفهومات مركزية، في التسيب ((الأدبي)) العام)). مع ذلك بصدد مشكلة توقفنا عندها، لا بأس من الإشارة إلى أن الخيليات والأيليات والبقريات إلخ تتحول عند طوير، بكل راحة إلى خيول وأيائل وأبقار. إن لغة طوير تلغي المنطق (العمودية، التراتب)، والمكان، والزمان.
  15. () إذًا، ((الجسر)) مقولة ((مادية)) جدًا، لكن ((في الرأس)). إن الذاتوية تفرض حط الواقع إلى ((مادة)) جاهزة للملاعبة أو التحريك، وهي في أحسن حال تفرض حط الواقع إلى ((آلة)) ملكت الذات قوانينها وجعلت عملها السياسي تطبيقًا للقوانين، المزعومة. الفلسفة الماركسية تكف عن كونها طريقة من أجل رؤية واقع، حالة، جملة، شيء جديد لم يقل من قبل.
  16. () بحكم العنوان ((الجدلية، التاريخية)) (الإنسان مجتمعًا وتاريخًا)، غير ((المادوية المبتذلة))، أو ((الميكانيكية)) والفيزيولوجية والفيزيائية، التي تستطيع هي أن تقول ((المخ يُفرز الفكر مثلما الكبد يُفرز الصفراء))، و((الفكر مادة))، أو ((الفكر غير موجود))، إلخ. وهذا كله لا يمكن أن يقول به ستالين. إنه لا يقع فيه بتاتًا. لكن هذا معناه: فكرة ((التطبيق)) خاطئة، باطلة، وكذلك كل ما يترتب عليها. وإن زعم ستالين أنه يشتق علاقة ((المادية الفلسفية))، إنه يشتق علاقة قائمة ضمن ((المجتمع)) من علاقة قائمة ضمن ((الطبيعة، زعم باطل بالأساس وبالتمام. من بداية كتابه، ستالين ألغى فكرة الواقع، أحل محلها اقنومي الطبيعة والمجتمع، ألغى ثلاثية الفكر والواقع والعمل، تعامل مع الأشياء من حولنا وكأنها ((طبيعة)) (!!)، في حين إن الأشياء من حولنا، في حين أن الكراسي والطاولات والشوارع والبيوت والمدن والحقول والأنواع الحية وغير ذلك، هي جميعًا منتجات الشغل البشري، هي جميعًا أهداف توضعت أهداف صارت أغراضًا مادية. ستالين ألغى مقولات الفعل، العمل، الشغل، أي المقولات البسيطة والحاسمة.
  17. () مخالف للحالة القائمة ومتقدّم عليها ومناقض لها. الاشتراكية عند ماركس ليست صورة لواقع حاضر، ليست انعكاسًا لوجود يكون الاشتراكية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال عن مذهب قائم على إعلان وجوب ((تغير العالم)) تحويل العالم)). إن قوام المادياينة الستالينية وسواها هو لفلفة هذه الحقيقة البسيطة، طيّها من البداية، ثم تضخيم ((الوعي الثوري)) ونفخ الحزب. المادايانية تتحوّل إلى نقيضها.لكن هذه المثالية العادية بابسط وأسوأ معنى.
  18. () الفصل السابع، الفقرة 1، إنتاج القيم الاستعمالية.
  19. () الفصل الرابع، الطابع الصنميّ (التميميّ) للسلعة وسرّه. المقطع يبدأ بـ: ((العالم الديني انعكاس العالم الواقعي..)) لنذكر أيضًا قول إنغلز الشاب وماركس الشاب. ((آدم سميث لوثر الاقتصاد السياسي))، وفي 1857 (المدخل)، يستأنف ماركس (من دون التشبيه الآنف) الاشكالية المعنية: آدم سميث وعلم الاقتصاد السياسي، الشغل كمجرّد عام، ك((محض فاعلية ذاتية)). في كتاب رأس المال، يستعمل العبارة اللوثرية الألمانية ((المحسوس، الفوق المحسوس))، التي استغنت عنها الترجمة الفرنسية وسواها. نظر المقال المهم الذي كتبه جاك دونت D HANDT في مجلة LA PENSEE (سنة 1981) وعنوانه: ((اختفاء الأشياء في مادية ماركس)). إن لوسيان سيف SEVE في كتابه مدخل إلى الفلسفة الماركسية يعدّ، إن صحّ التعبير، لائحة بالتشويه والتزوير اللذين أصابا الترجمة الفرنسية لكتاب رأس المال، وهي تشويهات في الاتجاه الوضعاني.
  20. () أرنست بلوخ، فلسفة عصر النهضة، (دار الحقيقة، ببيروت)
  21. () قصدنا أعلاه كتاب برغسون الفكر والمتحرّك. انظر أيضًا كتابه الطاقة الروحية. عن معنى ((الوعي والشعور)) البرغسوني، نذكر بصورة خاصة كتابه الأول ((المعطيات المباشرة للCOJNSCIENCE (وعي؟ شعور) لنقل مباشرة إن الوعي ليس معطى مباشرًا وإن الوعي والوجدان (بمعنى أوسع) لا ينحل في مباشر (وأنه توجد عند الإنسان مشاعر كثيرة غير التي تستهوي برغسون). إن عملية ((السيكلجة)) هي من أهم وأشهر عمليات الفلسفة البرجوازية في القرن العشرين، وهي موجهة ضد الفلسفة الكلاسيكية الكبرى وضد هيغل والماركسية. أجل، إنها في أحد وجوهها ردّ فعل ضد إهمال العاطفة والشعور والحدس والحلم و هؤلاءكلهم ((الأقارب الفقراء)) للعقل والفهم والمحاكمة والبرهنة من جانب العقلانية الكلاسيكية. لكن ردّ الفعل هذا يتعامل مع هيغل ومقولة العقل الهيغلية VERNUNFT بالتجاهل، ويطرح نفسه مكمّلًا للعقل الوضعوي والميكانيكي، في عملية توزّع للصلاحيات وتضافر في البراغماتيات. هذا((نقيض)) الماركسيتة وكل مسندها الفلسفي والإنساني.
  22. () بخصوص الانعكاس، إن هذا المفهوم reflet يتعرض حاليًا للهجوم من أوساط ماركسية، بسبب علاقته بالمرآة. بينما يردّ بعض الماركسيين بأنه مفهوم فلسفي مجّرد وعام، على الرغم من أصله الحسي المذكور شأنه شأن معظم المفهومات (المصطلحات) العلمية والفلسفية. هذا صحيح. لكنني من جهتي أؤيد الانعكاس وأؤيد المرآة، أيضًا وبالضبط، وأضيف مصطلح speculation (المضاربة الفكرية، التأمل النظري الكبير، هيغل بصورة خاصة) الذي هو نفسه يحيل على المرآة. (speculum اللاتينية= مرآة). إن المثل الأعلى للعمل الفكري هو المرآتان معًا، وحدة المرآة. مآل الفكر هو الصورة والصورة هي الشكل الأخير، أرسطويًا. مسار الفكر (فاعل المعرفة) هو الإنشاء، بناء اللوحة (الجملة الحيّة المفردة). المعرفة فعلُ، فاعله (ذاته، حامله) الفكر. إنه إعادة إنتاج.الماديانية تلغي الإنتاج، هيغل يؤكده. ماركس يؤكد: إعادة إنتاج reproduction.
  23. () جاك كوفان والآثاريون عندنا، ماريو ليفراني والأوغاريتيون عندنا إلخ، هذا مؤلم مؤلم! بين جملة أمور، إن الذين عندنا لا يعرفون ماركس، إذًا ما شأن ماركس بسوريا القديمة؟!!العرب هم اليوم موضوع لعلم وعلوم، أقصد لفكر فلسفي علمي موضوعه الإنسان ومصائره وأقداره، ومنطقه العرب.وأستطيع التأكيد: نحن خارج هذا العلم، خارج هذا الفكر، هذا الاستفهام، هذا الانضباط.
  24. () التفوق الكمّي، في ((المادية الجدلية))، هو لِـ ((الطبيعة)) في صيغة الموصوف. لكن المادّة في صيفة الصفة، ماديةmateriel تتعدى على ((الطبيعة))، وعلى ((الكينونة)) أو ((الكائن)) etre، وعلى عنوان المذهب أصلًا (حيث تصير موصوفًا. materialisme، وتُسَلطن. بالطبع، المادة ((أسهل)) من الطبيعة!؟ لكنها بالضبط تختلف عنها جوهريًا ولا يمكن أن تؤدي دورها ووظيفتها في المعرفة، ولا دور مقولة الكينونة أو العالم إلخ.
  25. () وفي ((المراحل الأولى)) من تاريخ الإنسان، قتل الأولاد وأكل لحوم البشر.
  26. () إن من أهم مساوئ وأضرار كتاب ستالين أنه ألغى كلية مفهوم العلاقة، وحصر مصطلح العلاقة في ((علاقات الإنتاج))، (مسألة الطبقات).
  27. () ولا أشك في الصواب المبدئي لأي منهما ولا في أهمية وحيوية أي منهما! ((الماركسية الوضعوية)) تلفلف القضية الأولى، تطوي العلاقة الإيجابية بين العلم و((ما قبل العلمية))، تطلق على الثانية (ما قبل العلمية) صفة ((الأيديولوجية)) الملتبسة جدًا هنا، وتفعل ذلك بترفع وازدراء، نافخة العلم science والعلمية بلا مبرر. جاك كوفان مناهض لهذه الوضعانية. حملته عليها مبررة تمامًا، ضرورية بشكل مطلق.
  28. () ميرسيا إيلياد. كتابه تاريخ الأديان صدر مؤخرًا بالعربية، 3 أجزاء، ترجمه عبد الهادي عباس.
  29. () بعض مؤلفات غوردون تشايلد – إن لم تخني الذاكرة – ترجمت إلى العربية وصدرت قبل حوالي عشرين سنة (في بيروت). هذا العالم (الأوسترالي) أبرز عددًا من المناطق (الشرق الأدنى، برقة، إلخ..) وأبرز دور الهجرات، الحاملة والناقلة لعناصر الجديد. هذا مهم جدًا. أنظر أيضًا كتاب بلتيه وغوبلو، المادية التاريخية الحضارات، دار الحقيقة، وكتاب كارلو شيبولا، التاريخ الاقتصادي لسكان العالم.
  30. () مصطلح لينين في مقابل ((الطبيعة)) بحصر المعنى، بوصفهما شكلين اثنين لـ ((السيرورة الموضوعية)) (في ((خلاصة منطق هيغل)): ((شكلان للسيرورة الموضوعية: 1- الطبيعة. 2- فاعلية الإنسان الذي اتخذ لذاته هدفًا)).
  31. () ستالين استبعد المقولاات والمصطلحات: تقنية (مصطلح إنغلز) أيضًا تنظيم، تعاون، إدارة.فضل قدر الإمكان المقولات ذات الشحنة المادية ! أخذ ((التعاون)) تحت مقولة علاقات الإنتاج كنقيض للهيمنة. وخص ((العلاقة)) بهذه المقولة أيضًا. وهذا باطل. لا إنتاج بدون فكرة العلاقة وبدون فكرة تواصل. المجتمع ليس بديهية مسبقة، ليس أقنومًا، ((جوهرًا)) إنه هو نفسه نتاج.
  32. () الفصل السادس عشر: ((فضل القيمة المطلق وفضل القيمة النسبي)).
  33. () الخلط المذكور بين ما يمكن أن ندعوه مفهوم التاريخ وواقع التاريخ يترابط مع إهمال ((الشروط الجغرافية)) المعيّنة و))العلاقات الأممية)) (أي بين الأمم، الشعوب، القبائل) مع أنمهما وجهان بارزان في كل تصوّر ماركس بدءًا من كتاب الإيديولوجيا الألمانية.
  34. () نذكر أن ((علاقات الإنتاج)) هي موضوع علم الاقتصاد السياسي أو على الأقل محوره. و))الاقتصادية)) تضخيم لهذا المستوى المجردٍ، إهمال للسياسة والإيديولوجيا ومسألة الأمم والقوميات، طبقوية عمالوية أو كدحاوية عامة جامحة إلى أمام تؤمن بأن ((الماضي)) (مثلًا المسألة الديمقراطية في 1902 أو المسألة القومية في 1915 16) قد مضى. هذا مفهومها اللينيني في 1902، ثم في 1916، وهو مغاير لمفهومها عند ماركسيي الغرب في أيامنا الذين يواجهون مسائل من نوع آخر. يمكن أن نميز اقتصادوية إنتاج واستهلاك فكرة التجريد ومعنى التجريد. ولنقل بوحي من فويرباخ: في بداية مسيرة المعرفة ليس لدينا سوى الوجود إزاء الفكر، الاختلاف إزاء الهوية. هكذا البداية، المنطلق، بل لنقل لحظة الصفر الفائقة الأهمية. الوجود (أي الوجود خارج الرأس) = الاختلاف، التباين. وفي منطلق التاريخ: الطبيعة متخالفة، الأرض متباينة. وإلا فنحن خارج الواقع. أيضًا: العالم = عالم مجتمعات مختلفة، عالم أمم الخ. عند ستالين: العالم = المجتمع، واقع الشيء = مفهوم الشيء.
  35. () بالم داط palm dutt في بداية كتاب له عن الهند، يذكر بمقالات ماركس عن الهند 1853، وينقل بعض الشواهد منها. وهذا الموقف من جانب الشيوعي البريطاني الأشهر يبدو في جينه (أوائل الخمسينات) ناشزًا.
  36. () ((طبيعة)) و))مادية)) سبينوزا، ((طبيعة)) و))إنسان)) فوير باخ. زغم ويزغم كثيرون أن ماديانية ماركس هي ماديانية فويرباخ، وهذا باطل، إن ما ياخذه ماركس وأخيرًا لينين على مادياني فويرباخ ليس ((البناءات العليا المثالية)) عن الدين والأخلاق والحب، بل طبيعانية فويرباخ وأنتروبولوجيته ومحسوسيته الخ. ولقد أشر لينين جيدًا على قصور المبدأ الطبيعاني والمبدأ الإنسانوي عند فويرباخ وعند تشرنيشفسكي. عند ماركس الجوهر الإنساني يحيل على جملة العلاقات الاجتماعية. هنا جدلانية ماركس وماديانية ماركس. الخلاف هو على ((الواقع))، ما هو الواقع؟
  37. () هذا ما يتعارض ويتنافى مع ماركسية ستالين ومع كتابه الأخير، مع قانون ((التوافق الضروري بين كذا وكذا))، أي مع إعلان ستالين، ضد كل واقع، إن ثورة 1917 الروسية نبعت من وجوب إقامة التوافق بين علاقات الإنتاج المتأخرة وقوى الإنتاج المتقدمة.
  38. () انظر كارلو شيبولا، ((التاريخ الاقتصادي لسكان العالم)).
  39. () انظر بول بايروك، مأزق العالم الثالث، دار الحقيقة.
  40. () انظر ميشيل دوفيز، أوروبا والعالم في نهاية القرن الثامن عشر، دار الحقيقة (موضوع تركيا العثمانية).
  41. () في الوقت الحاضر، ثمة انقلاب في الفلسفة السوفياتية والعلم السوفياتي، لعل أبرز ما فيه التأكيد وعلى الفكر = الاختراع، أو على الوعي= الفكر الإنساني، المستقبلي الخ.
  42. () بل لنلاحظ أن ستالين أدخل، بحق، معرفة صنع الأدوات وعلم استخدامها تحت مقولة قوى الإنتاج، إذن تحت مقولة أسلوب الإنتاج ومقولة ((شروط الحياة المادية)). لكن هل يوجد قراء كثيرون قرأوا ذلك، توقفوا عنده؟ بالطبع، إن هذا الإدخال، الصحيح والبدهي، يتناقض مع مذهب ستالين، يكشف بطلانه الأساسي. شروط الحياة المادية غير المادّة والمادي. المصانع ودور العبادة كلاهما مادّي ومحسوس بالتساوي.
  43. () إيريك فروم، مجلة الفكر LA PENSEE العدد 211 نيسان 1980، وكتاب الفرنسي جيرار روليه RAULET عن إرنست بلوخ، أنسنة الطبيعة، طبعنة الإنسان.
  44. () – وهذه ((الشجرة)) التي هي ذاتها فرع من اللبونات، تضم إلى جانب البشريات والقردة (برتبها وفصائلها)، ((الليموريين)) وهم دون القردة ((أشباه قردة)) أو ((قردة زائفة)).
  45. () في ((المحاورات مع الأساتذة الألمان))، دار الطليقة لقد ذكرنا أن ترجمة رأس المال إلى الفرنسية انطوت على تشويهات وأنها تشويهات في اتجاه محدد وضعاني. المترجم لم يتحمل ما اعتبره ويعده آخرون في عصرنا لاهوتية ماركس ومثالية ماركس. لنذكر أن التشويه أصاب الشغل، عملية الشغل، حيث أحل مصطلح ((الحد الأخير)) محل مصطلح ((الهدف))‍‍.
  46. () هنا، تتبدّى أهمية هيغل، ((العقل))، ((مكر العقل مكر الله)). هذه الفكرة هي مصدر وأساس كل التصور المادياني الماركسي للتاريخ ضد شتى الذاتويات والمنفعيات.

 

مشاركة:

Facebook
X
LinkedIn

Author

احصل على آخر التحديثات

تابع رسائلنا الاسبوعية