من أجل قاموس دلالي ـ تاريخي أريد الاستعانة بأساتذة اللغة العربية والأدب العربي، سأبدأ بثلاثين كلمة هي مفاتيح العقل العربي أو الذهن العربي، بل مفاتيحه لرؤية العالم في الخمسين سنة الأخيرة. وإنني بدأت بكلمة ثورة، جماهير، إمبريالية، استعمار، ديمقراطية، جمهورية، أمة شعب وطن، حزب، طبقة، شكل، صورة، دين، دنيا وهكذا. أقف عند الشكل والصورة. ويبدو لي أن الرائج منذ ألف سنة هو كلمة صورة وتستخدم كلمة شكل كأنها مرادفة لها. وفي الخمسين سنة الأخيرة، قبل مجيء الماركسية وبعد مجيئها استعمل الأدباء والمتفلسفون كلمة صورة، وربما تعلم بعضهم ذلك من السوفييت من استاخوب مثلاً: “الفن يعمل بالصور والعلم يعمل بالمفاهيم”. هنا أصبحت كلمة صورة ترجمة لكلمة إماج (Image) وليس لكلمة فورم Form. ووقع الصديق المرحوم حسين مروة في هذا المطب عندما نقل عن الفلاسفة العرب المسلمين مقولة المادة والصورة عند أرسطو. واضح أنه يقصد (ماتيرافورم) الشكل. أنا لست ضد أي نوع من الترجمة، الإنسان حر ولكن نريد أن نصل إلى اتفاق. ويتحدث حسين مروة في إحدى صفحات كتابه عن “الطابع النوعي الخصوصي للفن” أي أن الفن يتكلم بلغة الصور، في حين يتكلم العلم (Lesince) بلغة المفاهيم (Conseptes). وهنا أتذكر مقالاً قرأته قبل خمسة وثلاثين عاماً ربما لكاتب سوفييتي كان له أثر في ثقافتي وفي تكويني وإني أؤيده إلى اليوم، كتب آستاخروا في مجلة شيوعية فرنسية أعتقد أنها مجلة الطريق، موضوعاً بعنوان الطابع النوعي للفن يقول فيه هذه الفكرة: الفن يتكلم بالصور والعلم يتكلم بالمفاهيم، وربما ظلت هذه الفكرة في ذهن حسين مروة منذ ذلك الحين، لكنه وهو الذي استعمل كلمة صورة في كتابه مرادفة لكلمة شكل كأنه يقول الفن يتكلم بلغة الشكل.. فإذا كان الطابع النوعي للفن هو الصورة والصورة هي الشكل سقط الفرق بين الفن والعلم. لأننا حين نقول عن العلم أنه يتكلم بلغة المفاهيم فيجب أن ندرك الصلة الحميمة والأخوة والشراكة بين الشكل والمفهوم. وحين ترجم لينين كتاب ميتافيزيقيا أرسطو عن الترجمة الألمانية لـ شنيكلر الذي وحد تماماً أو خلط بين الشكل والمفهوم. أرسطو يقول مادة وشكل فجاءت في الألمانية المادة والمفهوم. وعندما قام المترجم الفرنسي بوتيجلي بنقل النص إلى الفرنسية عن اللغة اليونانية أشار في أحد هوامشه أن وضع Mater eue Concepte (المادة والمفهوم) محل Mater eue Form (المادة والشكل) غلط، لكن هذا الغلط ثمين وجيد لأنه يثبت لنا العلاقة الحميمة أو الأخوة والشراكة بين الشكل والمفهوم. وأستطيع أن أقول أرسطياً: الفكر أشكال العالم. كما أستطيع أن أقول مع هيراقليطس الأسماء قوانين الطبيعة، وأستطيع أن ألخص موقف أرسطو بأن الفكر، الفهم، ومن ثم وظيفة الذهن، معرفة العالم ومعرفة الواقع، هو إدراك الأشكال. هذا الخط الأرسطي يوصل إلى كارل ماركس وإلى فرديناند دي سوسور وعلم اللغة. وفي نظرة سليمة إلى تراثنا يجب أن نرى موقع الفراهيدي وسيبويه في هذه القضية العظيمة. لأنني أستطيع القول إن علم النحو هو علم الأشكال قطعاً. ولا بد من كسر صنمية تعليم النحو عندنا ولا سيما في بداية تعليمه. فقبل أن تقول مثلاً يقسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف يجب أن يفهم المتعلم أولاً أن الكلمات هي كلمات، كليات ومفاهيم، وأسماء، خارج التصنيف التقليدي على أهميته وعلى أهمية التصنيف. النحو علم الأشكال. نقول مثلاً جاء الرجل ونعرب جاء فعل ماض والرجل فاعل. وإذا أردنا إعراب عبارة “جاء فعل ماض” يجب أن نقول جاء مبتدأ وفعل خبر وماض صفة (لأن جاء هنا هو المسند إليه، لم يعد فعلاً، غدا كلمة خارج التصنيف التقليدي المعروف وهو تصنيف ضروري)، ولكن يجب إقامة الحد على هذا التصنيف وتعليم الناشئة بأن الكلام هو كلمات وتعليم فكرة الكلمة قبل تعليم فكرة الاسم والفعل والحرف. فإذا سألت أحدهم ما الكلمة أجابك اسم وفعل وحرف فتقول له أسألك عن معنى الكلمة وليس عن أقسامها أو أصنافها فلا يحير جواباً. يجب تعليم الناشئة أن الكلمة تعبير عن فكرة، عن مفهوم أولاً، ثانياً أن الكلمة ليست شيئاً، والاسم ليس شيئاً، الاسم في أفضل الحالات اسم لشيء، يسمي شيئاً ويسمي علاقة، ويسمي صيرورة ويسمي عملية، وأن هذا الاسم المفرد (طاولة مثلاً) يحيل على طاولة معينة مفردة ولكن كلمة طاولة تنتمي إلى العام، وهنا أكون قد دخلت الفكر قبل أن أدخل الميدان الخاص الذي هو علم النحو والصرف. وهذا العلم، علم النحو والصرف جزء ، مجرد جزء، من بناء كبير هو العلم، وله أساس وهذا الأساس واحد، وله محور هو الفكر، والواقع قائم إزاء الفكر، موجود خارج الرأس. وحين أنظر إلى اللغة على أنها موضوع أو على أنها الموضوع والواقع فلكي أستقرئها وهنا تكمن عظمة الفراهيدي حتى استخرج من أشعار العرب الأوزان الأساسية التي أسماها بحور الشعر وقام على عمله علم العروض. وإلى يومنا لا يعلمون الطلاب مبدأ الفراهيدي وأن البحر البسيط مثلاً هو (256 حالة) وهذه الحالات متساوية في الحقوق، ولا يعلمونهم رياضيات العروض. فصيغة مستفعلن مثلاً جوازها متفعلن وصيغة فاعلن جوازها فعلن إذن 2×2=4 ولنكمل بقية البحر فإذا نحن إزاء ثماني كلمات كل منها اثنتان، يعني 82 (2 أس 8) =256. هذا ما يجب تعليمه للناس كي نحررهم من فكرة الإيقاع ومن فكرة التصنيم للوزن. فنحن لدينا ستة عشر بحراً هذا صحيح ولكن لكل منها مئات الحالات، إذن هناك حرية ومعقولية من نوع أكبر من المعقولية التي تتصورها. أعتقد أن أحداً لم يتساءل إذا كان هناك كلمات عربية فصيحة ممنوعة من العروض ولا يمكن أن تجد أياً منها في أي قصيدة عربية ولوكان عدد أبيات هذه القصائد عشرين مليون بيت. فقد قمت بهذه التجربة مع كثيرين ففوجئوا بالسؤال، وأنا فوجئت بذلك أيضاً ولتعلم أن جميع الكلمات التي على وزن فارٌ وبارٌ وباشٌ.. أي جميع أسماء الفاعل من الفعل الذي على وزن فعَّ (أي الفعل الذي عينه ولامه حرف واحد مكرر أو مضعّف برَّ = برر وفرَّ= فرر) مفردة ومثناه ومجموعه ممنوعة من العروض وهذه الكلمات عددها بالآلاف. وإن عملية الفراهيدي متسقة مع واقع لغة العرب التي لا تبدأ بساكن ولا يتوالى فيها ساكنان. إذن يمكن الدخول في موضوعات جديدة في علم العروض إذا توافر المنطق والتفكير الرياضي، وليس من المعقول أن نبقى إلى الأبد على سبعة عشر بحراً. وإذا أردنا أن نتقدم ونتحسن يجب أن ننظر إلى الشعر، هذا الميدان الخاص، على أنه جزء من ميدان الفكر العام ليس بأن نكون كلنا شعراء بل بأن نكون كلنا مفكرين، وأن نرفض كل تبعية، وأن يكون أحدنا تابعاً لضميره ولرب فوقه وفوق الجميع.
يجب ألا نقبل التبعية، وأن نعلم كل إنسان أن يقف على رجليه. هناك ضمير وهناك وعي وكل شيء يجب أن يحاكم سواء أخطأ أم أصاب (يجب أن يحاكم كل شيء، وكل شخص في محكمة الوعي والضمير). الوطن وطننا وقضية عبد الناصر أو قضية السوفييت أو قضية الوحدة العربية وكل قضية من القضايا حد وهذا الحد يجب أن يأخذ حقه كاملاً. نحن في عالم حدود، ويجب أن نعطي الحدود حقها بدون زيادة أو نقصان. ويجب أن نعطي المقولات حقها. العدمية القومية مثلاً، في الوقت الذي أرفض فيه العدمية القومية فإنني أحب وحدة البشرية، وأنا أكثر من يحب وحدة البشرية (وأكثر من يرفض العدمية القومية) ولكن هناك مراحل في الدنيا. يجب أن نعلم شبابنا خاصة وشاباتنا بالطبع أن يقول كل واحد لنفسه أنا أريد أن أفكر، أنا أحترم الحقيقة وأنا أسعى إلى الحقيقة والحقيقة فوق كل شيء. وعندما أرى أي شيء مغلوط في تفكيري أزيله وأبحث عن الصواب وأثبته، هذا هو الواجب، هذا واجبنا كلنا. إنها ليست قضية الياس مرقص فقط، بل هي قضية كل إنسان، إنها قضية مئتي مليون عربي يجب أن يفكروا هكذا وإلا فكل تعليمنا غلط.
لماذا نتكلم ضد الرجعية وضد الاستبداد، هذا الكلام ليس له معنى إذا لم يكن جذرنا الروحي هكذا. وهذا الكلام لو قيل لعبد الناصر لقاله عبد الناصر حرفياً. وأعتقد أن الشعب فهم عبد الناصر إلى حد كبير على هذا النحو حين قال عبد الناصر: إرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستبداد (لأن جذر عبد الناصر الروحي كان هكذا.ج).
3 ـ المرحلة ومفاعيل الزمن
وأريد أن أعود إلى الديمقراطية مرة أخرى وإلىمفهوم الدولة. لقد كنا محقين تماماً حين أردنا منذ ثلاثين سنة طريقاً عربياً. كنا مؤمنين بمرحلية، أردناها مرحلية عربية لا تكون نسخة من المرحلية السوفييتية اللينينية الستالينية، ولا نسخة من المرحلية الماوتسي تونغية السوفييتية ولا المرحلية الستالينية المادية البكداشية. وبدأنا نتخلص منذ 1958 من قصة الثورة الديمقراطية البورجوازية أولاً ثم الثورة البروليتارية الاشتراكية، أو الثورة الوطنية الديمقراطية ثم الثورة البروليتارية الاشتراكية، لا، لا. منذ 1958 قمت بنقض هذا الرأي الشائع وبعد ذلك تخبطت، أي قلت كلاماً صحيحاً وكلاماً غير صحيح، وهذا شيء طبيعي ولا أخجل منه ولا أخاف منه. ولو كانت النصوص أمامي الآن لعدت إليها وقلت عن الخطأ مباشرة. صحيح إنني ملت إلىمقولة الثورة الدائمة لتروتسكي جزئياً ثم رددت على هذا الاتجاه وعلى الفوضوية أيضاً. فالمرحلية التي أردناها في عام 1958 و1960 ـ 1962 هي مرحلية عربية وليست تكراراً لغيرها. وهذا حقنا وواجبنا، وهذا احتمال صحيح وسيناريو صحيح. فالثورة الوطنية الديمقراطية التي طرحناها والثورة الديمقراطية البورجوازية كما طرحها المرحوم ياسين الحافظ وإن ليس حرفياً والثورة القومية الديمقراطية التي طرحها ياسين في السبعينات هي طرح متقدم. ومع ذلك فكل هذه الطروحات ناقصة إلى هذا الحد أو ذاك واليوم يجب أن نعيد النظر ونعمق. هذه الطروحات ناقصة لأنه يجب أن نأخذ بمقولة التأخر على نحو أغنى مما طرحه ياسين، نريد أن نعطي فكرنا النظري كل ماتستحقه الجذور الروحية، الجذور الثقافية العامة، التربية التي تكلمت عنها أمس والتي تحيط بشجرة الفكر العلمي، وبالأشجار الأخرى إلى جانب شجرة الفكر العلمي. على سبيل المثال يجب أن نستوعب علم الأخلاق (الأتيقا) وعلم الجمال (الأستطيقا) وندخلهما في ثقافتنا وتربيتنا وتعليمنا ويجب أن نعقد علاقات حميمة مع عدد من الفنانين والأدباء ونسلح أنفسنا معهم فكرياً ونظرياً وثقافياً. وما أكثر ما أشعر بالأسى عندما أرى موهوبين مشهورين جداً ومشهورين بما فيه الكفاية ولكن تنقصهم الثقافة وتنقصهم الفلسفة وتنقصهم المعرفة لتاريخ البشر. يجب أن نتشارك مع الفنانين والأدباء لنؤكد علم الأخلاق وعلم الجمال والمنطق والتاريخ وسائر العلوم القيمية المعيارية ضد الوضعانية العربية الدارجة. ربما كان ثالوث الأخلاق والجمال والمنطق ضعيفاً في حضارتنا. نريد الجمال وليس الزخرفة والتسلية. الجمال في البساطة وليس في الزخرفة. ويجب ربط الجمال والجمالية بالأخلاق، يجب أن نصر على الأخلاق. الجمال والأخلاق مقولتان ومثلان أعليان يجب أن يجتمعا معاً. وكذلك المنطق، وقد تكلمنا عنه. لكنني أضيف أن كل علم هو منطق تطبيقي كما يقول هيغل ولينين هذا جميل جداً. وقد صغت هذه المقولة بالعربية كما يلي: العلم هو المنطق والمنطق يقيم مناطق (مناطق هي جمع منطقة وجمع منطق). المنطق يقيم مناطق هي ميادين وانضباطات، علوم واختصاصات، ولكن الأساس هو المنطق، أما عقيدة الاختصاصات الأمريكية العربية هذه فقد أصبحت باطلة، نحن قبضنا على الاختصاصات من ذيلها وليس من أساسها، كما نفعل عادة بكل ما نأخذه من الغرب المتقدم، نقبض على الذنب، على الفرعيات ونتصور أن خلاصنا في هذه الفرعيات وأن تقدمنا مرهون بها. يمكن أن يواجهك شخص يقول الأمة العربية متأخرة ولكنها تستطيع استيعاب الكمبيوتر. لكن القائل لا يعرف ماذا سبق الكمبيوتر من فكر ومنطق ورياضيات. يمكن أن ينتشر الكمبيوتر غداً ويصبح البشر أدوات للكمبيوتر ومخترعين للكمبيوتر أيضاً ولكن هذا لا يحل المشكلة. يجب أن نبطل الاستهلاكية وليس الاستهلاك، نريد أن نسمو بها ونطورها ونجعلها صعبة. نريد أن نخترع ونصنع لا أن نستهلك فحسب. الكمبيوتر يمكن أن يساعدنا ويمكن أن يضرنا إذا جعلنا منه إلهاً جديداً ووثناً جديداً أو اعتقدنا أنه هو الذي سينقذنا، نكون قد رجعنا من جديد إلى الوثنية. الوثنية هي أن نتصور أن الذهب أو الماس هو الذي سيطعمنا خبزاً أو المدفع والجرار والكمبيوتر.. كل ذلك أسميه الوثنية، أي عبادة المادة.
هناك شيء جميل وحميم عند الأسقف بيركلي، ومؤخراً قرأت مقالاً يصفه بأنه من كبار حملة المثل الأعلى، ولم يعد الأسقف الرجيم الذي كان يضطهد الشعب الإيرلندي، المعروف أن بيركلي كان من رواد دحض المذهب الميركنتلي أو المذهب التجاري: عبادة المعدن الثمين، كان من رواد هذا الاتجاه قبل آدم سميث وقبل الفيزيوقراطية الفرنسية.
رجوعاً إلى مرحلتنا 1960 ـ 1965 كيف فكرت يومها وكيف أفكر اليوم؟ القضية لا تحل بمقولات العمال والفلاحين والطبقات الأربع التي قال بها عبد الناصر: العمال والفلاحون والمثقفون والبورجوازية الوطنية أو البورجوازية الصغيرة. ونقاشات نايف حواتمة ولطفي الخولي حول هذه المسائل كانت في سياق الغلط. اليوم، يجب أن نطرح الأمور في المستوى السياسي، في مستوى الدولة وفي مستوى الحكم، انطلاقاً من تاريخنا الطويل، ومن تجربة الاتحاد السوفييتي من غلط الماركسية والنظرية الماركسية. ما كان مطلوباً في زمن عبد الناصر هو تثبيت دولة الحق والقانون وتنميتها وتطويرها، دولة الحق والقانون ومن ثم المؤسسات مع استقلال القضاء وفكرة سمو القانون وليس الديمقراطية السياسية الانتخابية والاقتراعية العامة، هذه ليست المرحلة الأولى. لنعد إلى زمن الوحدة والاعتقالات التعسفية. كان أحد أصدقائي يقول لي يومها: ليعتقلنا عبد الناصر ولكن بموجب قانون وبموجب محاكمات علنية في محكمة دستورية مع حق المعتقل في الدفاع عن نفسه. لو كان هناك قانون يقضي بسجن من يشتم رئيس الجمهورية عشر سنوات لقلنا لابأس ولكن هناك قانون ومحكمة ومحاكمة ودفاع. في بلد متخلف من المفهوم أن يسجن من يشتم رئيس الجمهورية عشر سنوات مثلاً أما في بلد كفرنسا فلا يسجن ولا يحاكم. لابأس أن يسجن من يشتم رئيس الجمهورية ولكن بموجب قانون ومحاكمة وبدون تعذيب وعلى أن تكون له جميع حقوق الإنسان في السجن.
مسألة حقوق الإنسان بناء متدرج وعمل طويل ولكن الأساس هو المجتمع المدني ودولة القانون. نحن باسم الثورية نميل إلى الحديث عن الواجبات عندما تطرح قضية الحقوق. وثيقة القذافي عن حقوق الإنسان مثلاً تقول: العمل حق وواجب على كل إنسان. هذا غلط. الحق والحقوق أولاً، أعطونا الحقوق أولاً. نحن هنا في ميدان الحقوق والحقوقية وليس في ميدان الأخلاق. الدستور والقانون يعطيان الإنسان الحق أن يعمل أو لا يعمل. حق الإنسان أن يعمل ولكن من لا يريد العمل ويريد أن يعيش عالة على أخيه أو ابن عمه لا يخالف القانون. هذا هو ميدان الحقوق الحصري. يقول بعضهم: كل حق يلازمه واجب، أجل ولكن ليس كما يتصور هذا البعض. كل حق يلازمه واجب يعني أن حقي في كذا هو واجبك، واجب الآخر، في احترام حقي، مثلما واجبي أن أحترم حقك. (هكذا يتلازم الحق والواجب في دائرة الحقوق الصرفة، وليس في دائرة الأخلاق، واجبك أن تحترم القانون الذي أعطاني هذا الحق وواجبي أن أحترم القانون الذي أعطاك حقك) إذن حق الإنسان هو واجب الدولة والمجتمع حقي في العمل يعني واجب الدولة وواجب المجتمع وواجب البلدية أن يساعدوني في إيجاد العمل. التلازم بين الحق والواجب هو خلاف الشائع عندنا.
الإنسان يحتاج إلى حماية، أولاً من الدولة ذاتها، أي يحتاج إلى من يحميه من الدولة. لأن الدولة ضرورة مطلقة. وأنا لا أقبل مقولة اضمحلال وتلاشي الدولة، وأعدها جزءاً من غلط الماركسية في مسألة الدولة. وديكتاتورية البروليتاريا هي الجزء الآخر. المصيبة عندنا أن نظرية ماركس فيها صواب ولكنها حلت عندنا محل التراث الإنساني كله، كأنها بديل من أفلاطون وأرسطو ومن الفكر البورجوازي ومن المجتمع والدولة. ففي الوقت الذي قلنا فيه إن الدولة هي حكم طبقة على طبقة وحكم أقلية على أكثرية، وأن الدكتاتورية هي حكم الأكثرية على الأقلية كما قال لينين، في الوقت الذي قبلنا فيه بهذا الكلام نسينا أن الدولة هي فكرة الكلي وليست فكرة الجزئي. الدولة البورجوازية التي هي حكم البورجوازية، هي أيضاً دولة المجتمع. ولولا الخلاف ولولا مراعاة مصالح مختلفة، ليس فقط داخل البورجوازية نفسها، بل داخل مجموع الأمة، لما كان هناك دولة، ولما كانت الدولة دولة. الدولة هي ميدان الكلي، ميدان العام، مثلما المفهوم وفكرة المفهوم ميدان العام. والعام غير العامة. أخشى أن شخصاً مثل برهان غليون عنده العامة وليس العام. أولاً فكرة العام ليست فكرة الجمهور والكتلة الكبيرة عددياً. فكرة العام هي فكرة علاقة بين أشخاص مختلفين، لكل منهم خصوصيته، هذه العلاقة هي المشترك بينهم جميعاً. هذا المشترك بين الجميع هو العام. إذا لم نمسك بهذه المسألة لا يمكن أن نقيم دولة، بل سنبقى في مجال “الدولة” من دال يدول دولة، أي سنبقى في الزوال والعبور ونبقى عند فكرة السلطة والتسلط والاستبداد.